Monthly Archives

June 2009

2009, مقالات, نشرة رعيتي

التحرر من وطأة الدنيا / الأحد في 28 حزيران 2009 / العدد 26

“سراج الجسد العين” يريد به السيّد القلب المستنير بالمحبة . هذا اذا نشأ على بساطة المسيح، على عدم التعقيد والخبث يكون جسدك اي كيانك نيّرًا، والعكس اذا كان قلبك شريرًا.

ويـكون الشر فـيك كثيـرا إن عبـدتَ ربـّين الله والمال. شهـوة المال رهيـبة جدًا. انت تستعمله اي تـستعبده. واما اذا أحسست ان كلّ وجـودك وحيـويـّتك منـه فـهو يـستعبـدك وتـستعبد بـه الناس.

المال الوفـير يـقـودك عـادةً الى شهوة السلطة التي تـجعلك تـسخّر الناس لشهواتـك، ويـُنشئ المال الكثير عادةً افـتخارًا بـالثـروة وتـرى الى النـاس مـن خـلال ما يـملكون.

ليس المسيح ضدّ الأغنياء كلّهم ولكنه ضدّ من عبدوا المال وجعلوه طريقهم الى الكبرياء. ولكن كيف تصل الى التواضع ان لم توزّع منه الكثير لتنقذ الفقراء من جوعهم او الفقر الشديد اذ يريد الربّ منك أن تُشاركهم في آلامهم.

ثم يعطيك هذا الفصل الإنجيليّ المقتطف من عظة الجبل أمثلة من الحياة اليوميّة. الطيور مثلا “لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء وأبوكم السماوي يقوتها”. لم يتكلّم يسوع ضدّ السعي الى وضع اقتصاديّ جيّد او الى اليُسر. ولكنّه ضدّ البخل، ضدّ اقتناء المال وتشهّيه دون التعبير عن محبّتك للمحتاجين. هذا كلّه يعني تحررا أساسيّا من وطأة الدنيا عليك.

وطأـة هـذا العالم لها ثـلاثة مـصادر أساسيّة: أولا الجنس الجارف وغير الشرعي، الشهوة الرهيـبة للمال، التـعلّق بـالسلطة الطاغي طغيـانـا كثـيرا. مقابـل ذلـك الحرية من الشهوات باستقبال يسوع وسيادته عليك. فإذا سكن القلب كلّه تستخدم أنت القوى التي فيك لإرضائه.

المخلّص يعترف بأن هناك رغبات حسنة. الطعام مثلا حسن واشتهاؤه المعتدل حسن. اما اشتهاء له غير محدود فيكبّلك ويستنفد قواك. كلّ اشتهاء رهيب وغليظ يضرب فيك الرؤية وتوازن الشخصيّة.

كلّ ما خلـقه الله جيـّد. المهم الا تـكون عبدًا في دنـيـاك لشيء. المسيـحيـّة لا تـطلب اليـك الخروج مـن الـعـالم. الى ايـن تذهب؟ تـطلب استـخدام هذا العـالم في طاعـتـك لـله. المـهـم ان تـحبّ سيــادة الـله وكلـمتـه عـليـك.

لذلك خُتمت هذه القراءة بقول يسوع: “اطلبوا اوّلا ملكوت الله وبرّه. وهذا كله يزاد لكم”. ملكوت الله ليس إقصاء لأي شيء حسن ولكن أن تجعل الربّ فوق كلّ شيء. ملكوت الله ليس فقط السماء التي تأتي بعد القيامة ولكن السماء التي تنزل على قلبك الآن حسب قول الرب في لوقا: “ملكوت الله في داخلكم”.

أن نرحّب باستلام يسوع قلوبنا هذا بدء سمائنا في هذه الحياة.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الكون الجديد / السبت 27 حزيران 2009

خوف المرء على نفسه او ماله او مصيره او عائلته او عشيرته او طائفته يلقيه في القلق والرعب او الاكتئاب اذ يحس ان هذه المخاوف تهدّد كيانه، تقبضه او تقزّمه او تشتّته حتى التلاشي. في الحقيقة اذا أحسّ أحدنا أنه لا يخاف يدرك انه موجود. ولكن انّى له ان يشعر بالهناء وهو وجه من وجوه السلامة اذا لم يصبح كائنا مستقلا عن المرمي في الزمان وعن الزمان نفسه في تقادمه، حرًا من الحرب، من السياسة، من الجنس، من أعدائه ومن أصدقائه، حرا من زوجته وأولاده ولو معهم، من كل من يلوذ به او من لاذ هو بهم، مؤسسًا على ما لا يزول.

أنت طبعا تعيش في الخارج ولكن هل انت من الخارج؟ من أوضح ما قاله يسوع في هذا السياق عندما صلّى من أجل تلاميذه في خطبة الوداع قوله: «لا أطلب اليك أن تخرجهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير. ما هم من العالم وما أنا من العالم. قدّسهم في الحق» (يوحنا 17: 15-17). العالم هنا هو الكون التاريخي والتلاميذ موضوعون فيه ولا يسعهم ان يخرجوا منه اذ ليس من عالم آخر او تاريخ آخر. يدعو المسيح أباه لا لينقذهم من الوجود ولكن من الشرّ المحيط بالوجود او المشكّل له.

الى هذا، الحق لا ينبثق من التاريخ ولو حلّ فيه اذ لا بدّ للحق من مدى. انه شيء آخر نازل من فوق على بعض القلوب وينتشر منها الى القلوب الأخرى المتعطّشة الى الحق. الذين يلامسون الحق او يستقرّ فيهم نازلون من السماء حسب تعبير يوحنا الإنجيلي. عندنا اذًا، هذا الوجود الملموس، الزمني، العاصف احيانا، المتخبّط دائما في سيلانه، المتقبل قراره مما يهبط عليه. هذا الوجود بما ينسكب عليه يهدأ احيانا أفي الفرد كان هذا ام في الجماعة. يسلم الإنسان حينا بعد حين، ويسلم كثيرا ومرارا عند عظماء المجد الإلهي ولو سقطوا حينا بعد حين. ينكسر الكبار اذا أغفلوا عن رؤية ما يجب التماسه ليحلّ فيهم حتى تصدق الكلمة عن الأكثرين: «اتخذوا الباطل بدلا من الحق الإلهي وعبدوا المخلوق وخدموه من دون الخالق» (رومية 1: 25) حتى صاروا «بلا فهم ولا وفاء ولا حنان ولا رحمة».

