Category

2003

2003, مقالات, نشرة رعيتي

بدءًا من الميلاد/ الأحد 28 كانون الأول 2003 العدد 52

الابن الإلهي جعل نفسه صغيرًا حتى لا تبقى تتعامل أنت مع إلـه جبار، حتى يظلّ الرب عرضة لكفر البشر وظلمهم له وتعدياتهم عليه. وهكذا سمح لعسكر الرومان أن يلطموه ويكللـوه بشوك وسمح للانسانية كلها ان تصلبه. هذا الضعف الذي أراده يسوع لنفسه اذا قبلته يصير فيك قوة. هنا ينطرح السؤال كيف يقول بولس في رسالتـه الأولى الى اهل كورنثوس: “وضعف الله أقوى من الناس”. هو لم يقل ما بدا ضعفًا. هو قال: “ضعف الله”. ذلك ان المسيح تبنّى الضعف والضعفاء، وقَبِلَ الآية القديمة: “ملعون كل من عُلّـق على خشبة”. انه اقتبل ان يوحد نفسه مع الملعـونين، وفي المُصطلـح العبري الملعون هو من انقطع عن الحياة. مع ذلك يصرّ بولس على اننا “نكرز بالمسيح مصلوبًـا لليهود عثرة ولليونانيين جهالـة”.

         وحتى يمهّد لضعف الصليب الذي استحال قوة أراد أن يولد برفقة أحطّ المخلوقات اي البقرة والحمار. ورفاقه الآخرون كانوا رعاة بيت ساحور قرب بيت لحم اي ناس أميّون وفقراء لا يفتخر أحد بصحبتهم.

         ثم جاء المجوس الذين “فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا ذهبًا ولبانًا ومرّا”. وهذا كلّه رمز تكلّمت عنه المزامير. لم يبقَ من هذه الهدايا في حياته الا المرّ. هذا صورة عن الخلّ الذي قدّموه له على الصليب ولم يشربه.

         اللافت في سجود المجوس له انهم كانوا من عظماء القوم، ملوكًا او علماء. ان احتسبوك أنت كبيرًا في قومك او كنتَ مثقّفًا عميقًا فلستَ على شيء ان لم تكتسب تواضع المسيح، ان لم تقتنع انك به تتكوّن، ان لم تحاول أن تبلغ “فكر المسيح”. ما عداه غواية ولو كانت مجدًا ساطعًا او علمًا غزيرا او جمال جسد. كل شيء يفنى أمام هذا الطفل الصغير المرمي في مذود. انه صنع مجده بدءا من هذا الوضع الحقير. وقد شرح ذلك الملائكة للرعاة: “المجد لله في العلى”. ما عدا ذلك أمجاد يصطنعها الناس ليعظموا في عيون الذين يشبهونهم او من كانوا أدنى منهم.

         بهذه الروحية تقتحم السنة الجديدة. أنتَ إن ملأتها بمجد يسوع الذي فيك تصبح هي جديدة. ليس من عام مكتوب جديدا. الأزمنة كلها فارغة إن لم تمتلئ بكلمة الله. العام أحداث معظمها عنف وشر وخطايا. أنتَ وحدك تفتدي العام الجديد. ما تزرعه حولك من وداعة وطيب وإخلاص وخدمة للفقراء، “جدّة الحياة” التي فيك تجعل السنة الـ 2004 جديدة. الناس هم جدد او عتاق. واذكر ان اول يوم من السنة نعيّد فيه لختانة الرب يسوع. وهي تعني لنا اننا نختن حواسنا كلها عن الشر: عن رؤية الشر او سماعه او لمسه وما الى ذلك، وبهذا تتجدد فينا المعمودية.

         وإذا مرّت عليك الأيام في السنة المقبلة فخذ من أعيادها ما فيها من مجد الله وحلاوته وسلامه وغفرانه. وكانت الأعياد لتتجدد انتَ بها وتصبح هدية للمسيح. انت قربان اي معطى له، ولست ملِكا على أحد ولا مالكًا لشيء. أنت دائمًا فقير الى يسوع الفقير. عند ذاك تصبح حاضنًا له ويصير هو غناك ومعنى وجودك.

         ولن تدخل سرّ المسيح ما لم تنزل عليك مزاياه. فإذا تمسحَن قلبك تدرك ما في قلبه، وعند ذاك يصير فكرك مسيحيا اي انك تصير في حدود بشريتك مستضيفا المسيح. بهذا تعرف انك وُلدتَ من السماء. فإذا ظهر عليك بمجده ورأى الناس وجهك مضاء بنعمته يحسّون وكأنهم رأوا وجه المسيح. ان أردت ذلك كان لك ميلاده ميلادا لك كل يوم، وكانت كل سنة لك سنة جديدة.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

من احد النسبة الى الميلاد/ الأحد 21 كانون الأول 2003 العدد 51

تتهيأ الكنيسة في هذا الأحد لاستقبال المخلص المولود وتقرأ لنا فيه الأصحاح الاول من متى كاملا. وقبل ان تذكر ولادته تتلو أسماء الذين سبقوا السيد من إبراهيم الى يوسف ليس لأن هذا والد يسوع ولكن لأن الإنسان ينتسب الى المعتبر أباه حسب الشريعة. غير ان بولس يقول عن ربنا انه “صار من نسل داود من جهة الجسد” (رومية 1: 2). والأناجيل في مواضع عديدة تعتبر المسيح ابن داود. فهذا هو نسَبه من جهة مريم. والأمر الرئيسي الذي أراد متى ان يبيّنه ان يسوع ابن داود وانه تاليا هو الملك الحقيقي، هو الملك حسبما كتب بيلاطس على الصليب: “يسوع الناصري ملك اليهود”.

