Monthly Archives

January 2008

2008, مقالات, نشرة رعيتي

رئيس الكهنة العظيم/ الأحد 27 كانون الثاني 2008/ العدد 4

كاتب الرسالة الي العبرانيين يقول في هذا الفصل ان لنا رئيس كهنة ويقصد به المسيح ونعته بأنه بار ببشريّته وبلا دنس فكل سواه واقع في الدنس (ما عدا والدة الإله حسب تعليمنا) ثم قال انه «قد صار أعلى من السموات» عند صعوده الى الآب ثم قال ان «لا حاجة له ان يقرّب كلّ يوم مثل رؤساء الكهنة» اليهود ذبائح عن خطاياه اولا ثم عن خطايا الشعب لأنه قضي هذا مرة واحدة حين قرّب نفسه. والقداس الإلهي ليس ذبيحة أخرى، انه ذبيحة الصليب نفسها التي تتمثّل في القرابين الإلهية حتى يقول ان ابن الله المتجسّد فهو ابن مكمل الى الأبد وذلك تمّ دفعة واحدة على الصليب.

ثم يشرح كاتب الرسالة ان يسوع «قد جلس عن يمين عرش الجلال في السموات» اي عن يمين الآب. ومعنى ذلك ان الآب اعترف بكرامة المسيح الانسانية على ان لها نفس الكرامة الإلهية التي للآب.

ثم يقول ان السيد «خادم الأقداس والمسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا إنسان» ويشير هنا ان الرب يسوع يقدّم نفسه باستمرار في السماء التي هي لا هيكل أورشليم مسكن الله وهو مسكن منظور نصبه الله في السماء.

عندنا اذًا خدمة إلهية وقداس على الأرض وهو واحد مع قدس الأقداس الذي في السموات. فالمسيح يخدم فوق كما يخدم هنا على الأرض، وخدمة المسيح للآب في الملكوت هي إياها خدمته في السماء. وعندنا اذًا قداس على الأرض بشكل تقديم الخمر والخبز وقداس في السماء، وهما واحد.

وهذا يؤكّده قول الكاهن في الدورة الصغرى وهو حامل الإنجيل: «اجعل دخولنا مقرونا بدخول ملائكة قديسين يشاركوننا الخدمة». كذلك عندما نرسم جدرانيات على إحدى حيطان الكنائس ممثلة الدورة الكبرى، نصوّر ملاكًا حاملا الصينيّة وملاكًا آخر حاملا الكأس لندل على ان اهل السماء مشتركون مع الكهنة في حمل القرابين. فالقداس الأرضي في شكلَي الخبز والخمر اللذين سيقدسان هو واحد مع القداس السماوي الذي ليس فيه قرابين لأن المسيح فوق وكذلك على الأرض هو المقرِّب والمقرَب معًا.

نحن هنا على الأرض كأننا في السماء، لهذا قال السيد: «الحقَّ أقول لكم إنّي لا أشرب بعد من نتاج الكرمة الى ذلك اليوم حينما أشربه جديدًا في ملكوت الله» (مرقس 14: 25). ليس ان هناك خمرًا ولكنها الفرح السماوي الذي تمثّله هنا القرابين. لذلك يقول الكاهن بعد الاستحالة ان هذه القرابين هي «للمتناولين لنباهة النفس ومغفرة الخطايا وكمال ملكوت السموات». اي ليس عليك ان تنتظر الا الالتحاق بملكوت السموات حيث المائدة السماوية غير المنظورة اذ نتناول فوق المسيح نفسه مباشرة بلا مادة الخبز والخمر.

واذا قال بولس ان المسيح هو الكاهن الأعظم فيعني هذا ان الإنسان اذا صار كاهنا فما هو الا صورة عن كهنوت المسيح وحامل إيّاه ومندمجًا مع الرعية معه وليس له كهنوت مستقلّ لأن الكهنوت الكامل هو للفادي وحده. أمّا الكاهن الأرضي فإذا مات نغطّي وجهه بستر القرابين رجاء منا على انه صار هو ايضًا قربانًا. واذا اخذنا نرفرف بالستر على رأس الأسقف القائم بالذبيحة يكون هذا الأسقف ضامًّا كيانه الى القرابين الموضوعة على المائدة ونحن في انتظار تحوّلها الى جسد الرب ودمه.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

بين الصداقة والمحبة / السبت 26 كانون الثاني 2008

الصداقة ارتباطك بآخر على وجه التخصيص وهي متبادلة في الصدق وموفورة المودة بلا منفعة في هذه الأرض. وهي سر اي لا تعرف كيف حلت وقد جاء في الأدب الفرنسي: هذا صديقي لأنه هو هو وأنا أنا. وهي متسعة للمحبة الإلهية عند الاثنين وليس الا شرط الفضيلة المستمرة عند الصديقين وما فيها الا الصدق فهي تحمل قوة ديمومتها. بهذا المعنى وان بدت ثنائية الا ان الله سميته ام لم تسمه هو في وسطها ويعززها ويغذيها حتى يبلغ الاثنان بلورية كاملة.

وهي قائمة في البشر لأن احدًا منا لا يعيش في العزلة لكونه يحتاج الى التكامل، الى مشاركة تقويه فيلحظ انه موجود ليس فقط بصفاته ولكن بصفات الآخر الذي يقويه. هي مشاركة حياة وتعاون. انت تحتاج الى ان يرعاك احد وان يقوّيك ويصفيك ويقيمك من الموت الروحي اذا انتابك. هي اذا قوّة قيامية بسبب من الفرح وذاك الذي تتقبّله. الفرح من الكيان الفصحي الكامن في كل إنسان.

والصدق فيه مكاشفة لكونك تلتمس المساعدة وان تتحرر وتعلو وليس فيها نكث لعهد العطاء حتى لا تتقوقع وتعود الى صحرائك ولا تقع في يأس. أرسطو القائل: «يا أصدقائي ليس من صديق». لا، هناك ناس صادقون يبغون إصلاح نفوسهم ويختارون الأعزة يرفعونهم. ما من شك ان الأصدقاء ليسوا على الود الواحد ولكن هناك من تحتاج اليه احتياجك الى الزوج والود درجات واما من طفح عندهم الود والطهارة معا فهم قلّة لأن الفضيلة قليلة وصعبة. واذا ضعفت في الآخر فتزول العلاقة ويكون اختيارك خاطئا.