# #
#
نحن الذين نتكلّم على الخطيئة لا نستخدم التحليل النفسي وان كان مفيدا لفهم نفسك والناس. ان كنت مصابا بعصاب ومعظمنا كذلك لا يعفيك شيء من مسؤولية الخطيئة المتحكّمة فيك او العائدة اليك طوعا او في غفلة منك. أضخم حيلة للشيطان ان يُقنعك بأن ليس ثمّة من خطيئة. هذا يريح إقامتك فيها وتبقى جميلا في عينيك وتلبس الخطيئة ثوب الفضيلة. كلّ الذين سقطوا في الهيستيريا الجماعية في الانتخابات الأخيرة وما يلحق بها من حقد قد اعتبروا انفسهم متجندين للحق. وسرعان ما تنطلق من موقفك السياسي المعتدل احيانا حتى الطراوة الى عداء شخصي. وفي الحقيقة ان البغض يكون كامنا فيك فتستعير قضية سياسية قد تكون مجيدة لتضرب الآخر. تكون قد تحزبت (ونصف اللبنانيين لا يعرفون لماذا تحزّبوا) وليس عندك قوّة جدل فتشتم حتى الضرب وقد تزول في ذلك صداقات. اما الأطهار فينقسمون ولا تخرب قلوبهم.

كان أبي رجلا بسيطا. رافقته منذ سبع وأربعين سنة لننتخب في قلم واحد وأحسست دون سؤال مني او منه عن خيارنا ان كلّا منّا وضع قائمة تختلف عن الآخر، ثم صاحبته الى الغداء في بيت العائلة وبقينا على الود. لماذا لا يسلم الود في لبنان؟ أليس هو أهم من همروجة الانتخابات؟

في العالم لا من العالم ولكن من الله تلك هي قاعدة الخلاص. الله فيك او معك هو ما يحررك ويجعلك قريبا الى الحق فلا تصبح معوقا على الصعيد الروحي وتصبح إطلالة الله في هذا العالم.

إقامة الله معك او فيك هذا هو خلاصك من هذا العالم الذي فيه تعيش.

دونكم مثلا عن هذا عند صديق لي كبير كان من نخبة المثقّفين ما كنت أعرف معطوبيّته في بدء مودّتنا. صارت له خيبتان في حياته في المجال الوطني او القومي لن أذكرهما. خياران له أعرف عظمتهما انهارا انهيارًا شبه كامل في الراهن. هبط في الحزن هبوطا عظيما. هبط حتى الإحباط ولم يقم. قلت له: أعظم القضايا تفنى وهذه هي وطأة الزمان. التاريخ مقبرة القضايا العظيمة.

الى هذا الناس المخيبون الآمال، أقرب الناس اليك المعروفون بالمحبة والصدق. فجأة بعد سنين من المعاشرة طوال ترى انهم خانوا الوفاء او سقطوا في آثام ما كنت تتوقعها او تنكشف لك فيهم سيئات او نزعات خفية ما كنت تعرفها. ان كنت معلقا بهم حتى تجيء منهم عاطفيا فكان هذا او ذاك معتمدك او متوكّلك يصيبك غمّ شديد قد لا تخرج منه.

# #
#
في الإنجيل مقولة الترك أساسيّة لاقتناء الخلاص. في دعوة السيد لمتى يقول السيد لهذا: «اتبعني! فقام وترك كل شيء وتبعه» (متى 5: 27 و28). وقد تحدث الرب في غير موضع عن ترك الأقربين (الأب، الأخ، الأخت ومن اليهم). من الواضح ان المخلّص لا يدعو الى الانفصال الجسدي او المجتمعي عن العيلة والأنسباء، ولكنه يريد ألا تجعل احدا من الناس مركزا لحياتك او مصدرا لها. المحبة المسيحية عطاء ولا أسر فيها لأحد. العشق الذي سمّاه اليونانيون القدامى إيروسEros  هو عاطفة استيلاء فتستولي ويُستولى عليك. اما في المحبة الإنجيليّة فتمحو الأنا فيك وتبيدها كليا لتصير للآخر. واذا انت محوتها يسكن الله فيك ويقيم فيك أنا طاهرة فيصير الرب وجهك اذ لم يبقَ فيك شيء من الأرض.

اذ ذاك، تخدم ولا تملك ولا تطلب جزاءً ولا شكورا ولا أن يعترف بك أحد او ان يكون وفيا. انت أحببته ليعرف انه حبيب الله ويحسّ في ذاته بلطف الله ورأفاته. انت بتّ فقيرا الى كلّ الناس، الى الأنقياء والخبثاء الذين كانوا يظهرون لك المودّات. انت تحزن من اجل نجاتهم لا لكونهم مرمروك. تدعو لهم بطهارة الفكر والعيش ولا ينفصل داخلك عنهم ولو أبعدوك عن معشرهم.

اذا استقللت عن كل البشر والمنافع التي كنت تستدرّ واذا منعتهم عن مديحك، اذا أقمت في الله لا تستكبر، واذا كان هو كلّ شيء فيك تكون موجودًا به وهو يكون موجودًا فيك ولا تفصل، اذ ذاك، أناك عن حضرته لأنك لا ترى الى وجهك كما في مرآة. هذا يعمله الغاوون. والعاشق وجه الله لا يعرف الغواية إذ يعتبر نفسه لا شيء، ويجعله ربّه شيئا ولكنه لا يعلم. ولو استطاع يحجب هيأته الخارجية والداخلية حتى لا تبدو منه الا الكلمة، ويبقى الله وحده متجلّيا حتى يستحيل العالم «أرضًا جديدة وسماءً جديدة».


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الدعوة لأول الرسل / الأحد في 21 حزيران 2009 / العدد 25

القسم الأكبر من حياة السيّد على الأرض كان في الجليل، في المدن التي كانت حول بحيرة طبريّة المسمّاة ايضًا بحر الجليل (12 كيلومترًا طولا). في هذه المسيرة رأى السيّد أخوين: سمعان المدعو بطرس (سمّاه الرب بهذا الاسم بعد أن اعترف به انه المسيح ابن الله الحي في متى 16:16) وأخوه أندراوس المسمّى المدعوّ أولا.

