قارئي وعشيري يعلمان اني لست منحازا الى فريق سياسي ولست أدعو الى هذه الكتلة او تلك ولا يعني هذا ان نفسي حائدة وكأني متحيّر عند ما يبدو لي حق غير ان ثمّة أمورا تظهر عند أوّل فحص انها خارقة للمنطق منها قضية نائب رئيس الحكومة. صدام للمنطق ان يتنطّح زعيم كبير ليقول ان مجرّد إثارة الموضوع يحدث فتنة كلنا يعرف ان طائفة اللواء عصام أبو جمرا ليس لها تاريخ في الفتن وان شؤونا ضخمة جدا في هذه السنين الأخيرة لم تحدث صداما دمويا في هذا البلد. الذين أنشأوا ميلشيات او حالفوا قوى عسكريّة أجنبيّة لا يستطيعون ان يلوحوا بخطر الفتنة.
أما الحجة الكبرى فتحصن بعض من كبار القوم عقلا وثقافة بأن نيابة رئاسة الوزراء لم يرد شيء عنها في الدستور فتعني ان اولي الأمر لا يقومون بشيء الا اذا ورد ذكره في الدستور وهو نص توجيهي، تكويني وليس مجموعة دالوز وإمامك العقل وليس حصرا.
ما يلفت في هذه القضيّة ان المنصب يبدو محصورا بالطائفة الارثوذكسيّة فقد تقلب عليه منذ أكثر من نصف قرن جبرائيل المر وحبيب ابو شهلا وفيليب بولس وغسان تويني وفؤاد الخوري وجورج حكيم وفؤاد بطرس وألبير مخيبر وميشال المر والياس سابا وعبد الله الراسي وموسى كنعان وعصام فارس. وهؤلاء ما اختيروا لكونهم لا شيء. كان هناك قصد من الحكمة السياسيّة لم يذكر عنه الدستور شيئا.
وقد نسب الى دولة رئيس مجلس الوزارء الحالي الذي أنا معجب بصبره وهدوئه ومرانه في ديبلوماسيّة متحرّكة فضلاً عن جوانب أخرى في شخصيّته وممارسته الدينيّة، نسب اليه قوله ان هذه النيابة شرف. جوابي ان التشريف تعامل كان سائدا في نظام الملوك في فرنسا وأوربا يوزّعون فيه لقب بارون او كونت او ما إليهما وهؤلاء لم يكونوا بالضرورة في الحكم. كذلك مارست التشريف السلطنة العثمانية والبك والباشا كان اكثرهم خارج الدولة. ومُنحوا الألقاب لمسرّتهم وزعامتهم في بلداتهم او قراهم. ولقب الشيخ الذي تميّز فيه حكم الأمير بشير الثاني استبقى كل شيخ في قريته. كان هؤلاء الأشراف أصحاب عظمة دنيوية لا خدمة فيها للدولة.
بجهد كبير قد أقبل ان المنوط بهم أمر هذه النيابة قصدوا تشريف الشعب الأرثوذكسي بإعطاء لقب لن يكلّف السلطة شيئا. السلطة اللبنانية هي تتشرّف بالمجد الأرثوذكسي الذي أحاط بهذه الدنيا عندما كانت قفرا منسيا. لكني مضطر ان البادئ بالشعر العربي من مذهب انتمى اليه في المشرقية المسيحية كان يستطيع ان يدخل على امبراطور الروم اي ان المسيحيين العائشين في البداوة كانوا على صلة عضويّة مع الحضارة. واذا قفزت الى العصر العباسي متجاوزا الأخطل لا بد لي ان اذكر ان الروم الأرثوذكس ومنهم قسطة بن لوقا قد أسهموا في تعريب الفلسفة اليونانيّة. والأمر المجهول عند الكثيرين انه كان عندنا لاهوتيون في العصر العباسي اذكر منهم في النثر بولس الأنطاكي وفي الشعر سليمان الغزاوي.