اما اذا ثبتت الصداقة فيعني انها نازلة من السماء وما هي بمودة عابرة. وهنا يأتي الكلام عن المحبة التي ليس فيها تخصيص وهي تجمع الشمل كله او هدفها اي انسان أعطاك ام لم يعطك، رد لك خدمتك ام لم يردها. هي مجّانية إطلاقا اي قد لا تؤسس على مقابلة او مبادلة. وتحب فلانا لأنه يحتاج اليك او بالحري لأنه يحتاج الى العطاء الإلهي الذي فيك. وقد تخدمه وتذهب ولا تعود اليه الا اذا عرفت انه في حاجة اليك وانت له لأنه مجرد انسان يبكي او يتوجّع او هو معزول وأنت له مخلص لأن الله انتدبك لعمليّة خلاص في وقت مناسب ثم ينتدبك لإنقاذ غيره. تمشي انت في صحراء الوجود لتفتح يديك لإنسان متروك وانت تفتقر اليه اذا اعطيته وقد تفتقر ماديا بصورة كاملة او شبه كاملة لأن الوجود هو لذاك، عندك لأنك بهذا انت معطي الله او مقرضه كما يقول الكتاب. هذا هو العطاء الكامل لأنك تمحى وتقيم الاخر حتى هو لا يمحى في قساوة القلوب. وهنا لا فرق عندك بأن يكون على دينك او دين آخر او بين ان يكون مزينا بالبهاء الإلهي او بقباحة الشيطان لأنك قررت ان ترى الله فيه. العقائد مختلفة والمحبة واحدة لكل الناس لأنك بها جعلت نفسك صديق الله.

#         #

#

الهبة المجانية كثير الحديث عنها في الأناجيل. نقتطف من لوقا، مثل هذا قوله: «احبوا أعداءكم وأقرضوا غير راجين عوضا، فيكون أجركم عظيما وتكونوا أبناء العليّ، لأنه هو يلطف بناكري الجميل والأشرار» (6: 35). وهنا عندنا نقطة لاهوتية وهي ان العطاء المجاني يرفعكم من مرتبة العبيد الى مرتبة الأبناء. والنقطة التابعة لها ان الأشرار هم ايضا أبناء لأن التساوي في قيمة الناس هو في رؤية الله لهم ووضعهم كأبناء يأتي من مجّانيّته.

وقراءتي هذه راسخة في قوله توا بعد هذا الكلام: «كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم … ستعطَون في أحضانكم كيلا حسنا مركوما مهزهزا طافحا لأنه يكال لكم بما تكيلون». فإنكم ان أعطيتم يعطيكم الله بلا حساب. يعاملكم بما بما هو أفضل مما عاملتم الآخرين. الانجيل يضرب الحساب.

لذلك يصل الى القول: «الإنسان الطيب من الكنز الطيب في قلبه يخرج ما هو طيب». انت لا ترى اذًا بعيني الحكمة البشرية القائلة ان انظر الى ثروتك وأعطِ ما استطعت ليبقى لك شيء تقول الحكمة الإلهية فيك انظر الى قلبك المحب وأعطِ لكل ما يأمرك به القلب وليتدفّق قلبك اذًا واذا كنت غير متعلّق بدرهم واحد تدفعه الى الاخر وتعطي لتنجي قلبك من الموت الذي جانب من جوانبه البخل. والبخل هو الحفاظ ان كل ما عندك اساسي لك. غير ان لا شيء في الدنيا اساسي الا للآخر ويكافئ الله الحب بالحب واذا كنت في الأساس غير مخصوص بالحب الإلهي لأنك ابن ككل ابناء يخصك الله -ان أعطيت- بمحبة شخصيّة لك والله حرّ بأصدقائه. في هذا المعنى ليس الله معشوق عابديه الأكابر ولكنه عاشقهم بدونه وقد يصل محب الله الى درجة لا يراه الله فيها معشوقا وحسب ولكنه يراه جوهر العشق على ما قاله القديس أغناطيوس الأنطاكي (+117) عن المسيح: «ان عشقي مصلوب».

لقد استعار الكتاب المقدس لفظة رحمة ولفظة رحيم من رحم المرأة فالجذر واحد والمعقول يؤخذ من المحسوس فرحمة القلب هي السعة التي تنجب اولادا كثرا واذا كنا جميعا أبناء الله بعد ان اعتقنا من عبودية الخطيئة فنحن مرحومون بطبيعة الله بلا كيل ولا تفريق وبلا دينونة. ولذلك يقول آباؤنا النساك الذين جاهدوا جهادا حسنا موصولا متعبا يقولون جميعا انت لا تدخل الى السماء بجهدك ولكن برحمة الله اي انه هو الذي يتقبّلك بعطف منه لأنك صرت بالمحبوبيّة التي ناتها من عائلة الآب.

لذلك لا يعد الله عليك خطاياك ولكنك تعدها انت لتتوب اليه ولتخشى وترتدع. اذ ذاك لا تبقى انت بشريا محضا من تراب. الرب يعرف انه خلقك من تراب ولكنه لن ينظر الى ترابيّتك بل الى ما صدر منه اليك اي النور المخفي فيك والله يرى ما يريد ان يرى وعيناه عيناه. ويأتي يوم على طريق خلاصك ان تقول له: «بنورك نعاين النور».

#            #

#

أي سر كل هذا؟ الأناجيل تحدثت عن الرحمة واللطف الإلهي والتواضع والوداعة عند يسوع الناصري الذي هو وجه الله الينا. إنسان واحد وهو يوحنا الإنجيلي قال: «الله محبة» وكأنه يقول في قراءة اولى: ان كل صفاته تجمعها او تلخّصها المحبة في قراءة أخيرة عليا أقول ان الله في جوهره وليس فقط في صفاته هو محبة- هو محبة في ذاته او حركته في ذاته- وكل ما عندك انت من محبة للآخرين، للبعيد والقريب، مصب فيك لهذه المحبة وعند ذاك تكون متألها اي الهيا.

قبل ذلك ليس عليك هنا الا ان تحب. تضم الى صدرك عدوك وصديقك بالمحبة الإلهية الواحدة. تستنزل عليهما ربك ويستجيب لك اذ ليس عنده الا ما كان في جوهره ولا يبقى من فرق في قلبك بين السماء والأرض، أو بالحري جعلت ما كان في قلبك من هذه الأرض أي سماء ويكون ملكوت السموات قد دخلك وعند اعترافك بأن الخالق ملك عليك يمنّ هو عليك بالملك ويجعلك في نعمته جالسا عن يمينه على العرش لأن المسيح لم يجلس عن يمين الآب الا لتجالسه.

هذا يتطلّب منك طاعة ومن الرب حنانا. دعوة من هذا الحنان الى الطاعة ومن الطاعة الى الحنان.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

بعض من 2 كورنثورس/ الأحد 20 كانون الثاني 2008 / العدد 3

هذه الرسالة صعبة. في مطلع النص الذي نحن فيه يشير الرسول الى الخلق عندما اخرج من الظلمة النور الحسي. أمّا النور الحقيقي فهو مرسوم على وجه يسوع المسيح. وهذا النور الذي رآه بولس على طريق دمشق لمّا ظهر له السيّد سوف يعطيه لآخرين.

