Monthly Archives

April 2002

2002, مقالات, نشرة رعيتي

الأسبوع العظيم/ الأحد 28 نيسان 2002 / العدد 17

ايا كان إهمالنا في الصوم ندخل الآن اسبوع الفرح العظيم الذي يكلله فجر القيامة. اليوم يدخل ابن الانسان اورشليم متواضعا ويعلنه الأطفال ومن له قلب طفل ملكا على الإنسانية. يدخل لكونه ارتضى الموت بسبب حبه للبشر. وبدءا من مساء اليوم على مدى ثلاث امسيات نعلنه ختنا اي عريسًا للنفس، لكل نفس قررت ان تطيعه.

         سيأخذنا الإنشاد وتأخذنا التلاوات المقدسة لنقرب من يسوع اكثر فأكثر عسى يدخلنا الى قلبه ويعطف علينا ويغفر. والتحذير امامنا هو: “انظري يا نفسي ألاّ تستغرقي في النوم”. لقد نمنا في الخطيئة نوما كثيرا. المجال امامنا ان نفيق من هذا السبات الطويل. سوف ينزل علينا النور ان استمعنا الى الأناجيل والمزامير وما اليها وأسلمنا لكلمة الله بلا تردد. هذا هو الوقت الذي نذهب فيه الى الكاهن لنكبّ امام المسيح كل خطايانا حتى يحل الخميس العظيم لنأكل الفصح. انه جسد الرب الذي مَن أكل منه يحيا الى الأبد.

         سنمشي وراء يسوع خطوة خطوة ونرفض الهوة التي اقمناها بيننا وبينه حتى نسمع الأناجيل مساء الخميس ونتشبع من خطبة الوداع التي هي الإنجيل الاول ثم نصغي الى الأناجيل الباقية ونتقبل الترتيلة: “اليوم عُلّق على خشبة”. نقول “اليوم” لنعني ان موت المعلم الذي وقع قبل الفي سنة انما هو حي فينا الآن وان الخلاص الذي اعطاه نهائيا آنذاك انما نتقبله الآن. نحن مجددا في استلام يسوع ولن نقبّله قبلة غاشة ولكنا نعطيه قبلة الحبيب، والحبيب لا يخون.

         ولما كان يوم الجمعة عطلة رسمية وعطلة لمعظم الناس سنذهب الى الكنيسة صباحا للمشاركة في الساعات الملكوتية وصلاة الغروب فإن هذه الخدمة على دسم روحي يجعلها قمة في هذا الأسبوع المقدس مليئة بالتعليم بالمزامير المختارة بصورة بديعة وببعض اناجيل الآلام ايضا حتى نطوف بايقونة المسيح الدفين (الإبيتافيون) بانتظار تقاريظ الجناز بدءا بـ “يا يسوع الحياة في قبر وضعت” ونقترب من هذه الصورة في آخر الخدمة ونقبل وجه يسوع وقدميه لنقول له اننا اتخذناه نهائيا مخلصا لنا.

         وفي كل هذا نعرف ان الحياة الإلهية دخلت به مملكة الموت وانها أبطلت الموت، لنقول له انه غالب كل شكل من اشكال الموت فينا وقد علمنا اننا “دفنا معه لنسير الى موته حتى كما قام يسوع من بين الأموات نسلك نحن ايضا في حياة جديدة”. في هذه الخدمة العظيمة لا نبكي عليه. فإن المسيح “سبَتَ بالجسد بواسطة سر التدبير الصائر بالموت ثم عَاد بواسطة القيامة الى ما كان ومنحنا حياة ابدية”.

         ثم يحل السبت العظيم الذي كنا نقيمه قديما في الليل وفيه يعمّد “المستنيرون” الذين علمتهم الكنيسة ليتقبلوا المعمودية عند غروب الفصح في بيت المعمودية القائم خارج الكنيسة، وبعد المعمودية يدخلون الكنيسة فنستقبلهم بقول بولس: “انتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح لبستم”. وفيما هم كانوا يقتبلون العماد نقرأ من العهد القديم ما يتعلق بالعماد. اذ ذاك نهتف للسيد المبارك: “قم يا الله واحكم في الأرض”.