         عدة اسئلة تدور حول هذا الفصل الإنجيلي وفيها هذا السؤال: ما علاقة يوسف ومريم؟ النص يقول انها علاقة خطبة، ولكن يجب التوضيح ان الخطبة عند اليهود هي زواج قانوني ـ اي في وثيقة ـ ولكنه بلا مساكنة ولا تنتهي الخطبة الا بطلاق شرعي. وكلمة الملاك ليوسف: “لا تخف ان تأخذ امرأتك مريم” في هذا الوضع الشرعي تعني لا تخف ان تأخذها الى بيتك، وهذا ما يسمى عند بعض الشعوب حفلة الزفاف.

         السؤال الثاني نابع من قول الكتاب: “ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر”. وكلمة بكر لم ترد في معظم المخطوطات وبينها احيانا اختلافات جزئية لا تغير المعنى الأساسي. ولكن حتى لو صح ان كلمة “بكر” هي أصلية فلا تحتم ولادة ابناء آخرين. فقد جاء في سفر الخروج 13: 1 “قَدِّسْ لي كل بكر، كل فاتح رحم من بين اسرائيل”. بكر تسمية للولد الاول تبعه ام لم يتبعه اخوة. لماذا أهمل الكتاب الحديث عن نوعية العلاقة بين يوسف ومريم بعد الميلاد؟  ذلك ان متى لم يكن غرضه سرد سيرة مريم. وغرضه الحصري ان يكشف ان مولد يسوع كان بتوليا. اما بتولية مريم الدائمة فقال بها المجمع المسكوني الخامس وقالت بها الطقوس منذ القديم والمجمع والطقوس مصدر لإيماننا.

         لماذا اراد الله ان يكون مولد ابنه بطريقة عجائبية؟ الآباء الذين تحدثوا عن هذا قالوا “ان ابنا واحدا لا يولد من أبوين” اي انهم اعتبروا ان بنوة المسيح للآب تنفي تحدرا من رجل. كان ينبغي الا يكون المسيح مدينا لرغبة رجل.

         ما روحية العيد؟ هذه يعبّر عنها بولس بالرسالة الى اهل غلاطية بقوله: “لما حان ملء الزمان ارسل الله ابنه مولودا من امرأة، مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني” (4: 4و5). المعنى الذي تكلم عليه الآباء ان المسيح هيأ له كلام الأنبياء ثم الفكر اليهودي الذي بعد الأنبياء. واعتقد بعض الآباء ان الفلسفة اليونانية اذ قالت بالإله الواحد هيأت ايضا لظهور المخلص. يضاف الى هذا ان المسيح هو الذي حقق امنية القلوب الطيبة في كل الشعوب وكأن تاريخها الفكري لم يصل الى نهايته الا بالمسيح. انه حقق كل الانتظارات ولا تنتظر الانسانية بعده شيئا روحانيا آخر.

         بعد هذا يقول الرسول في الرسالة نفسها “الدليل على كونكم ابناء ان الله أرسل روح ابنه الى قلوبنا، الروح الذي ينادي: “أبّا” اي يا أبيّ “وهي مثل بيّ في اللهجة اللبنانية”. أبّا هي الكلمة التي كان يقولها الطفل الفلسطيني لأبيه تدللا وهي بمعنى “بابا”. الفكرة ان المسيح الذي يسمي نفسه ابنا لله جعل كل واحد منا يسمي ايضا نفسه ابنا. ولكن المسيح هو ابن ازلي ووحيد وهو الذي جعلنا ابناء بالتبني.

         نحن نتوخى في هذا العيد عمق علاقتنا بالآب من خلال المخلص. الله يظهر مخلصا للناس ويظهرهم هم ابناء وذلك عن طريق تواضع يسوع وعن طريق سلوكنا بالوداعة والتواضع. العيد ان لم نصل به الى هذا يكون مجرد تذكار والحقيقة انه تجديد لنا بالروح القدس.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الأجداد/ الأحد 14 كانون الأول 2003 / العدد 50

الكل يعرف أحد النسبة الذي يسبق مباشرة عيد ميلاد الرب. غير ان هناك أحدًا يسبق أحد النسبة وهو المعروف بأحد الأجداد. ذلك ان أحد النسبة كما يروي إنجيله متى الرسول يبدأ بابراهيم ليدل على ان أصل السيد في الجسد هو من أبي المؤمنين الموحدين لله ومن داود، في حين ان أحد الأجداد يرجع السيد الى من سبق ابراهيم وصعودًا الى آدم، وهذه السلسلة نجدها في إنجيل لوقا.

         لذلك نقول في خدمة هذا الأحد: “إذ نقيم تذكار الأجداد فلنسبح، بإيمان، المسيح المنقذ الذي عظمهم في جميع الأمم”، ويريد بذلك الأمم الوثنية0 هم أيضًا كانوا مهيئين لاستقبال المسيح في الأمم0

         وفي مقطع آخر نقول: “لقد زكّيتَ بالإيمان الآباء القدماء وبهم سبقتَ فخطبتَ البيعة (اي الكنيسة) التي من الأمم”. تلك الأمم كانت -على رجاء بشارتها- متهيئة لقبول الخلاص. وهناك شخصية غريبة وثنية هي ملكيصادق. هذا كان كاهن الله تعالى كما يقول كاتب الرسالة الى العبرانيين: “وله أدّى ابراهيم العشر، وليس لأيامه بداية ولا لحياته نهاية، وهو على مثال ابن الله”.     بهذا المعنى لم يكن ليسوع أجداد في الشعب العبري فقط ولكن كان له أسلاف سبقوه معنويًا في الأمم الوثنية، ويكون السيد هكذا متصلا بالتاريخ السابق له ومكملا لهذا التاريخ.              الى جانب ذلك رأى آباؤنا القدماء ان الفلسفة اليونانية هيأت الفكر البشري لفهم المسيح. هذا ما سمّاه القديس يوستينوس الشهيد الفيلسوف المولود في نابلس في القرن الثاني “الكلمات المزروعة”، ويريد بذلك ان الكلمة الإلهي الذي هو يسوع قد كشف نفسه ليس فقط في العهد القديم ولكن بواسطة “كلمات” او أفكار هيأت المثقفين اليونانيين ان يتقبلوا الإنجيل.

