وحدانية الروح والأزمة الأرثوذكسيّة / الأحد 12 حزيران 1966
آلمت الأزمة الأرثوذكسية القائمة قلوب الكثيرين لأنّها، بنظر المواطن، تَصدّع في جماعة كريمة، وفي رؤية المؤمن تمزيق لثوب المسيح غير المخيط. غير أنّ الألم لن يكون خلاّقًا ما لم يثر فينا هاجسين متلازمين: الحقيقة والوحدة.
الحقيقة تفرض ألاّ يتّبع المرء سياسة النعامة ويضطرب لكون الصحف قد أشاعت الخبر. فبوسائل الإعلام لم يبقَ من الممكن ألاّ يُذاع سرّ. يُغضِب الناس، على ما يبدو، إعلان الشر ولا يقلقهم وجوده. في قضية كهذه حيويّة يتعلق بها مصير طائفة، لا يمكن التغاضي عن الفساد. بعض الصمت إثم وإفساح مجال للمفسدين. أما كشف النقاب عن القبائح التي تلوث الأمّة فتطهير للأمّة. بثّ النور فضح ظلام. هذه دومًا كانت خطة الأنبياء ونهج يسوع. هذه صارت طريق الآباء الذين عرفوا الضيق والنفي والعبوديّة المُرَّة، وكتبوا دفاعًا عن الحق. والرسائل اللاهوتيّة والجدليّة كانت صحفهم آنذاك. «ما جئتُ لألقي على الأرض سلامًا بل سيفًا، جئت لأفرّق». وهذا الصراع المستمرّ الذي عاشوا فيه، كان سبيلهم إلى الله وإلى وجهه. كانوا يأبون الإستكانة الكذوب التي تتوخّى وحدة الناس على أساس التحذلق والمساومة. وحدة البشر، فيما بينهم، تَلاقي أهواء ومصالح. يتساندون لبقاء كلّ منهم. ولكنّ الوحدة الحقّ هي التي تقوم بينك وبين ربّك ثم تنعكس على الجماعة، فإذا بها تتآلف حول كلمة الله ولها.
وحدة الكنيسة ليست وحدة قبليّة، تجمّع عدد. فالكثرة الساحقة كثيرًا ما تُجمع على خطأ. فالجماعة مدعوّة لحمل الحقيقة، وهذه وحدها تبرّر كيانها. الطائفة الدينيّة إن لم يستقطبها الله فلا نفع منها. فالرابطة عقيدة وأخلاق وشريعة. وقد يكون الإنسان، ظاهرًا، على العقيدة ولكنّه منكرها في كلّ تصرّفاتها. قد لا يكون منحرفًا عن دستور الإيمان، ولكنه بعيد عن الإيمان الحيّ وكرامة الخلق وروح الشريعة.
الوحدة وحدة مع الله ومواكب القديسين والتطلّع إلى آفاق الخليقة الجديدة. وبها نتجاوز أنانيّتنا ومهارتنا، لنلقى الآخرين ببساطة المسيح ولطفه وتواضعه. وهذا يعني أنّ من اتحد بالكنيسة له، في كلّ ظرف، موقف تمليه الحقيقة وحدها. من وراء النصوص حقيقة هي حيث خلوص النيّة وبنيان جسد المسيح. الحقيقة تتجلّى في الآن، في لحظة إنقاذ، في خطّ التجدّد والتاريخ المستنير. الحقيقة لها وجه واحد في الأزمات.
في الشدَّة يفحص الله القلوب والناس بعدله العظيم. فيها يمتحن إخلاصنا فنتزكّى أو ننحدر. فيها تنفصم الصداقات، لأنّ بعضًا أحبّوا الله على حياتهم وبعضًا آثروا هذه الحياة.
أجل الحقيقة، في المسيحيّة، ليست مجرّد شريعة ولكنّها، بآن، ليست تجاوز شريعة. لا ندفعها ثمنًا لوحدة مزعومة تكون رَصْفَ بشر، تراكُم أجساد. الوحدة، لتصبح وحدة حقّ، تفرض التأديب. «من يحبّه الربّ يؤدّبه». ومن أحبّ الربّ يطلب لنفسه تأديبًا. بذلك يشهد الإنسان بأنّ للجماعة المؤمنة حقّ الإشراف عليه وحقّ النصح. وحتى يكون لقاء البشر لقاء في الربّ، كانت الكنيسة تَبتر قومًا من عضويتها، تقصيهم علّهم يرتدعون. وما قبلت في صفوفها إلاّ من تعاهد على الإخلاص ولم يسلمها إلى أعدائها. وهي تدين عمله وفق تعليمها ودستورها وقوانينها الرئيسة، ليقينها بأنّ الإنسان في وحدة مع ربّه إذا انسجم بهذا الدستور وهذه الروحيّة. تقطع بشرًا عن جسمها سعيًا منها إلى التصاق هذا الجسم بالرب. أليست الصلاة، بحدّ نفسها، توبيخًا مستمرًّا لمعصيتنا؟ الكنيسة تنشئ أولادها بالتوبيخ. أن نسعى لشقّ جسد المسيح ونلازمه دون أن ينفعل هذا الجسد ويطرد عنه المرض، لأوضح مظهر للتعفن. «ولكم في القصاص حياة»، هذا سرّ من أسرار الكنيسة اليقظة، التي تدفع عن نفسها من ظلمها بالتمرّد لتبقى في طاعة ربّها ووحدته وحقيقته.
Continue reading