والنور الكامن في النفوس يسمّيه كنزًا، ولكنه ينظر الى الضعف البشري ويقول: «لنا هذا الكنز في آنية خزفية»، حتى اذا ظهرت منك قوة روحية تعرف انها آتية من النعمة لا من قواك الشخصيّة.

في وضع النعمة النازلة على الرسول وصحبه يبيّن الضيق الذي نزل عليهم كما يتبيّن من نشاطه في آسيا والمقاومات التي قووِم بها. يبقى متحيرا ولكن لا يصيبه ايأس.

يرى نفسه وصحبه مضطهدين ولكن لا يصيبهم خذلان. «يحملون في كل حين إماتة الرب يسوع» (الأوجاع وقمع الوثنيين واليهود) «لتظهر حياة يسوع ايضًا في أجسادنا». كل مصيبة تتحوّل عند المؤمن الى نور ليسوع. هذه هي علاقة الصليب والقيامة عند المعلّم وعند أتباعه.

ثم بعد كل هذه الآلام يُقدّم المؤمن الى المسيح. وكل الكنائس التي خدمها الرسول تُقدّم الى السيّد فتظهر حياة يسوع في أجسادنا المائتة.

هذا نعيشه في روح الإيمان الذي نحققه في ما جاء في العهد القديم ويكرره هنا بولس: «آمنتُ ولذلك تكلّمتُ». البشارة تبدأ في قلب المبشّر وبعد ذلك تصير كلاما على شفتيه.

بماذا نتكلّم؟ بالقيامة اذ نعلم ان الذي أقام يسوع سيقيمنا نحن ايضًا بيسوع. «لأن كل شيء من أجلكم» وكأنه يقول ان قيامة المسيح هي لتقوية إيمانكم وخدمته «لكي تتكاثر النعمة بشكر الأكثرين فتزداد لمجد الله».

هنا يدعو الى الشكر على النعمة عند المبشّر الذي يعطيه الرب الكلمات المفيدة. او هذا يفيد ايضًا شكر المؤمنين الذين يسمعونه. وكلّما شكرتم ازدادت النعمة فيكم وازداد مجد الله فيكم وفي العالم. كلما رآكم الناس مؤمنين بالقيامة ومستنيرين بها يسطع مجد الله وتنمو الكنيسة.

من هذا المقطع يتبيّن ان ثقة بولس بيسوع كاملة مهما ضعف الرسول تحت الاضطهاد او لمس الضعف في داخل نفسه ووجهه دائما الى وجه يسوع وبنوره يعاين النور.

اجل نحن آنية من خزف، ولكنه مملوء بالنعمة، والنعمة هي الفاعلة إن أطَعْنا.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

القوة والضعف / السبت ١٩ كانون الثاني ٢٠٠٨

              مفهومان كاملا الغموض لأن ما كان قوة او ضعفا عندك ليس كذلك في عيني. فقير سامي الفضيلة لا شيء عند معظم القوم بعد ان وضعوا قدرتهم في المال وثري يحقق شؤونا كبيرة في هذه الدنيا يدعى زعيما وهذه التسمية صحيحة اذ كثرة المال تستدعي كثرة القوة. ولا أحد يهتم للقوة الا لكونها طاقة الغلبة والغلبة في آخر تحليلها محو الآخر لأن السلطة في ارض محددة صورة الله في السماء وفي هذا الموقف قناعة انتزعت من الأمر الواحد بالطغيان على ما كان له قوة اصغر من السيّد الأقوى الذي صار يحمل الملك بانتقاص سلطة الذين كانوا يزاملونه.

              هناك عطش الى السلطة لأنها تؤمن القدرة الدائمة على النصر وعلى محق الآخرين وان قضت التقاليد بمصاحبة الأول لمن يبدو انه يقيمهم على شيء من الزمالة او التعاون. ولذلك يجب حفظًا لماء الوجه ان يكون عندهم بعض الأراضي لأن الشيء المحسوس هو وحده علامة من علامات الوجود. ولكن السلطة مخيفة اذ المتسلّط عليهم يمكن ان يتمردوا عليه حتى الثورة اي القتل ولذا كان لا بد من موازنة سياسيّة تعفي الأكبر من إبادة الأصغر معنويا او جسديا. فصار هاجس الجماعة ان تتحوّل الى دولة اي الى بنية قانونية فيها حاكم ومحكوم ومسؤولية عن الجماعة ومشاركة الجماعة كلها في سياسة البلد وهذا عن طريق مندوبين لا يرفضون القيادة الأولى ولكنهم يجعلون بينها وبين القيادات الأدنى نوعا من المعادلة او لونا من الموازنة يحس كل من موفدي الأمة موجود فيها ظاهريا كان ام فعليا وفي الحالتين يغذي كبرياء القوم ويحول عاديا دون سفك الدماء. هذه روح «الشرعة الكبرى» Magna Charta التي كانت اولى محاولات الديموقراطية في القرون الوسطى (سنة ١٢١٥) بعد ان اندثرت ديمقراطية اثينا على عهد أفلاطون وبعد ان انهار نظام الشورى في الإسلام او نظام المبايعة عند أهل السنة والشيعة. المشكلة الأساسية كانت دائما كيف نضع حدا لسفك الدماء. هيكليّة تعاون مقونن أكان هذا على صدق او غير صدق.

              قبل الثورة الفرنسية (١٧٨٩) وفي العهد الأموي كان هذا ملكا والملك في فرنسا كان يعني التملّك. كان هذا ايضا في لبنان في العصر العثماني اذ الأرض كلها للسلطان ويوزعها على الناس حسبما يشاء. ويسمّى هذا إقطاعا لأنه اقتطاع الأرض على من رضي عنه الحاكم.

              القوة اذا في السياسة ويستغلّها احيانا من كان له سلطة قانونية في الكنيسة مثلا او في شركة او مصرف او معلم في صف ثانوي. بكلمة اخرى يجب ان يسكت الناس لتبقى الدولة او المؤسسة لواحد.

#                #

#

              الى هذا القوة البدنية التي أسخف تعبير عنها: «هذا بيشيل جرن الكبة». إعجاب بالعضلات على تفاهتها يمزقني تمزيقًا لأن العضلات ليس فيها ميزة، لأن الإنسان كيان كامل ولا تستطيع تجزئته، لأن كل ذرة فكر في الدماغ وكل اختلاج قلب في الخير اعظم بكثير من كل لحمك وعظامك اذ ليس من مقارنة بين اية خلية فيك وحركة محبة في داخلك ومع ذلك ذهول مليارين او أكثر في العالم بسباق كرة القدم ولو كان اللاعبون من أغبى خلائق الله. الى هذا الجمال وهو من أتفه ما فينا. هو مجرد تناسق للخلايا الظاهرة على الوجه والقامة وهذا تابع لناموس الوراثة وليس لك فيه شيء. قد ينفعك وقد يضرك.

