لا أعرف لماذا كانت هذه العبارة في سورة النحل تشدّني اليها؟ هل لكوني احترف الوعظ منذ خمسين سنة وأعرف ان ثمّة واعظين سيّئين وخطباء كبارا؟ الكلمة لا تعطى لكل الناس فقد تكون فقط كلمة بشر او كلمة نازلة من فوق اذ لا يكفي ان تكرر ما أتى به السلف فتبقى الكلمة غريبة عن أعماقك وغير واصلة الى ما كان الله لامس عقلك به وسكن فيه.
اشتهي لو لم يتكلّم معظم المتكلّمين الذين يؤتون الناس الضجر او الضلالة. الخطابة الدينيّة فيها علم ولكن لبّها تقوى الخطيب والإشعاع الذي لا يظهر منه والا ذهب الكلام سدى. وقلب الخطيب وعقله يجتمعان لتنزل الكلمة الصائبة الراشدة والسامع يعلم توًّا انه كان للخطيب قلب اي كانت كلمة الله ساكنة فيه ونافذة.
اجل يبقى السؤال هل من يسمع او هل من يفهم لتوغل الكلمة في صدره. هذا سؤال موجع عند الواعظ التقي ولا تعزية له اذ لا يعلم أأغلق الله على قلب السامع ام فتحه لتستقرّ الكلمات النازلة، وفي هذا يصدق الكتاب في قوله: «ان واحدًا يزرع وآخر يحصد» (يوحنا 4: 34). وهذه هي الحرفة الوحيدة في العالم التي لا عزاء بشريا فيها اذ لا تستطيع ان تعرف ان الكلمة وصلت ام لم تصل ولكنك تحت نيرها وعليك تبليغها.
هكذا مهنة الكتابة جميلة. في الأدب الديني لا تعرف من يقرأ ولماذا قرأ لا تعرف انه فهم واذا فهم لا تعرف انه يتوب لكن «وضع النير عليك». لعلّ التعزية الوحيدة – كما في الموعظة الحسنة- ان ما تكتبه يرفعك الى الله اذ تكون قارئ نفسك. ولكن من طلب تنقية نفسه ليس مضطرا الى الكتابة اذ يخاطبه الله مباشرة ويستجيب ويخلص. غير ان ثمّة فنونا اخرى تشعر فيها انك معذّب ان لم تترجم نفسك. يجب ان تخرج نفسك بالريشة او التأليف الموسيقي او العزف لتنوجد ولا تستطيع ان تبيت في العدم. وهناك من محاك ولا يستجيب لك دائما ابناء جيلك وهذا عرف في الموسيقى وفي الرسم. انت تعبّر لأنك تحتاج ان تحيا.
ويأتي الكتاب عظيما او يأتي تافهًا وليس ما يضمن ان الصالح يُقرأ او انه يصير فيك موعظة حسنة او يغير فيك فاصلة من فواصل الأخلاق. هذا يشبه مثل الزارع في الإنجيل حيث لا تقع الحنطة دائما في الأرض الخصبة ولكنها تقع على الحجر او في الشوك فتختنق. هناك ادب الموت او يكون القارئ قد مات وهو حي وتبتلع هواية الحضارة كل شيء حتى بت أتساءل لماذا قمت بدراسة الأدب او ما يشبه ذلك؟ لماذا هبط عليّ شيء من الإلهام؟ من أحرقني صار فيّ عاصفة لألقي كلمات على من اشترى كتابي ليقرأه او يضعه في مكتبته. وقد يطالعه ابنه او حفيده او يتآكله الغبار.
# #
#
ما شغلني كثيرا في هذه الهموم ان العامة قبل ظهور الطباعة في القرن السادس عشر ما كانوا يقرأون وكانوا أدنى الى الأميّة. وكانت المعابد وحدها أماكن الفكر الديني فتصل الى الآذان الأناشيد ويفهم الناس منها ما يفهمون وكان حفظة القرآن وهنا ايضا يفهم من استطاع. حضارة شفهية لا تقدر ان تعطي ما تعطيه حضارة كتابية. كان هناك المرشد او الشيخ الروحي ويتتلمذ قلبك عليه. وقد يكون هذا الفتات الذي يسقط بين يديك خير طعام لأن الأب الروحي يقود بنقاوته.
غير انه مع الطباعة نشأت مشكلة كبيرة وهي تعدد الثقافة والعلوم، مع أبوقراط كنت فيلسوفا (حكيما كانوا يقولون) وطبيبا معالجا. بعد هذا صار الطب فروعا لا تحصى. مرة كنت في بوسطن طلبا لعلاج ومررت بفرع العيون وقرأت أسماء اختصاصات لم اسمع بها في لبنان ويخيّل اليّ ان من يعرف هذا القسم لا يعرف ذاك. تقسّمت المعارف وانهارت المعرفة الواحدة او الموحدة بحيث يكون خطرا عليك ان تعالج أنفك بلا مراجعة الطبيب. وهذا في كل علم. فاذا أخذنا اللاهوت وطرحت سؤالا على أستاذ الكتاب المقدس تراه لا يعرف شيئا في تاريخ الكنيسة. كيف التوحيد بين معرفة الجزئيات ومعرفة الكل؟ كيف تطرح مثلا على كاهن دكتور في فرع اللاهوت سؤالا يتعلّق بخلاص نفسك وهو لا يفهم فيه شيئا لأن سؤالك لا يدخل في اختصاصه؟ وفي كل العلوم خطأ كبير في تجزئة المعرفة ما يعني انه ينبغي ان يواجه التعدد بشيء من الوحدة. هناك لا بد من تعاون العلماء في ميدان فلسفة المعرفة.
