Category

نشرة رعيتي

رعيتي، نشرة أسبوعية تصدر عن مطرانية جبيل والبترون وما يليهما منذ العام 1981 وتوزع في كنائس الأبرشية وعلى أبنائها. تتضمن هذه النشرة زاوية ثابتة بعنوان «كلمة الراعي» يخاطب من خلالها المطران جورج (خضر) أبناء أبرشيته بمقال أسبوعي مُصاغ بقالب بسيط يسهل إيصال الكلمة بعرائها وحدّتها ومتطلباتها إلى كل الناس. وقد بوبت هذه المقالات ونشرت في سلسلة من ستة كتب بعنوان «الروح والعروس» صادرة عن منشورات مطرانية جبيل والبترون وما يليهما.

1997, مقالات, نشرة رعيتي

السلوك الفصحيّ / كلمة الراعي «رعيتي»، الأحد 4 أيار 1997، العدد 18

يوم الفصح ظـهر السيد للتلاميذ مجتمعين “وقال لهم: السلام لكم. ولما قال هـذا أراهم يديه وجنبه فـفرح التلاميذ حين أبـصروا الرب”. وكان توما غائـبًا فلم يؤمن. ولكن في الأحـد اللاحـق للـقـيامة ظـهـر السيد لهم ثانية وتوما معهم. وتكـرر المـشهد نفسه عند دخول الرب: السلام لكم، والرب مشـرق بالـنور الفـصحي وآثار آلامه عليه.

كل منا آلامه فيـه بادية أو غير بادية، جسـديّة أو نفسيّة. انه ليس وحده. يكـلّمه يسـوع، ولمـجرد انعطافه عليه يعطيه سـلامًا، يقيمه في السلام. ولكن هـذا الإنسان المتـوجع يـستضيء بنور للمـسيح غـير منظور، بتعزية. يحسّ بقربى يـسوع، ويصبح بدوره مضيئًا. الألم والفـرح يترافقان ويتعايشان في إنسان واحد.

المتألم مصلوب وقـائم معًا. ما جرى في الرب يرتسـم في نفوسـنا، في مـشاعرنا.ليس الموجع كغير الموجع، كيف يمكـنك ان تخفف من وجع الحصى في الكلى. هذا ليـس من الخيال. وفـي كثرة من الأحوال لا شفاء لك. مع هذا يمكنك أن ترمي نفسك على حضن يسوع إذ يبقى المعزّي إن لـم تحدث الأعجوبـة. وقد تكـون ملمًّا بحالتك وتعرف غالبًا ان المرض الذي اعتراك هو إلى موت. لا يبقى لك، إذ ذاك، الا مهمة واحدة، ان تسـتفيد حتى الأقصى من كل إمكـاناتك وان تقول للرب: هـذا ما يبقى من هذا الجسد. ليس عندي الا هذه الطاقات. تعال إليّ وأنا في حاجة اليك، وسـد الثغرات بنـعمتك، وكن أنت الـضـيـف العظيم في هذا الجسد المكسور وهذه النفس الحزينة.

يدخل عليك المسيح والأبواب مغلقة. نفسك حزينة وأَقفلت كل شيء حولها وتريد أن تنطوي في حزنها. إذا قرع يسوع باب نفسك افتح له، إذ ذاك يدخل ويتعشى معك ويُجلسك على مائدة حبه. يسوع قادر أن يقيم عرسًا مع نفسك التي ظنت انها متروكة.

من رآك متعزيًّا يعرف سرك. يفهم أن المسيح افتقدك وأعطاك سلامه وانه الآن قاعد عندك. ربما قضيتَ أسبوع الآلام والعيد على فراشك وكنتَ شاعرًا بحضور المسيح إلى جانبك. فصحك يكون قد كان كاملًا.

هناك ما كان أشد من المرض محنةً عنيتُ به الخطيئة التي تعاودك المرة تلو المرة. وهذه ليست الأفتك. أفتك منها الخطيئة المحبَّبة إلى نفسك والتي تقيم فيها. أمام هاتين تدخل في تهجئة الفصح إذا بدأ وعيك للخلل الذي أنت فيه. وتكون مشيتَ خطًى إذا قلت في نفسك: “اني أقوم وأعود لأبي”. لسنا بعد في فصح العمق.

أما إذا كفرتَ بنفسك وخطّأتها رجعتَ إلى حنو الآب وارتميتَ في حضنه حقا فيكون وجودك الداخلي قد عيَّد الفصح.

الذي خرج من القبر ظافرًا يترجم ظفره فيك حلاوةً في نفسك أو طراوة. فصحك، عند ذاك، يكون ممدودًا طوال العمر.

Continue reading
1992, مقالات, نشرة رعيتي

نشوء الزواج / كلمة الراعي “رعيتي”، الأحد 9 آب 1992، العدد 32

الزواج عهد مؤسس على الطبيعة. ينشأ بالحب الذي يجمع رجلًا وامرأة. ولكن هناك مجتمعات قديمة لا تطلب الحب شرطًا ولكن لا بدّ له ان يتكوّن قبل الزواج أو بعده. هناك جاذب يكشفه القول الإلهي منذ التكوين: «ليس جيدًا أن يكون الإنسان وحده على الأرض. فلنصنعنَّ له مُعينًا على شبهه». فاللقاء بين شخصين من الجنسين يضع مبدئيًّا حدًّا لهذه الوحدة.