غير ان النظام الملكي زال في اوربا وسقطت الامبراطوريّة العثمانيّة وسقطت معها ألقابها وحاول المرحوم الرئيس الياس الهراوي إلغاء الألقاب ولكن التخلّف اللبناني أبى الا أن يقيم في التشريفات لفراغه من الحقيقة.
كففت عن الرد على اعتبار نيابة رئيس مجلس الوزراء اعتبرت “قيمة مضافة” وهي مصطلح اقتصادي ولا سيما ماركسي استعير هنا وانا معجب – اذا لم تقصد السخرية- بأن الحكومة “مجتمعة” قرأت كارل ماركس وغيره من فلاسفة الاقتصاد.
انا لست مشرعا لأذكر الحكومة بأن لها ان تأخذ قرارا مستقلا في إحدى جلساتها ليبقى عرفا او يعدل به النظام الداخلي في بند خاص على طريقة الحكم التفسيري في القضاء. صدقوني اني في هذا حريص على الحكومة التي فيها من نجلّ حتى الإعجاب ونحبّ حتى عمق الأعماق. سؤالي الى مجلس الوزراء الوقور هو هل اتخذ قرارا بأن اللواء عصام ابو جمرا ليس له صلاحيات ام قال ان هذه الوظيفة هي بحد تسميتها فارغة من الصلاحيات. عند ذاك نكون في أمر خطير اي في التنحي عن اتخاذ موقف منطقي.
ازداد حزني لما لاحظت ان احدا من غير الأرثوذكسيين ما احتجّ على هذا الموقف وهو بامتياز موضوع وطني لأنه تكريس لفكرة ان في الدولة وظائف إسميّة من اجل ما يعتبر مجدا وليس من مجد. لماذا يراد ان يحضر اللواء عصام ابو جمرا جلسة ليس من المؤكّد ان له حول طاولتها كرسيا وليس عنده تفويض بأي أمر.
عصام ابو جمرا في الحقوق الإداريّة في التحديد الواضح يقيم في العدم اذا قررت له ذلك الحكومة “مجتمعة” واذا لم يتخذ قرار جماعي يبقى هذا رأيا لواحد او بضعة من المسؤولين ويجوز العودة عنه.
تأمّلت بهدوء في ما يحدث وصدمني حتى الحزن ان تكون الحكومة مستعدة للإنفاق لاستئجار غرفة او شقّة للواء خارج السراي الكبير وان يوضع كرسي تهذيبا له في قاعة مجلس الوزراء. انسجاما مع المنطق وقدسيّة البشر اذا استمرّ أصحاب التعنّت بتعنتهم ان يلغوا هذه الوظيفة ولا “يشرفوا” الطائفة الأرثوذكسيّة. بربّكم لا توزعوا على الناس من هو “قيمة مضافة” او قيمة غير مضافة. فمنّا من يعرف العربيّة وتاريخ الفلسفة السياسيّة ويفهم ما تقولون إن انتم أعطيتم كل كلمة فحواها. نحن لسنا بطائفة نطلب اعتذارا ما. الفهماء منّا يشرحون لكم معاني الكلمات التي استعملت. هذا لا يمنع الحوار بيننا وبينكم.
يبقى شيء أعظم أساسيا من كل ما قلناه ان احدا في الإدارة المدنيّة لا يستطيع ان يقول لنا ماذا يحلّ بالناس اذا ما غاب رئيس المجلس الوزاري وعيّن مثلا واحدًا من المقرّبين قد يكون من الفئة الثالثة او لا صلة له بالحكم إطلاقًا. او هَبوا ان رئيس الحكومة اعتراه حادث صحي اضطر عنده ان يلازم الفراش وقد عيّن انسانا لا يفقه شيئا في الحكم ماذا يحدث للبلد؟ وفي هذه الحال يستطيع رئيس الجمهورية ان يناقش الوزراء ولكن لا صوت له. اما نائب الرئيس الذي يعيّنه الرئيس فيفهم انه عاقل ومثقّف وخلوق وللوزراء ثقة به وهو قادر – اكثر من موظّف من الفئة الثالثة مثلا- ان يصدر رأيا مع الحكومة “مجتمعة”.
Continue reading