         واذا ذكرنا الأقدمين فيجب ان تتبدد من فكرنا ان يسوع ذهب الى الهند. هذا ليس له أثر تاريخي اطلاقًا. ومن مقارنة الإنجيل بالهندوسية او البوذية، لا نرى ان يسوع في بشريته قد تقبّل اي تأثير هندوقي في ما علّمه. المسيح في بشريته كان يعرف التوراة كليًا وقرأ إشعياء باللغة العبرية في مجمع الناصرة، وعرف ما كان يقوله في عصره علماء اليهود، ولكنه لم يقرأ شيئًا عن الآخرين. الغرباء عن اسرائيل تركوا فكرًا هيأ لظهوره. يسوع، الى جانب كونه إلهًا، كان يعرف الأشياء بعقله البشري.

         غير انه لا يكفي ان نعرف من هيأ لمجيء المخلّص. كل منا مدعو بتوبته ان يتهيأ هو لاستقبال يسوع في العيد الآتي. هو لا يهمّه ان يكون قد نزل فقط في أحشاء البتول وفي مذود البهائم. همّه ان ينزل في قلب كل واحد منا. لا تهمّه مسراتنا الدنيوية من طعام وشراب ولباس. مملكته القلب. وهذا اذا تحوّل اليه يكون بمثابة حشا البتول. المسيح يريد ان يبقى معنا وفينا. الطريقة الوحيدة الى جانب نعمته هي ان نرضاه نحن ونعدّ له المكان، وليس من مكان له في هذا العالم الا قلوبكم.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

الحشمة امام الموت/ الأحد 7 كانون الاول 2003 / العدد 49

نحن نرافق المؤمن اذا مات ولسنا متفرجين عليه او متفرجين على انفسنا. فاذا انتقل احدنا، يوضع في غرفة، والذين حوله يتلو احدهم المزامير بصوت عالٍ او يرتل احدهم، ويستحسن ان يأتي الكاهن قبل الدفن اكثر من مرة ويقوم بصلاته او يتعاقب كهنة الجوار. هذه تقاليدنا.

         اما ان تتحلق النساء حول النعش لتبكي او تنظر الى المتوفى وتلامسه فهذا من بقايا البكاء على الإله تموز في فينيقية. الذي لا يريد ان يستمع الى الصلوات فليجلس في الصالة او حيث يشاء. النوح ليس من آدابنا. فلتجلس النساء مع الرجال ليتقبلن التعازي، ولكن لماذا التفجع وإظهار التفجع؟ هذا عندهن ليس صلة بالبيت. هو صلة بانفسهن. ونفوسهن في حاجة الى هدوء وسلام. هذا النوح دليل رفضهن الموت. والموت بعد ان قام المسيح منه ليس عندنا فاجعة. حكم عادل على الإنسان وعبوره الى الحياة الأبدية.

         في الموت اللياقة واجبة، لياقة احترامنا لسرّ الموت والحياة. المطلوب ان نتغلب على الألم بالرجاء وطريقته الصلاة. التعلق بالميت شعور ضد ايماننا بالقيامة. اللون الاسود، الحداد كل هذا ضد الإيمان بالقيامة. المسيحيون الاولون لإيمانهم الحقيقي بها كانوا يرتدون في حالة كهذه البياض. السواد يعني اننا دخلنا رمزيا بالموت نحن ايضا. وهذا كله زي افرنجي استوردناه ولا علاقة له بإيماننا. يجب ان تقوم امرأة شجاعة وتتحدى هذه الأزياء. جواب بعض النساء انا ارتدي الأسود لأن نفسي حزينة مردود بسؤالي: لماذا تريدين ان تعبّري عن الحزن؟ انه في اعتداله في القلب. اما ان نجمع الكآبة الى تشييع الميت الى الكنيسة فهذا تناقض.

         الى هذا فاذا مات شاب يأتي اهله بتابوت ابيض ويزينون الكنيسة بشريط ابيض ليزداد الحزن على فراق شاب. وهذا ليس عندهم علامة قيامة. يوغل هكذا الجمهور بالحزن. “لا تحزنوا كما يحزن باقي الناس الذين لا رجاء لهم”.

         واذا اجتمع الرجال في البهو فإنهم يدخنون. هل في هذا حشمة؟ اما الطعام والشراب والماء والقهوة فهي من الحياة ولا مانع منها. انها استراحة من التفجع. غير ان ابتعاد الرجال عن الجثة فلا يعطيهم الحق في كل الأحاديث المعقولة وغير المعقولة. الصمت وحده حشمة كاملة ومعه التراتيل الكنسية بوجود مرتلين او مسجلة. هكذا تكون آداب الجنازة.

         ولا تنتهي المخالفات عند هذا الحد وبخاصة اذا كان المتوفى شابا. ما هذه الرقصة بالتابوت، وما معنى رفع التابوت على الأكف عاليا؟ هذا ايضا من باب التشدد بالحزن. وما هذا الطواف من مكان الى مكان، ومعروفة الطريق من البيت الى الكنيسة. وأقصر طريق يدل على الاحتشام وعلى الا نتظاهر.