رآهما يلقيان الشبكة في البحر وقال لهما: “هلم ورائي فأجعلكما صيادَي الناس”. هنا شبّه يسوع البشارة صيدًا لأن دعوة الرسل للناس تتطلب طرقًا للكلام الإنجيلي كالصنارة او شباك الصيد. “فللوقت تركا الشباك وتبعاه”. ما السر الذي كان فيه؟ ما كان عندهما تردد. هذا الكلام السريع أقنعهما. لم يترددا. يسوع يتوجّه الى كل واحد منا. ينادينا. ينادي كل واحد بطريقة تُقنع قلبه. إن كنّا معمّدين نبقى احيانًا دون السماع الى كلمة يسوع. نحن المعمدين يدعونا الى التوبة، الى تجدد داخلي، الى تغيير قناعات قديمة دخلت الى عقولنا من الدنيا. يعرض علينا الإنجيل بصورة خاصة. ليسوع صوته، حرارته لكل انسان بقـي غريق هذه الدنيـا. انت قدتقرأ الإنجيل كثيرًا ولا تهتدي. فجأة تقرأ آية تفهمها بعمق للمرة الأولى. تُغيّر قلبك تغييرًا كاملا.

بعد هذا التقى يعقوب ابن زبدى ويوحنا أخاه، هذا الذي صار يوحنا الإنجيلي الذي اتكأ على صدر المعلّم في العشاء السري. بطرس ويعقوب ويوحنا صاروا الأقربين اليه في الصف الرسولي. هم الذين شاهدوا تجلّيه على الجبل. رآهما “يُصْلحان شباكهما فدعاهما. وللوقت تركا السفينة وتبعاه”.

بطرس واندراوس تركا فقط الشباك. ابنا زبدى تركا أباهما الذي كان معهما في العمل. هذا ترْكٌ يكلّف العاطفة.

بعد هذا يقول متى الإنجيلي ان يسوع كان “يطوف الجليل كله يعلّم في مجامعهم”. والمجمع هو بيت الصلاة وقراءة التوراة، يجتمع فيه اليهود يوم السبت، وهو الذي نسمّيه بلغتنا كنيس. هذا كان غير هيكل اورشليم الذي لا يستطيع كل يهود فلسطين ان يذهبوا اليه وهو مكان الذبائح ولم تكن فيه قراءة.

بعد هذا يلخّص متى كل عمل يسوع في الجليل. كان “يكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب”. المخلّص كان يظهر للناس مبشّرًا وشافيًا. ان يدعو الناس الى الملكوت اي الى سيادة الله على البشر بالتوبة كان يستتبع عنده شفاء المرضى.

هذا الشفاء دلّ الناس على ان الله يريد ان يخلّصنا من اوجاعنا الجسدية كما يريد ان يغفر لنا خطايانا. أمران مرتبطان. الشفاء كان علامة من علامات الملكوت. لذلك تعاطى الرسل مسحة المرضى بالزيت كما يقول يعقوب الرسول: “اذا مرض أحدكم فليدعُ قسوس الكنيسة فيصلّوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب” (رسالة يعقوب 5: 14). وهذه المسحة جعلتها الكنيسة سرّا من الاسرار. ونكمله لكل مريض في بيته وإن ندر استعماله في الكرسي الانطاكي مع انه يمارَس في كنائس ارثوذكسية اخرى. ونحن نقيمه للمؤمنين مجتمعين مساء الاربعاء العظيم وهو رتبة توبة ورتبة استشفاء. الكنيسة تكمـل ما صنعـه يسـوع. من هذا المنظـار بـدت الكنيـســة مستشفى للمرض الروحي بالتوبة وللأمراض الجسدية والعقلية ما لا يمنع استدعاء الأطباء. يسوع في كنيسته هو الملجأ لكل الكيان البشري.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الحالة اللبنانية / السبت 20 حزيران 2009

سأحاول أن أقرأ فلسفيا الحالة اللبنانية. لعلّ من أبرز ما فيها قول الرئيس باراك أوباما أنه يعطف على موارنة لبنان وأقباط مصر وكنت قد سمعت منذ صباي قول زعماء موارنة انهم لا يرضون ان يصير «المسيحيون» في لبنان مثل أقباط مصر الذين يعتبرونهم غير مشاركين في قيادة بلادهم على الصعيد السياسي. ثم في مراحل متأخرة من حياتنا الوطنيّة احسوا بالتهميش او الإحباط. لا بد ان شيئا من هذا اوحى للرئيس الأميركي الذي قال هذا القول في خطاب مليء بالإعجاب بالإسلام وبوعود دعم لمسلمي العالم. هذا ما يجعلني أفهم أن السيّد أوباما أبدى هذا العطف على الموارنة إزاء المسلمين.

السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا ميّز السيّد الرئيس الموارنة عن غيرهم من مسيحيي لبنان. هل عنده لوبي ماروني مميّز عن اللوبي اللبناني الذي بات معروفًا في الولايات المتحدة؟ لا شيء يدلّ في خطاب القاهرة أن الموارنة يرون أنفسهم محورا في الجماعة المسيحيّة. ولكن هذا التفريق ضمن جماعة المسيح له دلالاته في السياسة الأميركية. هذا يعني في الأقل ان الولايات المتحدة لا ترى كلّ مسيحيي لبنان يحتاجون الى عطفها او حمايتها ولا سيّما ان ما يشغل السيّد اوباما هو بالدرجة الأولى المسلمون ولا سيّما أنهم باتوا حسب كل ترجيح عددي سائدين في لبنان. هذا يعني أيضا ان المسلمين لا يعقدهم المسيحيون مثلما كانت الحالة قبل السنة الـ 1975.

وما يقوّي يقيني هذا أن المسلمين معا هم في كل فريق من فريقي آذار وكأنهم جميعا اكتسبوا مقاربة الوضع اللبناني من منظار سياسي مدني. نحن اذًا على مشارفة المجتمع اللبناني على انه مجتمع مدني او يكاد يكون. هذا لا يبطل خلافات داخلية قد تظهر في الزمان الآتي بسبب من استمرار الذهنية الطائفيّة حتى لو أقررنا إلغاء الطائفيّة السياسيّة.