         كلنا شوق الى القيامة التي عبّرت عن الحياة الجديدة. وبعد الطلبات التي تلي الإنجيل نقول: “ليصمت كل جسد بشري” لأن الكلام المباح الآن هو ان المسيح قام من بين الأموات. وهذه هي الكلمة الوحيدة المخلّصة للعالم. ولن يزيد عليها بشري كلمة واحدة.

         بعد هذا لا يبقى علينا سوى ان ننتظر فجر القيامة.

Continue reading
2002, مقالات, نشرة رعيتي

احد التواضع/ الأحد 21 نيسان 2002 / العدد 16

في هذا الإنجيل ينبئ يسوع مرة ثالثة بموته. نحن صاعدون معه الى اورشليم. يقوى شعورنا باقتراب الآلام. ما سيذوقه من اوجاع محكيّ عنه هنا. القيامة التي ينالها من الآب معلنة هنا ايضا.

         امام هذا الإعلان عن المحنة الرهيبة التي سيمرّ بها، ينبري ابنا زبدى ليطلبا اليه ان يجلس احدهما عن يمينه والآخر عن يساره في مجده بمعنى المجد السياسي الذي كانا هما يحلمان فيه. اذ ان المسيح في المفهوم اليهودي زعيم قومي يحرر – في ذلك الوقت – شعبه من الرومان.

         أَسكتهما يسوع بقوله: “انكما لا تعلمان ما تطلبان”. انا لست منقذا وطنيا. انا منجّي النفوس من الخطيئة ومحررها من الموت الأبدي. ثم يسألهما ان كانا مستعدين ليتألما معه (الكأس التي أَشربها، الصبغة التي أَصطبغ بها). لا شيء يدل انهما فهما هذا الكلام حق الفهم. اجابا نحن مستعدان. ولكن كان للسيد لغة ولهما لغة اخرى. بقي الالتباس.

         عند ذاك غضب عليهما التلاميذ. ربما كان هذا حسدا. ربما اشتهى الكل المشاركة في مُلكٍ ارضي. عند ذاك سفّه يسوع كل الرسل بقولـه: “إن رؤساء الأمم يسودونهم (ويريد بذلك الأمم الوثنية) وعظماءهم يتسلطون عليهم”. يسوع كـان واضحا عنده ان سياسة الشعوب كلها تسلُّط من الحكام، وان سعي التلاميذ الى سلطة في هذا العالم لا تخـرج عن شهـوة الملك. ولهذا تـابع: “من اراد ان يكون عظيما فيكم فليكن لكم خادما”. الانسان التابع لي يتكون من خدمته ولا يتكون من سلطانـه. خذوني اذًا قـدوة “فإن ابن البشر لم يأت ليُخدم بل ليخدُم ويبذل نفسه فداء عن كثيرين”.

         انا جئت خادما للكل. انا سأظهر لكم عند العشاء السري اني غاسل أرجل. انا، ابن الله، تبدو ألوهيتي للإنسانية بأني اجعل نفسي متألما عنها. ستنظرون اليّ معلقا على الخشبة اي ملعونا حسب الناموس وحقيـرا. المؤمنون الذين عرفوا اني مخلّصهم وذاقوا حلاوة الخلاص سيفهمون ان مجدي كان على الصليب. انا قلبت كل الموازين التي اصطلـح عليها البشر. فقد باتت العظمة بالتواضع، وجاءت الحياة، حياتكم من موتي. الذين يعرفـونني لا يستـولون على شيء ولا يستعبدون احدا ولا يهزأون بأحد ولا يحقرون احدا ولا يستعلون. احبائي سيصيرون غاسلي ارجل. يتحملون بصبر ووداعة كل شيء حتى يعلو الآخر. المؤمن بي سيفتش دائما كيف يكسر كبرياءه، كيف يبذل نفسه عن الآخرين.