         لقد وضعت الكنيسة اياما لإقامة الصلاة: الثالث والتاسع والأربعون والسنة، ويجوز غيرها حتى يرتاح المؤمنون بهذا الإيقاع من الوقت وتقل احزانهم وليستمطروا الرحمة على من يحبون فيرتفع مقامه في الملكوت ويُقبل المؤمنون عليها او على بعضها. اي انهم يدخلون في السلوك الذي تريده الكنيسة. أليس في هذا تناقض مع الذي يجري يوم الدفن؟

         لم يقل الرسول بولس: لا تحزنوا، ولكنه قال لا تحزنوا كما يحزن باقي الناس الذين لا رجاء لهم. أي هناك حزن معتدل مرتبط برجاء القيامة، والمطلوب تخفيف المظاهر التي كان يقيمها الوثنيون في بعض بلدانهم ولاسيما في الشرق القديم الذي لم يكن يعرف شيئا عن القيامة. هذا كله يحتاج الى تربية جديدة.

         اما في الكنيسة فأهل الميت وأصدقاؤه والناس مدعوون الى الانتباه الى كل كلمة لأنها كلمة الحياة. لا تذهب النساء عندنا الى القبر. لا مانع. ولكن اذا عدن الى البيت، فهذه العودة مصحوبة ايضا بالإيمان والانصراف الى الحياة الطبيعية. وبعض منهن يقاطعن القداس الإلهي فترة من الزمن، والقداس مكان التعزيات الكبرى. لا ينبغي للحي ان يموت مع الميت ليظهر تعلقه به. هذه اشياء مؤذية للنفس. بعد الدفن تنتقل انت الى شؤون بيتك وعملك والى الصلاة، وهي وحدها تنفع الأموات والأحياء.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

انجيل اليوم/ الأحد 30 تشرين الثاني 2003 / العدد 48

اندراوس الذي نعيد له اليوم مسمى المدعو أولا لأنه حسب هذا الفصل من إنجيل يوحنا هو اول من دعاه السيد لينضم اليه وكان من تلاميذ يوحنا المعمدان حسبما جاء في هذا النص. وكان يوحنا يرتضي بفرح ان يتركه تلاميذه ليتبعوا المعلم الجديد الذي جاء المعمدان ليهيئ لمجيئه بمعمودية التوبة. فبعد ان شهد ليسوع على انه حَمَل الله المعد للذبح، كان لا بد لاندراوس ورفيق له ان يتبعا الكامل. عند ذاك مكثا عند يسوع يوما كاملا. لا يقول الإنجيل المكان الذي يقيم فيه السيد. والمعنى الأبعد من إقامتهما عنده ان نقيم نحن مع يسوع بالإيمان. في القلب نحن نلتحق بيسوع وهذا آت من الإيمان.

         كان هذا عند الساعة العاشرة. هذه الساعة التي كان يقال لها في بلادنا الساعة العربية تعني حوالى الساعة الخامسة بعد الظهر اي عند اقتراب الغروب. في الظلام انت تسعى الى النور وقد قال يسوع: انا نور العالم. فاذا داهمك غروب الخطيئة لا ملجأ لك الا هذا الضياء العجيب الذي اذا انارك يُذهب عنك الخطايا.

         اندراوس لم يكتف بأن يسوع دعاه. اراد ان يجيء بتلاميذ آخرين الى المعلم. فأتى بأخيه سمعان اذ قال له وجدنا مسيّا الذي تفسيره المسيح. مسيا هي اللفظ اليوناني لكلمة مشيح العبرية (في اليونانية لا يوجد حرف الشين ولا حرف الحاء فتكتب مسيا). ولذلك اضطر يوحنا الإنجيلي ان يترجمها الى اليونانية خريستوس التي هي المسيح القريبة من العبرية. فعندما توجه يسوع الى سمعان وهو ابن يونا قال “انت تدعى صفا الذي تفسيره بطرس”. صفا العربية هنا هي كيفا بالآرامية التي كان يتكلم بها يهود فلسطين ونقلناها الى العربية صفا اي صخر، ولكون القارئ اليوناني لإنجيل يوحنا لا يعرف الآرامية فسّرها بطرس. وجاءت بالترجمة العربية الحرفية بطرس، والمعنى اني سميتك صفا اي صخر او صخري لأن ايمانك قوي كالصخر.

         طبعا هذه صدى لما ورد في انجيل متى: “وانا اقول لك ايضا انت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي” (16: 18). اسم بطرس (Petros) نحته يسوع من Petra التي تعني الصخرة. المعنى انك لكونك اعترفت بي على اني المسيح ابن الله صارت لك كرامة جديدة وقبلت الدعوة. فلا تبقى على اسمك القديم. انا اعطيك اسما جديدا يليق باعترافك بي، يرمز الى اعترافك. أنحت من الصخرة اسما. انت بقوة ايمانك مجانس للصخرة.

         بعد هذا دعا يسوع اليه فيلبس فقال له اتبعني. دعاه في الجليل وكان هو من بيت صيدا وهي مدينة صغيرة على الضفة الشرقية من الأردن حيث يصب النهر في بحيرة طبرية. فيلبس مذكور عدة مرات في الإنجيل الرابع. هنا ايضا يدعو غيره. يدعو نثنائيل. هذا كان من قانا الجليل الذي قد تكون خربة قانا او كفرقنا وكلتاهما في الجليل. يشهد هنا فيلبس ان يسوع كتب عنه موسى والأنبياء. سمي هنا “يسوع بن يوسف” حسب الاعتقاد الشعبي. يسوع عظم نثنائيل بقوله انه اسرائيلي حقا لا غش فيه واصِفًا اياه بعبارة من المزامير. اما قول السيد: “قبل ان يدعوك فيلبس وانت تحت التينة رأيتك” فهي عبارة معروفة عند اليهود على ان الجالس على مقعد تحت التينة هو دراس للتوراة، فكأن الرب اراد انك مهيأ بدراسة العهد القديم ان تعرفني.