أجل الحب قائم في الطبيعة، يختلط بما لهذا الجسد من نزعات. يلتقيها وتلتقيه. فالشاب يحسّ بضرورة المرأة إلى جانبه. ميل عام غير محدّد حتّى يجد في مرحلة من مراحل نموّه ووعيه ان نزعته إلى وجهٍ معيّن يلغي الوجوه الأخرى. إذ ذاك يتوحّد بهذا الوجه أي يرى نفسه واحدًا معه. ولا يرى نفسه وطاقاته محقّقة إلَّا مع هذا الشخص. الزوجة الواحدة والزوج الواحد شيء من الطبيعة البشريّة لأنّ الإنسان الناضج عاطفيًّا لا يرى نفسه إلَّا مع إنسان واحد من الجنس الآخر. ما عدا ذلك مراهقة. ان تعدُّد الزوجات تنقُّل وعدم استقرار وعدم رضا. فأنت تتعهّد من تحب وتبقى معه وحده. لا يمكنك احترامه إلَّا إذا كان وحده معك. ولا تتركه أصلًا لأنك معه في صباه وشيخوخته. ولك في كل أطوار عمرك فرح واكتمال.

نحن نتّخذ الطبيعة كما هي. نبدأ بها. لا نحتقرها لأنّ «الزواج مكرَّم ومضجعه غير دَنِسٍ». نحن المسيحيين لا نكره الجنس. نعرف ان الله خلقه وانّه جزء من الكيان البشري، ولكنّه يحتاج إلى ضابط لأنّ الإنسان لا يتّزن بلا ضوابط. والقناة الطبيعيّة للجنس هي الارتباط الدائم بامرأة. الجنس لا يكون نزوة ولا يتغيّر بحسب المزاج. يكون في حراسة الشريعة الإلهيّة.

ذلك ان الإنسان معرّض لتقلّبات النزوة والإغراء، ومحبّة المسيح تنقذه من ذلك. بالزواج يطفئ لهيب الشهوة ويجعلها خاضعة للحب.

الجسد يذهب إلى حيث يشاء. فإذا نزل الحب عليه يجعله إنسانيًّا لأنه يقيمه في علاقة إنسانيّة. الحب شخصي، يجعلك شخصًا بعد أن كان جسدك شيئًا من الطبيعة. كنتَ تلقى أجسادًا. تصير الآن في لقاء وجه. الحبّ والجسد يتواصلان. كلّ منهما يمكث في الآخر ولا يفترقان.

وإذا احتدم الحب يصبح هوى. الإنسان تحت وطأة الهوى يخسر حريته. الهوى جارف يستولي على الآخر حتى الاستعباد. الشخص الآخر يصير الكون كلّه، معبودًا كالإله أو كأنّه الإله. هذا هو الدمار لكل اتّزان.

أمَّا المسيح إذا حلّ فيعيدنا إلى التوازن. يلغي الهوى الجارف ولا يلغي الحب. يزيل الأنانية، الاستبداد الذي يحكم العاشقين. يعيدهم إلى الحريّة الداخليّة. تخمد النار. يبقى الحب نورًا. ينتظم الجسد.

عند ذاك نحب الحبيب كما المسيح أحبّ الكنيسة. المحب يبذل نفسه عن شريكه، يعلّيه. يتطهّر به ويطهّره. يموت من أجل الآخر. العاشق يميت الآخر. الـمُحب يعاهد حبيبه كما عاهد المسيح الكنيسة أن يبقى لها حتّى نهلية الأزمان. المحبّة إذا انسكبت في القلب فالروح القدس فيه. يحب الناس بالصّداقة، بالخدمة، بتضحيات لا تُحَدّ. الحب بين الذكر والأنثى، إذا صفا حتّى يصير انعكاسًا لمحبّة المسيح لأتباعه، هذا الحب ليس شيئًا آخر عن المحبّة التي نادى بها يسوع يُضاف إليها احتضان وحميميّة وعلاقة تعاش على صعيد الجسد حتّى الموت. وهذا ما نسمّيه الزواج.

فإذا عاهدنا بالمحبّة الدائمة شخصًا من الجنس الآخر وساكناه بلا أن نملي شرطًا عليه ما عدا المبادلة يُسمّى هذا زواجًا. الزواج هو المحبًة التي تعمل في اتّجاهين ويذوقها الكائن البشري من حيث هو مركّب من نفس وجسد. ينشأ الحب لأنّه قوّة. تشرف عليه المحبّة الإلهيّة. عند ذاك يقيم المحب والمحبوب معًا في مشروع عطاء دائم يزول مع الموت أو لا يزول حتّى يجيء المسيح ثانية ويتزوّج الكنيسة العروس في ملكوت أبيه.

Continue reading
2013, مقالات, نشرة رعيتي

اللبّ والقشور/الأحد 8 كانون الأول 2013 / العدد 49

إنجيل اليوم يُحدّثنا عن شفاء قام به السيد يوم السبت. وقضيةُ حِفظ السبت لعبت دورًا هاما جدا في حياة السيد. فمؤامرة اليهود لقتله ابتدأت عندما شفى يسوع الرجُل ذا اليد اليابسة يوم السبت (إنجيل متى 12: 10-13).

منذ ذلك الحين، يقول لنا الإنجيل، تشاوروا ليقتلوه لأنهم اعتبروا انه ليس فقط يخالف الشريعة كما شرحوها هم، ولكنه ينسف الكيان السياسي اليهودي. اذا أردنا ان نفتش عن السبب الحقيقي لمقتل يسوع في أذهان اليهود ورؤسائهم، لوجدنا أن السبب هو أن يسوع أراد ان يمدّ حدود شعب الله الى خارج اسرائيل، أن يُدخل الأمم في العهد القائم بين الله والناس، أن يُمتّع البشر جميعًا بحلاوة الله وبركات الله، وبالنتيجة أن يكسر هذه القوقعة التي كان اليهود مُرتمين فيها، وأن يضرب هذا الشعور بالتفوّق الذي كان لهم.