         بعد ايام قليلة سنرافق يسوع في دخوله اورشليم لنحصل على الحب الذي جاء ليعطيه. وبعد هذا ايضا نرى القيامة. ولكن هذا لن يكون الا اذا اكتسبنا التواضع الحقيقي ليس فقط امام السيد ولكن امام الإخوة. “لقد تناهى الليل واقترب النهار”. فلندخل النهار الذي لا يعتريه مساء.

         المؤمن بيسوع يتبع يسوع حتى النهاية، حتى الموت ويقدم نفسه عن كل انسان حتى الموت اذا اقتضى الأمر ذلك. وكما قام السيد من بين الأموات نقوم نحن في حياة جديدة ممتلئة من النور. ليس بعد هذا الا فرح الفصح.

Continue reading
2002, مقالات, نشرة رعيتي

فلسطين/ الأحد 14 نيسان 2002 / العدد 15

فلسطين كانت دائما عزيزة لكونها الأرض التي عاش عليها السيد فكانت مكان الخلاص والنور الذي جئنا منه. واليوم يزداد تعلقنا بها لكونها تتألم. وكل من ذاق الألم يصبح شريك المسيح في آلامه. ونحن اليوم نصوم. غير ان الشعب الفلسطيني يجوع ويقتلونه ظلما. دمار لا مثيل له وتشريد واحتلال وإبادة. ونحن في كنيسة المسيح قائمون ضد إهدار الدماء وتعريض الناس للجوع والعطش ايا كان المرتكب. نحن مع كل شعب يذوق الذبح. والشعب الفلسطيني كله ذبيح اليوم.

         إلى جانب هذا انتهكت حرمة الكنائس وقُتل أبرياء في الكنائس مما يدل على ان الذين ارتكبوا هذه المجازر لا يفرقون بين اهل هذا الدين واهل ذاك. غير ان ما يوجعنا هو هذا الاقتحام الشامل الذي يبتغي إفناء أمّة بكاملها بما فيها الآمنون من النساء والشيوخ والأطفال. وهؤلاء اعزاء عند الرب واقرباء له. وما يؤسف له ان البشرية عاجزة حتى الآن عن نصرة هؤلاء او انها لا تريد ان تستعمل وسائل الضغط حتى يرفع الحيف عن كاهل المعذبين في الأرض المقدسة مع ان المجتمع الدولي اعترف لهم بدولة. والدولة حقهم لأنها تستشعرهم بوجودهم الحر وتقدم لهم سبيل الازدهار. انهم يريدون ان ينتهي الاحتلال عنهم. وكما فرحنا نحن بزوال الاحتلال عن جنوبنا ينبغي ان نشتهي لهم الحرية والكرامة فإن الإذلال مصدر لليأس والحزن الشديد. ان الاستقلال طريق كل شعب الى قيامته. وكما تمنينا لأنفسنا السلام ندعو لإحلال السلام في فلسطين لأن السلام لا يتجزأ، لأن الحرب الدائرة هناك تنذر ايضا بالخطر علينا وعلى كل منطقة الشرق الحبيبة الى المسيح.

         ما يجري اليوم في فلسطين فوق طاقة الاحتمال. ان الله يريد الحياة لخلائقه واوجدها للحياة ولم يخلقها لتعيش خائفة من الموت. انه اوجدنا للفرح به وبإخوتنا البشر حولنا وما اوجدنا للتشنج والقنوط. فقد قال المخلص: “جئت لتكون لكم الحياة” والكتاب يسمي الموت عدوا، ذلك ان الرب أعدّنا للخلود. الوصية هي “لا تقتل” أكان القاتل فردا ام كان دولة تأمر عسكرها بذبح الأطفال والبالغين.

         موقفنا اننا نرسل سلاما من كل قلوبنا الى اهل فلسطين لأننا نحن المؤمنين بيسوع مع المقهورين ولسنا مع القاهر. ونصلي من اجل ان يلهم الرب القاتلين التوبة. نحن نريد اليهود ان يعيشوا ولا نريد لهم ذلا ولا نرضى بأن يقتلهم احد. غير اننا نريد ان يُحلّ الله في قلوبهم ميلا الى السلام وان يساووا الفلسطينيين بأنفسهم، وكما لليهود ارض يعيشون عليها نرجو ان يدركوا ان يعملوا ليكون للعرب في الأرض المقدسة ارض يعيشون عليها على ما قال كتابنا: “لا تفعل بالآخرين ما لا تريد ان يفعلوا بك”.

