Monthly Archives

June 2008

2008, مقالات, نشرة رعيتي

شخصيّة بولس/ الأحد 29 حزيران 2008/ العدد 26

في هذا المقطع من الرسالة الثانية الى أهل كورنثوس نقرأ اليوم هذا الفصل العظيم اذ نعيّد لهامتَي الرسل بطرس وبولس، كما نقرأ في الإنجيل اعتراف بطرس بالمسيح.

يتكلّم الرسول على معاناته في سبيل الإنجيل ويؤكّد انتماءه في البدء الى العبرانيين وابراهيم لأن بعضًا من المسيحيين قد شكّوا بطابعه الرسولي اذ لم يكن من الاثني عشر. ويؤكّد أنه أفضل من كل الذين يزعمون انهم خدام المسيح. هو طبعا لا يشير الى الرسل اذ ذكر انه عرض على مَن سمّاهم الأعمدة إنجيلَه اي مضمون تعليمه لمّا صعد الى اورشليم.

يذكر السجون التي دخلها والجَلْد الذي قاساه وضَرْبه بالعصي ورجمه وغرقه في البحر المتوسط ومواجهته لأخطار اللصوص ومن اليهود ومن الأمم الوثنيّة، كما ذكر الأخطار من الإخوة الكذبة الذين كانوا يريدون ان يفرضوا ناموس موسى والختان على الدخلاء من الوثنيين مع ان مجمع اورشليم عفاهم من هذه الشروط. ولم ينسَ ان يتحدّث عن اهتمامه بجميع الكنائس التي أسسها هنا وهناك والمذكورة في أعمال الرسل ورسائله.

غير أنه مع هذه الكثافة من الأوجاع قال: «اني أفتخر بضعفاتي» حتى أنهى هذا المقطع بحديثه عن اهتدائه بعد رؤيته الرب على طريق دمشق وذكر ان الملك الحارث وهو من الأنباط (مركزهم البتراء في الأردن اليوم) اضطهده عن طريق ممثله في دمشق (المحافِظ بلغة اليوم).

فورًا، بعد هذا الكلام ينتقل الى رؤى الرب التي رآها (لا يقول أين). يقول اني «أعرف انسانا في المسيح اختُطف الى السماء الثالثة». في الفكر العبري كانوا يعتقدون بسبع سماوات. طبعا هذا الرجل الذي يتحدث عنه هو اياه بولس: «يسمع كلمات سرية لا يسوغ النطق بها» لكونها تفوق العقل.

هنا يقول: انا بهذه الرؤى لا افتخر فإنها عطية الله، ولست اريد ان يعتبرني احد شيئا عظيما، ثم «لئلا أستكبر بفرط الإعلانات أُعطيتُ شوكةً في الجسد ملاكَ الشيطان ليلطمني».

وكل المفسرين مجمِعون على ان هذا كان مرضًا، قيل الملاريا وقيل شحّ بصره، وانا اميل الى المرض الأخير اذ عليه إشارات في الرسالة الى اهل غلاطية لمّا كتب اليهم «انظروا ما أعظم الأحرف التي كتبتُها اليكم بيدي». هنا أخذ الرسول القلم من أمين سرّه وكان يملي عليه لأنه لم يكن يميّز الأحرف الصغيرة ونظنّ انه أراد ان يؤكّد حبّه لأهل غلاطية بجملةٍ وضعها بيده.

هذه الأتعاب الشريرة التي قاساها دفعته الى ان يطلب الى الرب ان يستردّه اليه فقال له الرب: «تكفيك نعمتي. ان قوتي في الضعف تكمل».

السؤال الأخير هو لماذا نعيّد لبطرس وبولس معا. الكثيرون قالوا انهما استشهدا في اضطهاد نيرون السنة الـ65. بعض من المفسّرين قالوا ان بولس لم يكن في رومية آنذاك. غالبا سبب التعييد لهما في يوم واحد اننا وجدنا في الدياميس (التي تحت الأرض) باللغات اليونانيّة واللاتينيّة والآراميّة: «يا بطرس وبولس تشفّعا من اجلنا». ويبقى ان بولس استُشهد كما استُشهد بطرس فنذكرهما معا.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

الجمال / السبت 28 حزيران 2008

أنطلق من أفلاطون القائل: «الجمال هو سطوع الحقيقة». ذلك ان الإغريق سعوا أصلا الى الحقيقة. وما فرّقوا بينها وبين الخير ولست أذكر أنهم بنوا رأيهم في الجمال على أعمال النحت العظيمة او الهندسة المعمارية وما فاقهم بها أحد في العهود القديمة. كذلك لا نعثر على فلسفة الجماليات في الأيقونة عند البيزنطيين الذين كانوا يقولون انهم يكتبون الأيقونة وكانوا ينظرون الى استعمالها الطقوسي مع انهم كانوا يتقيّدون بالرسم وقواعد التلوين ولكنهم كانوا يسعون الى التأثير الروحي في المؤمنين. تحاور الفن والجقيقة عندهم ولم يختلطا وغدا همهم تمجيد الله بما أُحس انهم اعتبروه صناعة اي انهم رأوا الى أنفسهم على أنهم طقوسيون اولا كالمرنمين في العبادة.

كذلك الخط عند المسلمين كانت غايته تمجيد الخالق وملء الفراغات المسطحة بالآيات القرآنية او بالشعر. ما كانوا يسعون الى الجمال المحض ولكن الى وظيفته في المساجد والأضرحة. بكلام آخر البيزنطيون والمسلمون كانوا يسخرون الفنّ للدين لعلهم في هذا كانوا يطبّقون قول أفلاطون «ان الجمال سطوع الحقيقة».

وفي هذا لم يكونوا وحدهم. فالتمثال الغربي في القرون الوسطى هو ايضا كان خاضعا للرؤية الدينيّة ومعظم الرسم كان كذلك لأن الإنسانوية عندهم كانت مشتقة من الألوهية حتى عصر النهضة حيث استقلت البشرة عن الله لذلك اتخذت الطبيعة البشرية والجامدة واقعية أبعادها واكتشفت المنظور perspective  الذي تفرضه حركة الطبيعة. انت تمد اللوحة بالمنظور وتتابع عينك أبعد أفق. من هنا ان الجماليات في النهضة تبنّت فلسفة الوجود كما هو لا الوجود المرجو كما هي الحالة الدينيّة. في هذا السياق داخل الحقبات التاريخية من النهضة الى اليوم ان العري حقيقة.