              ما الأفضل؟ إنسان خلاب حتى السكر ام انسان قبيح حتى انزعاج اذا كان هذا القبيح مكللا بالمجد الإلهي او أقلّه برجاحة العقل؟ فالجمال معطى والذكاء جذوره معطاة. فقط النعمة الإلهية لا تأتي من أبيك وأمك بل تنزل عليك بمجانية العطاء الإلهي. ما الفقر، ما الغنى، ما الجمال، ما القباحة، ما الذكاء او ضعفه كل هذا باطل الأباطيل حتى يضمّك الرب الى صدره وانت مفلوج او مقعد او سليم ولكنك طالع الى السماء على درجات التقديس وقد لا يعرفك أحد ويعرفك الله وليس عندك هاجس الطعام او الشراب اذ «ليس ملكوت الله طعاما او شرابا». وليست كارثة عند المفلوج الذي يتقدّس كل يوم بالكلمة ولا يعرف اذا كان يأكل عند المساء او في الغد.

               الا يكون لك طمع بشيء لأن كل الأشياء المخلوقة لا تؤلّهك، الا يكون لك اشتهاء للحياة لأنها قد تؤذيك، ولا يرتكز صميم حياتك على احد بما فيهم الأقربون وأن تمتلئ من الرب بأن هذا يجعلك انسانا حرا أسير محبة الله اياك فقط ومتلقيا قوتك من فوق. ان تقدر ان تصير من عائلة الآب غير مطرود منه، محبا للجميع ولكنك غير ملتصق بأحد هذا بدء حريتك.

              على هذا اقول انه كان لي صديق ممن أسسوا حركة الشبيبة الأرثوذكسية معنا منذ خمس وستين سنة وشكل البطريرك القائم آنذاك مني ومنه ومن ثالث بعثة روحية الـى اوربا للاشتراك بمؤتمرات دينية للشباب ولما انتهينا الى باريس اتصل هذا الصديق بالأديب الكبير فرنسوا مورياك وكنا نحن بفضل هذا الأخ نتأدب على قصص مورياك. فأعطى هذا رفيقنا موعدا في بيته الريفي في جنوبي فرنسا حيث كانت له كروم كثيرة وفيما كانا يتمشيان بينها ومورياك يسميها كان صديقنا هذا انطلاقا من اسم يعرف اين وردت ويتابع هو النصوص المقولة عنها. فسأل صديقنا مورياك: لماذا كل هذه الكروم فأجابه مورياك ان اردت ان تكون حرا فلا بد من ان تكون غنيا كبيرا او فقيرا كبيرا. تأمّلت في هذا الكلام طويلا واقتنعت ان خيار الفقر الكبير يمنحك حرية كبيرة اذ يجعلك حرا من كل سؤال ومن اي التماس لمحسوبية ومن اي هم للغد.

#                   #

#

              لا يقبل كل انسان الموت او المرض او الفقر برضاء. هذا يحتاج الى رحمة «تفوق الوصف والعقل». ولكن من قبل هذا كله انما يكون قد قال: انا احمل الله وحده وارتضيته لي خبزًا نازلا عليّ من السماء حتى اذا اكلته لا أموت ابدا. انت قادر ان تعيش سماويا في إطار ترابيتك.

              ربما الى معنى كهذا أشار بولس ان «لغة الصليب» (الصليب بمعناه الفكري) حماقة عند الذين في سبيل الهلاك. واما عند الذين في سبيل الخلاص، اي عندنا، فهو قدرة الله. والمعنى الظاهر للنص ان ما اعتبره اليهود والأمم ضعفا هو قوة. ثم واجه المعتبر قوة عند الناس وقال: «فقد ورد في الكتاب: سأبيد حكمة الحكماء وأزيل فهم الفهماء. فأين الحكيم واين عالم الشريعة (اليهودية) واين المامك في هذه الدنيا؟ ألم يجعل الله حكمة العالم حماقة؟ فلما كان العالم بحكمته لم يعرف الله بحكمة الله، حسن لدى الله ان يخلص المؤمنين. ثم يتابع منطقه حتى يقول ان المسيح ازاء الوثنيين واليهود فقدرة الله وحكمة الله لأن الحماقة من الله اكثر حكمة من الناس والضعف من الله اوفر قوة من الناس» (١كورنثوس 1: 18-٢٥).

              لست اساجل هنا احدا ولكني استشهدت بهذه الرسالة من بولس لأبيّن فقط ان ما يبدو ضعفا للناس جميعا قد يكون عند الله قوة. واتخذ بولس رمز الصليب صورة عن التناقض بين الفكر الإلهي والفكر البشري المحض والعطاء الإلهي والعطاء البشري.

              عندما تفتش عن القوة والضعف وكلنا في هذا التساؤل الصعب تذهب الى الكلمة وتسألها ما قالته وتحاول بعد ذلك بتواضع ان تطلب ما يسميه بولس «فكر المسيح» وتجد ان فكرك هو ان تمحو الأنا الفارغة بتقوقعها عملا بذلك الذي قرع باب الملكوت فسئل من الداخل من القارع فقال انا ولم يفتح له ثم سئل ثانية من القارع قال انا فلم يفتح له وسئل ثالثة من القارع فقال انت اي الله السائل موحدا قلبه بقلب الله وربما كان هذا مفلوجا او مقعدا او فقيرا ولكنه ادرك السلامة على عتبات السماء.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

الموعظة الحسنة / السبت ١٣ كانون الثاني ٢٠٠٨

لا أعرف لماذا كانت هذه العبارة في سورة النحل تشدّني اليها؟ هل لكوني احترف الوعظ منذ خمسين سنة وأعرف ان ثمّة واعظين سيّئين وخطباء كبارا؟ الكلمة لا تعطى لكل الناس فقد تكون فقط كلمة بشر او كلمة نازلة من فوق اذ لا يكفي ان تكرر ما أتى به السلف فتبقى الكلمة غريبة عن أعماقك وغير واصلة الى ما كان الله لامس عقلك به وسكن فيه.

                      اشتهي لو لم يتكلّم معظم المتكلّمين الذين يؤتون الناس الضجر او الضلالة. الخطابة الدينيّة فيها علم ولكن لبّها تقوى الخطيب والإشعاع الذي لا يظهر منه والا ذهب الكلام سدى. وقلب الخطيب وعقله يجتمعان لتنزل الكلمة الصائبة الراشدة والسامع يعلم توًّا انه كان للخطيب قلب اي كانت كلمة الله ساكنة فيه ونافذة.