         نحن قد ذقنا مرارة التهجير. لا نرضاه اذًا لأحد. فلسطين ارض الفلسطينيين ونرجو ان يعودوا اليها. وكما لا نريد ان يطردنا احد من لبنان لا نريد ان يطردهم احد من بلادهم. ان التشتت في الأرض حزن كبير وسبب للإجرام. ليس لأحد بديل عن بلاده. ونحن في لبنان رفضنا التوطين لأننا، اساسا، نريد للفلسطيني الأرض التي يحبها ويحب التمتع بها.

         لهذا اطلب اليكم – وهم في هذه المحنة – ان تصلوا من اجلهم كل بمفرده واتمنى على الكهنة ان يذكروهم في الذبيحة الإلهية سواء بطلبة تضاف الى الطلبات او في الدورة الكبرى عسى الله يستجيب صلواتنا قبل ان نتبين وسيلة محسوسة مع سائر مواطنينا لرلرفع الظلم عنهم ولدعمهم في ما هو حق له وانتعاش.

Continue reading
2002, مقالات, نشرة رعيتي

عيد السجود للصليب/ الأحد 7 نيسان 2002 / العدد 14

في هذا الأسبوع نبلغ منتصف الصيام وقد دلت خبرة الكنيسة ان بعضا من المؤمنين – بعد جهاد طويل – يملّون الجهاد. فلئلا تخور قوانا الروحية رتب آباؤنا ان نقيم في هذا اليوم عيدا يشبه يوم الجمعة العظيم فنسجد لآلام السيد ونتخذ منها نفحة قيامية. فنطوف بالصليب حتى وسط الكنيسة ليأتي المؤمن ويعانقه ويأخذ من الرياحين المحيطة به ليفهم ان هذا العناق يعطيه فرحا.

         وفي خدمتي الغروب والسحر نقول للصليب انه “المشوق اليه من العالم” وانه “الحامل الحياة” ونقول ان العالم امتلأ به فرحا لكوننا واثقين اننا نلنا به الخلاص، هذا الذي كشفته لنا القيامة. وفي الرسالة الى العبرانيين التي نقرأ منها نذكر ان المسيح كاهن الى الأبد وقد أظهر كهنوته العظيم اذ صار بموته قربانا للآب. ونتمم خدمة الطواف بما يشبه خدمة رفع الصليب في 41 ايلول. والمبتغى من كل ذلك ان نكون متحدين بيسوع. كيف يكون هذا الاتحاد؟

         عن هذا السؤال يجيب إنجيل اليوم: “من أراد ان يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. نحن مدعوون ان نتبعه. هو جاء من اجل ذلك. شرط ذلك ان نكفر بذاتنا المنغلقة على نفسها، الواقعة في شهواتها. الإنجيل يدعونا ان نزيل العراقيل التي تمنعنا عن رؤية يسوع حياة كاملة لنا. الخطيئة تعني، بالعربية، اننا نخطئ الهدف او اننا، في طريقنا الى السيد، نلتهي بأشياء اخرى فنحيد عن الطريق لكوننا نسينا قوله: “انا الطريق”.

         كل منا يغريه هذا الضعف او ذاك. لم يذكر يسوع الضعفات باسمها: الكذب، الاحتيال، الحقد، الغضب الخ… ذكرها كلها بقوله: فليكفر بنفسه اي بهذه الأنا الحاملة كل هذه الضعفات. لماذا يجب ان نبتعد عن كل شر؟ يقول يسوع: “من اجلي ومن اجل الإنجيل” اي محبة بي وارادتنا على إعطاء التعليم الإنجيلي وتطبيقه. ذلك لأن الذي يحب ذاته أنانيا ليس عنده محل ليحب يسوع او ليحدث الناس عنه.