         اما قوله “الحق اقول لكم انكم من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن البشر” مأخوذة من حلم يعقوب ابن اسحق في بيت ايل: “ورأى حلما واذا سلّم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء وهوذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها وهوذا الرب واقف عليها” (تكوين 28: 12و13). الرب طبعا تعني الله. في انجيل يوحنا، الواقف على السلم هو ابن البشر اي يسوع. في هذا يكون يوحنا الإنجيلي اقتبس من سفر التكوين آيتين تدلان على الرب الإله، وهذا الرب الإله سماه هنا ابن البشر اي يسوع، فيكون يسوع هو نفسه الرب.

         في الآية 5. يتوجه يسوع الى نثنائيل بصيغة المفرد فيقول: “سوف ترى اعظم من هذا”، ثم ينتقل الى صيغة الجمع ليقول لنا جميعا سوف ترون السلم المنتصبة بين الأرض والسماء اي المجد الإلهي الذي يعطيكم اياه ابن البشر الذي هو نفسه ابن الله الجالس على السلّم لأنه جامع في شخصه السماء والأرض.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

خطر المال/ الأحد 23 تشرين الثاني 2003 / العدد 47

المثل الإنجيلي في هذا اليوم يتحدث عن انسان أخصبت ارضه فصار غنيا وفكّر في ان يهدم مخازن القمح التي عنده ليتوسع ملكه ويجمع في الأبنية الجديدة كل غلاته وخيراته.

         ليس في هذا شر. هذه قاعدة من قواعد الاقتصاد. كان يمكن لهذا الإنسان ان يشكر لله ما اعطاه ويبقى على تواضعه. غير انه قال: “يا نفس لك خيرات كثيرة والآن استريحي وكلي واشربي وافرحي”. اعتقد هذا الرجل ان الغنى الذي اكتسبه يعطيه فرحا. وكان عليه ان يفرح بالله. فنعته الله بالجاهل. والجهل انه ادخر لنفسه وما استغنى بالله.

         لم يقلق يسوع على هذا الإنسان لكونه صار غنيا ولكنه حزن ان غناه الجديد جعله يستغني عن الله. لم يلم السيد هذا الرجل لكونه وسّع اهراءه. لامه فقط لأن انفراجه الاقتصادي جعله يعتقد ان الإنسان يكفي الإنسان وان الحياة كلها ان ينكفئ على ماله ويعتبره سببا للفرح. الدنيا المحسوسة، الملموسة بالمال كانت أفق هذا الرجل. ما كان الرب مبتغاه وما شعر ان حياته الحقيقية، العميقة هي التي يجعلها الرب في نفسه بالفضيلة، وكأن المخلص اراد ان هذه هي المبتغاة حقا وان الطريق اليها تُُسَدّ اذا سلك الإنسان طريق السرور بالماديات.

         كان يمكن لهذا الغني الجديد ان يقول في نفسه: اني احمد الله ان ثروتي هذه الجديدة سوف اوزع منها على الفقراء الذين لا يملكون خبزا يقتاتون به. هذه هي القاعدة الروحية عندما تكسب مالا ألاّ تسر إطلاقا بالكسب الا لكونك تصبح قادرا على توزيعه. فأنت مؤتمن عليه. تأخذ منه كفايتك وما يفضل عنك يصبح بمنطق الائتمان الإلهي ملكا للمحتاجين. الشيء المسجل لنا في السماء ليس المال الذي نربحه ولكن المال الذي نعطيه لأن ما يفضل عنا يصبح حقا للفقراء علينا. فالله يتصدق على المساكين من مال وصل الى يديك. وانت لست فوق احد اذا اعطيته ولست افضل ممن تعطيه. هذه نعمة من ربك ان انت تحننت.

         هذه دعوة الى عدم البذخ وعدم التباهي بالمال وعدم الاستعلاء على الفقراء.

         المال يمكن ان يكبلك. فاذا اردت الا يستعبدك فتحرر منه بإعطائه. تفرح عند ذاك اكثر. والذي يستلمه منك يزداد فرحه ايضا حسب المقول: “مغبوط العطاء اكثر من الأخذ”. والفقير قد لا يحبك لو انت احسنت اليه وقد يحبك. ولكنه في كل حال يشكر الله ويرى ان في الناس من يحبه. ولما كان محتاجا ولا يلتفت احد اليه كان يحسب ان الله لا يوفقه او كان يحسب ان الله يعذبه بالفقر.

         ليس الله ضد الادخار في الآونة الصعبة ولكنه ضد الاحتفاظ بالمال كله والناس جياع. ليس عند الله مال يعطيه. انه كََلَّفَنا بعضنا ببعض. ما انت معطيه بتهليل انما هو عطاء الله للفقراء الحزانى. اشترِ فرحك بالمشاركة.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

الصبر/ الأحد 16 تشرين الثاني 2003 / العدد 46

صبر أيوب وصبر المسيح والشهداء والقديسين الذين يشبهونهم ما معناه؟ ما هذه الفضيلة التي قال عنها السيد: «من يصبر إلى المنتهى يخلص»؟ هل تعني الانهزام أمام المصاعب وأن أستكين «ليعبر غضبُ الرب» أم تعني شيئا أعمق؟ ما من شك ان المعنى ليس ان نحتمل «يللي دمهم ثقيل» والذين يزعجوننا أو يؤذوننا خوفا من ان نواجههم. اذ ذاك يكون هذا هروبا واننا نفضّل الراحة على حل مشاكلنا مع الناس. أمام الوجود الموجع لا يطلب منا الرب مجرد هدوء الأعصاب أو لا مبالاة لأنك ان تركت الأشياء المزعجة تسير مسيرتها ولم تصلح الأوضاع التي أنت قادر على إصلاحها تكون قد اشتركت بالشر المتفشي حولك.

