Category

جريدة النهار

مقالات النهار، هي افتتاحيات يكتبها المطران جورج (خضر) في جريدة النهار منذ العام 1970. هذه المقالات كانت تُنشر في مرحلة أولى بصورة غير منتظمة. وابتداءً من العام 1986 صارت تنشر بانتظام صباح كل يوم أحد، ومع توقف الجريدة عن الصدور يوم الأحد، صارت تُنشر صباح كل سبت وذلك حتى أيامنا الحاضرة. نُشر معظم هذه المقالات في كتب «الرجاء في زمن الحرب»، «مواقف أحد»، «لبنانيات»، «الحياة الجديدة»، «مطارح سجود» و«سَفَر في وجوه»، الصادرة عن دار النهار للنشر والتوزيع.

1991, جريدة النهار, مقالات

المهجّرون أيضًا وأيضًا / جريدة النهار / السبت 16 تشرين الثاني 1991

هناك أنواع وجود هي ذلّ وقمع. منها ظاهرة التهجير التي ما من مسوّغ لاستمرارها. وقد يوفّق الله الحاكمين إلى ما فيه التنفيذ وبدؤه قرار العودة. لماذا لا تحسم الحكومة الأمر؟ فإن قالت إنها عاجزة الآن لأمر يتعلّق بالجهوزيّة العسكريّة فلتقلها لنفهم. فالعجز مرفوض ومن الصمت ما يعذّب.

يريدونها مناقشة وطنيّة واسعة بها تفتدي الحكومة نفسها. إذ ذاك نحن أمام رجاء قابل للتحقيق لئلاّ تتحوّل الهجرة إلى توطين خارج المناطق التي اضطررنا إلى النزوح عنها فيصبح الإنسان غريبًا في وطنه، مخلاً بالبنية السكانيّة ومجروح الكرامة.

ولست أظنّ أن أحدًا يحلم بالفرز السكانيّ ولو تعالت أصوات تزكّيه في ما مضى من هذه الحرب التعسة التي شنّتها علينا الجحيم. لماذا يتغنّون بالعيش المشترك الذي أقمناه في الجبل منذ ألف سنة ونحن عليه في الساحل منذ ألف وأربعمئة سنة. والطبائع اللبنانية سمحاء برغم جروح تحلّ وينساها أهل الغفران وطلاّب الحياة الجديدة.

وعندنا لا تسنّ فئة من فئاتنا القانون ولكن الدولة تشترع بعدما وضع السلاح ذووه فهذا أمر لا تحكمه النزوة ويعود على الجميع بالنفع العميم وما قال أحد إنه يسعى إلى إعادة أهل منطقة واحدة والصلح يقوم على استرجاع الجميع أرزاقهم وهي حقّ قالت به شرعة حقوق الإنسان وتقول به أدياننا قبل الشرعة. والصلح يقوم على العمل وعلى عمق روحي نتمنّى أن يكون هو المعيّة وقد نشأنا على أن قدر الكلّ أن يعيشوا مع الكلّ يشاطرونهم قسوة العيش والمصير الواحد. وإذا كذّبتْ الوقائع هذه القناعة فما أمامنا سوى البحر. هل هذا ما يرضاه دعاة الوطنيّة؟ فلنبدأ بإقرار الحقّ القائل إن اللبناني له أن يسكن حيثما يحلو له وإن عودة المهجّرين ما هي سوى وجه من حقّ الإنسان أن يلازم الأرض التي يشاء وهي في السجلّ العقاريّ تخصّ من تخصّ وكان مأخذ الإنسانيّة المتحضّرة على ستالين وهتلر أنهما نقلا سكان بعض الأراضي إلى أراض أخرى ابتغاء سياسة حزبيّة أو تفريق عنصريّ.

ومن خاف على زعامته فهذا شأنه. غير أننا نذكّره أن خير سياسة تؤول إلى المعايشة الكريمة وأن الديموقراطيّة آن أوانها وأنها مراس يوميّ يقوم به الكلّ ومع الكلّ ذلك لأننا معًا في رعاية الله الواحد ولا رقيّ لجماعة منّا بلا الجماعة الأخرى. وما أعطيت فئة منفردة وحدها الانتاج اقتصاديًّا كان أم ثقافيًّا. ولنا الدهر حتى يأنس القلب للقلب وأداء الشهادة.

⃰   ⃰   ⃰

وقبل أن تتوطّد القلوب على الإيمان بالوحدة كان علينا أن نبدأ بالتصميم وبالتصميم الملحاح تنفتح القلوب وتعود الوجوه إلى الوجوه في الصفاء ونتقابس وأنا موقن بأن كلاّ منّا يستحق الترحاب بالآخر لأن «المحبّة أقوى من الموت» ولنا أن نتوق التحاب وهو ذروة العدالة. والحبّ قبل كلّ شيء السماحة وأن ننسى الماضي لئلاّ نبقى سجناء التاريخ. ذلك أن الكبير يرجو للإنسان الآخر كل فلاح ويؤنسه في وحشته. وإذا سلكنا معًا سبل حضارة عظيمة وأبدعنا معًا وسائل الرقيّ فهذا يحجب عنّا ذرائع الخصام وننشئ الإنسان الجديد على الحرّيّة. فإذا جلسنا معًا إلى موائد الأرض نرى أن الأرض لنا جميعًا وأن الله يرزقنا ما نشتهيه وأن للجميع مأكلاً ومشربًا.

وإذا ساغ الكلام عن أهل الجبل فليس لأنهم الأفضلون ولكن لكونهم العدد الأكبر ونحن مستعدّون للتأمّل في عودة كل جماعة إلى الأمكنة التي كانت فيها بحيث نراعي التوازن في الرجوع وجدولة الرجوع وليس لأهل الجبل رغبة في منافسة أحد زعامته وما نافسوا فعلام يخشون؟ وهل من منطق لجعل الجبل قليل العدد وألا يثمره أبناؤه جميعًا؟ وأيّ عقل يقول في هدأته إن الجبل إذا حكمته الدولة يقوم على طائفة واحدة مهما عظمت مواهبها وإن الكثرة ينبغي أن تتشتّت بلا عمل ولا دخل وأن تزيد كثافة المناطق الأخرى ونحن نؤمن بأن في تلاقي الجماعات سرّ نجاحها وأن اللقاء السمح هو ما يجعلنا نزيل عن جبين لبنان عار نفور نعرف من غذاه.

ولعل أهل العار الأعظم أن نجعل من آلام المهجرين بعضًا من صفقة شاملة. من هم أطراف هذه الصفقة؟ فعندنا من جهة بؤس شديد وخطر متفاقم ويأس من الوطن. ويقابل ذلك منافع في الأرض ومجد في الأرض. أي نحن أمام تواز بين إنسانيّة مهيضة الجناح يعذبّها تقاعس الأمّة كلّها ومطمح سياسي. نحن نعرف أن ليس من تاريخ أبدي لطائفة على حساب طائفة. فليسكر كل بماضيه على ألاّ نموت بسببه أو نفرح جميعنا في عيش واحد يسوده من استطاع.