         وحتى يكشف السيد الخطأ مـن شهوتنا لما هو غيره قال: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه”. كل غنى العالم وكل نفـوذه وكل ملـذاته ماذا تنفعنا ان خسرنا “الذات” اي هـذه الشخصية الطيبة، المحبة، الطاهرة التي أسلمت ليسوع. وفي خبرة التأئبين ان كل مسرات الدنيا لا تقاس بالفرح الروحي الـذي ينزل علينا اذا احببنا السيد. لا يمكن تشبيه اي شيء نكتسبه مـن ملذاتنا بالنعمـة التي تنزل علينا من الله.

         كان هذا الأحد لنفهم هذه الحقيقة. ننضم الى الصليب اي الى ما يبدو لنا ألما ونقبل صعوبة الإمساك والتقشف والمثابرة على الصلاة لكي نصل الى القيامة. ونفهم في مسيرتنا اليها ان نورها يتخلل هذا الصيام.

         ما ينبغي التروض عليه ان المسيحية تكلف جهدا كبيرا. ولكن اذا بذلنا هذا الجهد نصير محبين له لعلمنا انه تعب من اجل المسيح. يبدأ هذا تعبا. وبعد ذلك يصير سرورا. هذا هو سر الصليب والقيامة ان ما حدث للسيد اي موت وانتصار ينعكس فينا. نميت نحن الخطيئة، نصلبها فنقوم في الفرح حسب قوله المبارك: “انا القيامة والحياة”. لا ننتظر فقط القيامة الأخيرة ولكن نذوقها مسبقا اذ نحيا مع المسيح. وهذا ما سنجده في النفس بين الجمعة العظيم وصباح الفصح.

Continue reading
2002, جريدة النهار, مقالات

يا أبا عمَّار / السبت 6 نيسان 2002

سلام عليك. سلام على جسدك السجين وروحك الحرة. أرجو أن يقرأ عليك هذه الكلمات محمود درويش إذا بَلَغَتهُ وإن بقي على مكتبك هاتف يلتقط. هل تذكر لما التقينا للمرة الأولى في بيت كمال ناصر لنشيعه؟ كنت أنت أول مناضل فلسطيني التقيه أي إني حملتُ القضيَّة قبل أن أرى وجوهكم. وبعد أن بحت لي بتقديرك العظيم لمن ذهبنا لجنازته – ولن أبوح بها هنا لئلا تهتك المرؤة – وفُوِّض إلي أمر التأبين في الكنيسة، بعد ذلك تذكرت أن صلاح الدين دخل القُدس برفقة البطريرك الأرثوذكسيّ الذي كان الفرنجة قد طردوه. فأحببتُ أن أتندَّر على رغم المأساة التي كنا فيها. قلت لك: أبا عمَّار ستدخل القدس على فرس بيضاء رئيسًا لفلسطين المستعادة وأنا على فرس بيضاء بطريركًا على القدس. الشق الأول من جملتي المتعلِّق بك كان أملاً مني ودعاء. الشق المتعلق بي كان مجرد تكبير للشعب الفلسطيني إذ ليس واردًا أن أصبح بطريقًا على المدينة العظيمة التي إليها قلوبنا اليوم كما هي إليك. في ما أراك في هذا الحبس عطشان جائعًا وبلا ضؤ ذهب فكري إلى بعض قومك الذين أخذوا عليك ما أخذوا. لا أعاتب أحدًا منهم اليوم ولكنك طهَّرت الجميع بطهارة الذي “يبذلُ نفسهُ عن أحبائه”. اتَّفق مرة إني التقيت أحد أعوانك الكبار في طائرة كانت تقلني إلى موسكو. وسألته رأيه فيك. قال لي: “أبو عمَّار عنده حبيبة واحدة هي فلسطين”.