اجل صعدت أصوات في الغرب احيانا لما رأى بعض الناس مبالغة في تصوير المعرى تصل أحيانا الى الإباحية. هذا لما كان الجسم البشري يظهر كما هو ولكن مع الفن التجريدي صار تحرر كبير من الوجه البشري وأجزاء أخرى من البدن بحيث لا تدرك أحيانا ان كنت أمام قامة بشرية او خطوط لا ضرورة في التقائها الى معقولية انسانية. المهم هو ما يجول في نفس الفنان ويحاول احيانا محاولة يائسة ليقدمها اليك فتسرك الخطوط والألوان وانسجامها. انه هذا الفن لا يمر بالفهم. من حدس الفنان ويحاول سكبه على احساساتك ولا يهمّه عقلك. أرادوا تأكيد بشريّتنا بدون إله وفي الحقيقة دون البشرية لإقامتك في الحواس على إطلاقها فرمونا في الدم.
# #
#
السؤال الذي يطرح نفسه من بعد قراءتنا لأفلاطون هو هل نصرّ على أن يحمل الفنّ قيمًا وهو ما سمّاه فيلسوفنا الحقيقة؟ بكلام آخر هل الفنّان مبشّرًا ولكن بطريقة أخرى؟ لقد ردّت الأوساط الدينية او الدعاة الى القيم على قول بعض الفنانين: «هناك الفنّ للفن» بحيث لا يلتزم قيمًا.

التبشير له أداته وقواعده وأمكنته بما هي كتب وإذاعات وله أمكنته ولكنه قد لا يستطيع ان يظهر كلامه بصورة جميلة. ولكن في أحيان كثيرة لا يستعمل المبشّر او الداعية تقنيّات الجمال أبالتعبير الكلامي كان هذا ام باللون والنغم لأنه لا يملك هذه التقنيّات وتأتي على عمق روحي كبير عارٍ من كل زخرف ويصل الى أعماق النفس. الكلمة الروحية ليست في حاجة الى غير حدتها او حرارتها. قد تقوم على مخاطبة القلب للقلب بكل بساطة. قد تكون على بساطة الأطفال. وعندي أن الموعظة الفاعلة هي التي تخاطب البالغين كما تخاطب الأولاد اذا كانوا على حدّ أدنى من فهم الكلمات.

الفنان الكبير لا يتعب ليفتّش عن الفن. ينبع منه تلقائىا على شيء من الصناعة. الذي لا يفيض من القلب لا يصل الى القلوب. مع ذلك لا يصل بلا أداة يكون قد تعلّمها. الانسان المبدع جمالا يكمن فيه هذا الجمال وينقله بوسائل تعلّمها قليلا او كثيرا. اي ان هناك صناعة يستعملها الفيض الداخلي. بلا هذا الفيض ليس من جمال يطلع ولا من مجال يصل. لا مضمون بلا تعبير ولا تعبير بلا مضمون والا نكون قد وقعنا في الهزالة الكاملة.
# #
#
اين الشكل في كل هذا، شكل الوجه؟ بأي معنى هو متصل بالحقيقة. اذا نظرت الى وجه يصعقك في بهائه الى أية حقيقة تسعى؟ يقول الكثيرون ان الوجه مرآة النفس. وما من شك ان نفسك تجمّلك او تترك مسحة من البهاء الروحي عليك ويقرأ الناس على عينيك وداعة او يقرأون لؤمًا وخبثًا. ولكن الخطوط والألوان هي قائمة شئت او أبيت. أليس هذا جمالا نحته الله على محيّاك قبل أن يستمدّه هذا المحيا من الداخل؟ هذا يطرح مسألة موضوعية الجمال. غابة الصنوبر التي عند بيتي لا يناقش اثنان في جمالها. قد يلتهب أحدنا برؤيتها وآخر لا يلتهب ولكنهما مُجمِعان على ان الجمال فيها وليس فقط في عينيك. قد تستسيغ امرأة وآخر لا يستسيغها لأن الأذواق تختلف ولأن ثمّة عناصر سيكولوجية عند من تنظر اليها. وهناك الحديث والقعود والوقوف والتهذيب. انتما تختلفان بتقدير نسبة الجمال الوصفي ولكنه اذا وجد لا تسميه قبحا. ولا تستطيع.

وقد لا تكون انسانا سليما في رؤية البشر، قد تكون منحرفًا في المقاربة. هذا لا يُقاس عليه ولكن كان واضحًا عند آباء الكنيسة الشرقية ان الجمال عند النساء أقوى مما هو عند الرجال. هل غالى آباؤنا في الدعوة الى الحذر من الجنس الآخر؟ ليس هذا بحثنا ولكن ما أريده من طرح السؤال ان ثمّة جمالا موضوعيا يراه الذائقون مع اختلاف قليل او تقدير مختلف لأقول ان الله واضع الجمال في الانسان والطبيعة مما دعا بعض القديسين ان يقولوا ان رأيت الجمال فسيح الله. كانوا يعتقدون ان الطبيعة لا تُنشئ شيئا لا يطلب في تكوينه الإله او هي موجهة الى الله في هندسة الكون. يعود الى قدرة التقشف عندك ان تهرب من اللهو.

الى الجمال الشكلي جمال غير شكلي هو نور القديسين المرتسم على وجوههم. كنت أعرف أسقفًا روسيا عيناه غائرتان تحت عظم الحاجبين ويوصف حسب القواعد بأنه هو وجه قبيح ولكنه لما كان يقيم القداس الإلهي عندنا في معهد اللاهوت ويرفع رأسه الى الله حاملا الشموع كنت أراه يتجلّى. هذا اذًآ جمال آخر. هكذا قال أشعياء عن المسيح المصلوب: «لا صورة له ولا بهاء فتنظر اليه ولا منظر فتشتهيه» (51: 2). وفسّر هذا الكلام القديس غريغوريوس اللاهوتي بقوله: «الوجه الوحيد الكامل المحقق في جماله معطى لنا بملئه في المسيح المشوّه على الجلجلة والمتجلّي على الجبل فجرًا للنور الفصحي».

في الدنيا جمال الشكل الذي يدعو الى الله عند الروحانيين وقباحة الشكل التي يملأها الله من جماله. ليس المهم، اذ ذاك، الجمال او القبح. المهم ان تستطيع قراءة الله في خليقته.


Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

صبر القديسين/ الأحد 22 حزيران 2008 / العدد 25

كلمة قديس في العهد الجديد تعني كلّ معمّد، وتعني بنوع خاص عند بولس المؤمنين في أورشليم الذي كان معظمهم فقيرًا. وبعد هذا خضعت الكلمة للدلالة على الذين رأت الكنيسة انهم في الملكوت أو الفردوس والمدعوين بعد القيامة العامة ان يشاركوا الله في مجده السماوي.