وإن كان لا بدّ من ميثاق فها هو مضمون في وثيقة الوفاق الوطني. إنها ترعى بنية البلد وتلاقي أبنائه بحيث لا يقوم لبنان على التمييز بين وطنيّة هذا ووطنيّة ذاك وبحيث نتسابق في العطاء. فإن كان من ميثاق فإنه يبدأ بالسلام الاجتماعي، هذا الذي فهمته دول أوروبّا بعد تناحرها. فالأوروبّي سيحل حيثما يحلو له ويعمل حيث يستطيع العمل. أما نحن فنخطّط بين قضيّة روحيّة كبرى هي قضيّة المستضعفين في الأرض وقضيّة تجاوزها الزمان أعني قضية التوازن بين الطوائف.

⃰   ⃰   ⃰

وإن كان من حوار بيننا فهو في أمر الإعمار. هذا شأن الدولة أكان هذا بالتسليف أم بطريقة أخرى. ولكننا لا نتوقّع أن تعوّض الحكومة من خسر. لا أعرف سابقة لهذا في العرف الدوليّ. نحن نقول إن الأمن أسبق من الإعمار وإننا نستطيع في ظلّه أن نعود لئلاّ يتعرّض البلد لنكسات. وإعمار القرى المهدّمة لا يسبق العودة لأن تمامه يقتضي سنوات عدّة نكون قد عرّضنا فيها الـمُهجّر لهجرة ثانية عن البلد أو أن يصبح أداة خلل وتخلّف. وهل يسلم الجبل الدرزي إذا سقط السلام الاجتماعي في كل أرجاء الوطن؟ الحديث في الإعمار شرطًا للعودة إلهاء وألهية. الإعمار عندنا فيه الحدّ الأدنى والحدّ الأقصى. نحن قادرون وحدنا على الحد الأدنى الذي يسمح لكل مواطن بغرفة على رزقه ينطلق منها. أعيدوا إلينا الرزق نعطكم عمرانًا بأيدينا وكفانا الله شرّ التسويف وشرّ تسييس لا حوار فيه ولا حنان.

Continue reading
1991, جريدة النهار, مقالات

المهجرون / جريدة النهار / السبت 24 آب 1991

هناك خيارات صارت النفس اللبنانيّة تمجّها: التقسيم، التقاسم، الانغلاق المناطقي لقناعة أهلنا بالعيش المشترك. هذا هو الواقع الوحيد الذي نتعامل وإيّاه. يقين الوحدة – ظاهريّة كانت أم عميقة الجذور- بات مكسبنا الراهن ولم نبق أسرى لتنظير أفرزته تلك الحرب التي لا أعرف واحدًا يزكّيها اليوم. لسان حال الجميع أننا طرحناها من تاريخنا ولو كان لنا أن نتّخذ منها عبرة. إنها إذن وراءنا كالكابوس المزعج.

في هذا الإطار النفسي بات تبريرنا للعودة أعظم من الأمنية. إنه منطق تاريخ نتحسّر عليه وتاريخ مشرق نرجوه كأن الرجاء هذا مدخلنا إلى الراهن. نحن لا نجهل أن الأماني شبه الراهنات تدقّ باب اللعبة السياسيّة الدوليّة. واللعبة تجري ضدنّا إن ربطوا قضيّة العودة بقضية لبنان الشاملة وإذا ربطوا هذه أيضًا بقضيّة الشرق الأوسط. نحن رجاؤنا أنه لا يسوغ تسييس شأن المهجرين ولا يجوز إغراقها بالشأن اللبناني الكامل.

نرجو أن يعود الاتّحاد السوفياتي إلى ما كان من حوار مع العالم لئلا نُرمى في سلة المهملات إلى حين. لعلّه إذا خرج إلى الحرّية والتجدّد واستعاد «إعادة بنائه» و«الشفافيّة» يستطيع أن يعتبرنا بعضًا من شرقه فلا يبقى علينا سيف الإهمال مصلتًا.

الوضع المترجرج في أوروبّا الشرقيّة يؤذينا. ولكنّه لن يغيّر في الموقف السوري أو في التوقيت السوري ولن يبدّل في موقع إسرائيل شيئًا. ومن الواضح أن كلّ تباطؤ في تنفيذ القرار الـ 425 سيؤذي العودة والراغبين فيها.

أما نحن فعلى انهزاميّتنا المألوفة أمام الضغط الدوليّ لا نستطيع انتظار المنّ والسلوى من الخارج. وأما إذا آمنّا بأنفسنا أصحابًا للقضيّة فنجعل أنفسنا العنصر الحاسم فيها. لكن لهذا شرطًا واحدًا: أن نقبل الآخر الذي جعلناه آخر في تهجيره صاحب الحقّ الوحيد في العودة. الذي لم يغادر ليس هو المضيف وإذا حسب نفسه كذلك فهو من مرحلة الحلّ. وهذا يتطلّب تغييرًا كلّيًّا في القناعات وأولاها أن يخرج الإنسان من أي شعور له بضرورة سيادة طائفة معيّنة على بقعة من البلد أو على كلّ البلد.

⃰   ⃰   ⃰

لأن اللبناني قبل الحرب لم يستوعب ضرورة كلّ الجماعات في إلفتها اخترع لنفسه آحاديّة هنا وثنائيّات هناك. لا شكّ أن الديموغرافيّة تعذر هذا الإحساس وهذا التصرّف. ولن تتلاشى غدًا التراتبيّة التاريخيّة والسياسيّة التي جعلناها في النفوس والكتب. لكن الوحدة المرتجاة هي عينا هذا أن نسعى إلى أن طائفة واحدة لا تقرّر مصير أيّة بقعة كان لها تاريخيًّا عليها سيادة وأن هذا التاريخ الجزيء لا ينبغي أن يكون الأهمّ والحاسم في مصير لبنان. الطائفيّة التي نشكو منها ليست فقط طائفيّة الانتخابات وتوزيع المناصب. هذه يمكن نظريًّا أن يقلّل الإنسان من حدّتها إذا ذهبنا فيها حتى العبثيّة أو السخف.

الطائفيّة الفتّاكة هي التي نعيشها في الذاكرة التاريخيّة بصورة سلبيّة. من يحيا انتسابه الديني بلا استعلاء أو شعور مرضي بالمظلوميّة؟ من يحيا مع غيره لا ضدّ غيره؟ مثال على ذلك وحدة الجبل الذي إذا أدرك نفسه وحدة أقليّتين تتسالمان حينًا وتتقاتلان أحيانًا حسب ناموس إيقاع زمني لن يعيش طويلاً. فالآحاديّة الدرزيّة إذا استقرّت عند أصحابها قرار عيش أبدي تستدعي آحاديّة مارونيّة متمردّة في الجبل وحاكمة في كل الجمهوريّة. جسم الشوف نعالجه بمفاهيم أخرى أو يحمل سمات معطوبيّة دائمة. المحاورون في الشوف كما في مختلف الأنحاء إن لم ينطلقوا من التقاء الجميع على الحرّيّة والتنوّع والتعدّد لن يكون للعائدين مقرّ في السلام لأن السلام تحديدًا هو التعالي عن كل ما يهمّش الآخر ولا يجعل له إقامة هنيئة في الحياة الوطنيّة.

