ليست الشيخوخة نهاية الا في الظاهر. قد تكون بدءًا جديدًا او بدءًا مجدّدًا هذا اذا اقتنعنا ان الجسم بعض من الإنسان وما هو كل الإنسان. الى ذلك فهناك نشاط ممكن تمهد له الرياضة البدنيّة والرياضة العقليّة قد تكون قويّة. للإنسان أن يفكّر أن رؤية الحقيقة ورؤية النور ممكنة في كل سن. لا ينبغي ان تصبح الشيخوخة انتظارًا للموت. فاستعدادنا له أمر إلهي في كل مرحلة من مراحل العمر.
كل عمر له بهاؤه فاذا كان الشباب زمن التوثب والرجاء الكبير فالرجاء ليس محصورًا في الفتوّة. واذا كانت الكهولة مرحلة النضج فالشيخوخة زمن الغفران وسعة الصدر وتخفف من كثير من الشهوات واعتبار الفانيات لأن الباقيات الصالحات تطل علينا بالمرحلة الأخيرة وهي تقبّل للنعمة وقدرة على المحبة والمحبة اسم الله بالذات كما يقول يوحنا الإنجيلي وتاليا هي ملامسة للسماء ودعاء لنيل بركاتها.
في البدء الشيخوخة تجمع خبرات وإفادة روحية منها اي تصفية لكل ما يعيق النعمة ان تسكن فينا. اجل هناك خطر الأحزان وخطر التحمّل للأعباء وان ينوء الإنسان تحت ثقلها ولكن للجسد ان ينهض اذ يستنهضه الله متى شاء ويجدده احيانا بالآمال كما يجدّد بها الشبيبة.
المراحل ليست منفصلة فالشيخ كثيرا ما يحمل التوثّب وانتظار سنوات غير معدودة فيها الحسنات التي كانت في الفتوة والكهولة بمعنى ان ليس مرحلة من العمر تنتهي فضائلها معها ولذلك كان الإنسان مدى في الزمان ويحيا على رجاء ولا ينقطع بالضرورة بالمرض والمرض له ان يكون مدة تطهير وسكينة وانطلاقة مجددة الى الله. والله يمدّنا بالعمر اذا حلا له ذلك ويستردّنا اليه لعلمه ان مساكن السماء مليئة بالفرح لأن «من مات قد تبرأ من الخطيئة» (رومية 6: 7).
يكسرنا الله أحيانا على مستوي البدن حتى يربينا بهذا الانكسار ويجعلنا بلوريين بسبب من الشفافية التي ينعم بها علينا واذا بالناس لا يرون هبوط البدن ولكنهم يرون البلور. والبلور في السماء يسمّى نورًا وهو يلامس النور الإلهي ويكاد يختلط به فيتكوّن النور الإلهي من مصدره اي الله وممن يشع عليهم فتكاد لا تميّز الرب عن الذين أحبوه.
# #
#
الى هذا يحب الشيوخ ان نحبهم لكي تزداد حيويّتهم ويسعى الشباب الى حكمة الشيوخ وينكمشون بها فتخلط الأعمار بالمحبة المبدعة حتى نصبح إنسانية واحدة تقوم على وثبات تختلف أنواعها ولكن لا يختلف جنسها وهو المحبة.
اما اذا جاء الأجل وكان المسن صافيا فيستعد للقاء ربّه بالإيمان ان الأحسن ينتظره وانه ينتقل الى المجد. ليس هذا نهاية. هذه رياضة اخرى فيها النصر الأخير والمسن لا يحسّ بالانقطاع عن المكافأة التي تنتظره فهو عارف أن قلبه سيفعمه الحب الإلهي وان هذه العظام لا بد لها ان تقوم في اليوم الأخير. المؤمن انسان السفر ليس الى بعيد لأن السماء ليست بعيدة. انها قد حلّت في قلبه وأقامته في العزاء وهو في العمق ينتقل من نفسه الى نفسه التي سيحل فيها وجود أعظم يجدّدها.
لا شيء ينقطع فاذا كنت مسكن الله هنا سيكون هو مسكنك هناك اي اذا كنت واحدًا مع ربّك في دنياك ستظل واحدًا معه عنده وواحدا مع جماعة المخلَّصين. وتقيم هناك في الخيرات التي لا تُحصى ولا تُوصف. وهناك تكتمل اذا اقتربت هنا من الكمال اي اذا تقت اليه فامتلأت منه وعلّمت الناس ان يشتاقوا اليه.