سمعتك الأسبوع الماضي تلتمس الشهادة. تعرف إننا، نحن المسيحيين، لا نسمِّي شهيدًا إلاَّ ذاك الذي يموت في سبيل الإيمان وللمسلمين تفسير أوسع إذ يحسبون أنَّ الجهاد – بمعناه العسكري – هو أيضًا في سبيل الله. سألتني الأسبوع الماضي نفسه سيدة أرثوذكسية من وطنك التقيتها على العشاء بعد أن أدَّينا صلاة الغروب في إحدى عواصم العالم. هل تعتبر الذين يموتون في القتال شهداء؟ أعطيتُها الجواب الكنسيّ التقليديّ الذي ينفي عنهم هذه الصفة. غير أني سألت نفسي: “أليس هؤلاء الذين ذهبوا للمحافظة على الأرض يموتون حبًا؟ وما الفرق بين أن تموت حبًا لأجل الناس وان تموت من اجل المسيح؟ أليس المسيح هو الحبّ؟

***

سمعت الإذاعة تقول إنهم أحاطوا مقرَّك بأسلاك شائكة والهدف كما أفهمك ألاَّ يأتيك احد برغيف أو جرعة ماء فيغسلوا أيديهم هكذا كما فعل بيلاطس. يلعبون لعبة الموت ولن يقول عنهم المؤرخون أنهم أطلقوا عليك رصاصة إذ أمرهم أصحابهم ألاَّ يقتلوك. يكونون فقط قد جعلوا الماء والخبز لا يصلان.

فيما أنا اكتبُ هذه السطور تكون أنت في يد الربّ وفي حراسة قلوبنا وأدعية الطاهرين من العرب ومن محبيّ السلام في دنيا الله الواسعة. بما بقي عندك من قوة جسديَّة أنت اليوم شهيد الحق. والحقُّ اليوم هو فلسطين. منذ سنوات كثيرة وقبل حرب لبنان كنتُ قد كتبتُ: “المسيح اليوم لاجىء فلسطيني”. أخذ علي ذلك لاهوتي أجنبي كنتُ أحبّهُ وكأنَّه لم يقرأ كلام المسيح: “كنت جائعا فأطعمتوني”. إنَّ السيد تماهى ومستضعفي الأرض. اليوم أذهب إلى ابعد من ذلك لأقول: إن المسيح هو الولد الذي حمل الحجر في الانتفاضتين وألقاه. كنَّا نسمي هذه الحركة ثورة الحجارة. كانت هذه رمزًا للحياة الجديدة الطالعة من طلب الكرامة ليس لفلسطين فقط ولكن لكل المعذبين في الأرض. نحن نعرف أنَّ هذا الحجر لم يقتل جنديًا واحدًا من الأعداء. ولكنه كان رفضًا للغطرسة وكان تأكيدًا للحياة الجديدة الآتية لأهلنا أكانوا في الأراضي عندك أم في الناصرة أو القدس أو بيت لحم أو بيت جالا وما إليها جميعًا.

أبا عمَّار، ليسمح لنا عشَّاق إسرائيل أن نغضب. وهذا فيه إبداع وفيه قدسيَّة وقد غضب المسيح مرَّة في الأقل. أمام الظلم الصارخ لا يستطيع الوديع أن يبقى على هدوئه لأن هذا الهدوء الكاذب يكون عدم إحساس وعدم الإحساس في التراث الأرثوذكسيّ هو الخطيئة. أنا لا أناشد أحدًا من الجالسين على الأرائك لأنهم لو أحسُّوا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. المهم ألاَّ نخسر معركة الكرامة. بورك الذين يتظاهرون اليوم لأنهم بالأقل يؤدُّون شهادةً وقامعوهم يؤدُّون جحودًا. وما يُعزِّيني – وأنا لا أتعزى اليوم – أنَّ جماهير عدة في العالم الحرّ صارت معنا وكأنَّ أحرار العالم باتوا فلسطينيين اليوم.

أبا عمَّار غدوت في سجنك محكَّ الصدق للبشرية جمعاء. قد لا نستطيع شيئًا إلاَّ البكاء. الطهارة اليوم في أنَّ نحب اهلك وأرضهم. كلامي هذا ليس فقط شهادة عربي. إنها شهادة من آمن بالمصلوب وتاليًا أحب كل مصلوب. العيسويون تعلموا أنَّ المصلوبيَّة مطرح الحقيقة. لذلك سنأخذك ونأخذ رفاقك في الدعاء بالضبط بسبب ولائنا ليسوع المصلوب. ونحمل قضيتك اليوم لكوننا نؤمن أن المصلوبيَّة امتدت إليك ولكونك تحملها بفرح الراجين.