الراقدون في المسيح ينتظرون الغبطة الكاملة، ولكنهم حيث هم على اتصال بالله بالصلاة ويشفعون لأجلنا لأننا وإياهم كنيسة واحدة. الفرق بيننا وبينهم اننا نحن لا نزال في الجهاد وهم أكملوا جهادهم ويرقدون في سلام الرب ويفيض الرب بأدعيتهم نعمته علينا.

ليس ان القديسين كانوا كاملين على الأرض. الرب قال: «كونوا كاملين كما إني أنا كامل»، والكمال ان نسعى إلى الكمال كما قال القديس غريغوريوس اللاهوتي، هو الا نرتضي ميولنا السيئة وان نكافحها باستمرار الصلاة وقراءة الكلمة وان نفحص قلوبنا دائما، أإلى الرب تتجه ام الى ملذات هذا العالم ومجده الباطل وكبرياء الحياة؟

المهم الا نصالح خطايا نعرفها ونعرف الدواء لها، وان نطيع كل ما قاله يسوع، وان نعتبر ان هذا يتطلّب جهدًا موصولا فلا يأتي يوم نجاهد فيه ويوم نتوانى، فإننا إن تكاسلنا نألف الكسل وندل على ان حبّنا للرب ليس أهمّ شيء في حياتنا.

انت مهندس او طبيب او فلاح او تاجر، هذه كلها مهن ليست صميم حياتنا. هي اهتمامات على طريق سعينا الوحيد الى الله. أانت متزوّج ووالد، فهذه لا تكون شيئا حسنا ان لم تكن خطوة الى الرب.

انت تأخذ اليه كل فكرك وكل نشاطك. واذا أصابتك مشقات فاعلم انها طريقك الى الرب اذا واجهتها بصبر اي بالاتكال على النعمة التي تجعلك تتحملها بصبر القديسين. ليس من واحد بيننا لا يحمل المشقات التي تأتيه من بيئته او احوال الكنيسة واحوال البلد او تأتيه من نفسه.

الحياة ليست جنينة ترتاح فيها. لا راحة في هذا العالم ان كنت مسؤولا عن زرع كلمة الله في بيتك ومع اصحابك والأعداء.

الحياة كلها طريق إلى الله نتربّى عليها ان نسير ليس فقط إلى مصالحنا ولكن إلى الرب الساكن في نفوسنا إن ربيناها على معرفته. واذكر ان السيد قال عن نفسه انه هو الطريق والحق والحياة. بمعنى ان ليس طريق آخر وحق يناقض المسيح او حياة أخرى تأتينا من اللهو.

واعلم ايضًا انك بالصبر والقدوة الصالحة تقود غيرك إلى القداسة. القداسة عمل مشترك بين المؤمنين الذين يتساندون في اتجاههم الواحد إلى المسيح. وهذه المشاركة بينهم نسمّيها الكنيسة. انها الجماعة التي يقدّسها المسيح. واذا لمستَ في نفسك إهمالا للمسيح فعُد اليه بالإنجيل الذي فيه كل الخلاص.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

فرج أو انفراج / السبت 21 حزيران 2008

ليس من شيء يُسمّى في الحقيقة انفراجًا لأن الكلمة تعني تغيرا سيكولوجيا حدث من ذاته او بسبب من ظرف خارجي قلب الوضع النفسي. ليس هناك آلة سيكولوجية او ضربة تحدث تغييرا في النفس لا يقع تحت تفسير العقل وكأن القوى النفسية تسيل فينا من ذاتها فتنصب فيما بينها لإحداث انقلاب داخلي.

الانسان لا يتفرّج على داخل ذاته متوقّعا انفراجًا بعد محنة او حزن او ضيق أعمق يصل الى حد التفجّع. ميل الناس ان ينهوا أحزانهم باللهو بما فيه الرياضة البدنية او قراءة الصحف والكتب او الاستماع الى الموسيقى ولا سيّما الى غناء الطرب في بلادنا. هذا ارجاء لحل العقدة او تعتيم عليها لأننا لا نريد ان نفحص قلوبنا. الفحص متعب ويتطلّب جدية كبيرة وتخليا عن موقف او تبديلا لقناعة. لذلك نقف امام العقدة ونحجبها على عين النفس الفاحصة، خوفا من الحقيقة.

الحقيقة تعرّينا وهذا ما سيفعله الرب في اليوم الأخير. تلك هي الدينونة. ليس اننا لا نعرف خطايانا. ولكنا اذا وقفنا في حضرة الله يخيفنا الاعتراف وهو يصرّ على ان يجعلنا امام الحقيقة التي قضينا كل حياتنا نتجاهلها. الانسان يحب ذاته بصورة مرضيّة ويكره نقدها امام مرآة الحقيقة. يلهو الإنسان لينسى ولا يريد ان يقتنع بأنه لا يستطيع ان ينسى. فالحزن يحزّ في نفسه وهو لا يكرهه بالضرورة. لذلك يهرب منه باللهو الذي هو تغطية أنانية لما يوجعنا. يقنع نفسه بأنّه اذا حاد عن وجعه باللهو ينفرج ولا شيء فيه ينفرج لأن ذاته هي ذاته واللهو يأتي هو به من خارج النطاق المضيء في نفسه.

الحزن نتيجة الصدمة. موت عزيز صادم لأنك تكره الفراق اذ الطبيعة لا مكان فيها للفراغ. الطبيعة تلاحم، وحدة، قران داخلي مع من تحب. «ويكون الاثنان جسدًا واحدًا» اي كيانا واحد بالتعبير العصري. هذا قيل عن اتحاد الرجل والمرأة ولكن يصح في العلاقة بين صديق وصديق. وتحل فيك محنة كبيرة اذا افترق عنك الصديق او الحبيب ولا سيّما لسبب لا تعرفه ويرميك في العزلة والعزلة ليست من طبيعة البشر. ويشتدّ الحزن اذا كان الشوق شديدا. أصعب الأشياء أن يكون الآخر رماك بعزل لا تفهم سببه. واذا فهمت تغدو أقرب الى الغفران والى لحمة تجعلها في نفسه وإن رفض الآخر اللحمة تعيش وحدك صداقة مكسورة. وكل إنسان مكسور.

# #

#

والأصعب من كل ذلك تنقّل الآخر بين المودّة والانفصال ولا تفهم لماذا هذا فيه وانت لم تعطِ الا الحب وفي هذا تأويل كبير. العزلة الكبرى ان تبقى في اللافهم لرغبة الآخر في تحطيمك. وعليك، اذ ذاك، ان تقبل وتضرع الى الله حتى يرشد ذاك الذي أحزنك. وترجو سلامًا فيه ليعود الى نفسه وانت لا تطلب عشقًا ولكنك تطلب للآخر راحة تعود عليك براحة. وقد تموت او يموت الآخر وهو منفصل وليس لك الا الرأفة به بعد ان غادر هذا الوجود. وربما لقيته الرحمة فوق. وقد يفهم في الفردوس ما لم يستطع فهمه على هذه الأرض.