هل ان الانترنت يواجه هذا المسألة؟ ما من شك انه يعطيك اجوبة موضوعة فيه وتحار بدقة معلوماته. عندي هذه الآية ويعطيني أعواني أجوبة عما أسأله ولكني أحس بالحاجة الى معارف موضوعة في كتاب لأن الجزئي لا يعوض عن الكامل ولأن المعرفة العلميّة لا تقوم مقام المعارف الإنسانية والأدبيّة. ولأن شيئا لا يعوّض عن الشعر بعامة والشعر الصوفي بخاصة.
هذا يطرح طبعا كل موقع الأدب والوجدانيات امام الإنسان الذي لا يحب ان يستقيل عن نفسه المحبة وعن التواصل بين تراثه وتراثات الشعوب الأخرى المستقلّة عن العلم المحض الذي أخذ يجدد النزعة العلموية التي ظننا اننا تجاوزناها في القرن الماضي. هل يقدر الإنسان ان يبقى على بشريّته الفاهمة والمتوازنة بلا نصوص الروحية في العالم كلّه.
# #
#
غير ان الخطر الكبير يكمن في المسموع والمرئي الذي يلتهمنا التهاما كبيرا اذا بقي المشهد الوحيد او الأهم في ما نراه ونسمع كل ليلة وهو موجّه سياسيا بحيث ان غير المطّلعين على الواقع السياسي في العالم معرّضون الى فكر آحادي وضعفاء القدرة على التمييز والى جمع الأطفال حول ما لا ينبغي ان يشاهدوه وليس عندي القناعة ان معظم الأهل يرسلون أولادهم الى النوم او عندهم الشجاعة ان يقاوموهم اذا أصرّوا على المشاهدات بناءة كانت ام هدامة.
ولعلّ السقوط كامن ايضًا في ان الاذاعات هذه تغنيك احيانا عن قراءة الصحف وتاليا عن التحليل السياسي المميّز بين المواقف المختلفة. هذا اذا لم أشر الى الإعلانات التي يقال عنها انها فواصل وهي ليست كذلك احيانا وفيها من الممتعات التي تسر المشاهدين بما فيهم البالغون.
هناك انضباط عند كلّ منّا ليقصر مدّة المشاهدة ويزيد من مطالعة الصحف الجيّدة التي تمدّه بثقافة سياسيّة وتقود بعضًا الى مطالعة المجلات الديبلوماسيّة في اللغات التي يتقن.
امام هذا التعدد الإعلامي في المرئي والمسموع لا بد من شيء من التقشف محافظة على المحاكمة الصحيحة في كل هذا المجال.
كل هذا يقودني الى الإقرار بأن شيئا لا يغنينا عن الكتاب ويقال في ان اللبنانيين هم آخر من يطالعون في العالم العربي. يتنزهون بين المجلات القيّمة والمجلات الرخيصة وعلى كل هذا يؤثرون النزهات والمطاعم والسهرات الثرثارة وعندهم ان المال يغنيهم عن كل شيء اي يغنيك عن الدماغ وتحريكه بالدرجة الأولى. ما يفتخر به شعبنا هو ما يسمّيه الحضارة والحقيقة انها حضارة اللذة. ويذهلك اذا مررت بشوارع اية قرية اصطياف ان المطاعم مليئة بالزبائن وهؤلاء أنفسهم يحدثونك عن فقر البلد اي ان هذا الانكباب على المطاعم ليس نصيب الفقراء.
انا أشعر بعد ان أقرأ صحفًا من بلدنا ومن الخارج اني بعد مطالعتها لا تغذيني كما يغذيني الكتاب وان رأسي يمتلئ من الكتاب ولا يمتلئ من وسائل الإعلام بالقدر نفسه وترى اللبناني يعرف كل شيء عن السياسة ويعرف القليل القليل عما عداها.
خلاصة الكلام في هذا انك تعيش فكريا وربما روحيا من الكتاب وليس فقط من الأدب القصصي الذي قليله كان عظيما في الزمن الذي نعيشه. هذا لا يعني اني أوصي احدا ان يهمل القصة او الرواية ولكن المعرفة أوسع من هذا. والكتاب يعني انه لا بد لك من ساعتين في اليوم حتى الأربع لتصبح ناضجا مليئة شخصيّتك المعرفية والوجدانية احيانا ولكن اقرأوا كل شيء وتمسّكوا بالأفضل كما يقول بولس. وهذا يعني انه لا ينبغي ان تكون المراقبة سيفا مصلتا علينا اذ الكتاب السيء يسقط من نفسه. وعدم الزجر يعني ان نثق بالإنسان القادر ان يلتقط الموعظة الحسنة التي تلهمك ان تتدبّر نفسك لتحييها ان قرأت والموعظة الحسنة هي الكلمة المنقذة التي تسقط عليك من فوق.
Continue reading