سلام عليك. سلام على جسدك السجين وروحك الحرة. أرجو أن يقرأ عليك هذه الكلمات محمود درويش إذا بَلَغَتهُ وإن بقي على مكتبك هاتف يلتقط. هل تذكر لما التقينا للمرة الأولى في بيت كمال ناصر لنشيعه؟ كنت أنت أول مناضل فلسطيني التقيه أي إني حملتُ القضيَّة قبل أن أرى وجوهكم. وبعد أن بحت لي بتقديرك العظيم لمن ذهبنا لجنازته – ولن أبوح بها هنا لئلا تهتك المرؤة – وفُوِّض إلي أمر التأبين في الكنيسة، بعد ذلك تذكرت أن صلاح الدين دخل القُدس برفقة البطريرك الأرثوذكسيّ الذي كان الفرنجة قد طردوه. فأحببتُ أن أتندَّر على رغم المأساة التي كنا فيها. قلت لك: أبا عمَّار ستدخل القدس على فرس بيضاء رئيسًا لفلسطين المستعادة وأنا على فرس بيضاء بطريركًا على القدس. الشق الأول من جملتي المتعلِّق بك كان أملاً مني ودعاء. الشق المتعلق بي كان مجرد تكبير للشعب الفلسطيني إذ ليس واردًا أن أصبح بطريقًا على المدينة العظيمة التي إليها قلوبنا اليوم كما هي إليك. في ما أراك في هذا الحبس عطشان جائعًا وبلا ضؤ ذهب فكري إلى بعض قومك الذين أخذوا عليك ما أخذوا. لا أعاتب أحدًا منهم اليوم ولكنك طهَّرت الجميع بطهارة الذي “يبذلُ نفسهُ عن أحبائه”. اتَّفق مرة إني التقيت أحد أعوانك الكبار في طائرة كانت تقلني إلى موسكو. وسألته رأيه فيك. قال لي: “أبو عمَّار عنده حبيبة واحدة هي فلسطين”.
سمعتك الأسبوع الماضي تلتمس الشهادة. تعرف إننا، نحن المسيحيين، لا نسمِّي شهيدًا إلاَّ ذاك الذي يموت في سبيل الإيمان وللمسلمين تفسير أوسع إذ يحسبون أنَّ الجهاد – بمعناه العسكري – هو أيضًا في سبيل الله. سألتني الأسبوع الماضي نفسه سيدة أرثوذكسية من وطنك التقيتها على العشاء بعد أن أدَّينا صلاة الغروب في إحدى عواصم العالم. هل تعتبر الذين يموتون في القتال شهداء؟ أعطيتُها الجواب الكنسيّ التقليديّ الذي ينفي عنهم هذه الصفة. غير أني سألت نفسي: “أليس هؤلاء الذين ذهبوا للمحافظة على الأرض يموتون حبًا؟ وما الفرق بين أن تموت حبًا لأجل الناس وان تموت من اجل المسيح؟ أليس المسيح هو الحبّ؟
***
سمعت الإذاعة تقول إنهم أحاطوا مقرَّك بأسلاك شائكة والهدف كما أفهمك ألاَّ يأتيك احد برغيف أو جرعة ماء فيغسلوا أيديهم هكذا كما فعل بيلاطس. يلعبون لعبة الموت ولن يقول عنهم المؤرخون أنهم أطلقوا عليك رصاصة إذ أمرهم أصحابهم ألاَّ يقتلوك. يكونون فقط قد جعلوا الماء والخبز لا يصلان.
فيما أنا اكتبُ هذه السطور تكون أنت في يد الربّ وفي حراسة قلوبنا وأدعية الطاهرين من العرب ومن محبيّ السلام في دنيا الله الواسعة. بما بقي عندك من قوة جسديَّة أنت اليوم شهيد الحق. والحقُّ اليوم هو فلسطين. منذ سنوات كثيرة وقبل حرب لبنان كنتُ قد كتبتُ: “المسيح اليوم لاجىء فلسطيني”. أخذ علي ذلك لاهوتي أجنبي كنتُ أحبّهُ وكأنَّه لم يقرأ كلام المسيح: “كنت جائعا فأطعمتوني”. إنَّ السيد تماهى ومستضعفي الأرض. اليوم أذهب إلى ابعد من ذلك لأقول: إن المسيح هو الولد الذي حمل الحجر في الانتفاضتين وألقاه. كنَّا نسمي هذه الحركة ثورة الحجارة. كانت هذه رمزًا للحياة الجديدة الطالعة من طلب الكرامة ليس لفلسطين فقط ولكن لكل المعذبين في الأرض. نحن نعرف أنَّ هذا الحجر لم يقتل جنديًا واحدًا من الأعداء. ولكنه كان رفضًا للغطرسة وكان تأكيدًا للحياة الجديدة الآتية لأهلنا أكانوا في الأراضي عندك أم في الناصرة أو القدس أو بيت لحم أو بيت جالا وما إليها جميعًا.