الحياة كلّها انقطاعات ودم غير منظور ويؤذيك ان الآخر لا يفهمك وقد تكون محبة كاملة ولكنه على كل المصادر الروحية التي قرأها الآخر لا تنزل الى أعماقه ولا تنزل الى حقيقة سلوكه لأنه لم يفهم او تحجّر حتى لا يفهم لكونه آثر موقفه المؤذي على إمكان انفتاحه ولا يضمّك اليه بلا شرط.

# #

#

هناك قوم يعيشون بلا حب يتدفقون به وإن كانوا يطلبون ان يكونوا هم موضوع الحب. الحب يؤخذ او يعطى بقرار وهكذا الكراهية. هناك نفوس تعيش على الكراهية لأنها ضعيفة، هشّة ويوسوس لها الشيطان بأن تتلحّف بكرهها ظنّا منها أنها به تتحصّن. من ابتغى هذا التحصّن المصطنع ليس عنده قدرة على الانفتاح اي على قبول الآخر على انه الحصن الحقيقي.

الراسي عليهم البغض يطلبون الانفراج اي انهم يتكلّمون على صدفة ترفع عنهم وطأة البغضاء. ولكن ليس في مسرى حياتنا صدفة. كل أشياء النفس لها قواعدها واللهو لا يريح. انه يرجئ حل العقد وهي لا تنحلّ من عامل خارجيّ. النفس هي المكان الوحيد الذي تحلّ فيه العُقَد. والعقدة لا تزول من ذاتها.

وهنا وددت أن أقول أن التحليل النفسي يكشف لك أسباب الانغلاق ولكنه ما ادّعى يوما انه يجعلك انسانا صالحا. هو يبيّن لك وضعك وعليك انت ان عرفته ان تتخلّى عن المحزنات التي تسبّبها لنفسك وللآخر وهذا قرار نسمّيه التوبة اي الرجوع الى وجه الله الذي فيك لأن الطب النفساني يحلل فقط ولكنه لا يعطيك الدواء. يبيّن لك فقط ان الدواء ممكن ويتركك لنفسك لتقبل شفاء ليس هو كامنا فيها ولكنه يأتي من آخر. لذلك قلت ان ليس من انفراج في ذات النفس ولكن هناك فرج ينزل عليك من فوق. فرج اذًا لا انفراج. الانفراج ثمرة لتدخّل الله فيك.

اللهو اذًا ليس بشيء. الفرج النازل عليك من نعمة الرب يجعلك وحده قابلا للخروج من حزنك لاقتبال الفرح الذي الله مصدره. الحزن يزول اذا قبلت ان تعطى فرحًا إلهيا يترجم نفسه فيك راحة وسلامًا. لك ان تلهو قليلا عن الضغوط النفسية ولكن الضغوط قد تتراكم. ذلك ان الرب وحده اذا تحنن عليك يعطيك شيئا من ذاته اذا كانت نفسك منحنية تحت الأحزان او اذا كرهت. ولا حرية من الكراهية الا اذا حلّت محلّها المحبّة التي ليس الإنسان أصلها. يجب ان ترى الله فهو يراك دائما وينعطف ولك ان تتقبّل هذا العطف لعلمك بضعفك من جهة ومن قوّة الله من جهة. لا، ليس من انفراج. هناك الفرج الذي يحدثه الخالق فيك وهو الذي يجعلك وحده خليقة جديدة في بساطة إحساسك بما يتدفّق عليم من السماء.

النفس اذا بقيت على حدودها وبشريّتها ليس فيها شيء. الله العليم بالوطأة التي عليك يرحمك ويجعل فيك منزلا له اذ هو يكشف لك انك حبيبه وحسبك. وقد تبقى مع الله وحده وحسبك هذا. وهو الذي يدفعك الى اقتبال من أغضبك اذ يعيّنك طبيبًا له. وهذا لا تؤتاه بالعتاب ولكنك تؤتاه بالمحبة المجّانية اي تلك التي لا تطلب شيئا لنفسها وتطلب كل شيء للآخرين ليكونوا في سلام.

مع ذلك قد تبقى وحيدًا وانت مع كل الناس لأنهم فيك بالمحبّة التي تحبهم بها والمحبة التي تغدقها على الآخر هي مبدئىا نار تضعها على رؤوسهم فيهتدوا ولكنهم قد لا يهتدون لأنهم أصرّوا على الانفصال وعليك ان تقبل هذا ولا يزيد حزنك وتسلّم الناس الى ربّهم وتسترحمه لأجلهم مهما فعلوا بك. لا تفحص ما يجري في قلوبهم لأن ثمّة ما يسمّيه بولس سرّ الإثم والإثم قد يقلق الخطأة الى الأبد ويظنّون أنهم يحيون به وهم قد ماتوا وقد لا تعطى انت ان تقيم نفوسهم من الموت. تسلّمهم الى الله والى حنانه الذي يدبرهم من فوق. وانت تقيمهم في دعاء لهم موصول حتى يروا ما أنت راءٍ فيقيمنا ربّك جميعًا من وطأة الموت.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

الثرثرة/ الأحد 15 حزيران 2008 / العدد 24

يوم العنصرة «كان الرسل كلّهم معا في مكان واحد فامتلأوا كلّهم من الروح القدس» وأخذوا يتكلّمون بلغات مختلفة ولكن بكلمة الله وبعظائم الله. الوحدة بين المؤمنين تكون بكلمة الله. ومن لا يتكلّم بها يكون ثرثارًا.

والثرثرة هي التكلّم على أخطاء الغائبين وكشف عيوبهم فينشر السوء وينتهك صيت الناس بالنميمة وينشئ فتنة بين الناس وهي تثير الأحقاد التي قد تطول. وأبو الفتنة هو الشيطان الذي معناه المفرّق. عمل الشيطان أن يهدم المحبّة بهذه الطريقة في حين ان المؤمنين هم معا في المسيح يسوع.

طبعا قد ترى الإنسان الآخر حاملا خطايا كثيرة. كنْ شجاعًا وفاتحه بذلك. ولك ان تكشف السيئات الى من كان له الحق بمعرفتها مثلا ان تقول لصاحب عمل ان موظّفًا عنده قد سرق. ولكن مَن ليست وظيفته أن يعرف لا ينبغي أن يعرف. ولكن أن تجلس في محفل وتفضح هذا وذاك من البشر فنميمة إن كانت التهمة صحيحة ويكون افتراء إن كان الخبر كاذبًًا. وفي الحالتين هذا الكلام خطيئة.