                      اجل يبقى السؤال هل من يسمع او هل من يفهم لتوغل الكلمة في صدره. هذا سؤال موجع عند الواعظ التقي ولا تعزية له اذ لا يعلم أأغلق الله على قلب السامع ام فتحه لتستقرّ الكلمات النازلة، وفي هذا يصدق الكتاب في قوله: «ان واحدًا يزرع وآخر يحصد» (يوحنا 4: 34). وهذه هي الحرفة الوحيدة في العالم التي لا عزاء بشريا فيها اذ لا تستطيع ان تعرف ان الكلمة وصلت ام لم تصل ولكنك تحت نيرها وعليك تبليغها.

                      هكذا مهنة الكتابة جميلة. في الأدب الديني لا تعرف من يقرأ ولماذا قرأ لا تعرف انه فهم واذا فهم لا تعرف انه يتوب لكن «وضع النير عليك». لعلّ التعزية الوحيدة – كما في الموعظة الحسنة- ان ما تكتبه يرفعك الى الله اذ تكون قارئ نفسك. ولكن من طلب تنقية نفسه ليس مضطرا الى الكتابة اذ يخاطبه الله مباشرة ويستجيب ويخلص. غير ان ثمّة فنونا اخرى تشعر فيها انك معذّب ان لم تترجم نفسك. يجب ان تخرج نفسك بالريشة او التأليف الموسيقي او العزف لتنوجد ولا تستطيع ان تبيت في العدم. وهناك من محاك ولا يستجيب لك دائما ابناء جيلك وهذا عرف في الموسيقى وفي الرسم. انت تعبّر لأنك تحتاج ان تحيا.

                      ويأتي الكتاب عظيما او يأتي تافهًا وليس ما يضمن ان الصالح يُقرأ او انه يصير فيك موعظة حسنة او يغير فيك فاصلة من فواصل الأخلاق. هذا يشبه مثل الزارع في الإنجيل حيث لا تقع الحنطة دائما في الأرض الخصبة ولكنها تقع على الحجر او في الشوك فتختنق. هناك ادب الموت او يكون القارئ قد مات وهو حي وتبتلع هواية الحضارة كل شيء حتى بت أتساءل لماذا قمت بدراسة الأدب او ما يشبه ذلك؟ لماذا هبط عليّ شيء من الإلهام؟ من أحرقني صار فيّ عاصفة لألقي كلمات على من اشترى كتابي ليقرأه او يضعه في مكتبته. وقد يطالعه ابنه او حفيده او يتآكله الغبار.

#                    #

#

                      ما شغلني كثيرا في هذه الهموم ان العامة قبل ظهور الطباعة في القرن السادس عشر ما كانوا يقرأون وكانوا أدنى الى الأميّة. وكانت المعابد وحدها أماكن الفكر الديني فتصل الى الآذان الأناشيد ويفهم الناس منها ما يفهمون وكان حفظة القرآن وهنا ايضا يفهم من استطاع. حضارة شفهية لا تقدر ان تعطي ما تعطيه حضارة كتابية. كان هناك المرشد او الشيخ الروحي ويتتلمذ قلبك عليه. وقد يكون هذا الفتات الذي يسقط بين يديك خير طعام لأن الأب الروحي يقود بنقاوته.

                      غير انه مع الطباعة نشأت مشكلة كبيرة وهي تعدد الثقافة والعلوم، مع أبوقراط كنت فيلسوفا (حكيما كانوا يقولون) وطبيبا معالجا. بعد هذا صار الطب فروعا لا تحصى. مرة كنت في بوسطن طلبا لعلاج ومررت بفرع العيون وقرأت أسماء اختصاصات لم اسمع بها في لبنان ويخيّل اليّ ان من يعرف هذا القسم لا يعرف ذاك. تقسّمت المعارف وانهارت المعرفة الواحدة او الموحدة بحيث يكون خطرا عليك ان تعالج أنفك بلا مراجعة الطبيب. وهذا في كل علم. فاذا أخذنا اللاهوت وطرحت سؤالا على أستاذ الكتاب المقدس تراه لا يعرف شيئا في تاريخ الكنيسة. كيف التوحيد بين معرفة الجزئيات ومعرفة الكل؟ كيف تطرح مثلا على كاهن دكتور في فرع اللاهوت سؤالا يتعلّق بخلاص نفسك وهو لا يفهم فيه شيئا لأن سؤالك لا يدخل في اختصاصه؟ وفي كل العلوم خطأ كبير في تجزئة المعرفة ما يعني انه ينبغي ان يواجه التعدد بشيء من الوحدة. هناك لا بد من تعاون العلماء في ميدان فلسفة المعرفة.

                      هل ان الانترنت يواجه هذا المسألة؟ ما من شك انه يعطيك اجوبة موضوعة فيه وتحار بدقة معلوماته. عندي هذه الآية ويعطيني أعواني أجوبة عما أسأله ولكني أحس بالحاجة الى معارف موضوعة في كتاب  لأن الجزئي لا يعوض عن الكامل ولأن المعرفة العلميّة لا تقوم مقام المعارف الإنسانية والأدبيّة. ولأن شيئا لا يعوّض عن الشعر بعامة والشعر الصوفي بخاصة.

                      هذا يطرح طبعا كل موقع الأدب والوجدانيات امام الإنسان الذي لا يحب ان يستقيل عن نفسه المحبة وعن التواصل بين تراثه وتراثات الشعوب الأخرى المستقلّة عن العلم المحض الذي أخذ يجدد النزعة العلموية التي ظننا اننا تجاوزناها في القرن الماضي. هل يقدر الإنسان ان يبقى على بشريّته الفاهمة والمتوازنة بلا نصوص الروحية في العالم كلّه.

#              #

#

                      غير ان الخطر الكبير يكمن في المسموع والمرئي الذي يلتهمنا التهاما كبيرا اذا بقي المشهد الوحيد او الأهم في ما نراه ونسمع كل ليلة وهو موجّه سياسيا بحيث ان غير المطّلعين على الواقع السياسي في العالم معرّضون الى فكر آحادي وضعفاء القدرة على التمييز والى جمع الأطفال حول ما لا ينبغي ان يشاهدوه وليس عندي القناعة ان معظم الأهل يرسلون أولادهم الى النوم او عندهم الشجاعة ان يقاوموهم اذا أصرّوا على المشاهدات بناءة كانت ام هدامة.

                      ولعلّ السقوط كامن ايضًا في ان الاذاعات هذه تغنيك احيانا عن قراءة الصحف وتاليا عن التحليل السياسي المميّز بين المواقف المختلفة. هذا اذا لم أشر الى الإعلانات التي يقال عنها انها فواصل وهي ليست كذلك احيانا وفيها من الممتعات التي تسر المشاهدين بما فيهم البالغون.