غير ان ما يلفتك ايضا ان المجتمع اللبناني بات مسيّسا بعمق، ضعيفًا في طلب الحياة الروحية واستدخالها الحياة السياسيّة. الحياة الروحية مرجع العقول السياسيّة بمعناها العملي، التطبيقي. انا لم أسمع في السنوات القليلة الماضية اي خطاب سياسي يرنو من بعيد او قريب الى مقولات روحية مستمدة من المسيحية او الإسلام وكأن كلامنا يحصر روحانيّة الديانتين في المجال الشخصي البحت ولا يرى إسقاطًا دينيا على الإلتزام السياسي. العبارة التي اقتبسها الدستور وكل متعاطي الشأن الوطني هي عبارة العيش المشترك. ولكن ما عناصر العيش المشترك، ما إلهامه، ما قوّته في تسيير الشأن العام كأن هناك مساحات فكر او مساحات تحرك في النفس يجب إغفالها في العقل العام. هناك دائما المسكوت عنه مع ان كل مطّلع يعرف ان في الإسلام والمسيحية ما يمكن استثماره في العمل المشترك.

# #
#

هل اللبنانيون مؤمنون في العمق ان التعبير القانوني لحياتهم المجتمعيّة الواحدة هي الدولة القائمة والتي يجب ان نسعى الى قدرتها؟ هذا يتطلّب اهتداء من القبيلة الحالية الى متّحد يضم عناصر مختلفة موقنة بأن الوحدة – المسعى تُقرّ بها القبائل التي تريد ان تجتمع في ما يفوقها منفردة ولو حافظت كل فئة على ميزات لها تسمى الآن ثقافية ولو كان الأصدق أن تبقى معروفة بالدينيّة او المذهبيّة. كيف نواجه جدليّة التعدّد والوحدة؟ هذا سوآل لا يُطرح في البلدان التي تكون فيها الأحزاب سياسية – عقائديّة اذ تكون، اذ ذاك، علمانية-وضعيّة كالدولة وتعلوها الدولة. اما اذا كانت الأحزاب طائفية والدولة كما عندنا لا طائفيّة فثمّة تناقض في الطبيعة بين الدولة والجزئيات الحزبيّة.

إلغاء الطائفيّة الساسيّة عندي شرط لتجاوز طائفية الأحزاب. اذ ذاك، لا يتكلّم جزء عن الكل وتلاقي الأجزاء من منطق الدولة يجعلها متعاونة في تكوين دولة للمجتمع ومجتمع واحد تشرف عليه الدولة وتصير الدولة الجسم القانوني الواحد وسقف السياسة الداخليّة وسقف السياسة الخارجية ولو بقي تنازع الأحزاب وهدف التنازع التوافق لأنك إن لم تختلف لا يصح الكلام على توافق.

اما التوافق فلا إكراه في الدين ومن باب أولى لا إكراه في القرار السياسي لأن هذا مقولة عددية لا نصل اليها الا بقانون انتخابي على أساس النسبيّة المتضمّن الغالب والمغلوب ولكن بسبب من تقارب الأعداد لا تكون الأكثرية اقتحاما للآخر او دوسا ولا تكون طائفيّة بسبب من المناصفة التي اعتمدناها. فما في النفوس ان هذا البلد اسلامي-مسيحي في الوطنية اللبنانية والانتماء العربي وقد اقتنع كبارنا الأموات منهم والأحياء ان أحدًا منا لا يستغني عن الآخر.

في بلد كثيره ديني (لا متديّن عميقا بالضرورة) وبعض منه ينمو الى علمانية الدولة الحديثة مع استغراق بعض الاكليروس المسيحي في التزام سياسي. لماذا حصرت المسألة في المسؤولين الروحيين عندنا ولم أعمم؟ ذلك أن الإسلام ليس فيه رجال دين بل فيه علماء بمعنى ان الأئمة وخطباء المساجد لا يُلزمون الضمير اذ لا يتمتعون بسلطان إلهي. وفي هذا البلد لا يقفز معظمهم فوق الزعماء. أطرح سؤالي من حيث المبدأ وصياغته هكذا: كيف يستيطع الأسقف او الكاهن أن يتخذ موقفًا سياسيا من موقعه الإلهي؟ هذا سؤال لاهوتي. اما اذا قلنا واجبه إنقاذ الرعيّة من مواقع عقلانية فأي معيار عنده ليعتبر نفسه فهيما او غير متهوّر؟

وهو عديل كثيرين بالفهم والتحليل السياسي. هو إنسان له مخاوفه وعصبيّته وفي كل خيار بعض عصبيّة. كيف يرشد الى هذا الموقف او ذاك مرتديا الحلة الكهنوتية ويعتبر المؤمن قوله جزءًا من تفسير الإنجيل.

أنا أفهم غيرة هذا الرجل. هل يفهم هو انه بشر يتّخذ موقفا ليس من الباقيات الصالحات ولكنه من تخبطات هذا العالم. الا يدرك اذا أصاب او أخطأ ان الرعية جاءت الى الصلاة طالبة كلمة حياة تحيا بها وانه ما كان في اعلى تجلياته الدنيوية سوى بشر يحق لكلّ مواطن ان يشك في الخلفية الإلهية لكلامه.

أخذ زعماء الموارنة والمحلّلون يميّزون بين الطاعة لرؤسائهم الروحيين في الشأن الكنسي وبين انصياعهم السياسي لهم. هذا يعني ان الذوق العلماني يتفشّى في الطائفة المارونيّة وان التمرّد لا يتفشّى. الإكليريكي ليس بديلا عن القائد العلماني في نضال الدنيا. وهذا كله اوضحه الباباوات المتأخرون اذ قالوا ان الدعوة الأساسيّة للعوام (للعلمانيين) هي ان يحملوا مسؤولية هذا العالم، وقد شجب البابا الراحل – على ما أذكر- عمل كهنة في أميركا اللاتينيّة يتعاطون الشأن السياسي.

ايا كان تاريخ الكنيسة المارونيّة من حيث نسكيّتها والتفاف الأمّة حول البطريرك، وايا كان التحام الزمني والروحي انا أفهم التعاقد بين الزمنيات والروحيات في حياة البشر وانك لا تستطيع، مسؤولا روحيا، الا تطل على زمنيات الرعية، ولكن الإطلالة شيء والتخالط شيء آخر. العفّة صعبة جدًا في حقول الدنيا والزهد أولى ويجلس الكاهن اوالأسقف هيبته على آرائك النضج الروحي ليأتي الموقف الزمني عند طبقات الشعب من إلهام الروح.