الصمت أفضل موقف ويأتي بعده اللوم او التوبيخ على النميمة والافتراء. أنت لا تستأصل الشر عند أحد إن تكلّمت ضدّه. هذا يزرع فيه حزنًا شديدًا وتهتك صيتًا له حسنًا. وقد يدوم مفعول النميمة والافتراء طويلا ويبقى صيت الآخر قذرًا، وقد يلازمه الكلام السيء الذي قلته عنه الى آخر حياته.

نبش أسرار الناس ليس حقًا لأحد. لذلك لا يجوز ان تصدّق كل ما يُقال عن شخص آخر فهو لربّه الذي يدينه في اليوم الأخير. أنت استر عيوب الآخرين وأن تخشى كل فضيحة تفضح بها الآخرين ان قد تصيبك أنت فضيحة.

عيوب الناس مكشوفة لمعظم الناس، فماذا تنفعك الثرثرة وهي تنتشر وتُحدث فتنة بين الناس وقد لا تهدأ الفتنة. عوض ذلك اكشف حسنات الناس لأن ذلك يقرّب القلوب. أنا لست أقول قلْ عن الناس انهم قديسون، ولكن إن عرفتَ بحسنة فاكشفها لأن هذا ينقّي قلبك اولاً وقد ينقي الذين حولك. اقبل ان الدينونة حق الرب على الناس وليست حقًا لأحد وفق قول الرب: «لا تدينوا لئلا تُدانوا». واذا كان الله يستر كل أبنائه بستر جناحيه فامدد أنت جناحيك على الجميع لتستر عيوبهم فيسترك الله برحمته.

كثير من مجالسنا تقوم على الثرثرة اي على هتك الأعراض او على هتك السمعة الطيّبة. عفّة اللسان فضيلة كبرى. قال الرسول يعقوب: «إن كان أحد لا يعثر في الكلام فذاك رجل كامل» وقال أيضًا: «اللسان نار. عالم الإثم. هكذا جُعل في أعضائنا اللسان الذي يدنّس الجسم كلّه ويُضرِم دائرة الكون ويُضرَم من جهنّم». وقال أيضًا عن اللسان: «هو شرّ لا يُضبَط مملوء سُمًّا مميتًا. به نبارِك الله الآب وبه نلعن الناس الذين قد تَكوّنوا على شبه الله» (الإصحاح الثالث).

اذًا لا ثرثرة ولا فتنة إن كنتم محبّين للمسيح.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

المطران بولس (بندلي) / السبت ١٤ حزيران ٢٠٠٨

انتقل الى حنان الله الأسبوع الماضي مطران عكار الأرثوذكسي بولس بن اسكندر بندلي وأحسسنا ان النور الإلهي كان مرتسمًا على وجهه. أعرف الرجل منذ يفاعه متربّيا على أم بارة وفهيمة ومجاهدة، أخا لثلاثة أطباء ولدكتور في الفلسفة وهو مجاز في الفيزياء وكان مدير المدرسة الأرثوذكسية في ميناء طرابلس وملتزما بشأن الرب ومخافته في حركة تجدد روحي هي حركة الشبيبة الأرثوذكسية. هذا كان إطاره في علمانيته ثم جُعل كاهنًا في بشمزين الكورة اثنتين وعشرين سنة ومبشّرًا جوالا في قرى الشمال الى انتخابه مطرانا على أبرشية عكار الأعظم امتدادا في الكرسي الإنطاكي الأرثوذكسي. أن تكون مطرانا ليس ان تكون بالدرجة الأولى إداريا ولكن أن تكون أبا روحيا لكثيرين. وهذا ما كانه على خير وجه. وعلى عمق روحانيّته بنى في الحجر ما استطاعه.

                     غير أن اللافت فيه هو أخلاقه التي عزّ مثيلها. فقد كان هادئًا، كامل الهدوء لم يُسمع له صراخ في مجالسته الكهنة وغيرهم من الناس. وكلمة الله تخرج من فمه حلوة، دسمة في مواعظه وكتاباته وتعليمه اللاهوتي في البلمند. وهذا الهدوء لم يحل دون صلابته وتمسّكه بما كان يعتقده رأيا سليمًا. سره في هذا انه كان يشتهي الا يجرح احدًا ولا يصدم أحدًا مجانا. كانت سلطته في هيبته، في السلطان الإلهي الذي لم يحد عنه يوما والناس يتوقعون من الأسقف كلمة الله لا كلمات شهواته.

                     حاد عن السياسة كليا ولو اضطر أبويا أن يحضر هذا المهرجان او ذاك. وأنا ما كنت أعرف ان له فكرًا سياسيا واضحًا ولم أكلّمه في هذا الأمر لأني كنت أسعى الى تلك الكلمات التي كانت تصدر عنه لتربينا جميعا. لم يكن توجيه أبناء أبرشيّته سهلا بين يديه لأن التوجيه يتطلّب حوارًا حقيقيا بين المعلّم والمتعلّم اذ تكون بينهما لغة واحدة. هو كان الإنجيل مرجعيّته اي تعود اليه اذا تكلّمت وتفترض أن مكلّمك يعود اليه والذين يستلهمون حكمة الله ليسوا دائما مسلّمين بحكمة هذا العالم. وهاتان حكمتان تتصادمان في معظم الأحوال. ابن هذا الدهر يعتزل ابن الدهر الآتي لأن ابن هذا الدهر لا يريد ان تداخله حكمة الله اذ هو مرتاح الى المنافع التي يجنيها في هذه الدنيا التي هي مجال سلطانه. كل التاريخ مجال صدام بين الخير الذي تحمله قلّة وبين الشر الذي يحمله الأكثرون وليس من لقاء الا بهذا الشيء النادر الذي يسميه الكتاب التوبة.

#                      #

#

                     بهذا كان المطران بولس انجيليًا خالصًا يغتذي من الكتاب ببساطة ليحيا. ثم يوزّع كلمات هذا الإنجيل على العارفين والبسطاء فيصل الى القلوب المتعطّشة الى الله. غير ان الكثيرين الذين لم يقرأوا شيئا قالوا لنا انهم يعيشون من سلوكه اذ كان يجود على الجميع باحترام كامل إكبارًا في القوم كانوا ام موظفين عنده. لهم جميعًا توقير واحد ووداعة واحدة يسكب المسيح فيها على القوم جميعا.