                      هناك انضباط عند كلّ منّا ليقصر مدّة المشاهدة ويزيد من مطالعة الصحف الجيّدة التي تمدّه بثقافة سياسيّة وتقود بعضًا الى مطالعة المجلات الديبلوماسيّة في اللغات التي يتقن.

                      امام هذا التعدد الإعلامي في المرئي والمسموع لا بد من شيء من التقشف محافظة على المحاكمة الصحيحة في كل هذا المجال.

                      كل هذا يقودني الى الإقرار بأن شيئا لا يغنينا عن الكتاب ويقال في ان اللبنانيين هم آخر من يطالعون في العالم العربي. يتنزهون بين المجلات القيّمة والمجلات الرخيصة وعلى كل هذا يؤثرون النزهات والمطاعم والسهرات الثرثارة وعندهم ان المال يغنيهم عن كل شيء اي يغنيك عن الدماغ وتحريكه بالدرجة الأولى. ما يفتخر به شعبنا هو ما يسمّيه الحضارة والحقيقة انها حضارة اللذة. ويذهلك اذا مررت بشوارع اية قرية اصطياف ان المطاعم  مليئة بالزبائن وهؤلاء أنفسهم يحدثونك عن فقر البلد اي ان هذا الانكباب على المطاعم ليس نصيب الفقراء.

                      انا أشعر بعد ان أقرأ صحفًا من بلدنا ومن الخارج اني بعد مطالعتها لا تغذيني كما يغذيني الكتاب وان رأسي يمتلئ من الكتاب ولا يمتلئ من وسائل الإعلام بالقدر نفسه وترى اللبناني يعرف كل شيء عن السياسة ويعرف القليل القليل عما عداها.

                      خلاصة الكلام في هذا انك تعيش فكريا وربما روحيا من الكتاب وليس فقط من الأدب القصصي الذي قليله كان عظيما في الزمن الذي نعيشه. هذا لا يعني اني أوصي احدا ان يهمل القصة او الرواية ولكن المعرفة أوسع من هذا. والكتاب يعني انه لا بد لك من ساعتين في اليوم حتى الأربع لتصبح ناضجا مليئة شخصيّتك المعرفية والوجدانية احيانا ولكن اقرأوا كل شيء وتمسّكوا بالأفضل كما يقول بولس. وهذا يعني انه لا ينبغي ان تكون المراقبة سيفا مصلتا علينا اذ الكتاب السيء يسقط من نفسه. وعدم الزجر يعني ان نثق بالإنسان القادر ان يلتقط الموعظة الحسنة التي تلهمك ان تتدبّر نفسك لتحييها ان قرأت والموعظة الحسنة هي الكلمة المنقذة  التي تسقط عليك من فوق.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

الظهور الإلهي أيضًا وأيضًا/ الاحد 13 كانون الثاني 2008 / العدد 2

يؤكّد بولس اولا ان النعمة معطاة لكل مؤمن وليس عند الرب تعسّف، وهذا نتيجة نزول الروح القدس على المسيح في نهر الأردن ونتيجة نزوله على التلاميذ بعد القيامة، ثم بعد هذا الاستهلال لا يتكلّم عن الظهور الإلهي مباشرة. يتحدّث عن التجسّد والصعود معا: «فكونه صعد هل هو الا انه نزل اولا الى أسافل الأرض» (القبر).

ولكن هناك شبه بين غوصه على نهر الأردن ونزوله الى القبر. ونهر الأردن يمثل موت المسيح والحياة المنبثة فيه بالقيامة.

وبعد صعوده الى السماء «ليملأ كل شيء» نفهم ان ثمّة صورة تمّت لهذا الصعود وهي صعوده من النهر وذلك بقوة الروح. ماذا نتج عن صعود المسيح؟ نتج نزول الروح القدس على الكنيسة.

يسمّي هذه المواهب. وقد يكون احدهم جامعا لأكثر من موهبة. فالرعاة والمعلّمون غالبا فئة واحدة. المهم ان واحدا بعث بهذه المواهب وهو المسيح بواسطة الروح القدس، والغاية «تكميل القديسين وعمل الخدمة وبنيان جسد المسيح». وهذا كله واحد فإن الرسالة الى اهل افسس تؤكّد كثيرا وحدة الكنيسة القائمة على تنوّع المواهب وهي مجتمعة تظهر ان جسد المسيح بناء واحد.

فاذا كنا واحدًا في المسيح في كنيسة جامعة المواهب ومنسقة لها نكون قادرين على عمل الخدمة (الصلوات من جهة والفقراء من جهة) والخدمة لا تجزأ.

هذه ميزة الخدمة في الكنيسة أنها تنبثق من الإيمان والصلاة وتصل الى المحتاجين. الايمان يتجسّد بالعمل الصالح وإلا يكون وهمًا. اما العمل الاجتماعي البحت الذي لا يصدر عن قلبٍ مؤمن فالمسيح غائب عنه.

في هذه الرؤية يؤكّد الرسول ان آخر طريق الايمان معرفة ابن الله اي التواصل به عن طريق المحبة. هذه هي خبرتنا للمسيح ان نسلّم النفس له ونحيا تحت جناحيه ونتحرك بروحه.

عندما يقول «الى ان ننتهي جميعنا الى انسان كامل» غالبا ما يريد اننا معا انسان واحد كامل بسبب نشر الروح القدس للمواهب. هذه العطايا تجعلنا انسانا واحدًا.

عندئذ نصل الى «قامة ملء المسيح». المسيح الحي الصاعد الى السماء والمكتمل ناسوته بالقيامة يريد ان نكون لا فرديا ولكن مجتمعين انسانا كاملا قامتنا قامة ملء المسيح بحيث نصبح حقًا على صورة المسيح المنتصر.

الكنيسة، اذ ذاك، باتحاد أعضائها بالكمال الروحي، بتجمع المواهب، تكون على صورة المسيح بحيث ان من رآها قائمة بالمواهب والعمل الصالح يكون قد رأى المسيح.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

الكاهن والمعرفة/ الأحد 6 كانون الثاني 2008/ العدد 1

في البدء كلامي عنه وحده. التقوى متفاوتة بين كاهن وكاهن وكذلك العلم. ولكنا نسعى في المحبة ان نقوّي كل واحد في سعيه، والتقوى يُنزلها ربّك وحده على الرجل. وقد يحيا بها ولو بتقشّف عظيم احيانا. كل فرد في الرعية يختار مقدار تقشّفه ولكنه لا يصرّ على أن يحل الحرمان بأولاد الكاهن. هذا ظلم اذا وُجد، ولا يصر على السيطرة عليه الموكَلون بالوقف، وبعضهم -وهو قليل- يبخل بمال هو ليس له.