في التعبير المسيحيّ، ليس من قيامة إلا من بعد موت ومعنى ذلك على الصعيد العامّ أن موت أنانيّات الطوائف شرط لانبعاثها معًا في لبنان الجديد.

وقد يعني موت الطوائف ألا ترى بالضرورة إلى تراصّ كل واحدة شرطًا للتراصّ العامّ. من زاوية الإنجيل كثيرًا ما يكون هذا على حساب الوحدة الروحيّة والوعيّ الروحيّ. التناثر الداخلي إذا عنى الغنى الثقافيّ والانتماءات العقليّة والحزبيّة المختلفة قد يكون دربًا إلى الانصهار الوطنيّ. انتشار طائفة في كل ولاء سياسيّ يعتبر في البلاد الراقية علامة نضج فيها. فإذا كانت الطائفة كالبنيان المرصوص فيعني ذلك غالبًا انقيادًا للزعامات القائمة بلا روح نقديّة. والحرّيّة من هذا القبيل ألاّ تفكّر بالضرورة مثل من انتميت إليه روحيًّا أو حضاريًّا. هي أن تنسلخ أمام أفق إنسانيّ جديد عن عشيرتك لتلقى فيه من كان قادرًا في نضجه في الخندق الأخير على أن ينفصل هو أيضًا عن عشيرته.

وقد يكون الانقسام الداخلي هذا، السليم والمسالم، شرطًا لنشوء وحدة جديدة في أعماق الحياة الروحيّة. البغض في البيوتات والزعامات لا التنّوع في الالتزام السياسي كان المصيبة في الطائفة – العشيرة. التبعثر، القلق كان المرض الروحي ولا أدعو إليه لكن التناثر الملتقي الآخرين دعوة تأتي من الإخلاص وتدلّ على أن ما يوحّدنا هو الإحساس اللبناني الشامل ومعه هذه المشرقيّة المنفتحة التي تحرّرنا من حكم القبائل.

المجموعات الثقافيّة – الاجتماعيّة في روح الحرّيّة هي شرط السياسة الوطنيّة التي لا تربط منطقة بحكم طائفة أو ثنائيّة طائفيّة.

⃰   ⃰   ⃰

هذا التوجّه وهذا الأفق هو الضمان الأخير لبقاء العائدين إذا عادوا لئلاّ يكون فرحنا منطلقًا من مجرّد تجربة تنهي مرحلة الضياع إلى حين. أيّة نفسيّة تنتظرنا عند الجوع وأيّة نفسيّة تبنا إليها عند الرجوع تلك هي المسألة. أيّة قناعة روحيّة سوف تجمعنا؟

في بركات هذا العهد إذا اتّخذناه كانت العودة واجبًا وكانت حقًّا، واجبًا على من أقام وحقًّا لمن نزح.

الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الموضوع هي حقوق الإنسان أن يسكن حيث يشاء. هذا حقّ طبيعيّ تخضع له السياسة وليس من تفاوض حول هذا الحقّ. وقبل الحديث عن الإعمار وإمكاناته لا بدّ لكل المراجع أن تعلن حرّيّة العودة لئلاّ تفقد هذه المراجع صدقيّتها.

هذا بلد الإنسان ولا قيمة له إلاّ في هذا لئلاّ نكتسب «طبائع الاستبداد» تلك التي يقرّر أصحابها نقل السكّان الاعتباطي. إن التركيز على الإعمار هرب من إعلان هذا الحقّ الطبيعيّ. اللبنانيّ يعرف أن يعمّر إن قلت له: هذه أرضك فاستلم وحميت له أمنه. أعطه حقه في أن ينصب خيمة عليها. هكذا فقط قد يقتنع أنه ليس في مهبّ الريح ولا يخضع لمزاجيّة أحد.

Continue reading
1992, جريدة النهار, مقالات

الدولة، الثقافة، الحرية / جريدة النهار / السبت 7 تشرين الثاني 1992

المؤسسة على خطرها قناعة. قناعة لأنها قبول فلسفي بأن العقل القانوني والهيكلية السياسية ينجيان الإنسان. انها الاعتقاد بأن «لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب» وكأن القرآن يوحي بأن هذه القوة التي نسمّيها اللب وهي جامعة بين القلب والعقل انما تتربى إذا خضعت لما يبدو مصطلحا مجتمعيا ولكنه في الأصل من رواسب القانون الطبيعي أو الشريعة الإلهية وما جاءت الأعراف أو السنن الا لتسكبه في قالب.

صحّ ان كل شريعة إكراهية ولكن الإكراه ليس القهر. يصبح الإكراه كذلك ان أنت أحسست ان الشريعة متعسفة ولكن المعقول والمرتضى ان ليس في الشرائع عسف هذا قبل ان يلغي لينين «دولة القانون» ويدخل اعتباطية اللجنة المركزية للحزب أي حرية التفسير للأدلوجة – الآيديولوجية – كما عربها علي حرب. ائمة الأحزاب هم المرجعية في ما يؤول إلى انطباق الأدلوجة على الواقع البشري. ولكن سمو الدنيا القانونية في حرصها على ان القانون بعامة ينظر في مصالح الناس وانه حيز الإنصاف الطبيعي في ما خلا حالات استثنائية جدا. ذلك ان القانون ليس غريبا عن الحقيقة المطلقة وان كان أدنى إلى الفائدة المجتمعية التي هي فائدة الأكثرين.

ان طبيعة الإنسان العقلية واعتقاداته وتطوره التاريخي هي العناصر التي يستلهمها الشارع ليحدد حقًّا وضعيًّا في ما ترجمناه عن الفرنسية بما كان أجمل منها لأنه يناسب وضع الجماعة. الانطلاقة ان أهل التشريع يضعون أنفسهم أو يتواضعون ليروا إلى أحوال الرعية ويراعوها وتاليا يرعونها.

