هذا ما يسميه العامة، مختصرين، عيد الصليب ونقيمه في الرابع عشر من ايلول. ولست بمستفيض في الحديث عن اصل العيد ولكل عيد اصول تاريخية. هذا تذكار لما هو معروف عند المسيحيين باكتشاف هيلانة ام قسطنطين الملك العود الذي صلب عليه يسوع وتم لها بعد انعقاد المجمع النيقاوي في السنة الـ 325، ذلك ان قسطنطين الكبير اوفد والدته الى اورشليم وهي القدس عند العرب كي تبني كنائس في فلسطين. فوجدت خشبة الصليب الحقيقي تحت هيكل عشتروت الذي كان قد بناه الامبراطور ادريانوس وذلك حسبما دلها على ذلك مؤمنو المدينة فرفعه اسقف المدينة مكاريوس وبارك الشعب به وصرخ الشعب “يا رب ارحم”.
ثم استولى الفرس على اورشليم السنة الـ 614 واخذوا عود الصليب الى عاصمتهم المدائن حيث بقي بضع سنين فأعاده ملك الروم هرقل الى القدس. هذا تاريخ العيد. فوضعت له رتبة طواف في الكنائس وعند الارثوذكس يرفعه الكاهن فوق رأسه محاطا بالرياحين وشموع ثلاث ثم ينزل به الى الارض ويرفعه خمس مرات والناس يرتلون “يا رب ارحم” ويأتون بعد ذلك للتبرك به. هنا اوضح ان كل ما يحتسبه بعض انه سجود لصورة انما هو انحناء للذي رُفع عليها اعني المسيح وليس لمادة الخشب او لمعدن. فالقول بأن المسيحيين يعبدون الصليب اذ “يسجدون” له قول خال من الاساس في دينهم.
لماذا احيطت الذكرى بابتهاج كبير اكان هذا في البيعة ام في مسرات الاولاد؟ من ابتغى الفهم عليه ان ينفذ الى العمق. والعمق ان الفرح فرح بمن عُلّق على هذه الخشبة مخلصا وليس بأن هيلانة وجدت ما وجدت. وما مرادي هنا ان اقنع احدا بأن خلاصا الهيا وحبا الهيا شملاه. الكنيسة تنظم اعيادها على طريقة الرمز وليس فقط من طريق الكلام المتلو. انها تقول من طريق الحركة بما فيها الكلام. هكذا اذا علّق المسيحي صليبا في عنقه فليس هذا يحفظه من الاذى كأن الفعل الالهي مستقر في هذه الايقونة. ليس في الايقونة فاعلية لمجرد وجودها. ماذا يريد المسيحي اذا سلمه عرابه عند المعمودية صليبا؟ يريد انه عانق المخلص وانه ينوي ان يبقى له. هذه عملية التزام دائم. ان يحوّل هذا الى اعتقاد سحري، الى طلسم فهذا شأنه، ولكني لست، بسبب من هذا الخطر، الغي رمزا تعليميا يدفع القلب الى تحرك. واذا وضعنا صليبا على قبر فلكي نقول ان المدفون هنا انما يرقد “على رجاء القيامة والحياة الابدية” التي فجرها في الكون صليب المسيح.
كذلك اذا رفعناه على قباب الكنائس فلكي نشهد اننا اخصاء المصلوب واننا ننوي ان “نصلب الجسد مع الاهواء والشهوات” كما يقول بولس الرسول. نحن نحاول حقا ان نتحرر من الشهوة لان المعلم دعانا الى ذلك وتأتي حريتنا من الكلام الذي قيل ومن الرموز التي تجسد الكلام. هذه طريقتنا اننا نسكب الايمان فناً كما نسكبه شعرا. انت تفهمنا من تعابيرنا.
* * *
والامر الجلل اننا على هذا منذ الفي سنة وان من خطابنا عليه ان يدرك هذه اللغة. انا لا اطلب غير الفهم وانت تبقى فهيما ولو لم تقتنع. الانسان اليوم يحاور ولا يأتي فقط من منطقة. فقط من دخل صميم الاخر لا يعتبره يهذي.
المسيحيون عاشوا على هذا الفي سنة واستقاموا به وفرحوا به واستشهدوا. اذا كانت عبقريتهم التاريخية في هذه الشهادة واذا قام عليها الطاهرون منهم لا تستطيع انت ان تقول هذا هراء بهراء. لك ان تسأل من اين اتتهم هذه الشجاعة المذهلة وهذا الاصرار الموصول. الجواب الوحيد انهم آمنوا بموت المسيح على الجلجلة وبقيامته واصروا ليس فقط على التشبه به ولكن لاحظ مؤرخو حركتهم انهم لم يتقووا الا بهذا التشبه. هذا اذاً – على صعيد التأمل – ما تتعامل انت واياه.
يعلنون التصاقهم بحبه اذا صلّبوا وجوههم (أي اذا رسموا اشارة الصليب عليهم). قد تكون عند بعض تحركا آليا. الله يدين. ولكن لمن دخل ملكوت المعاني انهم يريدون انهم متحدون بالمصلوب.
الودعاء منا ليسوا مسؤولين عن الذين سخروا الصليب الى اشارة قتال (كالصليبيين) او افتخار عنصري (كالنازيين). الودعاء ما هم بصالبين. انهم مصلوبون اذ يحملون قضية الانسان المعذب. جراحه جراحهم وما لم تصر كل الشعوب المسيحية في خدمة الانسانية المعذبة لن تذوق هذه الانسانية عذوبة يسوع. كل ما ارجوه في هذه العجالة ان يصبح المسيحيون في حالة التضحية الكاملة لانهم اذا اتخذوا هذه الصورة يراهم الآب.