                     والوداعة من أصعب الفضائل. تلتبس عند بعض مع الضعف حتى يروا فضيلة التواضع التي على خفرها تنكشف للجميع. والوداعة والتواضع اجتمعا في هذا الإنسان النادر. ولو طلب التواضع الإمّحاء الا انه يرفع الإنسان أمام وجه الله ووجوه الصالحين في هذا الوجود. والسر في المتواضع انه لا يعرف نفسه هكذا لأنه لا يزن نفسه بميزان ويدع الدينونة لله ويضع نفسه حتى في هذا العالم تحت الدينونة ولا يستطيع ان يرى نفسه شيئا اذ لا ينظر الى نفسه ولا يتمتّع الا بالنعمة اذا نزلت عليه ووعاها. وعندنا نحن الأرثوذكسيين انه يجب عليك ان تعي النعمة وان تشكر. المؤمن عيناه الى المقامات الإلهية التي منها يأتي عونه فهو أبدًا مخطوف وينزل الى الدنيا اذا أرسلته اليها النعمة. الأبرار عالم بحد نفسه له فهم خاص وقانون خاص ومن كان عن كل هذا غافلا لا يرى أعماق الأشياء لا في دينه ولا في دنياه.

#                    #

#

                     كان المطران بولس فقيرًا حتى العدم لأنه قرأ عند آبائنا ان مال الكنيسة ليس له ولكنه المؤتمن عليه فقط وانه حكما للمحتاجين ولم يكن له دخل شخصي ولا يتقاضى راتبًا ولا يأخذ هدية شخصية من المال وكل ما كان يُتبرع له كان يضعه في مؤسساته التربوية او الاستشفائية.

                     لا يكل ولا يتعب. يلبي كل حاجات المؤمنين على صعيد الأسرار المقدسة وهذا يتطلّب منه أحيانا كثيرة ان يعبر الحدود السورية اللبنانية غير مرة في اليوم ليقوم بالخدمات الروحية المطلوبة منه حتى لا يصدّ أحدًا ولا يُحزِن أحدًا. وكان يرحل من مطرانيّته أحيانًا كثيرة في تعزية يمكن إرجاؤها وذلك بسبب من الأبوة التي كان يحسّ بها لتبيان الود الذي ينفع دائما. من هنا وفي الموازنة بين طاقاته أقول انه كان بالدرجة الأولى رجل قلب والقلوب تأخذ بعضها من بعض والمشكلة أن عامة الناس يريدون ان يكون رئيس الكهنة قويا في الدولة، لصيقًا بالنافذين اي ان يكون في خدمة دنيوياته وغالبا ما لا ينتظرون منه الانسحاق لأن الانسحاق يناقضه الجبروت. ومن المعروف ان الجماعة الروحية القليلة العدد في البلد يعتم عليها وعلى أبنائها لأن الدولة دولة العدد. والأعزل او الفقير لا يفرض نفسه على ذوي المقامات ولو فرض نفسه على النفوس العطشى الى البرّ.

                     الكبار الكبار لا يخلفهم أحد لأنهم يقيمون في النفوس أجيالا تتوالى. لذلك لا ندفن الأسقف اليوم جالسا على كرسي كما في السابق. نمحوه في تابوت عادي. وعند اقترابنا من القبر ننزع عن رأسه التاج لأن الله بات وحده تاجه. ونضع على وجهه ستر القرابين بسبب تلك المحبة التي تجعلنا نشعر انه أمسى قربانا لله.

                     دُفن المطران بولس في كنيسة صغيرة إزاء دار المطرانية بعد أن قبّل الكثيرون يده وتبرّكوا هكذا بجثمانه الطاهر وهنا لا بد من أن أودع قارئي برواية حادثة سيارة كنا فيها معا. كنت تركت سيارتي في باحة المطرانية لنذهب معا الى صافيتا ونقيم قداسا وجنازا لأحد الأصدقاء. وعند عودتنا الى دارته أردت ان أعود بسيارتي الى بيتي في برمانا وأن اودّعه عند منزله. فأصرّ من اجل تهذيب فائق أن يرافقني الى طرابلس في سيّارته وعند اقترابنا من المنية في قضاء طرابلس عارضتنا شاحنة مخالفة الاتجاه وقد تضرّر هو من هذا الاصطدام كثيرا وأُجريت له غير عملية جراحية. لماذا كل هذا الود الذي كنت أعتقد انه لا فائدة من إظهاره؟ لماذا كل هذا اللطف او هذا الذوبان في اللطف الذي كنت أعرفه فيه. الروحانيون الكبار عندهم منطق خاص بهم.

                     وبعد أن ودّعناه قال الكثيرون هنا وفي الخارج ان لنا اليوم قديسا يشفع في هذه الكنيسة التي تبقى حاجتها الكبرى القداسة.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

قسوس الكنيسة/ الأحد 8 حزيران 2008 / العدد 23

يعود بولس للمرة الأخيرة من أوربا إلى فلسطين ووصل إلى ميليتس ولم يُكمل طريقه إلى أفسس في آسيا الصغرى خاشيًا ان يبطئ فيها لإصراره على أن يقضي العنصرة (اليهودية) في أورشليم.

وكان بولس يريد ان يلقي تعليمًا على كهنة أفسس المسمّين بهذه الترجمة قسوسًا ونبّههم على أن يسهروا على أنفسهم وجميع الرعية التي أقامهم الله عليها «أساقفة». أساقفة تعني رقباء، وكانت في الزمن الرسولي تدلّ على كل إكليريكي فوق درجة الشماس كاهنًا كان ام مطرانًا ثم انحصرت الكلمة للدلالة على رئيس الكهنة. ليس أنه لم يكن تمييز بين وظيفة الكاهن ووظيفة الأسقف، ولكن كلمة واحدة كانت تدل على رتبتين . اذًا هؤلاء كانوا مجرد كهنة.

وحذّرهم الرسول من الذئاب التي ستجيء من خارج الرعية او تظهر في الرعية نفسها ليقسموا الرعية ويجرّوا إليهم «زبائن». لذلك اسهروا وتذكّروا نصائحي. ثم استودعهم الله «وكلمة نعمته القادرة ان تبنيكم وتمنحكم ميراثا مع جميع القديسين» والمقصود بالقديسين جميع المؤمنين وبخاصة أهل أورشليم.

وأخيرا ذكّرهم بأنه لم يتقاضَ أجرًا او راتبًا من أيّة كنيسة وكان فقط يعمل بيديه خيامًا وليس فقط يعمل ولكنه يُحْسِن إلى الإخوة الفقراء بناء على قول الرب يسوع: «إن العطاء هو مغبوط أكثر من الأخذ». وهذا الكلام بولس نقله إلينا وهو غير وارد في الأناجيل.