الصبر هو أولا ان تصلي من اجل الآخر لتحل عليه نعمة الله لكي يتوب وتتحسن حاله فيشفى من مصائبه. طبعا هناك إصلاح في كل منا يتطلب زمنا. الصابر هو من اعتبر ان الزمان موجود وأنّ تحسُّن الآخرين يتطلب نعمة من الله. ثم يعرف الصبور ان الهدوء الذي يواجه به الآخرين عنصر من عناصر الإصلاح، والهدوء فيه طلب لرحمة الآخر الذي صارت حياته صعبة. الصبر إذًا هو أولا موقف من الله الذي لا يغير نفوس الناس في اللحظة إذ ينتظر مشاركتهم في عطائه وارتضاءهم للفكر الإلهي، ولذلك قال صاحب المزامير (37: 7): «انتظرِ الرب واصبرْ له». أنت تعرف ان الله معينك في احتمال المشقات وانك في حاجة إليه لاحتمالها.

ان تصبر يعني انك لا تستعلي ولا تكره ولا تعبد ذاتك وأنت تتفهم الآخر في غضبه أو كبريائه. خذ هذا الآخر إلى قلبك عساه يدخل منه إلى قلب الله. كن شفوقا حتى النهاية واكسر قلبك بالتواضع. تواضع ليس فقط أمام الله ولكن أمام الناس. أبو الرأفات عند ذاك يرحمك، ويضمك يسوع إلى صدره ويربيك في الزمان الطويل الذي يمر عليك بانتظار رحمته للآخرين.

وإذا حسبت انه ينبغي ان تلوم أو ان توبخ فافعل هذا بلا صراخ ولا كبرياء ولا تحسب نفسك انك أعظم ممن اخطأ إليك. ولكن لا نحتاج إلى لوم أو توبيخ كل وقت. غير اننا في كل وقت نحتاج إلى الإشفاق على الذين عذبتهم الحياة. وإذا كنت وديعا فهذا خير سبيل إلى تصحيح الخطأ عند الآخرين. ولكنك لن تصبر ما لم تتحرر من الغرض، من الأنانية. تعلَّم الا تطلب شيئا لنفسك، الا تشترط شيئا على من أعطاك الله ان تعينه.

فأنت لن تصبر الا إذا كنت مستقلا وحررت نفسك من الذي تصبر عليه. إذا كان احد سيدا عليك فليس لك في الصبر نصيب. أنت ترى الذين لا يفهمون وترى من ليس عنده محبة. كذلك ترى المنافقين. كل هؤلاء اشملهم برحمة الله التي فيك. وإذا تعلمت ان كل إنسان جريح وملقى على طرق الحياة فبلسِمْ جراحه واعتنِ به ولا تطلب أجرا ولا شكورا. افرح بكل الناس في كل حين وعزِّهم عن شقائهم وابتسم لهم واحتضنهم وكن صادقا معهم باستمرار.

هذا كله مجموعا هو الصبر لكونه إرضاء لله تقوم به كل يوم ولو كنت متعبا من كثير من الناس، هؤلاء الذين مات المسيح من أجلهم.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

الأحوال الشخصية/ الأحد 2 تشرين الثاني 2003 / العدد 44

في الدورة الأخيرة للمجمع المقدس جرى تعديل هام لقانون الأحوال الشخصية والمحاكم الروحية. وذلك في عدة نقاط اذكر منها ما يهم المؤمنين جميعا. جاء القانون في ثمانية ابواب فصلا اول، وجاء موضوع تشكيل المحاكم والأصول فصلا ثانيا.

         راعينا ما هو دقيق وغير قابل التغيير حتى من قِبل المطران (الزواج بغير مسيحي لا يستطيع المطران ان يجيزه) وراعينا ما يسمى التدبير اي ما يجوز حله لمصلحة المؤمن. مثلا منع زواج الدرجة الرابعة (ابناء العم والعمة والخال والخالة) يستطيع راعي الأبرشية ان يرفعه. زواج الكاهن عند الترمل للمطران ان يبيحه (حسب ظروف هذا الكاهن العائلية او سنه).

         في موضوع الإنفاق ألزمنا المرأة المرتاحة ماديا ان تنفق على زوجها الفقير. فيما يختص بالأولاد عند انحلال الزوجية تراعى دائما مصلحة الأولاد في تحديد من يولى تربيتهم. غير اننا في المادة 57 شرعنا ان الصبي يبقى مع أمه حتى الرابعة عشرة والابنة حتى الخامسة عشرة. ثم تحكم المحكمة مع اي من الوالدين يكون الولد. لاحظنا ان الحضانة تسقط في بعض الأحوال (عند العجز او التقصير بأداء المهمة، اذا تزوج الحاضن وألحق هذا ضررًا بالقاصر، عند اعتناق الحاضن دينا آخر، عند سوء السلوك).

         ولكن دخل مفهوم إبطال الزواج -وهذا جديد- من أسبابه اذا كان احد الزوجين غير اهل لممارسة الحياة الزوجية. هذا سوف تتبينه المحاكم الروحية لأنه لم يكن واردًا.

         لا جديد في موضوع الطلاق اذ يبقى لعلة الزنى او ما هو بحكم الزنى. وهنا يجب التذكير ان الكرسي الأنطاكي في موضوع الزنى لا يفرق بين الرجل والمرأة. لم يبقَ أثر لما كان يسمى فسخ الزواج او لذكر عدم الانسجام بين الزوجين. الطبائع تختلف او لا تختلف، عدم انسجام هذه كانت امورا مطاطة وتخضع لمزاجية التقدير عند القضاة وتفضي الى سوء استعمال القانون. غير ان القانون تبنى فكرة الهجر حتى ثلاث سنوات. اذكر بأن مفهوم الهجر كان جديدًا علينا ولكنا تبنيناه لأسباب حسبناها عملية.