الكبير الكبير يجاهد في كل الظروف غير مشتكٍ. ولكن لا يستغلنّ أحد فقره بتأفف. كم من مرة رغبت أن يُرفع راتب الكاهن وكنت أسمع: نحن نقوم الآن بترميم الكنيسة. هؤلاء لم يفهموا ان الكنيسة بشر قبل كل شيء، وان من أراد الحرمان فليُردْه لنفسه. عندنا في هذه الأبرشية مسؤولون علمانيون طيّبون. فلما ناديت هؤلاء المسؤولين ليسندوا المطرانية ماليا بسبب الضائقة الحالّة بنا لبّوا، وبعض لبّى بكرم.

الشقّ الآخر في التحدّث عن الكاهن هو الشق العلمي. الحق ان الخدَم الإلهية لا تستغرق كل وقته ولا تعذره عن قلة المطالعة. انا معجب بأن الكثير من إخوتي الكهنة يقرأون، وأَحَبّ شيء اليّ أن أسمع كهنة لم يدخلوا جامعة او لم يُنهوا العلوم الثانوية يعرفون الكثير في حقل اللاهوت وأعتبرهم معلمين. اما المتكاسلون فلا عذر لهم بعد ان بلغت الكتب الارثوذكسية وحدها في مختلف دُور النشر عندنا ما يفوق اربعمئة كتاب والدُور المسيحية غير الأرثوذكسية تصدر أحيانا كتبا قيّمة ليس لنا اعتراض على مضمونها.

الطقوس لا تكفي لنعرف غنى المسيح ولاسيّما ان المؤمن عاجز عن أن يفهمها إن لم يعرف ارتباطها بالكتاب المقدس. الى هذا أريد ان يفرح الكاهن والمؤمن معا بما يسمعون، والسامع ينبغي ان يفهم. انا أرحّب بأية حركة تبرّع عند المؤمنين لإهداء كتب للكهنة لأن بعضًا منهم عاجز عن شرائها. مَن منكم يأخذ المبادرة فنعمّمها على كل الأبرشية. الناس عطشى الى كلمة الحياة وينتظرون اليوم في اي مجلس جوابا من الكاهن عن اسئلة يطرحونها.

يقول السيّد: «أنا خبز الحياة». كيف تحيا انت بلا خبز الكلمة؟ لا يجوز ان تكون الرعية مكانًا للجهل. الا تعلمون ان الله سيدينني في اليوم الأخير عمّا اذا قمت بوظيفة التعليم في صفوفكم بما يرضيه، وانه سيطرح على كل كاهن السؤال نفسه؟ أتعزّى كثيرًا اذا قال لي كبار بين المتعلّمين: نحن تعلّمنا المسيحية للمرّة الأولى من «رعيّتي». وكنّا قد رغِبنا ان تصل الى كل بيت يدًا بيد. والكثير من هذا يقوم به شبابنا.

ولكن، ما زادني عزاءً ان كاهنا جليلاً تجاوز ال 75 من عمره يأتي كل أسبوع الى دار المطرانية ليأخذ النشرة ويوزّعها بيده. اما اذا رأيتها على مقعد في الكنيسة -وهذا كثيرًا ما أراه- فيقرأها بين 3 و17 بالمئة من الناس، أعني اولئك الذين يرتادون كنائسنا في الآحاد.

عندنا اليوم بسبب من التهجير او الهجرة الطوعية في هذه الأبرشيّة 45؟ من ارثوذكس الجمهورية. نحن مستعدون ان نسدّ كل حاجاتهم من حيث قراءة رعيتي في طريقة التوزيع لئلا يبقى أرثوذكسي جاهلا لعقيدته.

ينبغي أن نتحرّك حتى نوجد، حتى لا يوبّخنا الله في اليوم الأخير.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

٢٠٠٨ / السبت ٥ كانون الثاني ٢٠٠٨

«ألف سنة في عينيّ الرب كيوم أمس الذي عبر أو كهزيع في الليل».

         عبرت سنة مؤلمة وأقبلت سنة نرجو أن تكون أقل إيلامًا حتى يحيا الشعب بكرامته ولا تسيل قطرة دم. ونحن في هذا البلد الصغير والقليل الموارد سعينا دومًا الى التفاهم. والناس العاديّون الذين يحتاجون الى لقمة عيش وتربية أولادهم يصلّون كلّ يوم ليرفع الله عنّا الغضب. لا أحد من الأذكياء والبسطاء مقتنع ان هذه الأزمة قائمة الى الأبد اذا الذين بيدهم الحل والربط يريدون ان يفكّوا عقدها. صح ان الله سيّد الأزمنة ولكنّه صح ايضًا ان الذين يرجون سلامًا قادرون عليه والتضحيات الآنية تعقبها جمالات حب بين ممن تولى شأن السياسة. والسياسة مجرد وسيلة غايتها الإنسان. ويأتي من يأتي الى الحكم ان كنّا له عاشقين ام لم نكن. والقائمون على أمورنا قادرون ان يتخالطوا. قلت «أن يتخالطوا» ليس فقط في ما سمي التوافق وهذه كلمة تحتاج الى ايضاح قانوني ولكن ما أردته ان تتحاب شرائحهم الاجتماعية كلها حقًا وان يستلم كلّ مسؤولية في الحكم وفي الأعمال الخاصة من كان مهيأ لها بصرف النظر عن معتقده الديني.

         اظن انك إن سألت اي لبناني عن مقولة «الشعب المختار» يضحك ويجيبك: بالمعنى الاجتماعي هذه خرافة وان الطوائف كلها غنيّة بالموهوبين ان ابتغينا الموهبة شرطًا للاضطلاع بالعمل. يبدو احيانا ان مجموعة يكثر أذكياء فيها اتخذوا تدريبًا فلسفيّا او سياسيّا. ولكن سرعان ما تجد المواهب الفكرية في كل مكان. لذلك عبارة وحدة الطائفة لا تعني لي  شيئا.

         مرات عديدة سألني بعض من أبناء كنيستي: ما هو المرجع عندنا. وهذا سؤال كنت أتّخذه بالمعنى الديني وكنت أجيب ان المطران عندنا هو المرجع ولكن جوابي ما كان يرضيهم لأنهم كانوا يطلبون مرجعيّة سياسيّة. وفي هذا قلت ان الارثوذكس لم يكن لهم يومًا منذ الاستقلال او قبله زعيم يعودون اليه. ان لاهوتهم القائم على الحرية او فيه حرية كثيرة كان يلهمهم الحرية السياسيّة ولم يؤسسوا حزبًا طائفيّا وينتمون -لا كلّهم- الى احزاب علمانية ويجتمعون معا صباح الأحد للصلاة على تباين آرائهم السياسيّة.