ان هذا الموقف يفترض عند المواطن ايمانه بالدولة من حيث انها ذلك الجسم المجتمعي المفوض اليه رعاية الناس وإكراههم على أمور عدة: دفع الضرائب، خدمة العلم، قبول الأحكام القضائية، التقيد بالقانون. ويفرض قبل ذلك اقتناعًا روحيًّا بأن للإنسان في ذلك تهذيبا ورقيا وحماية وتنمية وان في ذلك شيئًا إلهيا بسبب من مجرى التاريخ البشري من جهة وبسبب ما فينا من لب يتجاوب والمجرى التاريخي لما ينفعنا ليس فقط في دنيانا ولكن في الآخرة. كان بولس الرسول على هذا العمق لما كتب: «ليخضع كل أمرئ للسلطات التي بأيديها الأمر، فلا سلطة الا من عند الله، والسلطات القائمة هو الذي أقامها» (رومية 31: 1). ليس في هذا شرعنة لكل حكم قائم ولكنه التسويغ الأساسي لفلسفة الحكم وقهريته. من هذه الزاوية حياتنا في الدولة ليست مجرد اصطلاح توافقنا عليه من أجل ترتيب أمور دنيانا. انـه انتظام إلهي ولو كانت الوسيلـة البشريـة للتعبيـر عنـه الحقـوق الوضعيـة. الإلهـام الأخير إلهي أقلنا ان لله أحكامًا محددة في الجزئيات كما في الإسلام ام قلنا ان فكرة انضباطنا وتفعيله صادران من الله.

***

هذا ما نسميه المؤسسة في الحقل السياسي وان كان مدلول الكلمة اعم. المؤسسة تعني أننا بعد ان تبينا الحق الوضعي وموضوعيته نوقن أيضًا ان القضاء والإدارة القائمتين على الحقوق الموضوعية انما تكون علاقتهما مع الأهالي موضوعية أيضًا. أي ان ثمة إقصاء عوامل الانفعال في الصلة الرسمية ذلك لأن هذه العوامل تشوه موضوعية القضاء والإدارة بحيث يتجاوز الإنسان العقل ليتخبط بالغريزة والدوافع الآتية من الزعامات والعائلية والطائفية إذا أردنا تسميات نعرفها كثيرًا في وطننا.

من يتصرف غريزيا لا يؤمن بسيادة العقل على العلاقات البشرية ولا يعرف الفرق بين ما يوافق الشرع وما لا يوافقه ولا يرى ان خير ما نقدمه لمواطن ان نهذبه بتذكيره انه إذا أحس بأن له منفعة آنية من المخالفة فإن له منفعة دائمة بطاعة أهل التشريع والحكم في الأمة.

هذه الموضوعية هي في ان يرى المسؤول والمواطن نفسيهما في علاقة تتجاوزهما تفرضها مصلحة الجماعة، كل الجماعة في مراعاة الحرية والعدل معًا. خلاف ذلك الفردية الفاتكة في هذا البلد وخلاف ذلك رؤية الطائفة متحدًا كافيا نفسه. العدل بارد إلى حد بعيد لأنه يرى ان القيم تسوس الناس جميعًا ويرى العاطفة ضمن السياسة. ولكن ما يجعل المؤسسة ليست كلية البرودة هو الأبوة الحاضن للعلاقات. وهنا يأتي دور القوى الروحية الفاعلة الشاهدة لأن الحكم يصبح شيئيًا ان خلا من الشعور. فالإدارة يصلحها الملح كما يقول الإنجيل أي تلك النكهة الشخصية التي هي نفحة الإدارة الكبيرة والقضاء الكبير فالعدل في ذروته يصبح محبة والوطن يصير عائلة. هذا ما عرفه الملوك العظام والذي يمكن ان نذوقه في حكم الشعب الناضج. وهذا يمكن ذوقه في كل مراتب الإدارة. فالسياسة لهفة اي انها تدبر شؤون الناس كما الناس هم. والسياسة اختيار للأولويات والأولية للفقراء وما يعانون منه وذلك لا ينتهي بإطعامهم وتطبيبهم وإيوائهم وتدريس أولادهم ولكن السياسة تثقيف.

***

هنا لا بد لي من الاغتباط بأن حكومة السيد رفيق الحريري انشأت في ما أنشأت وزارة للثقافة والفنون الجميلة طالمـا تمنينا ظهورها واسندتها لرجل يزداد إعجابي بـه ما سمعت اليه بسبب مـن المعرفـة الدقيقـة التـي يكشفها لنا. ميشـال إده رجل موسوعي يذكرني كلما اجتمعت اليه بهذه الآية النبراس في القرآن: «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون». ومن وراء المعارف له هذا اللب الذي يذكرني بكلمة السيد في إنجيل يوحنا: «تعرفون الحق والحق يحرركم». اعرف في آخر المطاف ان الثقافة يمكن ان تكون ترفا ولكن ان تواضعت لها أيضًا ان تصبح عتبتنا إلى الحقيقة التي تعوز شعبنا كثيرًا. المطلوب من وزير كهذا ليس أقل من ان يصبح أبا للبنانيين على صعيد العقل وعلى صعيد الذوق أي في مجال القلب ذلك ان كل شيء قلب كما علّمنا المتصوف النفري.

ومغامرة تثقيف هذا الشعب جعله شعبًا جديدًا على قدر نعمة الله عليه وعلى قدر اجتهاد لنا كبير. ويعني هذا أولاً تقويم أخلاقنا وشدنا إلى إيمان نتغلب به على عيوبنا التاريخية. بالمعرفة المنجية نخلص من المركنتيلية ومن الاستلذاذية لندخل في سر العطاء وسر الإبداع إذ ليس من فصام ممكن بين قبول الأشياء العظيمة والمناقبية. هل تكون سيدي الوزير رسولاً؟ هذا يستوجب الإحاطة بالرساليين والخلاقين في كل ميدان وتنقية لكل أساليب التعبير عندنا ولا سيما وسائل الإعلام وللوزير هيمنة كاملة أو ليس هو بشيء. رفع الذوق اللبناني ورفعنا من حضارة الأكل والاستهلاك حتى تمتصنا الحقيقة بالحب الذي لها ان تنشئنا عليه وتدخلنا في التراث العالمي منذ سقراط حتى يومنا هذا وذلك بلسان عربي مبين، ذلك كان التكليف.

المبتغى أن نعرف كل شيء بدقة كما يعرف ميشال إده، ان نصبح أحرارًا في دواخل النفس بلا ضغط السياسة وقهرها، ان نعمل كل ذلك معًا «لئلا يهلك منا أحد» ولا يصير في بلده نسيا منسيا. والثقافة روافد التراثات القائمة عندنا تنصب معا في ما نشتهيه ميراثا لهذا البلد واحدًا. لم يعتد اللبناني ان يكون مسجلة فهو في الخطاب العربي رائد وإذا لم تعِ العروبة ذلك فانها لا تكون واعية لنفسها ولا تكون ذات مضمون. فالثقافة حمسة ولو لم تستغرقها الإنشائية الحماسية. الثقافة طاعة للجمال والطهارة مقترنين. روحها الحرية التي تبدع وحدها مسؤولة أمام نفسها كما ذكرنا بذلك غسان تويني في جامعة البلمند الأسبوع الفائت.