الحياة هي الشوق الى الله وغالبا ما يقوى الشوق اذا اقتربنا من نهاية دنيانا. والشوق عيش ورغد. واذا حلّ فينا حقًا سيستجيب لنا الله ويعطف وينقلنا اليه بالرحمة قبل الموت ونعرف ان أحبتنا سيسترحمون فإن الذين هم فوق واحد مع الذين استبقوا في دنياهم لأن الوحدة ليست في المدى ولكنها في القلوب المتعاطفة بسكنى الله فيها.
الشيخوخة نعمة على الكبار في الروح وربما كانت ايضًا نعمة على الذين يحافظون على عقولهم صافية، عادلة بعيدة عن الأحقاد بعد ان زال شبق الحقد ودخلنا الصفاء عظيمًا كبيرًا. لعل مشيئة الله الذي يحفظ المسنين ان يبعدهم عن النزوات التي كانوا يجرونها معهم فيكبرون لا في السن ولكن في الراحة الحقيقيّة والسلام وليس بعد السلام شيء. وتأتي نهاية هي بداءة للسكون الكامل الذي ينتظرنا في الفردوس. واذا حللنا فيه نصبح في ما يقرأه الله فينا على فتوة القلب التي فيها يمسح الله عن عيوننا كل دمعة.
# #
#
علاقاتنا بالشيوخ من حيث إقامتهم، حسب كبار الخبراء في العالم، ان يبقوا في بيوتهم لا ان يُذهب بهم الى مأوى عجزة لأنهم فيه منعزلون وهم يريدون ان يقضوا بقيّة ايام حياتهم في تلقّي العاطفة من ذويهم. اعرف ان هذا قد يتطلّب عناية فائقة وسهرا على صحّتهم وقد لا يبقى أحد في البيت اذا ذهب الرجل والمرأة الى عملها. وقد يكون المأوى ـ أيا كان اسمه ـ الحل الأبسط للعناية. ولكن ما من شك ان العيش في المأوى يولّد الحزن والشعور بالعزلة. في الحقيقة اذا كانت العائلة ميسورة الأفضل ان يبقى احد الزوجين في البيت ليحيا المسن في سلام وفرح لا يجدهما في المأوى. اما اذا كان لا بد من المأوى زيارة أهل المسن له ينبغي ان تكون منتظمة لا يهمل وحده بلا الشعور العائلي الذي نحتاج اليه. هذا مستحيل اذا كان المأوى بعيد عن البيت او في مدينة اخرى. المهم ان يجهد الأهل لكي يخففوا عن لمس الشعور بالعزلة.
المهم الا يحس الشيخ بالإهمال من قبل الإدارة.
الى هذا هناك في أوربا مؤسسات لمساعدة الشيوخ او المرضى الذين هم في حالة الخطر على اجتياز ما تبقّى لهم من عمر وذلك بتعزيتهم والحديث اليهم بلغة دينية او غير دينية. هذا ليس بمستشفى ولكنه بيت مريح أشبه بفندق حيث يرتاح المسن او المريض الى ذلك الإنسان المدرّب على تهيئة هذا المعوز لقبول انتهاء حياته بالسلام. لست أعرف ان كان عندنا مؤسسات كهذه في لبنان ولكنها أساسيّة حتى لا يقع المحتاج الى هذه العنايات بالحزن واليأس.
لا بد لإنسانيّتنا ان تضمّ المسنّ اليها بفرح. انه لم يغادر الحياة بعد وهو قابل لعيش كريم ليس فقط في مجال الصحة الجسديّة ولكن في مجال الصحة النفسيّة والعافية الروحيّة.
سوف يكثر الشيوخ في السنوات المقبلة والعبء اذ ذاك، عظيم. لذلك هذا همّ المجتمع كلّه. وقد نكون في حاجة الى استنباط وسائل حديثة لكي لا يفهم المسنّ انه مقلق للأصحاء او عالة على المجتمع.
المسنّون أحباء الله. وعلى هذه القاعدة نتعامل وإيّاهم.
Continue reading