         انا في حقيقتي لست محلّلا سياسيّا ولي ثقة بالناس على تنوّع انتساباتهم وأريد ان اعتقد ان ليس هناك مشروع لتتسلط اية جماعة دينيّة على حكم لبنان لأنها لا تستطيع ان تضمن تفوّقها الفكري على سنوات عديدة واذا استبدلت تسلّطًا بتسلّط تكون قد وقعت بالخطأ الذي نسبته مرة للآخر.

         الأمر ليس سباقا على التناسل ان تكاثره لا يهم ولا يغني عن العظمة الفكرية وطهارة العيش. «قلت لها ان الكرام قليل». واذا حسدوك لكثرة العدد يحسدونك لقلّته ان باتت جماعتك متفوقة فكريا ونشيطة اجتماعيا. في فترة ليست بعيدة كانت الصين أكبر بلدان العالم ولم يكن احد يوليها قيمة لأنها كانت قليلة الإنتاج  في كل شيء. لذلك اذا بغيت الاختلاط اريده بالمعنى الحقيقي الصادق فنختار في كل شيء القادر ان يكون محبوبا لمزاياه.

#             #

         #      

         هذا يقودني الى القول ان السياسة ليست كل شيء وانها ليست أعظم شيء في دنيانا وان خير صورة للتمازج بيننا هو المحبة التي لا تدرّ عليك مالا ولا تعلو بك الى مقام ولكنها تجعلك مبدعا اي نافعا لقومك. التماسك بيننا هو في كل مجال وليس بالضرورة في شؤون الحكم، ومأخذي على بعض القادة ذهابهم الى انهم اذا تباوسوا صادقين حلت تلقائيا مشاكل البلد. هذا اذا اعتقده شعبنا يكون على غاية في السذاجة.

         لا بد من وضع أسس عميقة فكريا لاستعادة الثقة المفقودة. ولكن هذا لا يتم آليا ولن يتم قبل ما تنتهي المسائل العالقة التي تبدو في غاية الصعوبة. والمسألة الأساسيّة هي هذه هل نحن ممثلون أدوارا لغيرنا. صعوبة الصعوبات ان كل فريق يلقي هذه التهمة على الفريق الآخر. هل نحن دمى يحركها غير اللبنانيين اذ اختاروا البلد مسرحا لصراعاتهم وتاليا اننا اقنعة في لعبة تتجاوزنا. هل من التزام للأجنبي؟ هذا كان في كل احتراب جرى في الجبل بين مطلع الأربعينات والستينات في القرن التاسع عشر. في الحروب التي توالت منذ ١٩٧٥ انا بنفسي رأيت علامات بلدان على هذه البندقية او تلك. لعلّي قلت في هذه الزاوية استنادا الى أبحاث السفير عادل اسماعيل ان كل مجابهة تمت منذ القرن السابع عشر كانت فيها أصابع الأجنبي. هل نحن عملاء او حلفاء او مناصرون لهذه او تلك من الدول؟ اختر التسمية التي تريد. ولكن ما هو واضح اننا لسنا بلا علاقات تودد او محسوبيّة مع الأجنبي. هذا ما يضعف الثقة كثيرا ولكن هذا يمكن إلغاؤه اذا تبنا الى لبنان. هذا يعني -اذا صح الافتراض- ان نتوب نحن والا نطلبه الى حلفائنا القادرين كثيرا على تطويعنا.

         الأحد في ٢٢ كانون الأول في برنامج جورج صليبي سمعت ما حرّكني كثيرا في موقف ضيفه نصري الصايغ ومفاده قوله ان المشكلة لا تكمن في علاقاتنا الاقليميّة والدولية ولكن فينا، والمعنى كما ادركته اننا قادرون على التفاهم فيما بيننا. هو جزم بما فهمته ان ليس من طائفة مرتبطة ارتباطا عضويا بدولة خارج لبنان غير قابل للفك.

         لنعمل على هذه الأطروحة ونولي الثقة بصورة مبدئيّة للطرف الآخر. هذا أعمق من جدلنا على طبيعة الحكومة الحاضرة والآليات الآتية بمن سينصّب على هذه السدة او تلك، الأمر الذي يفرض الحوار من جديد. لا يمكن احدا ان يقول انا أولي الثقة ولكن… .اذا لم نجد حلا لأية مشكلة الآن ما لم نربطها بمشاكل اخرى فهذا يعني اننا أقفلنا كل الأبواب او علينا ان ننتظر تحوّلات عالميّة كبيرة ليس لنا رأي فيها ونرضخ لها على رجاء الممكن.

         ولكني في قرارة نفسي اودّ ان أتبنّى موقف الأستاذ الصائغ على أساس الافتراض اننا نسعى جميعا الى ان نكون قوامين على بلدنا.

#             #

#

         لعلّنا اذا اتفقنا على جامع واحد في الحد الأدنى من توافق القلوب لنا ان نكمل الطريق. غير ان هذا يفترض الا نقرع نحن باب الأجنبي ولا نجعله يستهين بنا. اذا برهنّا نحن اننا نحب البلد واننا قادرون على قيادته وضحينا ببعض من المواقف الجانبيّة نصبح قادرين على إلهام الأجنبي اننا نستحق التحرر منه والدخول في الأسرة الدوليّة بلا إملاء احد.

         هل في هذا أعجوبة؟ التاريخ السياسي مليء بالعجائب. ولكن المعجزات لا تنزل من السماء على غير مستحقيها. هل هذه السطور مكان لنطلب فيه من المسلمين والمسيحيين ان يدعوا الله ان يحفظ بلدهم وان يلجم الطامعين به؟ هل كل دولة تتحرش بنا تحسب نفسها عظيمة الى حد احتقارنا واستعمالنا كرة في ملعب الشعوب؟ واذ ذاك، لا تكون مُحبة للفريق الذي ترعاه. الدول لا تحب، انها تحسب.

#                 #

#

         نفتتح هذه السنة ونحن طالبون الإشفاق الإلهي علينا وعلى اولادنا فإن اليأس قتال. الشعب يختنق والقادرون على شفائه ينظرون الى هذا الاختناق بلا حراك ولا رحمة. الى هذا، نتّكل ونعقل معا ونرجو الا يقهرنا احد.

         وفيما نستمدّ أنوار الأعياد نصلّي بحرارة حتى لا نكسر بعضنا بعضا ونستعيد أخوة مصدومة ولا يجرح أحد في كرامته ونبني وحدة متصدّعة وننمي الخيرات التي منّ الله بها على أرضنا. فالبلد قائم بإرادتنا ونياتنا والحب.

Continue reading