أبا عمَّار، ليسمح لنا عشَّاق إسرائيل أن نغضب. وهذا فيه إبداع وفيه قدسيَّة وقد غضب المسيح مرَّة في الأقل. أمام الظلم الصارخ لا يستطيع الوديع أن يبقى على هدوئه لأن هذا الهدوء الكاذب يكون عدم إحساس وعدم الإحساس في التراث الأرثوذكسيّ هو الخطيئة. أنا لا أناشد أحدًا من الجالسين على الأرائك لأنهم لو أحسُّوا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. المهم ألاَّ نخسر معركة الكرامة. بورك الذين يتظاهرون اليوم لأنهم بالأقل يؤدُّون شهادةً وقامعوهم يؤدُّون جحودًا. وما يُعزِّيني – وأنا لا أتعزى اليوم – أنَّ جماهير عدة في العالم الحرّ صارت معنا وكأنَّ أحرار العالم باتوا فلسطينيين اليوم.
أبا عمَّار غدوت في سجنك محكَّ الصدق للبشرية جمعاء. قد لا نستطيع شيئًا إلاَّ البكاء. الطهارة اليوم في أنَّ نحب اهلك وأرضهم. كلامي هذا ليس فقط شهادة عربي. إنها شهادة من آمن بالمصلوب وتاليًا أحب كل مصلوب. العيسويون تعلموا أنَّ المصلوبيَّة مطرح الحقيقة. لذلك سنأخذك ونأخذ رفاقك في الدعاء بالضبط بسبب ولائنا ليسوع المصلوب. ونحمل قضيتك اليوم لكوننا نؤمن أن المصلوبيَّة امتدت إليك ولكونك تحملها بفرح الراجين.
***
قلتُ لبعض من أبنائك أنَّ هذا النزف الرهيب الحاصل عندك وحولك إنما يبشِّر بالسلام. لست اعلم متى سيحل لأن الظلام يغطي العالم اليوم كما غطاه لما رُفع المسيح على الخشبة. بعض من الذين اعرفهم يعيشون هذه الأيام أنها منذرة بانتهاء العالم. أنا أؤمن بأننا نحيا بداءةً لعالم يسوده العدل.
متى تمتطي يا أخي الفرس البيضاء لتسكن إلى القدس! قلت لبعضٍ من أحبائي من وطنك إننا سنلتقي في القدس. حزني أنَّ آخر زيارة قمت بها لها كانت في السنة الـ 1966 ولكني اشتهي أن التقيك فيها ليس بعد هذه الأيام بكثير ورجائي أن تصبح المدينة المقدَّسة مُلتقىً للأحرار بما فيهم من تاب من اليهود. سنحجُّ إليها. سيُسري الله بنا إلى المسجد الأقصى. والكل يعلم أنَّ المسجد الأقصى لم يكن قائمًا لما نزلت سورة الإسراء. ولكن الوحي أراد أنَّ كل ارض أورشليم كانت هي المسجد الأقصى. وأنت كنت دائما تذكره مع ذكرك لكنيسة القيامة. لعل الكثيرين لا يعلمون أنَّ العرب هم الذين سموا هذه المدينة القدس ليس فقط لاعتقادهم بأن الإسراء تم إليها وأنَّ المعراج تم منها إلى السماء. هي قدس الإنسانية كلها. ونحن نقول عن كنيستها أنها أم الكنائس لأن الإنجيل انتشر منها إلى العالم. نحن والمسلمين إذًا نقصد أنها هي التي تقدِّس الإنسانية كلها وليس ذلك فقط بسبب من المقادس التي فيها لنا ولكم ولكن لأنها محراب القداسة في العالم. والقداسة أن يتنزَّه الإنسان عن الفساد كله وان يعانق الحقيقة كلها بما تحتويه من محبة.
وإذا أدركتها أنت ورافقتُكَ أنا العيسويّ على فرسي البيضاء بالروح يتوحَّد المسلمون والمسيحيون وكل الطاهرين في الدنيا بإسلامهم الواحد لحقيقة الله والإنسان. بعد ذلك لا يبقى لنا إلاَّ معراجنا الواحد إلى السماء.
أبا عمَّار سلامٌ عليك متى وُلِدتَ ويومَ تموت في اليوم الذي يعيِّنه الله بحكمته ورأفته بك ويوم تُبعثُ حيًا. “وإذا حييت فللربِّ تحيا وإذا مُتَّ فللربِّ تموت. وإذا حييتَ أو مت فللربِّ أنت”.
طوبى لك يا أخي لأنك كنت صادقًا. وطوبى لك وطوبى لنا بسببك وبسبب الرضاء الإلهي علينا. وبسبب ما أنت عليه من صدق سوف نحيا لفلسطين حتى إذا استُعيدت بأمثولة الكرامة التي تُلقنها إياها تُعطى الإنسانية هذا الدرس أنَّ الصمود في الحقّ هو البراءة عينها.
ابق معنا على شجاعتك المذهلة نصبح أصفياء. هل تذكر كلام الحلاَّج بعد أن قطعوا يديه وأدركته الصلاة: “ركعتان في العشق لا يسوغ فيهما الوضؤ إلاَّ بالدَّم”؟. يُهراق دمُ شعبك اليوم مدرارًا. لا يبقى لنا إلاَّ أن نُغبِّطَ شَعبكَ الطيِّب. مهما أصابك من محن اُسلِّمُ عليك تسليمًا كبيرًا. اهنأ أيُها السيِّد الرئيس.
Continue reading