السبت كان رمزًا لهذا الانغلاق اليهودي، للعصبية اليهودية. ولهذا وقف اليهود ضد السيد هذا الموقف الصلب بسبب ما ظنّوه تجاوزًا للشريعة. جاء السيد وأراد أن يتخطى الشعبُ هذا العناد الذي كانوا فيه. أراد أن يُبيّن لهم أن السبت جُعل للإنسان وأن كل قانون وُضع لخدمة الإنسان. لم يُخلق الانسان للقانون. الشريعة مُسخَّرة في سبيل الانسان، في سبيل نموّه ومعرفته للرب. ولهذا أتى يسوع بشيء جديد في تاريخ البشرية وهو أنّه علّمنا ان الإنسان ومصالحه وقلبه وروحه أفضل من كل قانون، واننا قد نتجاوز القانون في سبيل هذا الانسان.

المهم أن تكون علاقتنا مع الله علاقة الروح مع الروح، علاقة القلب الانساني مع القلب الإلهي، لا علاقة عبيد خاضعين لقانون خارجي، ولا علاقة أطفال صغار بأبٍ متعسّف صارم بل علاقة الندّ بالندّ. المهم ان نُحوّل الوصية من شريعة مفروضة الى شريعة محبوبة. المهم أن نحبّ الوصية.

لا تسرق، لا تزنِ، أكرم أباك وأُمك… هذه تبتدئ كوصايا خارجيّة يتعلّمها الانسان تعلّمًا ويشعر أحيانًا أنها كابوس عليه لأنه يحسب اللهَ بعيدًا وخارجًا عنه وضاربًا إياه. أما المؤمن، فإذا عرف الله أبًا له وأدرك نفسه ابنًا لله، صار يُدرك ان هذه الوصية ليست كابوسًا يُفرض وليست كسبت اليهود، ولكنها أمرٌ محبوب وإشارة للخلاص. بهذا ينتقل من ديانة الطفولة، من ديانة الصبيان الصغار، الى ديانة الراشدين.

في المسيح يسوع انتقلنا من الخوف الى الحياة، الى الرجاء، الى الثقة. ولهذا فيما نحن سالكون فترة الميلاد هذه، جدير بنا أن لا نعتبر المسيحية شيئًا خارجًا عنا، مجرّد طقوس وعادات اجتماعية مثل سبت اليهود. لا نرتبكَنّ في إقامة مغارة الميلاد تحت شجرة العيد، بل فلنسعَ ليتحوّل قلبنا الى مغارة تستقبل المسيح. هكذا نجعل إيماننا في القلب رؤية للمسيح، التصاقًا به وحبّا لكي يولد المسيحُ فينا ينبوعَ خير وعطاء ويصبح ربنا كل شيء في حياتنا. هكذا نزداد في محبة يسوع حتى يقول المسيح في نفسه: كل بيت في هذه الأبرشية بيت لي وكأني أُولَد فيه وفي قلوب أبنائه كل يوم.

Continue reading
2013, مقالات, نشرة رعيتي

هل القداس طويل؟/ الأحد 1 كانون الأول ٢٠١٣ / العدد 48

كثيرا ما نسمع هذا السؤال في أوساطنا: لماذا لا تقصّرون القداس الذي يطول ثلاث ساعات؟ الحقيقة ان القداس يبدأ من إعلان الكاهن: مباركة مملكة الآب والابن والروح القدس، وانه في إداء صحيح، لا يدوم أكثر من ساعة بما فيه العظة، وقد يمتد بضع دقائق لو كثرت المناولات. فإذا جاء الترتيل بلا إطالة مستهجنة بالتأدية المألوفة عندنا لا تستغرق الخدمة أكثر من ذلك. ولو حضر المؤمن صلاة السَحَر من أوّلها يكون رقم ثلاث ساعات أيضًا مبالغًا فيه.

طبعا هناك إصلاح للطقوس مرغوب فيه، لكن المشكلة ليست في الطول والقصر ولكنها في الفهم او عدمه. فالانتباه متعلق باستيعابنا للخدمة الإلهية ونحن لا نستوعبها لأننا لم ندرسها ولم نطّلع على تفسيرها. فإذا أدركنا المعاني إدراكًا جيدًا لا يظهر الزمان لنا ممدودًا بلا نهاية. ان نصل الى المعنى ونستحبه هذا هو المطلوب. والوصول الى لب الصلاة يفترض مسبقًا تحصيل التعليم المسيحي الذي بُنيت عليه الخدمة. كذلك فهم الرسالة والإنجيل تسبقه مطالعة للعهد الجديد في البيت. اذ ذاك تأتي القراءتان تذكيرا بما نحن نعرف، فلا نتيه عن المعنى لو ضاعت بعض الكلمات في التنغيم. واذا كشف لنا الترتيم عقيدة من عقائد الإيمان تكون أذهاننا مؤتلفة مع هذه العقيدة.

شرح القداس أساسي حتى نفهم تتابع أجزائه واتصالها ببعضها. فإذا أنت وقفت على هيكلية النص لا يمكن ان تضجر كما لو كنت غير واع لهذه الهيكلية. ففي حالة جهلك للبنية كلها تحس بتراكم الكلمات والأناشيد والأفاشين فيتعبك التراكم. ولكن اذا عرفت الارتباط بين هذه الأقسام يسوقك كل جزء الى الجزء الآخر فتتكامل البناية عند الختام وتحس انك أدركت النهاية بانسجام.