         اكثر ما هو لافت في القانون ان القاضي المنفرد او هيئة المحكمة ممكن ان يختارهم المطران من العلمانيين اذا مارسوا المحاماة او القضاء عددًا من السنين. ويمكن ان يكون القاضي امرأة. لم نستطع ان نفرض إجازة الحقوق على الكهنة اذ ليس عندنا من يحمل هذه الشهادة.

         بقيت السلطة الأبوية على الأولاد ولكن لا يلاحظ القانون سلطة على المرأة إلا من حيث انها تتبعه الى سكنه.

         هل سيغير تعديلنا شيئا في عقلية الناس بحيث يدركون ان الطلاق ليس أمرا سهلا؟ هذا عندي تابع إلى تربيتنا الروحية والى جدية القضاة. لماذا قضاة علمانيون؟ ما من شك انه حيث كانت هيأة من ثلاثة قضاة يساعد القاضي العلماني في الشؤون العلمية.

         يبقى ان كل هذه المسيرة نحو الأفضل تكتمل إذا أعدنا دور كاهن المصالحات لنقلل من الدعاوى ففي خبرتنا القديمة أن بعضا من المتخاصمين تصالحوا. في تفكير عصري يمكن عرض المتخاصمين على طبيب نفسي قبل الدخول في المحاكمة كما يمكن تعيين مساعدة اجتماعية لتزور العائلة وإبداء النصح.

         لقد أردنا أحكاما قانونية تظهر قدسية الزواج الذي صار في حالة خطر. وقد أردنا الا يتأذى الاولاد من خصومة ذويهم ما امكن ذلك. العائلة هي مكان الدفء الذي يساعد على ان يكون الولد سويا وان يحافظ على ايمانه اذا كان اهله على الإيمان.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

وضعنا القانوني في أميركا/ الأحد 26 تشرين الأول 2003 / العدد 43

أبرشية نيويورك وأميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) أَحسّت انها تحتاج إلى ان يكون عندها وضع قانوني مميز او خاص يجعلها تدير شؤونها الداخلية بواسطة مجمع مكاني مؤلف من الميتربوليت والأساقفة بدءا من الحاليين وهم اربعة بحيث يسوس كل منهم منطقة تدعى أُسقفية فلا يبقى مَن كان عليها اسقفا فخريا بل يكون له شعب هو يرعاه وشيء من «الذاتية» تمنحه حرية الحركة على أرضه، وبحيث يتخذ لقب المدينة التي يعيش فيها لا لقب مدينة أثرية، دارسة في هذه البلاد.

ويبقى الميتروبوليت عضوا في المجمع المقدس كما يكون رأسا لهذا المجمع الإقليمي. ويحق للأساقفة ان يحضروا اجتماعات المجمع الأنطاكي اذا دعي اليه الأساقفة في الوطن والمهاجر الى جانب مطارنة الأبرشيات.

لقد ظهرت فكرة التمايز عن ابرشيات الوطن بتكوين مجمع خاص بأن العدد الكبير من المؤمنين يتأمركون. وقد اخذت هذه الأجيال تصلّي بالانكليزية وتنصهر في المجتمع الاميركي. مع ذلك يبقى عندهم حنين إلى أنطاكية وإلى جذورهم هنا. بعد سنوات عديدة قد يصل الارثوذكسيون من مختلف القوميات إلى الانصهار في كنيسة واحدة، ولكن الفكرة لم تنضج بعد، ولذا يبقى اليونانيون تابعين القسطنطينية، والعرب تابعين انطاكية، ويتلاقون بالمحبة، وهيئة اساقفة تمثل الجاليات كلها.

من ناحية الانتخاب، الميتروبوليت، بعد ترشيحه هناك، ينتخبه المجمع الأنطاكي وفق ما كان حتى اليوم. اما الأسقف فترشحه الجمعية العمومية في اميركا مؤقتا، وقد ترشحه فيما بعد هيئة من منطقته، وينتخبه الأساقفة مع وفد من ثلاثة مطارنة اعضاء في المجمع المقدس، وتتم رسامته هناك.

هذا ما قرره المجمع المقدس في دورة الخريف في دار البطريركية في دمشق ووضع حدا لالتباسات وتشنجات وخلافات هنا وهناك. واتُّخذ القرار في جو من المحبة والرجاء على اننا نحن وأهلنا في المغتربات سائرون معا في انتماء انطاكي واحد وفي عزم واحد على دعم الإيمان الارثوذكسي عندنا وعندهم. وما زاد الناسَ قناعة بحلّ موافق كهذا أن الأجانب الذين اهتدوا إلى الإيمان الارثوذكسي إنما دخلوا الى الإيمان الارثوذكسي من بوابة انطاكية، وليس عندهم ولا عند المتحدرين من أصل عربي اية رغبة في تأليف كنيسة منفصلة.

من الناحية اللاهوتية، التحصيل الكبير أن كل اسقف صار مستقلا عن الآخر ولو التحم به بالأسقفية الواحدة. وهذا ما يشجعه على اتخاذ مبادرات في منطقته. في المبدأ لم يكن قبل بضعة قرون اسقف بلا شعب، فلا يمكن بتر رئيس كهنة عن شعبه. والمحصّلة الرعائية ان هذه الأبرشية تبقى واحدة معنا نتبادل الخبرات والفكر، ورجاؤنا ان إعلان هذه الخطوة يمكّن العلاقة بين الكنيسة الأمّ وبلاد الاغتراب.