ان السيد الحريري بتأسيسه هذه الوزارة للمرة الأولى في تاريخنا دل على اننا نجتمع حول الفكر ولا يجمعنا اللغو ولا المجاملة. الحالة اللبنانية ليست الآن إلى الوحدة إذ لا نستطيع ان نقيم الا في الثقافة الكبرى أي في التنوع والغزارة خارج طغيان الوحوش السياسية. ان ندرك مسؤولية الكلمة التي تخرج من فم الإنسان وتطهره وتنتج ما تقوله تلك هي المسيرة التي تأخذ في طريقها كل اللبنانيين. ذلك ان الوفاق الوطني وفاق على الكلمة الحلال وتلك المشاركة التي لا يهمَل منها أحد.

أرجو الا نكون قد دخلنا في وفاق – نفاق يقوم على قهر تاريخي بإلغاء هويـة جـزء مـن الأمـة كبيـر. والإذلال ممكـن تحـت التعـابيـر التـي ظاهـرهـا وحقيقتهـا طغيـان. ان «طبائع الاستبداد» فـي لبنان غـدت باديـة، صارخـة بالرغـم مـن خطب الرئيس الياس الهراوي. والناس يأكلون ويبيعون حريتهم. هذا هو الإغراء الذي يحذرنا منه دوستويفسكي في اسطورة المفتش الأعظم. لن ندفع ثمن الحرية طعامًا يعلفوننا به. شاؤوها دولة المطعم بعد أن أذاقونا الجوع. الموت أشرف حتى تحل أعجوبة الحرية في فجر اليوم الثالث.

Continue reading
2016, جريدة النهار, مقالات

بين العقل والقلب / جريدة النهار – السبت في 28 أيار 2016

الإنسان هو في نفسه وأريد بذلك أن قواه فيه. بعضها أو كثيرها من الله وأعني بذلك انه يتحرك بما جاء إلى ذاته فصار ذاته. وأحد خارج عنه يحركه ولكن عندنا نحن المسيحيين أن هذا الواحد هو الله. في فهمي لهذا أن الله لا يحركك إذا بقي خارجًا عنك. إنه يحركك إذا دخل إليك بالنعمة وهذا صعب تصوره إذ ينبغي أن تؤمن أنه فوقك. خارجًا منك بذاته وأنه منك وفيك بالنعمة. والنعمة نعمته أي هو. كيف، عند ذاك، تكون أنت أنت؟ ليس عندي تصور عقلي لذلك. بتعبير أدق كيف يكون في وليس مني ولست منه؟ هذا سر الحب الإلهي فينا. قلت فينا وما قلت منا. كيف يعرف الروحاني الكبير أن الله فيه بكامله وأنه مع ذلك ليس هو الله؟ هذه أشياء يحس بها الروحاني ولا يفهمها. من قال عن علاقته بالله «أنا أهوى ومن أهوى أنا» فهم بعمق النفس ما قال ولم يفهم بالعقل أي رأي وآمن بمعنى أن إتصل أي وصل. هذه رؤية القلب الذي يسكنه الله.

مشكلتي مع أهل العقل أي الذين لا يؤمنون الا به أن ليس لك معهم لغة. ناس لا يؤمنون إلا بعقولهم وناس إلى جانب عقولهم يؤمنون بالقلب. هل من مخاطبة بينهم؟ التروي الذي اواجه به أهل العقل المحض أن الذي عندهم عقل وقلب معًا يفهمون من ادعى العقلانية وحدها. زعمي أن بلادنا ليس عندها من كانت لهم عقلانية وحدها بلا شعور ولعل أهل الغرب لا يختلفون عنا عميقًا مهما ادعو. ليس من إنسان يستطيع أن يرمي العقل ولا من إنسان يستطيع أن يرمي القلب. هذان متعانقان مهما أردنا تنظيرًا أحاديًّا.

ناس عقلهم هو الأول والحاكم وناس قلبهم هو الأول والحاكم ولكن لست أعرف إنسانا موزونًا انحصر بهذا وذاك. أن لست فاحصا كثيرًا من الناس لكن المؤمنين الذين أعرفهم من كانوا على مقدار من الفهم كبير عندهم توازن بين العقل والقلب. يحكم العقل وهو فيهم ولا تتحكم المشاعر غير المنضبطة.

المؤمن العظيم لا المؤمن الإنفعالي أي من كان مثقفًا قادر أن يجمع بين القلب والعقل جمعًا متوازنًا. لا شك أن بعضًا من المثقفين لا يؤمنون كما أن بعضًا من الجهال لا يؤمنون. أنهم عند التضخم العقلي يمكن أن يكون مرضًا كما تضخم الجهالة يمكن أن يكون مرضًا. الإيمان لا يأتي من الجهل ولا يأتي من الثقافة. هو قوة إلهية تفوق قوة العقل وقوة الجهل. الإيمان سر كامل اذ ليس له في الطبيعة سبب. كله من الله. له شراكة مع القلب يعسر علي تبيانها عقليًا.

أن لا أعرف إنسانًا يقول تعلقه الكبير بالعقل خاليًا من الشعور. الإنسان غريزة ومشاعر وعقل. لا أعرف أيًّا من هذه الثلاثة قائمًا وحده. نحن مسعى بين قلب وعقل.

Continue reading
2016, جريدة النهار, مقالات

معمودية الروح / جريدة النهار – السبت في 21 أيار 2016

ماذا يعني المسيحيون إذا قالوا ان المسيح مخلص العالم والعالم كان ولا يزال في شقاء؟ ما الذي يخلصه المسيح؟ ان كلمة مخلص مطلقة على المسيح تعني انه في ذاته أولاً حياة العالم وان من تبعه يحيا به ويحيا فيه. لماذا قلت به؟ أظن انها تعني ان يسوع يقودك إلى حياة ما كان لك عهد بها الا لأنك أخذتها منه والأقوى ان نقول انه هو الحياة. من لم يعتقد به هكذا لم يصل إليه. بكلام أبسط وأوضح انه عندنا ليس أحد المعلمين. هو وحده المعلم فإنه هو القائل: «أنا الطريق والحق والحياة». هو الحاوي الناس جميعًا والوجود كله. فإذا بدأت تقرأ وجهه ترى كل شيء إليه وعندئذ يأخذ الناس معناهم والأشياء معناها.

المسيح ممدود رأيت ذلك أم لم تره وإذا لم تقرأ الأشياء منه لا تراها على حقيقتها. المسيح مخلص العالم لأن العالم كلّه فيه. وليس لشيء استقلال عنه ان كان في هذا الشيء حقيقة أو جمال. كل محاولة لإبعاد أي شيء عن المسيح قتل لهذا الشيء. ويمكن ان تكون في المسيح ولا تعرف، هو يعرف.