ولذلك لا بد أن تسعى الى تلك الكتب او النشرات او الحلقات التي تشرح لك القداس الإلهي، ونحن نحاول مع المحاولين لنجعل هذا بمتناول يدك. ولعلنا فاعلون هذا في “رعيتي”.

غير ان الصعوبة الكبرى التي نحاول ان نذللها آتية من ان القداس لا يمكنك تحمّله ما لم تكن انسانا مصليا خارج القداس. فإذا قمت على صلاتك صباح مساء واعيًا، خاشعًا، تقودك صلاتك الفردية هذه الى صلاة الجماعة. دعاؤك في بيتك والشارع والسيارة يحملك الى الكنيسة التي هي ملتقى الداعين والمدعوين باسم الرب. النفس تميل الى المسيح في تعابيره. والقداس هو التعبير الأسمى عن السيد.

التقِ المعلم الإلهي في كل يوم تلقه صباح الأحد ايضًا بين أصحابه في بيعته. اذا كنتَ مع يسوع في عشرة طيبة على الدوام كيف تتجاهله اذا ظهر لك في أطيب ظهور له اي في الذبيحة؟

واذا انكشف لك سر المودة بينك وبينه وتراءى لك ان تحيا مع المسيح عشقًا لا يوصف، يبطل كل سؤال عن طول الوقت وقصره. اذا كنت من الذين يلتمسون وجهه لتحيا به، تندم على قلة الوقت ويزول كل بحث في الأوقات.

Continue reading
2013, مقالات, نشرة رعيتي

إن أردت أنْ تكون كاملاً/ الأحد 24 تشرين الثاني 2013/ العدد 47

لا شك ان هذا الإنجيل صعب جدا. السيد يقول عن الأغنياء ان دخولهم إلى ملكوت السموات عسير، بل انه يعسره إلى حد انه يقول: “ان دخول الجمل ثقب الابرة لأسهل من دخول غني ملكوت الله”.

بالطبع حاول المفسرون المتساهلون ان يهينوا الأمور على الناس وان يقولوا ان “ثقب الابرة” ليس بالفعل ثقب الإبرة، ولكن المقصود باب في أورشليم، وبالتالي ان الجمل كان يستطيع ان ينحني وان يدخل الباب المدعو “ثقب الابرة”، الى ما هنالك من تأويلات عاطفية ارادها الأغنياء لأنفسهم ليسهلوا الأمور على سواهم.

ولكن هذا لم يكن المقصود من النص الالهي لأن كل سياق البحث وكل الحديث الذي جرى كان يعني ان دخول الغني الى الملكوت امر صعب للغاية، وانه لا يستطاع عند الناس. ومع ذلك استثنى السيد بقوله: “ان ما كان غير مستطاع لدى الناس مستطاع لدى الله”. فكيف تكون اعجوبة الله وكيف يدخل غني ملكوت السموات؟ لم يقل الكتاب انه يدخل ويبقى غنيا. ولكن ذاك الذي كان غنيا يستطيع الله بجهد منه ان يُدخله باب الملكوت. وماذا يبقى من غنى الغني؟ أيبقى هذا الغنى واسعا، كبيرا، ضخما ولا يتغير شيء في سلوك هذا الانسان، ومع ذلك يقحمه الله في ثقب الابرة؟ هذا طبعا لم يقله الكتاب، ولذا يجب ان نفتش عن طريقة اخرى.

لا يبدو ان الكتاب، والله المتكلم فيه، لا يبدو ان الكتاب اعطى للأغنياء وسادات حريرية ينامون عليها. لم يكن المسيح حريريا. انه كان لطيفا وكان حازما وشديدا بآن، وكانت تعابيره دقيقة للغاية.

ماذا كان في حديث الشاب والمعلم؟ شاب كامل في الظاهر، تمم الوصايا جميعها من دون ان يفتخر. قال فقط: انا أطبّق هذه الوصايا منذ صباي، ماذا ينقصني بعد؟ جاء ليتعلم، جاء ليصنع احسن من الوصايا. وقال له يسوع: “ان اردت ان تكون كاملا، فبع كل ما لك وأعطه للمساكين وتعال اتبعني”.

وهنا ايضا جاء المفسرون المرتزقة الذين يعتاشون من وجهاء الارض وقالوا: لماذا تريد ان تكون كاملا؟ ليس من الضروري ان يكون كل انسان كاملا. فنحن يكفينا ان نصنع الوصايا، وهذا الكمال انما هو للرهبان وليس لنا. لا. يسوع لم يتكلم عن الأديرة ولا عن الاسقفيات ولا عن شيء من ذلك. قال لهذا الشاب الغني الذي امامه: “تستطيع ان تكون كاملا”. لم يقل له: “اترك وضعك لتذهب الى وضع آخر، لتعيش في مكان آخر”. قال له: انت تعيش في هذه الدنيا، هذه التي تريدها. هنا يمكن ان تكون كاملا. لم يوصِ يسوع بالكمال بل أمر به. فقد قال: “كونوا كاملين كما ان أباكم السماوي كامل”.

إن اردت ان تكون كاملا فاتبعني. ان اردت ان تنتقل من العهد القديم الى العهد الجديد الذي هو عهد كمال، فبذر اموالك. أليس مكتوبا عند داود النبي: بدد، أعطى المساكين فيكون ذكره مؤبدا (مزمور 111: 3). العهد القديم نفسه يشير الى تبديد الاموال، الى عطاء كامل.