طبعا النهضة لا تأتي آليا من تغيير شيء من الإدارة. انها تنزل من الروح القدس الذي ينشئ مؤمنين عظاما ومفكرين مبدعين. ان انطاكية تبقى مجرد لفظة ان لم تكن مقرونة بالقداسة وفكر لاهوتي جديد يواجه الإنسان الحديث والتحدّيات البارزة ليكون المسيح الكل في الكل.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

العائلية/ الأحد 19 تشرين الأول 2003 / العدد 42

هذه الكلمة تعني العصبية العائلية اعني التناصر المرضي بين افراد العائلة الصغرى المكونة من الوالدين واولادهم او بين البيوت المؤلفة لعائلة كبرى يجمعها جد واحد حي او جد قديم. هناك تلاحم صحي بين افراد البيت الواحد او الأنسباء لا يقوم على التناصر في الظلم والبغضاء لعائلات اخرى ولكنه يقوم على التعاضد البناء ونصرة الضعيف والفقير بين الأقارب.

         هذا التناصر لا يؤلف هوية. وقد وضع امين معلوف كتابا اسماه “الهويات القاتلة” اذ الهوية تقوم ضد الهويات الأخرى. واوضح الكاتب العظيم ادوار سعيد انه لا يؤمن بالهويات مع كونه كان يؤمن بوطنيته الفلسطينية ويناضل من اجلها ومع كونه كان يعتز باكتسابه الجنسية الأميركية. ولكن كان يرى ان هذه الانتسابات لا تعرف شخصيته. الإنسان ينتسب الى الإنسانية، وكل إنسان قريب له، والإنسان ينوجد بقدر محبته للآخرين ويتسع صدره اذا عطف على الآخرين وخدمهم.

         وتزول عندنا نحن المؤمنين الهوية العائلية اذا فهمنا اننا بالمعمودية ننتسب الى المسيح وتاليا إلى كل من يحبه. وكذلك ننتسب ببشريتنا الى كل بشر ولا ننتسب الى عائلة الا اذا احببناها بالخدمة وقويناها بالعطاء وعرفنا اننا محبوبون فيها. ولكن كل انسان يمكن ان يحبنا وان نحبه. عائلتنا واحدة هي عائلة المحبين والمحبوبين. نحن عائلة الله وهو وحده أبونا. وما والدنا بأب لنا الا اذا تصرف كالله الآب الذي يلدنا دائما برحمته. نحن لم نولد من لحم ودم – وهذا زائل – ولكنا نولد من مشيئة الله. نحن احرار من ضغط الأعصاب علينا، ونتحرر بالمسيح من كل وطأة العصب.

         ولست ارى سببا لتعلقنا المفرط بالعائلة الا لننال منها نفوذا ومجدا. ومن طلب المجد ليس عنده مجد في ذاته اي لا يكتفي بأن الله يمجده بالعمل الصالح. فقد يكون المرء تافها فيفتش عن فخر يأتيه من آخر. ونحن قيل لنا: “مَنِ افتخرَ فليفتخرْ بالرب” اي بجمال الرب وحنانه، وهذا الحنان يجعل كلا منا بشرا سويا ويكفيه ليكون بشرا سويا.

         واذا كان المال لا يزيدنا شرفًا فالنفوذ لا يزيدنا شرفا. ومن تمتع بنفوذ عظيم في ذاته فلكي يجعله في خدمة الذين لا نفوذ لهم. ومن كان غنيا فليحسن، ومن كان ذكيا فلكي يعلم الذين كانوا دونه ذكاء. والمال والنفوذ والذكاء تموت جميعا بموت الإنسان. وبالموت ننفك عن العائلة. والعائلة لا وجود لها في السماء لأن الإنسان يموت وحيدا ويصير قريب الله بالملكوت. اما عائلة الله المؤلفة من الأبرار والطاهرين فهذه تبقى في الملكوت. لذلك لا ينبغي ان نشتهي الملك ولا السلطة ولا الزعامة وألاّ نفاضل بيننا وبين الآخرين فالله وحده يفاضل ويجعل بعضا عن يمينه وبعضا عن يساره في ملكه. وقد لا يكون والدك او والدتك او جدك معك في الملكوت. واذا كنت مع الله هنا وما كان ابوك او اخوك معه فهما ليسا بشيء في عينيك، ويكون ما تسميه “غريبا” عظيما في عيني الله. فالغريب المحب للرب هو اخوك وامك وابوك. تذكرون ان بعضا قال ليسوع: “ان امك وإخوتك واقفون خارج الدار يريدون ان يكلموك”. فأجاب الذي قال له ذلك: “من امي ومن إخوتي؟”، ثم اشار بيده الى تلاميذه وقال: “هؤلاء هم امي وإخوتي. لأن من يعمل مشيئة ابي الذي في السموات هو اخي واختي وامي” (متى 12: 47-5.).

         في الكنيسة هذا واضح. فبخلاف ما يقوله بعض، الكنيسة ليست مؤلفة من بيوت. انها مؤلفة من أفراد فقط. وعلاقتك بالكنيسة مباشرة بالمعمودية. فأنت لا تعبر بعائلتك لتصل الى الكنيسة. فقد يكون بعض من اهلك بعيدين عن المسيح وليس لك اذًا معهم رباط. انت تبشرهم باعتبارهم غرباء. الكتاب لم يتكلم عن العائلة الا في حديثه عن الزواج. وفي الزوجية انت مرتبط بزوجتك باعتبارها واحدة معك في المسيح. لذلك لا تقوم زوجية بين مؤمن وغير مؤمنة. وحدتك مع زوجتك قائمة على ان يسوع فيك وفيها معا. هنا الرباط ايضا ليس باللحم والدم بل بالمخلّص. وكل لحم يموت واما المسيح فهو وحده لا يموت.

         كثير من مشاكلنا اننا اهملنا انتسابنا الى عائلة الآب واخترعنا لأنفسنا عائلة من لحم ودم اي أبدلنا المسيح غير الفاني بالفاني. لا وجود لنا كنسيا فاعلاً ان لم نُلغِ الهوية العائلية لندرك اننا واحد مع المؤمنين فيتجلى الله هكذا بأحبائه.

Continue reading