«ولما قال هذا جثا على ركبتيه وصلّى» وبعد هذا أكمل طريقه إلى أورشليم لتبدأ محاكمته هناك ويُبعد الى روما ليحاكَم فيها ويموت في زمن الاضطهاد الأول او بعده بقليل.

اللافت عند بولس اهتمامه بجميع الكنائس، وكل كنيسة تختلف مشاكلها عن الثانية، وهو كان يستوعب في عقله وقلبه كل هذه الجزئيات. لذلك كان يكتب الى الكنائس أمورًا لاهوتية وتتعبه الشؤون الرعائية وهو فقير، فقير.

سيرة ولا ألمع، مليئة بمحبّته للمسيح وبترجمة هذه المحبة أفعالا وأتعابا من كل صنف حتى جاء وقت أدائه شهادة الدم.

مما يميّز هذا الفصل في الرسالة الى أهل أفسس اهتمام الرسول بتربية الكهنة انطلاقا من انهم رعاة لكنيسة الله التي اقتناها بدمه. كون الجماعة كنيسة الله، تتطلّب سهرًا دائمًا حتى لا يسقط أحد ولا يتهاون أحد لأن مَن أَحبّ كنيسة الرب وخِدْمتها لا ينام.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

الشيخوخة / السبت 7 حزيران 2008

ليست الشيخوخة نهاية الا في الظاهر. قد تكون بدءًا جديدًا او بدءًا مجدّدًا هذا اذا اقتنعنا ان الجسم بعض من الإنسان وما هو كل الإنسان. الى ذلك فهناك نشاط ممكن تمهد له الرياضة البدنيّة والرياضة العقليّة قد تكون قويّة. للإنسان أن يفكّر أن رؤية الحقيقة ورؤية النور ممكنة في كل سن. لا ينبغي ان تصبح الشيخوخة انتظارًا للموت. فاستعدادنا له أمر إلهي في كل مرحلة من مراحل العمر.

كل عمر له بهاؤه فاذا كان الشباب زمن التوثب والرجاء الكبير فالرجاء ليس محصورًا في الفتوّة. واذا كانت الكهولة مرحلة النضج فالشيخوخة زمن الغفران وسعة الصدر وتخفف من كثير من الشهوات واعتبار الفانيات لأن الباقيات الصالحات تطل علينا بالمرحلة الأخيرة وهي تقبّل للنعمة وقدرة على المحبة والمحبة اسم الله بالذات كما يقول يوحنا الإنجيلي وتاليا هي ملامسة للسماء ودعاء لنيل بركاتها.

في البدء الشيخوخة تجمع خبرات وإفادة روحية منها اي تصفية لكل ما يعيق النعمة ان تسكن فينا. اجل هناك خطر الأحزان وخطر التحمّل للأعباء وان ينوء الإنسان تحت ثقلها ولكن للجسد ان ينهض اذ يستنهضه الله متى شاء ويجدده احيانا بالآمال كما يجدّد بها الشبيبة.

المراحل ليست منفصلة فالشيخ كثيرا ما يحمل التوثّب وانتظار سنوات غير معدودة فيها الحسنات التي كانت في الفتوة والكهولة بمعنى ان ليس مرحلة من العمر تنتهي فضائلها معها ولذلك كان الإنسان مدى في الزمان ويحيا على رجاء ولا ينقطع بالضرورة بالمرض والمرض له ان يكون مدة تطهير وسكينة وانطلاقة مجددة الى الله. والله يمدّنا بالعمر اذا حلا له ذلك ويستردّنا اليه لعلمه ان مساكن السماء مليئة بالفرح لأن «من مات قد تبرأ من الخطيئة» (رومية 6: 7).

يكسرنا الله أحيانا على مستوي البدن حتى يربينا بهذا الانكسار ويجعلنا بلوريين بسبب من الشفافية التي ينعم بها علينا واذا بالناس لا يرون هبوط البدن ولكنهم يرون البلور. والبلور في السماء يسمّى نورًا وهو يلامس النور الإلهي ويكاد يختلط به فيتكوّن النور الإلهي من مصدره اي الله وممن يشع عليهم فتكاد لا تميّز الرب عن الذين أحبوه.

#              #

#

الى هذا يحب الشيوخ ان نحبهم لكي تزداد حيويّتهم ويسعى الشباب الى حكمة الشيوخ وينكمشون بها فتخلط الأعمار بالمحبة المبدعة حتى نصبح إنسانية واحدة تقوم على وثبات تختلف أنواعها ولكن لا يختلف جنسها وهو المحبة.

اما اذا جاء الأجل وكان المسن صافيا فيستعد للقاء ربّه بالإيمان ان الأحسن ينتظره وانه ينتقل الى المجد. ليس هذا نهاية. هذه رياضة اخرى فيها النصر الأخير والمسن لا يحسّ بالانقطاع عن المكافأة التي تنتظره فهو عارف أن قلبه سيفعمه الحب الإلهي وان هذه العظام لا بد لها ان تقوم في اليوم الأخير. المؤمن انسان السفر ليس الى بعيد لأن السماء ليست بعيدة. انها قد حلّت في قلبه وأقامته في العزاء وهو في العمق ينتقل من نفسه الى نفسه التي سيحل فيها وجود أعظم يجدّدها.

لا شيء ينقطع فاذا كنت مسكن الله هنا سيكون هو مسكنك هناك اي اذا كنت واحدًا مع ربّك في دنياك ستظل واحدًا معه عنده وواحدا مع جماعة المخلَّصين. وتقيم هناك في الخيرات التي لا تُحصى ولا تُوصف. وهناك تكتمل اذا اقتربت هنا من الكمال اي اذا تقت اليه فامتلأت منه وعلّمت الناس ان يشتاقوا اليه.

الحياة هي الشوق الى الله وغالبا ما يقوى الشوق اذا اقتربنا من نهاية دنيانا. والشوق عيش ورغد. واذا حلّ فينا حقًا سيستجيب لنا الله ويعطف وينقلنا اليه بالرحمة قبل الموت ونعرف ان أحبتنا سيسترحمون فإن الذين هم فوق واحد مع الذين استبقوا في دنياهم لأن الوحدة ليست في المدى ولكنها  في القلوب المتعاطفة بسكنى الله فيها.

الشيخوخة نعمة على الكبار في الروح وربما كانت ايضًا نعمة على الذين يحافظون على عقولهم صافية، عادلة بعيدة عن الأحقاد بعد ان زال شبق الحقد ودخلنا الصفاء عظيمًا كبيرًا. لعل مشيئة الله الذي يحفظ المسنين ان يبعدهم عن النزوات التي كانوا يجرونها معهم فيكبرون لا في السن ولكن في الراحة الحقيقيّة والسلام وليس بعد السلام شيء. وتأتي نهاية هي بداءة للسكون الكامل الذي ينتظرنا في الفردوس. واذا حللنا فيه نصبح في ما يقرأه الله فينا على فتوة القلب التي فيها يمسح الله عن عيوننا كل دمعة.