»وأشياء أخرى كثيرة لم تُكتب» في هذا المقال. «ولكن هذه كُتبت» لتؤمنوا انكم قادرون على جعل لبنان عظيما. غير ان ارتفاع بلدنا يقتضي سموّ قلوبكم بتطهيرها وعمل عقولكم بجهدها. لبنان لا يعطاكم مجانا. الدم الذي بذله كباركم ليس وحده الثمن. التنقية الكبيرة في حب أهل كل الأديان واستبعاد الخوف في شجاعة دائمة وأجرؤ أن أقول ان قداستكم هي التي تنحت في أذهانكم لبنان الجديد قبل أن تنحتوه في الواقع مهما كانت مرارته والله يوفّق أحراركم والأنقياء.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

أحد جميع القديسين/ الأحد في 14 حزيران 2009 / العدد 24

كان يليق بالكنيسة بعد أحد العنصرة أن تُكلّمنا على مواهب الروح القدس فأقامت ذكرى جميع القديسين الذين وضع فيهم الأقنوم الثالت فاعليّة الثالوث القدوس وهي القداسة.

إنجيل اليوم يعطي شرطًا أول للقداسة بقوله: “من يعترف بي قدّام الناس أعترف انا به قدّآم أبي الذي في السموات”.

هو الاعتـراف بـاللسان بـعد الإيـمان بـالقـلب، هو إظهار المسيحيـّة. وهـذه هـي الشهـادة التي تـظهر عند الاقتضاء في شهادة الدم وهي قمّة القداسة لأنك بـالشهادة تبــيّن أنـك تـحبّ المسيـح على حبـّك حيـاتـك.

الشرط الثاني للقداسة هو ان تترك “بيوتًا او إخـوة او أخـوات إلخ…” اي ان تكون متعلّقًا بيسوع وألّا تـكون متعلّقًا بـشؤون الأرض. أجل، يجب ان تحـبّ قريـبـك كنفسك ولكن هذا يـكون دائـمًا مرتـبطًا بحبّك للسيّد.

لماذا أحد جميع القديسين؟ ذلك لأنّ هناك قدّيسين طوّبـناهم، وكلّ يـوم من السنة فيه عيد لواحد منهم او أكثر. ولكن هناك أحبّاء لله في الملكوت لا نعرفهم ولهم مرتبة القديـسين المطوّبـين. نـشملهم اليـوم جميعًا في عيد واحد.

أهميّة هذا العيد أنه يدعونا جميعًا الى القداسة وهي دعوتنا الوحيدة ودعوة الجميع. لذلك من الخطأ أن يخفّف الواحد من ثقل خطيئته بهذا القول: شو أنا المسيح؟ نعم، يا حبيبي أنت مدعوّ أن تكون سلوكيا كالسيّد وهو القائل: “تعملون الأعمال التي أنا أعملها وتعملون أعظم منها لأني ماضٍ الى الآب”.

قوّة المخلّص كلّها فيـنا بـعد ان سكب روحه عليـنا ويـسكبه في كلّ يـوم على كلّ مـن رحّـب به. وينـزل روحـه على كلّ المـؤمنـين مجـتمعيـن في القـداس الإلهـي وفـي كـلّ صلاة للجمـاعة وللفرد ولكلّ قـارئ للكتـاب الإلهي.

ما يـطلـبه يسوع ألّا تُحالف الخطيئة. أجل، “ليـس مـن إنسان يـحيـا ولا يُـخطئ”. ولكن تبـقى الصرخة الإلهيّـة اليك: انّي أحبّـك معي، انّي أحبّك أن تكون مثلي. أنا لا أساوي بـيـن الخاطئ والبارّ في دينونتي. اسكن معي أسكن فيك. أنا جئت لكي أرفعكم معي الى الآب.

هذه الدعوة تحققها في أي موضع كنت فيه. أنـت فلاح او نجّار او طبـيـب او تـاجـر، إمكـانـات القـداسة أنا أعطيك إيّاها. ليست القداسة حكرًا على الرهبان. لا تنتهي بأن تقيم الصلاة. تبدأ القداسة اذا بدأت الصلاة. ثم تتعاطى المهنة التي أنت فيها. القداسة ممكنة في الحياة العائليّة، وبين القديسين متزوّجون كثيرون.

القداسة هبة يقدّمها الروح القدس لكلّ من اشتهاها.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

أحد جميع القديسين / السبت 13 حزيران 2009

غدًا تقيم كنيستي أحد جميع القديسين لتشدّ المؤمنين اليهم مجتمعين فمنهم مجهولة عندنا أسماؤهم ولو عيدنا كلّ يوم لواحد منهم أو أكثر. كنيسة الغرب عندها ايضا مثل هذه الذكرى في يوم آخر لأن الشرق والغرب المسيحيين مخطوفان الى «شركة الروح القدس» صانع معجزة القداسة.

ربّ سائل لماذا تكتب في هذا الموضوع والناس قيام قعود في أمر من دنياهم وانت تسطر سطورًا من غير هذه الدنيا او من فوقها. ربّما لا يعرف كلّ الناس العلاقة بين ما هو فوق وما هو تحت لكونهم اعتادوا ان يعزلوا التحتيات عن الفوقيات لإيمانهم بأن عالمنا هذا محكوم بالترتيب العقلي او القانوني، تلك الأمور على ما يحسبون لا علاقة للسماء بها. وظنّي انك لا تصعد من الأرض الى السماء ولكنك تنزل من السماء الى الأرض ثم تتصاعد على قدر النعمة وقدر الجهد.

لا أنكر على من حصر نفسه في الأرض بعض نجاح من ذكائه او من توافر ظروف الزمان او من مصادر العلم والقوّة. انت تستطيع أشياء معقولة، مرتّبة بلا إله اذا انتسبت الى إله تخترعه. الذين لا مرجع لهم فوق ادمغتهم او فوق قلوبهم يرسمون صورة دولة وتتحقق هذه وفق «حكمة هذا الدهر». ولكنها لن تكون المدينة الفاضلة التي حلم بها الفارابي او التي زينت لابن خلدون.

