Monthly Archives

July 1964

1964, لسان الحال, مقالات

روحية السفر / الأحد 26 تموز 1964

كان السفرُ سعيًّا إلى المعاش أو المعرفة أو حريّة الروح، إنطلاقًا من ضيق. الإغتراب حدث في الوجود الذاتي مهما كان قصير الأمد لأننا ملاصقون الأرض التي نشأنا عليها، لأن المدى الذي نسرح فيه جزء من كياننا والإنسلاخ عن مدانا معاناة. الأبعاد من أعمق ما فينا وليس لنا عنها استقلال. نحن نتبنّاها أو نرفضها وفي كل حال نعايشها. صبغتها لا تزول.

على هذا الصعيد الوجداني جاز القول أن الإنسان يستطيع أن يحوّل السفر إلى إكتشاف للذات. أنه إغتراب عن النفس أو إليها. نتلهى فيه عن النفس أو نكتنهها. ننساها أو نغوص فيها. نهرب من العزلة أو نواجهها وكأن المرء يدرك، في الغربة، ذاته عائمًا على سطح الأمور أو يغمره سرّ نفسه والكون.

سرّ نفسه والكون. لأن النفس لا نلقاها بالضرورة إذا انعزلنا وأردنا تأملها ولكن إذا ابتعدنا عن ديارنا فانطرحت تلقائيًّا أمام الفحص. السفر مدرسة ليس لأنه يُدربنا على معرفة الشعوب وطرقها وأخلاقها وحسب بل لأنه يروّضنا، بهذا الإحتكاك، على استدرار كنوز روحية كانت فينا دفينة.

بعضٌ من السفر إذن حج. هذا التّعري الداخلي الحاصل لنا من امتحان القلب يمكن أن يجعلنا أمام اليأس أو أمام الهداية. ولذلك كان السفر، في أكثر الأحيان، من أخطر الأمور التي لها مساس بالإيمان: تقضي عليه أو تقوّيه. يضمحل ما كان في الأساس هزيلاً. ما كان قائمًا بسبب مراقبة البيئة بسبب إتصاله بالقوى الإيمانية الحيّة الموجودة في العالم.

الحيّ لا يفنى. ولذلك لا خوف على فضيلة الشبّان أن هم سافروا. ليست الفضيلة ما يفقدون بل هذه الصورة المشوّهة عنها التي هي العادة. كل ما يزول لم يكن أصيلاً قبل الإغتراب. فمن حجّ إلى الله في بلده يظلّ الله محجته في كلّ أرض. في الخارج يتأصّل إله المرء فيه وكأن كل دار غربة بالنسبة إلى من يؤمّها مكان مقدس. شيئ من الأبد لا نلتقطه إلاّ بالإبتعاد وكأنّ امتدادنا إلى البعيد مقلبنا إلى الأدنى، كأننا أقرب إلى الأعماق عندما نسعى على سطح الدنيا. مَن يدري لعلّنا نجد هناك الذين تركنا هنا أو نلقاهم كما يريد الله أن نلقاهم في حقيقة الصلاة وصفاء التجرّد.

Continue reading
1964, لسان الحال, مقالات

حقيقة ومحبّة / الأحد 19 تموز 1964

حقائق العلم المنثورة في الكون يستنبطها العقل مستقلاً عن كلّ قوة أخرى. ولكن، على معنى آخر كلّيًا، هي الحقيقة الوجدانيّة العميقة التي تحرر. هذه يرثها الإنسان من السماء. إنّها بنت الكشف، يقذفها الله في القلب ومنها نثب من جديد إليه ومنه إلى الإنسان والكون جميعًا. إنّها ذلك الواقع الداخليّ الذي يمسّ الكيان كلّه ويتقبّله الكيان بما فيه من تأمّل فكريّ وإرادة وشعور. الإنسان كلّه أمام الحقيقة أو هو أمام الباطل وهو بدوره إنسان حقّ أو إنسان باطل. الحقيقة هي ذاك ما ينقدح فينا نورًا. هي تتولّد في الوجود لا في الدماغ وحده، في الوجود المتسائل المتألّم والمتخطيّ نفسه.

من هذا القبيل، الحقيقة في انبعاث وتمخّض. لا شكّ أنّها مسجّلة في ضمير الله ولا شكّ عند المؤمن أن الله سلّمها في الخلاص الذي صنعه. ولكننا نحياها في كلّ يوم لا حرفًا نردّده بل مواجهة جديدة لله والأحياء الذين حولنا. ليست هي قصّة تُروى ولا مبادئ عامّة ولا آياتٍ كريمة أو أقوالاً مأئورة ولكنّها قصّة كلّ واحد منّا مع ذلك الإله الذي يدخل كلّ يوم معنا في حوار حبّ.

ولكنّ الحقيقة ليست فقط هذا الحديث الذي بين النفس ربّها ولكنّها نابعة أيضًا من حديث الإنسان وأخيه. أنا في الحقّ إن أحبّني بشر. أعماق الله تُكشَف لي عندئذ. أنا لا أستطيع أن أصل إلى الإنسان وما لم يصا الإنسان إليّ. في هذه الشركة الطيّبة تتحوّل قصة الله القديمة إلى صلة جديدة. ولماذا لا يلعب الله لعبتي كما لعب لعبة الأنبياء. وإذا كانت رسالة الله متوقّفة على شخصي وشخص من يتّصل بي فنقل الرسالة يستحيل على من لم يحبّ. وهذا يعني كلّ ما يهدم غيري لا يمكن أن يكون حقيقة ولو كان من الناحية العقليّة صحيحًا. المحبّة مركبة الحق وروحه.

وإذا كان وصول الحقّ ليس عمليّة لقاء أو سماع وحسب بل هو كشف في جو محبّة، فهذا يعني أن رعاية الصفاء والثقة بين الناس هي الشرط الأساسيّ لشيوع الحقيقة حتّى جاز القول أن المناظرة ليست على الإطلاق وسيلة لتبليغ الحقّ. لم يكن الإنسان يومًا محض عقل، إنّه وجود يوقظه وجود وينقذه وجود.

Continue reading