أنت لست بما لك. انت وكيل. أُعطيت ما أُعطيت فاستلمه الى ان أجيء. الله فوضك بأمور الدنيا وانت تستلمها كوكيل امين لمصلحة الله، لمصلحة الذي سلمك اياها.

وكيف تحافظ على اموال الله؟ لمصلحة من ترعى؟ المهم ان يكون المال بين يديك وديعة وليس ملكية مطلقة قدسية. القدسية للانسان فقط. انت وكيل وعليك ان تجعل المحرومين اسيادا عليك. اي يجب ان تشعر بالجوع الذي يشعرون هم به. القضية كلها قضية محبة: تعطي وتشعر مع الآخر. تخرج اليه في جوعه وعريه وحرمانه. هذا يعني معاناة شخصية وانسلاخا عن الذات. العطاء الحق هو بالدرجة الاولى ألم الانسلاخ عن الذات والالتصاق بالمسيح الذي في كل انسان. بهذا نعترف بالحقيقة ان ابن الله كان انسانا وانه في الانسان المحروم سيد علينا.

Continue reading
2013, مقالات, نشرة رعيتي

صوم الميلاد/ الأحد 17 تشرين الثاني 2013 /العدد 46

منذ ثمانية قرون تبنّى الكرسي الأنطاكي صوم الميلاد الذي بدأناه منذ يومين في ١٥ تشرين الثاني. وروحه كروح الصوم الأربعينين، أعني رياضة النفس وتجميلها لاستقبال المسيح، فمن أساسات الصيام أن نوفّر ثمن طعام ونعطيه للمساكين.

كل صوم هو مشاركة. يصوم الانسان من أجل الآخرين. فمن قسا قلبه يبطُل صيامه. ومن أبغض أخاه يبطُل صيامه. كل شيء قلب وتليين قلب. الإمساك وسيلة إن نحن أَعطينا. فإن كنت ممدودًا الى الآخرين يجيء الله اليك بالرحمة. من أمسك عن طعام يعرف انه ممسك في سبيل الله فيساعده ذلك على ان يكون مع الآخرين كما أمره الله ان يكون.

في حديث واحد، في العظة على الجبل (الإصحاح السادس من متى) يتكلّم السيد عن الصدقة والصوم، ويُنهي كلامه بقوله: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض”. ألا يُشتَمّ من هذا التتابع أن هذه أشياء مترابطة، فكيف نفكّ نحن ما جمعه الرب في فكره؟

وإن أردنا ان نزداد تعمقـًا فلا ننسين أن الانسـان غارق في جسده عن طريق اللّذّات وأن الصوم طـريـق ليتـحـرر مـن أَسـر اللـذّة. كيـف نهـرب من سجـن الحـواسّ الطـاغيـة؟ أليسـت إحـدى الطـرق أن نحُدّ من التمتـّع؟ فإذا كثـر التـمتـع على كـل صعيـد، يصبح لنا ساحـرا ومفـرّقـا، فلا فكر لنا الا فيه ولا شـوق لنا الا اليه. وماذا بعد؟ اللذّة البهيميّة، اذا انقضت، تولّد الخيبة، والخيبة تدفعك الى لذّة اخرى فتبقى هكذا في الدوّامة.

ثم انت تهـرب من الألـم باللذة. تهـرب من الألم لأنه يُشعرك بشيء من الموت وانت تخشى الموت. والخـائـف المـوت خاضع للعبوديـة (عبرانيين ٢: ١٥)، لعبـودية اللذّة التي يدفع بها عنه الموت وعبـوديـة ذاتـه. المـال والمجد والجنس (او الجسد على العمـوم)، هذه هي التي نريد اقتنـاءها لظنّنـا أننـا بهـا نغـلب المـوت. هـذه تعطينـا قـوّة فـنشعـر مـؤقتـا -ما دمنـا تحـت سيطرتها- أننا أحياء بها لأننا لـم نُـدرك بعـد أن الحيـاة الحقيقية هي المسيـح نفسـه حسـب قـولـه المبـارك: “أنـا القيـامـة والحيـاة” (يوحنا ١١: ٢٥).

فمـن بـركـات الصيـام انـه بالصَدَقة يَجعلنـا أَقـلّ تعبـّدًا للمال، وبالخلـوة التي لنا مع يسوع الحبيب أكثر بعدا عن المجـد، وبالإمساك أقل تبعيّـة للشهوة، رياضة من رياضات التقرّب، طريق الى الاتّكال عليه.

فلندخل في الأيام التي تفصلنا عن العيد في هذا اللون من ألوان التقشف عسى ألا نقع عشيّة العيد في التخمة.

الصاحون روحيا، المتهيئون بالتعفّف وحدهم يستقبلون السيد مولودا من أجل خلاص العالم.

Continue reading
2013, مقالات, نشرة رعيتي

البيت الرعية/ الأحد 10 تشرين الثاني 2013 / العدد 45

كل منا دعاه الله أن يكون راعيا لمن هم حوله، الأقربين اليه بالمسكن والعمل. ومسؤوليتنا تأتي من هذه المحبة الصادرة من القلب والشافية لمن لامسته فاستدفأ بها. والمحبة أوّلا انتباه ثم خدمة فاستمرار خدمة ليظهر صدقها ونحسّ من خلالها أن الرب ذاته يفتقدنا بها من خلال الوجوه التي تحنو علينا.