نحن الذين نرى الأشياء من خلال الله نخترق العازل الذي وضعه اولئك القوم بينهم وبين الله حاسبين ان عمارة الانسانية ممكنة دون الرجوع اليه. ان تتخيّل مدينة كلّّها إلهيّة لأمر مستحيل ولكن ان تتوهّم وجود مدينة بلا إله حلم مستحيل ايضًا. فبعد ان اوجد الله نظام النبوءة اي نظام مخاطبته الجنس البشري حلم هو بمدينة تسعى اليه تحمل روح النبوءة في قوامها وممارستها لتجعل من هذه الدنيا فردوسًا ما أمكنت الفردوسية هنا.

هذا ما يعيدني الى أحد جميع القديسين عندنا. عنندما يقول الله: «كونوا قديسين كما اني انا قدوس» (1بطرس 1: 16) بمعزل عن الظرف التاريخي للآية تبقى دعوة الى جميع الناس كائنا ما كان دينهم ولو استعارت ديانتهم تعابير أخرى. كل مذاهب التوحيد الى جانب ديانات الهند تعني الشيء الواحد. الإله القدوس هو المتعالي، المخصص لذاته، الغريب تاليا عن النجاسات، القائم في قوته المحبة غير المتسلّطة. وانت قدوس على شبهه ان شئت.

# #
#

هذا يعني ان هذه القداسة ممكنة لأن الإله الكامل منشئ إمكانات الكمالات فيك وأصل المكرمات عندك اي واهب تفعيلك للنعمة التي ينزلها عليك. في الله كلمة ومنه روح. لك انت ان تسمع الكلمة ولكنها تبقى مطبوعة على ورق ولا تصل اليك ان أغلقت قلبك دون الروح الذي تحمله. اذا اقتبلت هذا الوضع ليس لك حظ في القداسة او في البرّ ولن ترنو الى الإنسان الكامل الذي دعاك الرب ان تكونه.

الحق ان «ليس من انسان يحيا ولا يُخطئ» والإنسان الكامل هو من يخطئ مثلنا جميعا ولكنه يتوق الى الكمال اي ان شوقه الا يمس الدنس في كلامه ويديه وعقله لإيمانه بأن خلاصه ان يحقّق صورة الله فيه. سعيه الا ينسى ذلك ولا يحالف النجاسة التي تدق على بابه يوما فيوما. ان يخطئ طوعا او كرها هذا من ميول بشريّته ولكن ان يعود الى الاعتصام بحبل الله فهذا من الدعوة الإلهية الكائنة فيه. من الناس من لا يسكت صوت الله فيه ويستحب هذا الصوت. هذا هو القديس الذي يخطئ كل يوم ويتوب.

في التوبة جاذبيّة كما في الانغماس. «الإنسان لا يترك لذة الا نحو لذّة أخرى» (باسكال). ان تستلذّ الله فرحا فيك في هذا خطواتك الى البرارة. من بعد هذا تنزل الى الأرض انسانا سماويا وقدماك على الأرض ولكن لا تغرق فيها كما في رمال متحرّكة تبتلعك لأنك لست ذا قدمين فقط ولكنك ذو عينين واذا حولت عينيك الى الآفاق الإلهية فنصيبك الاختطاف.

هنا في غرائزك الجامحة تتحلق. لا تنكرها ان قيدتها بشرعيّتها. ليس الله ضدّ الغرائز المكوّنة لك ولكنه ضدّ جموحها المتفلّت. تقبضها بالعقل وتقبضها بالروح الآتي اليك من الكلمة. انت تعيش في الجسد. لست روحا ولكن روح الله منبث فيك. من هذا المنظار تروحن جسدك وتطلع به الى المواضع الذي يبسط الله فيها سيادته عليك.

# #
#
هنا يأتي الحديث عن السياسة. لقد فرحت عند سماعي بعض الناخبين الأحد الماضي الذين تحدّثوا عن حبّهم للوطن وجاء بعضهم من بعيد. حسنا تسيسوا والسياسة حكم الحقيقة لمدائن الأرض. وخارج الحقيقة حكم الأرض باطل اذ يكون حكم الدنس. واختار ابناء شعبنا من اختاروا اذا اختاروا بلا رجاسات هذه الدنيا وبلا انفعال اي اذا جعلوا انفسم في رئاسة العقل وبركات الإخلاص وكلّفوا من كلفوا ليكونوا على العقل وعلى الإخلاص. وحكام الأرض دعاهم ربهم الى خدمة الطهارة والمعرفة معا. لا طهارة بلا معرفة ولا معرفة بلا طهارة وليس صحيحا ان سائسي البلد مضطرون الى الكذب ومنافع لهم في الأرض. انهم يسوسون اذا باتوا في الحقيقة والصدق والعلم. الجهل لا يحكم والكذب لا يحكم. والماشي على طرق الحكم لا يعثر بالضرورة اذا ابتغى سياسة مدينة يريدها فاضلة اي في خدمة الناس وتعاونهم حتى التحاب. والتحاب ممكن مهما قال المشكّكون.

يجب أن نسوس مصالح البلد الحقيقية وان نتآلف لمعرفتها اي ينبغي ان ننظر اليها لتنميتها ليستقيم البلد ولا نيأس من البلد. وعلى قدر الخدمة عند المسؤولين تنتعش الجماعات بهم وتثق ويصبح الرقيب ومن نراقب واحدا في الخدمة المشتركة ويتألّف الوطن مما نبذل جميعا ومعا.

ابتغاء هذا لا بدّ من أن نحبّ كلّ خير يصدر عن هذا الفريق او ذاك فلا نرفض فكرة صالحة كائنا ما كان الآتي بها لأن لبنان يقوم على توافق الجيّدين والأشخاص يتكوّنون من جودتهم لا من تحالف احزابهم. ليس المهم ان نتصالح على أيّ شيء. المهم ان يجتمع أهل الخير من آفاقهم وتتشكّل كتل قائمة على المبرّات قد تكون كتلا جديدة. «سيذكرني قومي اذا جد جدهمُ/ وفي الليلة الظلماء يففتقد البدرُ».

ابنوا لبنان معا ولن تتفرّقوا اذا ابتغيتم الحقيقة الناصعة وخالص العمل والأعمال المدروسة. اجل لا بدّ من فقه سياسيّ ولكن لا بدّ من البرّ. عند ذاك تأتي الكلمة واحدة.