النصر الكبير لمن عرف ان المسيح فيه. قبل هذا لا يرى شيئًا. لا شيء يزاد على المسيح لأن المسيح ممدود وإذا كانت لك أية حقيقة فهي منه وعائده إليه. هو مخلصك انه أنقذك من خطيئة آدم وحواء. هو مخلصك اليوم من الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها أنت لأنه يعيدك إليه عندما يجيء إليك. لا شيء من حق أو جمال خارج المسيح ولو اختلفت التسميات. إذا ليس المسيح محصورًا بحدود ما يسمى الكنيسة وليس هو ملكًا للمسيحيين. الناس جمعيًا له بمعمودية أو بلا معمودية. روحه يعمد من يشاء وينصّر (الصاد مشدودة) من يشاء ومن هذا المنظار ليس للكنيسة حدود. ليست محصورة بالمعمدين. هي حيث كان الحب وحيث كان العطاء. والكنيسة المنظورة صورة عن كنيسة أوسع هي في العالم وفوق العالم.

من المعمدين من سقط ومن غير المعمدين من لم يسقط. الروح القدس يعمد من يشاء والمعمد الذي لا يسلك بحسب الروح تكون معموديته حمامًا. هذا ليس قولي هذا قول الآباء. المعمودية إشارة إلى أنك اصطبغت بالروح القدس ولكن كثيرون سقطوا منها وذهب عنهم الروح القدس.

والروح القدس ترافقه أو لا ترافقه. وإذا جمدت في محلك ليس لك روح قدس أي ليس معك إله. هناك من بقي معمدًا بالماء ولم يقبل ان يرافقه الروح الإلهي. هذه معموديته بقيت ماء.

ومعمودية الروح تعني طاعة المسيح. وإذا لم تكن هذه الطاعة نكون فقط مرشوشين بماء. والذين أطاعوا المسيح وليسوا على دينه يكونون معمدين بالروح. لا تكرهوا أحدًا من غير المسيحيين إذ قد يكون معمدًا بالروح.

Continue reading
2016, جريدة النهار, مقالات

الفصح الدائم / جريدة النهار – السبت في 7 أيار 2016

الفصح كلمة تعني العبور: في الأصل عبور العبران من مصر أرض العبودية إلى أرض الميعاد فلسطين. ولما اتخذ المسيحيون الكلمة عنوا عبورهم بالمسيح من الخطيئة إلى الحرية والخلاص. هل يفهم المسيحي العادي ان العيد دعوته إلى أن يطلب الخلاص؟ هو إذا فهم لا يبقى أسيرًا للأرض، لأشياء الأرض ولأهلها. المسيحية أن تحسّ بأنك تعيش بالمسيح ومنه وفيه أي الا تبقى لصيقًا بأي شيء أو بأي أحد من الدنيا. فإذا انتقلت إلى وجه يسوع لا تبقى لأي وجه أسيرًا. هل الوجوه لاهية لك؟ لا يمكن أن تراها وتراه. بهذا هو سرّ عشقك له.

هذه الدنيا لاهية. ان لازمتها لا يكون لك مسيح. فاترك إذًا واذهب عنها تكسب حريتك. سرّ المسيحية انك لا تعبد الله في أفكار وتحصيل فكري ولكن تعبده ان رأيت وجه المسيح وحده وتلاشت الوجوه. والحق ان الذين عرفوا العشق الإلهي عرفوا المسيح ولو لم يسموه. الدنيا لاهية. تمر بها ولا تبقى لأنها وجه جذاب. تجاوزها لئلا يغيب عنك وجه المخلص. هو إذا اتخذها له واستحقت ذلك تراها عنده ولا يحجبها. سرّ اليه لأن وجهه هو المحجة. مرّ بالمسيح اليه إذ ليس بعده شيء. إذا استطعت ان تعبر كل الأشياء ولم تستوقفك تحس انك حرّ. وإذا وصلت اليه لا ينبغي ان تحس بشيء آخر لأن كل شيء آخر شر لك.

أنا ما قلت لا ترَ وجوها. قلت لا تقف عند وجه. عندئذ تكون في الفصح. يوم العيد نتلو المسيح قام أكثر من ستين مرة كأن هذه الكنيسة عجزت ان تؤلف نشيدًا آخر. ماذا تنشد ان أردت؟ أي شيء يضاف على المسيح قام. اعبر دائمًا إذًا بهذا النشيد إلى إقامتك أنت من بين الأموات. فترى انك تحيا.

في الكنيسة البيزنطية المسيح المصلوب مرسوم وعيناه مفتوحتان. المعنى انه ولو مات جسديًّا الا ان الموت لم يغلبه. المعنى تاليًا ان السيد على الصليب بقي حيًّا. في المحسوس مات ولكن الموت لم يغلبه. لذلك لا نقف عند الجمعة العظيمة على انها موته ولكن نراها محطة إلى قيامته.

Continue reading
2016, جريدة النهار, مقالات

الفصح / جريدة النهار – السبت في 30 نيسان 2016

كان الفصح عند اليهود ذكرى عبورهم من عبوديتهم في مصر إلى أرض الميعاد. بات عبورنا من دنيانا إلى المسيح كل يوم من أيام حبنا له وموسما في السنة حتى لا يفنى الحب. دائمًا أنت تذهب إلى المسيح وإذا مت لا يموت. المسيح هو كل شيء وكل الوجود أو ليس من وجود.

الفصح عبورنا من عبودية الخطيئة إلى حرية المجد الذي في الله. لا لصوق بالأرض ولا لصوق بمخلوق. دائمًا أنت تعبر. إذا إلتصقت بهذه الأرض لا تكون إنسانًا فصحيًّا. وإذا التصقت بالجسد لا يكون عندك روح. حتى تكون إنسانًا فصحيًّا يجب دائمًا أن تذهب. ليس في المسيحية استكانة. فيها هذا السكون الذي يأتي من التحرك الداخلي. القِبلة (بكسر القاف) هي وجهه. كل الوجوه تيه. متى تأتي يا رب وتخطفنا إليك؟ وجهك وحده ليس تجميدًا للرؤية.

قصة المسيحية أن الفرح عندها يمر بالألم. المسيحية لم تخترع الحياة، لاحظتها وقالت انها تعبر إلينا بالألم. ليس اننا نحب الألم. هو موجود أو هو الوجود الثابت. هذا تشويه للمسيحية ان نعتقد انه يجب السعي إلى الألم. جاء المسيح ليخلصنا منه. هو ما دعانا إليه. حقيقة المسيح في القيامة وفي إيماننا ان القيامة ابتدأت على الصليب إذ ارتضاه المسيح. لذلك في الفهم الكامل لإيماننا ان الفصح ليس فقط يوم الأحد ولكنه الثلاثية التي تبدأ بيوم الجمعة العظيمة. أحد الفصح هو إعلان الفصح.