ولا شك أن الخليّة الاولى التي نمارس فيها العيش الواحد مع الناس هي العائلة وهي المكان الطبيعي لنموّنا العاطفي والطمأنينة المتّكلة على هذا النمو. تبدأ بالرجل وزوجته اولا، وينشأ البيت من حبّهما، من ذلك الذي قال عنه السيد: “ليس حُبّ أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه فدية عن أحبائه” (يوحنا ١٥: ١٣). وهذا المعنى أكّده بولس الرسول في رسالة الإكليل لمّا قال: “أيها الرجال أَحبّوا نساءكم كما أَحبّ المسيحُ الكنيسة وبذل نفسه عنها” (أفسس ٥: ٢٥).

هذا الحب الزوجيّ مستمد من حب الله لخليقته، ولا يعرف الناس الخالق الا من خلال أُناس آخرين يحبّونهم. فإذا بدأت الحياة الزوجية سليمة، حُرّة، غير مقهورة ولا متسرعة، اذا قامت على اختيار راسخ في فضائل الشاب والشابة الخطيبين، تحمل خط الاستمرار وتُخصبُها نعمةُ الله. فإذا كانت متحررة من كل اعتبار مادّي عند نشوئها او كل شهوة جامحة، تأتي حقا متابعة لمشيئة الله في استمرار خلقه، وتمتدّ الى الأولاد حنوًا وعناية، فيتجلّى حنانُ الله من حنان الوالدين، وقوّته من قوّتهم. اذ ذاك، ليس فقط يربّي الأهلُ أولادهم، ولكن يتربّون ايضا هم بهم فيفرحون بنموّهم وبهائهم، وتأتي معا من الوالدين والأولاد ثمارُ جهود مشتركة يعرفونها لمجد الله، فلا أحد يمتلك الآخر او يغتصب إرادته، فلا استبداد في العائلة، فيحرص الوالدون على أن يُبلغوا إرادة الله فقط لا نزواتهم، ولا يُصرّون الا على الحق الذي يُنجّي وحده. ولا يطيع الأولاد ذويهم اذا ما أَدركوا انهم يؤمرون بطاعة غير كلمة الله.

فالوصية تقـول بالإكرام ولا تقول بالطاعـة العميـاء. والرسـول يأمـر أن لا نغيـظ أولادنـا لئـلا يفشلـوا (كولوسي ٣: ٢١). العلاقـة بين الإثنين ليسـت عـلاقـة ثنـائيـة، ولكنها علاقة ثلاثية، الله مبدأها ومنتهاها، تأتي من إرادته وتعود الى إرادته. فأولادنا ليسوا مُلكنا. لذلك نقودهم الى الرب الذي يحرّرهم وحده من وطأتنا وقسوتنا، ومن الطبيعي أن يتجنّحوا وأن يتحمّلوا مسؤولية أعمالهم واختياراتهم.وقد يُخالفوننا في نضوجهم، فتبقى علينا المشورة إذا بَلغوا. ويبقى صليبُ الخلاف قائمًا في العائلة. هذا ثمن الحرية. وهذا الثمن يدفعه الله باستمرار إذا الناس أخطأوا.

التجديد الروحيّ الكبير هو القادر وحده على أن يُحرّر العائلة من التشدّد القبليّ الذي يحكمها وعلى إعادتها كنيسة صغرى منطلقا الى الكنيسة الكبرى التي هي عائلة الآب.

Continue reading
2013, مقالات, نشرة رعيتي

وحدة العائلة / الأحد 3 تشرين الثاني 2013/ العدد 44

التفاتة الكل الى الكل، هذه هي الوحدة. ولكن يلتفت الى الآخرين من التفت الله اليه، من عرف نفسه ابنا لله حبيبا. ينشئ الآخر بالرعاية، بدوام اللطف لأنه ذاق لطف الله. ومن خلال رعايته لنا، نعرف الله راعيا. يجب أن تذوق المرأة أن زوجها مُحبّ لأن هذا يُحييها، ولكن الأهم من كل ذلك أن تكتشف أن محبته هذه آتية من إيمانه وان لها استمراره، فتعرف من خلال زوجها وجه الله.

واذا الرجل زادته امرأته أُنسًا، فليس لكي تزداد في الحياة راحته -هذا طيّب- ولكنه يعرف أن ما يتلقّاه انما من الله يتلقّاه، وأن هذا أُنس في الوجود كله، وأن الله يجب ان يكون مشكورا.

يقدر على العطاء من استطاع أن يتّصل برب العطاء. الأشياء المادية التي تجمعنا بالآخرين تذهب وتأتي الخيبات. فالنضارة تفنى والمال يفنى. كل وحدة سطحيّة كنا نقيمها تتلاشى بظهور العيوب والانكماش الذي يعود اليه الانسان من بعد اضطراب. العائلة دائما مهددة بالعواصف تهبّ في كل شخص فيها. أن نتّخذ الآخر في مسؤوليتنا، في فهمه والعودة اليه بلا كبرياء مجروح وبلا نفاد صبر من أدق الأمور لأنها تطلب نضجًا يكاد ان يكون مستحيلا.