الى أهل الحكم أقول أحبونا نحبّكم. اعرفونا نعرفكم. انظروا الى الضيق الذي نحن فيه نرَ صدقكم. لا يكفي ان تقرّوا بجمال لبنان. هذا يحتاج الى مسحة من قداستنا وقداستكم ليصبح بلد الله.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الروح القدس / الأحد 7 حزيران 2009 / العدد 23

الروح القدس، الأقنوم الثالث ينقل الى كلّ مؤمن والى الكنيسة جمعاء مفاعيل الخلاص الذي تمّ بيسوع المسيح. هذا نلنا به الخلاص بالصليب والقيامة. هو قدّم لنا هذا الخلاص. يبقى ان الإنسان ليناله يجب أن يريده.

إرادتنا في نيل الفداء نعبّر عنها في حياتنا الكنسيّة: في المعموديّة وسرّ الشكر وبقيّة الأسرار. هذه كلّها يتمّمها الروح القدس. ففي القداس نقول للآب: أرسل روحك القدّوس علينا وعلى هذه القرابين فتتحوّل الى جسد الرب ودمه. كلّ عمل تقديسيّ (تكريس الكنائس مثلا، تقديس الماء) كل تبريك آخر يصير بقوّة الروح فيحضر المسيح على هذه الأشياء ونستقبل المسيح.

يتكوّن المسيح فينا اذًا بقوّة الروح القدس. واذا سكن المسيح في قلوبنا، يأخذنا الى الآب، ونكون هكذا اتصلنا بكل الثالوث الأقدس.

اذا قرأنا الإنجيل فلا تدخل كلماته الينا وتغيّرنا الا اذا نقل الروح القدس الى قلوبنا هذه الكلمات.

اي شيء فيه تقديس وتنقية وسموّ روحيّ يحصل فينا بقوّة الروح الإلهي.

الروح القدس اذًا هو روح القداسة. اذا صلّينا فرديًا صباح مساء ينقل الينا الروح القدس قوّة هذه الصلاة.

المسيرة الإلهيّة بعد الأنبياء والوحي الذي وصل اليهم تبدأ بالتجسّد الإلهي الذي حصل بالروح القدس وقبول مريم له. ثمّ يعلّم السيّد الجموع ويشفي المرضى، وهذا كلّه بفعل الروح القدس الذي كان دائما مع يسوع وفيه. وفي نهاية المطاف، وبعد صلبه وقيامته، نفخ يسوع من ذاته الروح القدس. وبعد صعوده الى السماء وتشريف طبيعته الإنسانيّة بإجلاسها عن يمين الآب، أرسل الرب روحه القدس على تلاميذه يوم العنصرة فأخذوا يتكلّمون بألسنة فهمها كلّ من القائمين هناك. ولما اعتمدوا بعد خطاب بطرس، دخل الروح القدس الى كلّ منهم. الى جانب الألسنة ظهرت في الكنيسة الأولى في القرن الأول مواهب للروح ذكرها بولس: موهبة النبوءة، التعليم، الوعظ، العطاء، الرئاسة (رومية 12)، الشفاء التكلّم باللغات، ترجمة اللغات (1كورنثوس 12).

بعض من هذه المواهب باقٍ في كنيسة اليوم، وبعضها ظرفيّ زال، وكانت الغاية منها إظهار قوة الله. ومع ذلك الكنيسة تبقى كنيسة المواهب. هذه يشاهدها الأسقف ويشجّعها إن رأى أنها من الروح.

الى هذا كلّ منّا اذا تحرّك ضميره وأحبّ الآخرين وخدمهم وصفح عنهم وتعاون وإيّاهم بتواضع يكون الروح القدس قد دفعه الى العمل الصالح. انت لا تستطيع أن تتوب وتقوم بأعمال الرحمة ما لم يحرّكك الروح. نعمته هي التي تبادر اليك وعليك انت ان تتقبّلها بمحبّة الله، وما لم تكن محبًا لا فعل للروح الإلهي فيك.

كنْ حضنًا للروح وأداة بين يديه ليستقرّ فيك كما هو في السماء. صرْ أنت سماءه على الأرض.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

العنصرة والانتخابات / السبت 6 حزيران 2009

غدًا العنصرة، حسابًا شرقيًا. والعنصرة ذكرى حلول الروح القدس على التلاميذ مجتمعين في العليّة. رأوا أنه صار هو قوّتهم وباعثهم الى حياة جديدة. كان المعلّم قد قال لهم ان الماء الذي يعطيه يصير في المؤمن به «نبعًا يفيض بالحياة الأبديّة». ولكن هذا بقي عندهم كلاما حتى أفصح الله لهم بالروح عما قصده للمسيح فخرجوا بعد انصباب الروح عليهم الى العالم وصار العالم بهم شيئا جديدًا. قالت كتبنا تكلّموا باللغات بفضل انسكاب الروح على كلّ واحد منهم وفهم كلّ حاضر في ذاك المشهد ما سمعه بلسان غريب وفق ما قاله نبيّ قديم: «أفيض من روحي على جميع البشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاما وعلى عبيدي، رجالا ونساء، أفيض من روحي في تلك الأيام».

سيخرج الأرثوذكسيّون من كنائسهم غدًا الى صناديق الاقتراع. وسيأتي اليها كل مواطن ألهمه الروح أيا كان انتسابه ليسهم في بناء الوطن. هذا هو ما يبتغيه الوطن منه. سيكون هو مطيعا لنداء الروح او لن يكون. ستحلّ عليه عنصرة او لا تحلّ. اذا حرّكه ضميره وفهمه غير منفصلين وقد رجا هو ان كان صادقا الا يتحرّك بجهالة عقله او عتمات وجدانه لأن القضيّة عظيمة حتى الرهب. هو لن يقدّم حسابا لمن يخوض في هذا اليوم سياسة او رياضة سياسيّة. الله وحده يمتحن قلبه ويزكّيه او يغضب منه. لن يحاسبه اذا أخطأ عقله ولكنه يحاسبه اذا لطخ وجدانه باقترافه عملا مشينا.