واذا شوهدوا مصابين بالآلام تراهم البشرية فصحيين. الفصحية هي هذه الانتصار الدائم على الانانية والانغلاق وحدة الطبع والخوف. واذا لامسوا الانسانية بهذه الحلاوة تحلو الدنيا لابنائها وعندئذ فقط يتم لقاء الود بينهم وبين الاخرين.
* * *
اذا فهم المسيحيون الفصح لا يسعون الى تعذيب اجسادهم باطلا. لقد ارتضى المسيح الالم لكي يرفع الالم عنا. فعندما يقول بولس في رسالته الى اهل كولوسي: “اميتوا اذاً أعضاءكم التي على الارض” يفسر انها الزنى والفحشاء والطمع وما الى ذلك. فالجسد مدعو الى الحياة والعافية في سبيل الخدمة فليس في المسيحية هروب من السعادة بمعناها الطيب. هناك يقظة في كل شيء لئلا نظن ان السعادة تعبر، ضرورة، عن الرضاء الالهي. لذلك ليس من تقشف عندنا يدعو هذا وذاك من الناس يوم الجمعة العظيمة الى ان يسمر يديه او ان يحمل بعض القوم احمالا ثقيلة على مسطح خشبي عليه تماثيل ثقيلة. فاذا كان التعذيب لا يقرب الى الله لا نعتبر ان وجع المرضى في جوهره يقرب الى الله. الله لا يبعث بالوجع. يبعث بالشفاء. والصبر هو الشفاء. ان جانبا اساسيا في رسالة المسيح انه شفى البرص والعميان والعرج ومن اليهم ورأى الانجيل ان حصول هؤلاء على معجزات من المعلم علامة من علامات الملكوت.
لا، نحن ديانة الفرح بما يتضمن من اللذات احيانا اذا روقبت واعتدلت. يمتد الصليب فينا قيامة ولا يمتد مسامير وطعن حربة. تحت غطاء التقشف الساعون الى الالم وممارسوه في شيء من المازوشية انما يؤكدون انفسهم بما يشبه التقوى.
* * *
هناك شيء اساسي في مقاربة المسيحية انها ابسط مما تصور الكثير من علماء اوروبا او بعض من كتاب الشرق. هي ليست بناية فلسفية اطلاقا ولا هي بخاصة دمج بين الانجيل والفلسفة اليونانية. ان هي الا وحي يوحى. والكلام فيها هو فقط كلام على محبة الله في ذاته ومحبته للانسان ولذلك كانت صليبا وقيامة ولا يزاد على ذلك شيء. حتى الفكر الكاثوليكي لما استعان بالفلسفة في القرون الوسطى كما عند توما الاكويني ابى ان يكون مزجا بين الانجيل والهلينية. والذين قالوا في هذه المنطقة ان المجمع النيقاوي الذي تحدث عن الوهية المسيح كان محاولة تلفيق بين الانجيل والحكمة اليونانية لم يفهموا شيئا عما جرى في هذا المجمع. كان سعي الآباء في توضيح هذه العقيدة ان يكونوا انجيليين فقط ومن الواضح لمن يتتبع الامور ان جهد الاباء كان دائما الا يتجاوزوا ما تسلموه من الوحي. لا يسعك ان تتصور مدافعا عن الايمان كبيرا يقبل بأن يضيف الى كلام الايمان كلاما بشريا والفلسفة عندهم كانت صنع الناس ولو رأى بعضهم ان بينها وبين الانجيل تقاربا او انها هيئت له. وما سمي عندنا عقيدة لم يكن سوى استعمال لمقولات يونانية لينقل بها الوحي.
في سيطرة الحضارة اليونانية لما كان اهل البدع يأتون هم بمعان يونانية ليحولوا اليها الانجيل او ليقرأوه على ضوئها اضطر الاباء الى ان يستعملوا الفاظا من هذه الحضارة دفاعا عن الايمان. ولو لم تظهر الهرطقات لما لجأ آباؤنا الى استعارة مفاهيم يونانية ينقلون بها الانجيل مع محافظتهم على النص. واي كتاب في العقيدة عندنا انما يسعى واضعه الى ان يبين اننا لم نخرج عن الكتاب الالهي. هو سير التاريخ الذي ارغمنا على ان نتكلم بمقولات التاريخ الحضاري. نحن نزعم اننا قادرون على ان نرد اية عقيدة (الثالوث، التجسد) الى آيات بسيطة ولنا ان نربطها بعضها ببعض دون الاحتماء بالمجموعة العقدية التي عندنا. الثالوث والتجسد والمعمودية والقربان وما اليها ان هي الا طرق مختلفة للتعبير عن الحب الالهي. خارج هذا الحب ليس عندنا شيء لذلك نؤكد سر الصليب والقيامة التي تفجرت منه على انهما تعبير ان في سيرة المسيح عن انعطاف الله علينا. واذا ازلتهما حادثين في ما عاشه السيد لا يبقى عندنا شيء.
ما يسمى الاخلاق الانجيلية مرتبط كله بهاتين الحادثتين. الانجيل بناية متكاملة متراصة تحتوي على الايمان كله وعلى الاخلاق كثمرة للايمان. ولا تستطيع ان تفك المناقب الانجيلية عن الايمان الذي تنبع منه. لذلك اذا عيدنا في الرابع عشر من ايلول لارتفاع الصليب نكون معيدين لصميم ايماننا. ان هذا العيد هو طريقة اخرى نقيم بها سر اسبوع الآلام. نحن نأخذ ثلاثية الجمعة العظيمة وسبت النور وعيد القيامة لنجعلها معمودية وقربانا واعيادا مختلفة. اعياد الشهداء اسلوب آخر لنحتفل بالصليب والقيامة. كل ما عندنا تصوير لمجد وجه المسيح في سر فدائه.
Continue reading