***

قلتُ لبعض من أبنائك أنَّ هذا النزف الرهيب الحاصل عندك وحولك إنما يبشِّر بالسلام. لست اعلم متى سيحل لأن الظلام يغطي العالم اليوم كما غطاه لما رُفع المسيح على الخشبة. بعض من الذين اعرفهم يعيشون هذه الأيام أنها منذرة بانتهاء العالم. أنا أؤمن بأننا نحيا بداءةً لعالم يسوده العدل.

متى تمتطي يا أخي الفرس البيضاء لتسكن إلى القدس! قلت لبعضٍ من أحبائي من وطنك إننا سنلتقي في القدس. حزني أنَّ آخر زيارة قمت بها لها كانت في السنة الـ 1966 ولكني اشتهي أن التقيك فيها ليس بعد هذه الأيام بكثير ورجائي أن تصبح المدينة المقدَّسة مُلتقىً للأحرار بما فيهم من تاب من اليهود. سنحجُّ إليها. سيُسري الله بنا إلى المسجد الأقصى. والكل يعلم أنَّ المسجد الأقصى لم يكن قائمًا لما نزلت سورة الإسراء. ولكن الوحي أراد أنَّ كل ارض أورشليم كانت هي المسجد الأقصى. وأنت كنت دائما تذكره مع ذكرك لكنيسة القيامة. لعل الكثيرين لا يعلمون أنَّ العرب هم الذين سموا هذه المدينة القدس ليس فقط لاعتقادهم بأن الإسراء تم إليها وأنَّ المعراج تم منها إلى السماء. هي قدس الإنسانية كلها. ونحن نقول عن كنيستها أنها أم الكنائس لأن الإنجيل انتشر منها إلى العالم. نحن والمسلمين إذًا نقصد أنها هي التي تقدِّس الإنسانية كلها وليس ذلك فقط بسبب من المقادس التي فيها لنا ولكم ولكن لأنها محراب القداسة في العالم. والقداسة أن يتنزَّه الإنسان عن الفساد كله وان يعانق الحقيقة كلها بما تحتويه من محبة.

وإذا أدركتها أنت ورافقتُكَ أنا العيسويّ على فرسي البيضاء بالروح يتوحَّد المسلمون والمسيحيون وكل الطاهرين في الدنيا بإسلامهم الواحد لحقيقة الله والإنسان. بعد ذلك لا يبقى لنا إلاَّ معراجنا الواحد إلى السماء.

أبا عمَّار سلامٌ عليك متى وُلِدتَ ويومَ تموت في اليوم الذي يعيِّنه الله بحكمته ورأفته بك ويوم تُبعثُ حيًا. “وإذا حييت فللربِّ تحيا وإذا مُتَّ فللربِّ تموت. وإذا حييتَ أو مت فللربِّ أنت”.

طوبى لك يا أخي لأنك كنت صادقًا. وطوبى لك وطوبى لنا بسببك وبسبب الرضاء الإلهي علينا. وبسبب ما أنت عليه من صدق سوف نحيا لفلسطين حتى إذا استُعيدت بأمثولة الكرامة التي تُلقنها إياها تُعطى الإنسانية هذا الدرس أنَّ الصمود في الحقّ هو البراءة عينها.

ابق معنا على شجاعتك المذهلة نصبح أصفياء. هل تذكر كلام الحلاَّج بعد أن قطعوا يديه وأدركته الصلاة: “ركعتان في العشق لا يسوغ فيهما الوضؤ إلاَّ بالدَّم”؟. يُهراق دمُ شعبك اليوم مدرارًا. لا يبقى لنا إلاَّ أن نُغبِّطَ شَعبكَ الطيِّب. مهما أصابك من محن اُسلِّمُ عليك تسليمًا كبيرًا. اهنأ أيُها السيِّد الرئيس.

Continue reading