الخطأ ان تظن انك قادر على أن تقيم في الفرح بلا ذكر الخطأ، ان تقف عند الألم وان تستلذه. الخطأ في تبسيط الأمور بالاعتقاد ان المسيحية دين الصليب فقط. هي ليست كذلك الا لأن الصليب كان طريق المسيح إلى قيامته. لذلك المؤمن الفهيم من يبدأ فصحه من الجمعة العظيمة. لك الحق ان تقول «على دين الصليب يكون موتي» إذا فهمت ان الصليب مرحلة أولى من القيامة. اما ان توجع نفسك إراديًّا ظنًا انك تقترب من السيد فهذا عشق للألم وهو مرفوض. المسيحية ليست ديانة الصليب الا لكونه انطلاقة إلى الانبعاث. وهذا تجده ساطعًا ان تابعت حقا كلمات العبادة عندنا يوم الجمعة العظيمة. مرة أخيرة أقول ليس عندنا استلذاذ بالألم. هو موجود ومن تجاهله ليتكلم حصرا عن القيامة يكون خارج الواقع البشري. من حصر نفسه فيه يكون متكرا للرجاء.

نحن نكون حقا فصحيين ان قدرنا ان نرى الغلبة من بعد الألم. هذا يدل على ان ليس الألم كله الخلاص. ولكنه هنا معنا ونمر به شرطا للخلاص منه. كنيستي موفورة البركات لأنها تعرف الوحدة بين الجمعة العظيمة وأحد القيامة. من وقف عند الجمعة العظيمة يحب موت السيد فقط. هذا ليس كل الخلاص. المسيح الحي هو الخلاص. صح ان هذا كان من بعد موت. المتعمق في الإيمان يعرف ان المسيح في موته على الخشبة كان حيًّا في جوهره أي كان في موته واحدًا مع الآب. قتلوه وصلبوه وبقي حيًّا. هذا هو سره وهذه حياتنا.

سره انه مات وان الموت لم يقهره جسديًّا. مات ثم قام ولكن في رؤية الآب له بقي حبًّا أبدًا. انه هو فصحنا أي قيامتنا الدائمة من الخطيئة والموت.

Continue reading
2016, جريدة النهار, مقالات

الدخول إلى أورشليم / جريدة النهار – السبت في 23 نيسان 2016

«كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل». لم ترغب بسبب من تواضعك العظيم أن تقول كما اني أنا كامل. كيف يا سيدي يبلغ الإنسان كمال الله؟ أأنت، حسب اللغة، تقول انه على هذا قادر. أما قلت أنت للبشر كونوا كاملين؟ هل يبلغ الإنسان في هذه الدنيا قامة الله؟ والا ما معنى الكلام.

هو قال: أنتم آلهة أي انكم قادرون على بلوغ الكمال الروحي في حدود جسدكم وكأن المعنى ان لا حدود بين الله والإنسان. ما معنى التشبه بالله إذا لم يكن معناه انه قادر على هذا التشبه؟ «كونوا كاملين» الا تعني انكم صيروا بلا خطيئة؟ كيف يكون هذا والكلام إلى ناس ما زالوا في هذه الدنيا؟

كل صلواتنا تدل على اننا دائمًا في الخطيئة وان التحرر منها رجاء فقط. والسعي نحن مأمورون به والوصول لم يعدنا الله به في حدود هذه الدنيا. وما جاء في كتابنا ان بعد الموت سعيًّا ممكنا وما أعطيتَ أنت الإكليل الا وعدًا. وإذا كان الله يدين الناس قاطبة فهذا إقرار على ان كل إنسان تحت الخطيئة وان كل إنسان يدان بما في ذلك القديسون. وأنت إذا استشفعت القديسين تعلم انهم ما عدا مريم ينتظرون دينونتهم. وإذا بيننا وبين من أعلنت الكنيسة قداستهم فرق في رتبة القداسة وليس من فرق في الجوهر. القديسون مثلنا ينتظرون الكمال. من هم القديسون؟ لا تقول الكنيسة انهم صاروا شيئًا. تقول انهم على بعض من المحبوبية وانهم باتوا بذلك نماذج لك.

جميل أن يعرف الإنسان انه خاطئ إلى الأبد لئلا يستكبر. خاطئ مع التوبة، مع أعظم توبة لا يراه الله جميلا. الله يرى فقط مسيحه جميلاً.

لما كنت شابًا كان دائمًا يذهلني ان الكاهن يرى نفسه خاطئًا ولكنه يعرف ان له سلطانًا ان يقول للتائبين ان الرب يقبلهم. أنا خاطئ وتائب معًا وفي الجنازة تعلن الكنيسة ان كل إنسان خاطئ. وإذا هي طوبت قديسًا لا تعلن انه تبرأ من الخطيئة. وإذا غفرت لك في الكنيسة خطاياك لا يعني هذا انك صرت من الأبرار. ليس من بار الا ذاك الذي علقوه على خشبة.

القداسة دعوة والقديسون مجرد دعاة. لا يعني تطوبيهم انهم باتوا في البر كاملا. هذا في الطبيعة غير موجود. أنت تأخذ برك من المصلوب أي إذا صرت مثله. هل يأتي يوم تصبح فيه مصلوبًا بالكلية؟ هذا غير ممكن قبل القيامة الأخيرة. نحن مع المسيح فقط على الرجاء وكما يعرفنا هو. في هذا الجسد الدنس لا نصل. نصلي فقط. والرب يقرأنا ولا نقرأ أنفسنا.

فلنحاول أن ندخل إلى أورشليم السماوية لنطهر أنفسنا بالمسيح. أعرف ان التوبة ان باشرناها لا تتم الا على سرير الموت. ما أقبح الإنسان في اشتهائه الخطيئة!

سنحاول اليوم الدخول ليس إلى أورشليم الأرضيّة ولكن إلى ذات المسيح وملكوت قلبه. لعل اهتداءنا الحقيقي في هذا الموسم ان ليس لنا الا ابن مريم في حنانه وأوجاعه وان يرجو كل منا لمسة منه. هي تكفي. بها ندخل إلى السماء. هذه هي أورشليم الحقيقية. وإذا دخلنا يكون لنا فصح أي فصح كل يوم بقيامتنا من موت الخطيئة واشتهائنا البر.

البِرُّ أورشليمُ كل واحد، ليس لنا وطن الا البر. أنا أعرف القدس. زرتها غير مرة لما كانت في أيدي العرب. لم يبق لنا غير القدس العليا في السماء.

Continue reading
2016, جريدة النهار, مقالات

مريم المصرية / جريدة النهار – السبت في 16 نيسان 2016

مريم المصرية وهي من القرن الرابع نقدمها نموذجًا للتوبة. لست أعرف لماذا نماذج التوبة عندنا هي بالدرجة الأولى من النساء. هل هذا لأن الذين كتبوا في التوبة كانوا من الرجال وإحساسهم الأول ان التوبة هي التوبة عن النساء.