#              #

#

علاقاتنا بالشيوخ من حيث إقامتهم، حسب كبار الخبراء في العالم، ان يبقوا في بيوتهم لا ان يُذهب بهم الى مأوى عجزة لأنهم فيه منعزلون وهم يريدون ان يقضوا بقيّة ايام حياتهم في تلقّي العاطفة من ذويهم. اعرف ان هذا قد يتطلّب عناية فائقة وسهرا على صحّتهم وقد لا يبقى أحد في البيت اذا ذهب الرجل والمرأة الى عملها. وقد يكون المأوى ـ أيا كان اسمه ـ الحل الأبسط للعناية. ولكن ما من شك ان العيش في المأوى يولّد الحزن والشعور بالعزلة. في الحقيقة اذا كانت العائلة ميسورة الأفضل ان يبقى احد الزوجين في البيت ليحيا المسن في سلام وفرح لا يجدهما في المأوى. اما اذا كان لا بد من المأوى زيارة أهل المسن له ينبغي ان تكون منتظمة لا يهمل وحده بلا الشعور العائلي الذي نحتاج اليه. هذا مستحيل  اذا كان المأوى بعيد عن البيت او في مدينة اخرى. المهم ان يجهد الأهل لكي يخففوا عن لمس الشعور بالعزلة.

المهم الا يحس الشيخ بالإهمال من قبل الإدارة.

الى هذا هناك في أوربا مؤسسات لمساعدة الشيوخ او المرضى الذين هم في حالة الخطر على اجتياز ما تبقّى لهم من عمر وذلك بتعزيتهم والحديث اليهم بلغة دينية او غير دينية. هذا ليس بمستشفى ولكنه بيت مريح أشبه بفندق حيث يرتاح المسن او المريض الى ذلك الإنسان المدرّب على تهيئة هذا المعوز لقبول انتهاء حياته بالسلام. لست أعرف ان كان عندنا مؤسسات كهذه في لبنان ولكنها أساسيّة حتى لا يقع المحتاج الى هذه العنايات بالحزن واليأس.

لا بد لإنسانيّتنا ان تضمّ المسنّ اليها بفرح. انه لم يغادر الحياة بعد وهو قابل لعيش كريم ليس فقط في مجال الصحة الجسديّة ولكن في مجال الصحة النفسيّة والعافية الروحيّة.

سوف يكثر الشيوخ في السنوات المقبلة والعبء اذ ذاك، عظيم. لذلك هذا همّ المجتمع كلّه. وقد نكون في حاجة الى استنباط وسائل حديثة لكي لا يفهم المسنّ انه مقلق للأصحاء او عالة على المجتمع.

المسنّون أحباء الله. وعلى هذه القاعدة نتعامل وإيّاهم.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

الصلاة/ الأحد أوّل حزيران 2008 / العدد 22

يميل الإنسان أحيانا بعد الصوم أن يسترخي في صلاته ويتحسّر على انقضاء الصوم لكونه يتحسر على ضعف الكثافة الروحية. غير ان الكنيسة أنشأت مواسم لملء الفراغ كالصعود والعنصرة لأنها تركز على صلاة الجماعة ولا تكتفي بالصلاة الفردية.

فردية كانت أم كانت جماعية، الأهمية الكبرى للصلاة هي انها اولا تحمل الله فينا. هو ينادينا من داخلنا. هو المصلّي فينا. حسب قول الكتاب: «الروح يشفع فينا بأنّات لا توصف». بتعبير آخر الرب مبدئ الصلاة فينا ولا نقدر ان نصلّي ما لم تنزل علينا نعمة الروح القدس. لذلك نستهلّ كل خدمة إلهيّة باستدعائه: «أيها الملك السماوي المعزّي».

الخوف أن نترك الله بالكسل، ألا نعود نذكره، أن يدخل الينا الفتور فتموت حرارة الدعاء فينا. وقد يصل بنا الفتور الى إهمال ذكر الله كليًا ونُترك الى كلّ عمل الأهواء العاصفة في النفس.

الصلاة عند المؤمن العادي هي الإحساس بالفقر، بفقر النفس الى خالقها وفاديها. هي الشعور ان ليس عندنا شيء بلا حضور الله فينا، أن نشعر بأنه هو محرّك النفس. وكلّما توغّل الإنسان بالخطيئة يصبح أليفًا لها حتى درجة عشق الخطيئة. تصبح الخطيئة مسكنه. تناجيه الخطيئة، تدغدغه ويتبنّى منطقها، لذلك لا يحنّ الى الصلاة.

أما اذا عاد الإنسان اليها بنعمة الروح ولو عاد شيئًا فشيئًا يرحمه الرب ويسكب عليه نعمته، وعند ذاك مناجاته لله تحارب مناجاته للخطيئة، ويسكن الروح القدس قلبه من جديد، وبقوته يعرف ان الروح يشفع في داخله بأنّات لا توصف.

غير أننا لا نجهل قوّة التجربة وعودة عواصف الشرير الى القلب، لذلك لا بد من عدم الاستسلام الى التراخي. فاذا وجدنا مثلا أن صلاة النوم الصغرى طويلة فلا نحذفنّ جزءًا منها لأن هذا يقودنا الى ان نحذف كل شيء. انت تحافظ على كل الصلوات التي كنت تقيمها لئلا تقع في الكسل وإهمال ذكر الله.

غير انك إذا شئت ليس فقط ان تصلّي ولكن أن تحب الصلاة فلا بد لك من درس الكتاب المقدّس ولا سيّما الإنجيل حتى تمتلئ من معاني الكلمات الإلهية لتتشبع معها صلاتك وتزداد فهمًا لصلاتك. فالخدم الإلهية عندنا آتية من الكتاب فتذهب منه إليها ومنها إليه لتأتي الكلمات التي تتلفّظ بها من روح الرب.

أنت لا تتلو أيّة صلاة كالببغاء. يجب أن تفهم كل شيء وتسأل عن كلّ شيء وتصلّي بهدوء وبطء بحيث تستوعب كل ما تقول. نقِّ نيّاتك قبل ان تصلي وتُبْ الى الرب فيكون قلبك مفعمًا من روح الله وتأتي كلمات أدعيتك من المسيح الساكن فيك.

الصلاة جهاد طويل مستمر ولكنه حياتنا. الصلاة تشفيك من كل خطيئة وترفعك هنا الى أجواء الملكوت.

Continue reading