ولكن الحيـاة الـزوجيـة هي هـذه أنـك لم تبـقَ وحـدك ولا تتـصرف من أجـل لذّتـك. لا تكـون الأشياء لأنك انت تقـرر ما يحلو لك، ولكنك تُرضي الآخـر، لا بمعنـى أنك تلبّي كـل رغباتـه، فـليـس فـي الأمـر غنـج، وأن تكتفي شـرّه بالسكوت، وأن تُساوم على الحـق فإنك تـريـده في الحق. ولكنـك تُـرضيـه بـدوام الانـتبـاه والتـنبيـه الى ما يـوافقـه. لا تقـره على ما لا يـوافـق الله، فأنت في البـيـت لسـت تاجـرا تتـوافـق حسـب عقـود. انت تعـطي بلا حساب فإنك على الآخر ساهـر. ليس بينكما سوق. ليس بيـنـكما شـروط، ليس بينكما مال، ولا تـذكـُران الحقـوق بل كلّ يذكُر واجبه هذا الذي تكلم الله عنه، ويحبّ واجبه ويؤديه حتى ينشأ الآخر في دلال الله.

كذا الأولاد نحبّهم. ليس فقـط حسب العـاطفـة الطبيـعيـة، ولكن لأنهـم صاروا رعيـة الله. هم أبنـاؤنـا، ولكنهم ليسـوا ملكًا لنـا. نعطيهـم للـرب، لمعرفته، لنموّهم في العمل الصالح. واذا أَحبـّونـا فلكي يحبـّوا الله من خلالنـا، ليكتشفوا من خلال البنوة أن لهم ربّا أبًا واحدا وهو الذي في السمـوات. نحتجـب في الأخيـر لتظـهـر أُبـوّة اللـه.

عنصر الوحدة في العائلة ليست العواطف وهي هشة. الله وحده عنصر الوحدة. فإذا اتّحد كل منا به ونما في تقواه، يستمدّ منه الوحدة ويضعها في العائلة. اتحاد كل انسان بالرب هو وحده سر اتحاده بالآخرين. من صار مع الرب روحا واحدا يكون مع الكل روحا واحدا.

Continue reading
2013, مقالات, نشرة رعيتي

ضعف الله/ الأحد 27 تشرين الأول 2013/ العدد 43

يحدثنا إنجيل اليوم عن عجيبة للسيد تُظهر مرة أخرى ان السبب الرئيسي في صنع يسوع للمعجزات هو انه كان يحب الناس: تحنن على رئيس المجمع فأقام له ابنته. ليست المعجزات في كتاب الله شيئًا ليبرهن عن شيء، وما اجترحها السيد لكي يعطي دليلا على ألوهيته لأنه هو القائل: “آمنوا بي بسبب الكلام الذي أكلمكم به”.

وان أضعف الإيمان ان نتبعه بسبب العجائب. ولكن أقوى الإيمان أن نتبعه بسبب الكلام، بسبب هذا العطاء الإلهي بكلمات لم ينطق بها انسان، وبسبب الحياة التي قضاها بيننا حبًّا حتى الموت. ولذلك تُسمّى العجائب في إنجيل يوحنا آيات لأن الإنجيلي يشير بها الى تعليم، يدلّ بها على مقاصد الإنجيل ولا يدل بها على جبروت.

المسيح ما كشف جبـروت الله كما كان اليهـود يفـعـلـون. انـه بيـّن قـوة اللـه بطريقـتـه هو وكانت قـوة اللـه الصليب. اي انه كشف ضعفًا يُستدل منه من بعد القيـامـة على انه كـان بالفعـل قـوة. فالله ينـزل الى البشـر ويحيـا معهم. هذه هي قوته. انه يستطيع ان يتخلّى عن مجـده ليكـون مخـفـيـا بيـن النـاس.

المسيـح تنـازل عن مجده وقوته وعف عن كل هذا ليموت. الموت شيء ضعيف. ثم تسطع قوته من هذا الشيء الضعيف لينتصر بالمجد.

في هذا الإطـار أقام الصبية من بين الأمـوات ودفعـهـا لأبـويهـا. ومـن وراء هـذه الحـادثـة ينظـر كل منـا الى ضعـفـه والى موته الـروحـي، الى سقـوطـه وتـدهـوره واهتـرائـه، وينظـر بـآن معـًا الى بهـاء المسيـح، لأن كلا منـا ميت والمسيح يقول لكل منا باسمـه: يا فـلان قـم.

وما ينبغي أن يؤمن به كل فرد منا هو ان المسيح، مع انه مخلّص العالم، وبالتالي منقذ كل الناس، فهو مخلّص كل فرد منا. المسيح مخلصي انا، بمعنى انه يبعث حياته في موتي وقوته في ضعفي. فان أدركت هذا أكون قد أدركت معنى إيماني.

هذه هي المسيحية: أن أدرك ضعفي وخطيئتي وأن أقبـل الى السيـد فأكشـف ضعـفي أمـامـه. إذ ذا أسمعـه يقـول لـي: يا بني قـم. تكفيـك نعـمـتـي لأن قـوتـي في الضعـف تكمل (رسالـة بـولس الثـانيـة الى أهـل كـورنثـوس ١٢: ٩). فأقوم بالمسيح من موت الى حياة ومن ضعف الى قوة.

Continue reading
2013, مقالات, نشرة رعيتي

أنتم هيكل الله الحيّ/ الأحد 20 تشرين الأول 2013 / العدد42

“أنتم هيكل الله الحيّ” لأنكم تمدّون المسيحَ في العالم. أنتم حضوره ومظهرُه في الناس. لذلك بطلت الهياكل القديمة المصنوعة بالأيدي، وصار المؤمنون جميعًا هيكلا للرب تتآزر أجزاؤه، وحجر الزاوية المسيح.

“أكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبا”. يتكلّم عن المستقبل. هذا كلام غريب للوهلة الأولى. والحق أن الله ليس إلهًا لنا الا اذا اعترفنا به سيدًا علينا. الله لا يهمّني منه انه نور السموات والأرض، يهمّني انه نوري أنا، ومنقذي أنا، وربي أنا. ولذلك اذا اتصلت أنا به وجعلته سيدًا عليّ بطاعتي له، حينئذ يكون حقًا ربّي لأنه أحبّني ولفت وجهه إليّ.

“تكونون لي شعبًا” اذا عرفتم أنني ربكم، مُلتفت اليكم، عاطف عليكم بالرحمة، مفتقدكم بالحنان والغفران. ليس الأمر أن نُسجّل شعبًا له، أن نحمل هذا الأمر على تذاكر الهوية. الله لا يُسَجّل على ورق. نحن لسنا أُمّته لأنه قيل عنا كذلك، نحن نصبح أُمّة الله وشعب الله اذا توجّهت قلوبنا اليه.

“لذلك اخرجوا من بينهم واعتزلوا، يقول الـرب، ولا تمَسّوا نجــِسًا، فأقبـلكم وأكـون لكـم أبًا، وأنتـم تكونون لي بنينَ وبنات يقول الرب”. اذا كان وجهُنا الى الله، هذا يعني أن وجهنا اليه فقط. الله يريدنا كليا، يريد كل كياننا، كل روحنا، كل جسدنا. الله لا يسمح أن نكون لغيره لحظة واحدة. لا يسمح أن نعبد الأصنام. كل وجه نلتمسه من أجل نفسه بالاستقلال عن المسيح هو وجه صنم، وجه عدو. كل ما نشتهيه في هذا العالم، العالم كله، إن فصلَنا عن الله، عن وجه الحبيب الأوحد فهو عدوّ. “اعتزِلوا، لا تمسّوا نجِسًا، فأَقبلكم”.

القضية ليست ان نكون ذوي مكانة في الطائفة، فالله لا يُحابي الوجوه. ليس عند الله طبقات. الانسان لله او ليس له. واذا كان له فهو ابنه. يقول الرسول في موضع آخر: “لستَ اذًا عبدًا، ولكنّك ابنٌ، واذا كنت ابنًا فأنت وارثُ الله”. الرسول يريد ان نعرف أنفسنا أبناء. وهذا يقوده الى قوله الأخير في رسالة اليوم “تمّموا القداسة بخوف الله”. نعم أنتم أبناء، ولكن هذا لا يجعل لكم فضلا. هذا ليس امتيازًا ولكنه يُلقي عليكم واجبا. أنتم أبناء لا لتُسَرّوا بذلك، لا لتفتخروا على الناس، لا لتقولوا انكم أفضل من الآخرين، فالله قادر أن يُقيم من الحجارة اولادًا لإبراهيم. اذا كنتم أبناء فالنير موضوع عليكم لكي تتمّموا القداسة.

عندما نُذكّر أحدًا من الأبناء بواجب روحيّ، يقول: انا لست قديسًا، لا أريد ان أصبح قديسًا، هذه أمور للقديسين. كأن القداسة شيء لفئة صغيرة من الناس، كأنها وقف على الرهبان، كأنها ليست دعوة لنا أجمعين. تمّموا القداسة، هذه دعوتكم. تمّموا القداسة بخوف الله. أيّ خوف؟ ماذا يعني خوف الله؟ “بدء الحكمة مخافة الله”. من أراد ان يتّصل بالرب، عليه ان يخاف لأنه علينا أن نُتمّم البرّ بخوف ورعدة. لعلنا اذا فحصنا ضمائرنا بدقّة، بإخلاص، بصدق، نلاحظ أننا لسنا بالضرورة ممن يخافون الله، اننا لا نعيش حسب إرادة الله ونحلّل لأنفسنا الكثير. هل نؤمن ان هناك سماء وملكوتًا وعقابًا أبديا؟ إن كنا نؤمن بذلك حقًّا الى نهاية الإيمان، لا يمكن أن نحيا كما نحيا. تمّموا القداسة بهذا الخوف اولا.

ولكن هناك خوف آخر. “بخوف الله وإيمان ومحبة تقدموا”. بعد الخوف المحبة. والمحبة تطرح الخوف الى الخارج كما يقول الرسول الحبيب. الذي يتقـدّم لمعـرفة المسيـح لا يخـاف. ومع ذلك يقول الرسول: تمّموا القداسة، ذروة الكمال، بخوف الله. أيّ خوفٍ بصدده نحن الآن؟ نحن نتكلم عن هذا الخوف الذي يصيب المُحبّ عندما يتمنّى أن يبقى مع من يحبّه الى الأبد. المحب لا يريد أن يترك الحبيب. خوفُنا أن يتركنا المسيح. خوفُنا ألا يلتفت الينا. هذا هو الموت الحقيقيّ. هذه هي المصيبة الوحيدة. كل منا يتصوّر أن المصيبة أن يخسر مالا، او صحة، او عزيزا. المشكلة الكبرى، الضربة الوحيدة أن يُهملنا المسيح، وهو مُهمل لنا إنْ نحن أَ  هملناه. ولذا يقول الرسول: تمموا القداسة وانتم خائفون. أنتم خائفون أن تكونوا وحدكم، بلا مسيح.

هذه هي أقوال الرسول إلينا لكي نُدرك ان الأمر الجلل أن يكون الله لنا إلهًا وأن نصبح له شعبًا حتى نصل الى القداسة التي من أجلها جاء السيّد الى العالم.

Continue reading