ومرفوض، ان عمل هذا، ان يدّعي عدم اطّلاعه او ضعف اطّلاعه اذ كان عليه ان يتثقّف سياسيّا وكان عليه في فترة ولوقصيرة ان يعرف عن المرشّحين بعض الشيء لئلا يتهافت بضعف البصيرة اذ الإنسان مسؤول عن كسله ويوصله الى الحق جهده. المهم ان يدرك كلّ لبناني انه قائم يوم الأحد. بعمل خطير يسهم فيه ولو قليلا ببنيان الوطن او هدمه والوطن وديعة وكل منا مسؤول عن الودائع التي ائتمن عليه.

لم يفت أوان الصدق وأوان الأمانة. فأنت منذ صباح الغد محرّر من الوعود التي قطعتها للمرشّحين مخطئا او راغبا في المغريات. ما من إنسان مرتبطًا بوعد سيء ومسيء. انت فقط مرتبط بالحق. فاذا أحسست اليوم بخطأ عد عنه واكتب بيدك الأسماء التي تعتقد من صميم نفسك ان أصحابها هم الأكفاء.
# #
#

لن يبكتك ضميره ان لم تعرف حقيقة المرشحين. ولكنه يبكتك ان اخترت ضد قناعتك اذ تصبح بذا شاهد زور ونحن بالانتخاب في موقع شهادة. ما انت بمحزب لأحد انحزابا اعمى وبخاصة لست مرتبطا بلائحة. ما انت بمغذٍ شهوات المرشحين الذين ينصرون بعضهم بعضا لقناعة او منفعة. انت خارج قناعاتهم فقد يبقى بينهم التناصر او لا يبقى. بلغتهم مشوارهم انتخابي او سياسي. انت خارج هذا التمييز. وفي حمى المعركة يحسبون -ان كانوا صادقين- انهم سيتعاونون بدءًا من 8 حزيران. هذا كلّه يحتاج الى بحث وتدقيق. هل انت تطالبهم اذا لم يظلوا متعاونين؟ وما جرى عندنا ان النائب يؤدي حسابا لمن اختاره. جلّ ما يمكن ان تقوم به ان تتابع من تنتخب لتضعه تحت السؤال اذا استقبلك او تتركه بعد أربع سنوات. في هذه الحقبة هل ثبت وعوده ام يحضر جنازة نسيب لك ليقول لك انه ساندك.

السياسة شيء جدّي كثيرا لأنها متّصلة بمعاشك اليومي وتربية أولادك واستمرارك في هذا الوجود الزمني وأعني به بخاصة بقاء البلد وقوّته. من الواضح طبعا ان القيّمين على السياسة المباشرة أعني النواب والوزراء ليسوا كاملين. معنى ذلك انك تختار من اقترب من الكمال في النطاق الوطني وان تشطب من تعتبره سيئا. من كان قبيحا في عينيك لا يجوز ان يرد عندك وان أتى بتصويت آخرين فهذا شأنهم وانت لا تحمل خطايا هؤلاء.

اذكر ان الانتخاب سرّي فاذا تصرّف المندوبون بالتهديد او الابتزاز اذا فرضوا عليك قائمة صباح غد فيما انت ذاهب الى الاقتراع ودفعوا اليك الأسماء التي يريدون فتخلّص من وطأتهم واعمل حسبما يوحيه لك ضميرك. اذا خفت تنصاع والانصياع عبوديّة والوطن مصاب قليلا او كثيرا.

لا تتفرق عن أهلك وأصدقائك لاختلاف في الخيار. في بلاد الناس لا أحد يبوح لآخر عمّا قام به في العمليّة الانتخابيّة. مرّة سألت انكليزيا كنت معه على شيء من الصداقة عمن انتخب أفهمني بعبارة شبه مهذّّبة ان هذا لا حديث عنه في بلادهم. الكتمان في هذه الهمروجة أفضل من البوح.

# #
#
الخطيئة الكبرى في شعبنا ان نعتقد ان الأخلاق منحصرة في السلوك الفردي حسب الوصايا العشر او ما اليها ولا يتعلّق بالشأن العام. ما ينبغي ان نتعلّمه هو ان ليس من بون بين الحياة الفرديّة والحياة الجماعيّة وان من آذى الوطن كمن يؤذي شخصًا واحدًا. الخطيئة الأخرى الاعتقاد بأن البلد مسؤوليّة الحكام والمشرّعين وحدهم. آن لنا أن ندرك اننا نحن صنّاع الحكام والمشرّعين وأنّّنا نبدأ تنصيبهم بالعمليّة الانتخابيّة. الجماعة الوطنيّة هي المنشأ فلا تجعلوا المسوؤلين في الحكم هم المنشأ.

لا تتساهلوا بشيء. لا تضعفوا أهميّة ما تقومون به غدا. لا يقل أحد منكم: انا واحد من مليوني ناخب او كذا. صوت واحد قد يذهب بمرشّح او يأتي بمرشّح. لا تقل هذه التفاهة: هذا بي وبدوني آتٍ. هذا غير صحيح لأن النجاح او الرسوب هو في التعداد. انت فاعل واذا أدركت ذلك يبدأ لبنان بالنهوض.

# #
#
المهم الا تيأس من هذا البلد. انا وصلت الى درجة الحزن لا الى اليأس مع قناعتي ان نهضة بلدنا تحتاج الى أعجوبة. انا لا أقول ان تؤمن بلبنان. «الله ولبنان» عبارة جوفاء. لبنان من هذا الكون والله ليس من هذا الكون. ولكن قناعتي ان الرب يحب ان نعيش في هذا الوطن. لذلك يريد ان يستبقيه حتى نتعزّى به ونفرح. ولكن الله لا يقدّم لك لبنان على طبق من فضّة. يجب ان تستحقه. لا تطلب فقط ان تخدمك الدولة. اخدمها انت لأنها جزء من المكونات الكبرى للوطن. اذ ذاك تكون قد خرجت من جلدك ولا تبقى أسيرا لأناك. الوطن هو الأنت والنحن. بهذا تتحلق.

ايا كانت ديانتك او ايا كان مذهبك أقم معنويا اليوم العنصرة مع الروم اي ادعُ الله ليحلّ روحه عليك قبل وصولك الى صندوق الاقتراع واذهب الى هذا ليس فقط على قدميك ولكن بالروح. اذا كنت من المصلّين ادعُ ربّك ليلهمك الخير ومحبة لبنان ويزيدك. ورقة بسيطة، وحيدة تروّضك على الصدق وقد تنتج ثمرا. أقلّه تنتج فيك انسانًا طيبًا.


Continue reading