أليست مبالغة في أدب التقوى عندنا أن نتكلم بصورة أساسية عن عودة النساء إلى الله مع أن شيئًا واحدًا لا يدل أن قوة الخطيئة هي عندهن أولاً. ولكن الرجال هم الذين كتبوا. ثم لماذا تبيان التوبة على أنها عودة عن خطايا الجسد أولاً؟

مهما يكن من أمر في كنيستي نظهر هذه المرأة نموذجًا للعائد إلى ربه وليس فقط استعفافًا من الجسد والكبرياء أكثر فتكًا. لماذا أيقونة مريم المصرية لها مكانة خاصة في غرفة نومي؟

ما من شك عندي ان التوبة الكبرى أعجوبة. عندما تدرس أنت علم النفس درسًا كبيرًا يتضح لك ان التوبة لا ترد بسهولة في ميول النفس فالإنسان يحب رذائله ويريد ان يبقى عليها وما من شك عندي ان التائبين الحقيقيين قلة. لذلك لا يذهلني في سيرة القديسين ان يعتبر التائبون منهم قلة عزيزة. العودة عن لذات الجسد تعني عودة من تكوين نفساني كامل صار لك من اللذات وكأنك مخلوق جديد. أنت بالتوبة لا تبقى ذاتك، تصير إنسانًا جديدًا. التوبة بمعناها العميق الشامل لكياننا لا تفهم عقليًّا. لذلك لا يذهلني أن تتعلق الكنيسة تعلقًا شديدًا بالذين عادوا إلى ربهم لأنهم في التكوين البشري كانوا عنه بعيدين.

ما يلفتني إيمان الكنيسة في عرضها نماذج التوبة عند رجال ونساء تؤمن ان بين السامعين اليوم ناسًا مثلهم أي انها ترجو عودتهم إلى الرب بالقوة التي عادت بها أمنا مريم المصرية. ما يدهشني أكثر ان المعلمين الروحيين الكبار يتكلمون عن التوبة وكأن الناس قادرون عليها. كيف يثقون هكذا بالناس الغارقين في أوحال الخطيئة؟

طبعًا التوبة أعجوبة. كيف تنسكب النعمة بهذا المقدار في النفس الغارقة في الأوحال وقد تربت عليها وآلفتها وانضمت إليها؟ كيف تنقل النفس القذارة الرهيبة إلى الضوء؟

الأعجوبة ليست أن تشفى من مرض. هذا ليس فيه تغيير في الكيان. الأعجوبة في التوبة. كيف الفاسق يسترد العفة في لحظة؟ هل من ناموس طبيعي معقول يجعله يتحول هذا التحول الكامل ويمكن أن يبقى طوال حياته الباقية لا يحن إلى الرذيلة؟ لست أرى أعجوبة أعظم من التوبة.

ثم لماذا يعجب المسيحيون بالقديسين الذين تابوا، ولا يعجبون بالذين عاشوا طيلة حياتهم تائبين؟ ربما لا يرون الأعجوبة في الذي كان طاهرًا طيلة حياته. نحن الذين درسنا علم النفس درسًا عظيمًا تعرف تداخل الخطيئة في الكيان البشري وصعوبة استئصالها. كيف وصل الذين وصلوا؟ ليس عن هنا جواب على مستوى العقل. رؤيتك الروحية الفهيمة للذين تابوا، خبرتك إياهم تجعلك ترى أن في الأمر عجيبة.

مما يذهلني في المسيحية أنها تتكلم عن أجمل ما عندها لأنه معطى أو كأنه معقول وهذا غير صحيح. المسيحية أعجوبة من البدء إلى الآخر. عليك أن ترى وأن تفرح.

مريم المصرية ليست الوحيدة في التوبة. كل من عرف النفوس التائبة من عمق الخطية يفهم أن التوبة أعجوبة عند كل من ذاقها. أن تعود كليًّا ونهائيًّا عن أعمال كان لك فيها لذات لأمر فوق المعقول. ولكن الله صانع العجائب في الكثيرين اليوم أيضًا.

كل خاطئ منا نموذجه مريم المصرية. يمكن أن يتوب ولكن هذا لا يحصل الا إذا تراءى له بنعمة من ربه ان عودته أطيب له من بقائه في الخطيئة.

Continue reading
2016, جريدة النهار, مقالات

بعض اتهامات المسيحية/ جريدة النهار – السبت في 9 نيسان 2016

دائمًا كانت المسيحية في قفص الاتهام لأن الناس لا يقرأونها جيدًّا. ومن أهم الاتهامات انها ضد الجنس. كيف تكون كذلك والمسيحيون يتزوجون والكهنة في الشرق يتزوجون وفي الكنيسة الأولى أساقفة يتزوجون وبتولية هؤلاء ليست قولاً إلهيًّا ولكنها قرار كنسي ما كان معروفًا في القرون الأولى.

ليست المسيحية ضد الجنس بدليل بسيط وهو انها تبارك الزواج وتزوج الناس. هي ضد الانفلات والأخلاقيون من أهل الدين ومن غير أهل الدين ضد الانفلات، كل ما تقوله المسيحية في هذا الباب ان ممارسة الجنس مباحة فقط في الزواج وهي ليس عندها شرطة لتمنع أحدًا من الزنا. تدعو إلى العفة قبل الزواج وفي الزواج. الرهبانية خيار لمن شاءه ولا تشجع أحدًّا عليه ان لم يكن موهوبًا. لكل منا منهجية. يتبتل من شاء والمتبتلون قلة عزيزة ولا نشجع أحدًا على البتولية والمعروف عندنا انها قرار تتخذه أنت بإرشاد أبيك الروحي وموافقته ولا تستطيع ان تتفرد به. لظروف تاريخية فقط وليس لعقيدة اختارت الكنيسة أساقفتها من الرهبان. لا يمنع شيء من تغيير هذا الموقف إذا رأت الكنيسة انه بات الآن صعب المنال. بكلام أبسط ليس من تلازم عندنا مبدئي بين الأسقفية والبتولية.

موقفنا ان الجنس بعض من الزواج. لذلك نريد شباننا على العفة قبل زواجهم. نحن نفضل للعائش في المجتمع التزوج على العزوبة وندفع العازب إلى الزواج ما لم يطلب الرهبانية.

المسيحية لا تخشى الجنس ولا تفضل العازب في المجتمع. من ارتضى العزوبة من أجل الله تريده راهبًا. هذا نهج عندنا. نحن ضد التفلت أو ما يسمى الحريّة الجنسية إذ نقول ان الجنس نحياه فقط في الزواج. نقول بالعفة لكل الناس يحياها المتزوج بالانفراد بزوجته ويحياها العازب في وحدته مع الله. نهائيًّا ومرة واحدة نقول ان الجنس تعبير من تعابير الحيّاة الزوجية ولا مكانة له خارجها.

المسيحية تقبل اللذة إذا كانت جزءًا من الشريعة. نحن لسنا ضد سرور البشر ولكنا نريد السرور خاضعًا لمشيئة الله.

ما قلنا مرة ان الراهب أفضل من المتزوج، والكنيسة الأرثوذكسيّة في ممارستها تفضل الكاهن العائش في المجتمع متزوجًا، وما يحبه الأرثوذكسيون ان البتول يعيش في الدير أي في شراكة مع الرهبان، هذا جاءنا من ممارسة تاريخية طويلة.

Continue reading