Monthly Archives

April 2003

2003, مقالات, نشرة رعيتي

فصحنا/ الأحد 27 نيسان 2003 / العدد 17

الفصح كلمة تعني العبور. وفي العهد القديم هي الاحتفال بالخروج من مصر الى ارض الميعاد، ويتم العيد بأكل الحَمَل الفصحي. الفصح المسيحي هو ان يجتمع المؤمنون بيسوع ليقيموا ذكرى موته وقيامته وهو حَمَل الله الحامل خطايا العالم. وبه يعبرون من الخطيئة والموت الى حرية ابناء الله. ولهذا قال كتابنا عن يسوع انه هو الفصح (1 كورنثوس 5: 7). اخذنا اذًا عيدا قائما وغيَّرنا معناه. يسوع يعبر من هذا العالم الخاطئ الى الآب (يوحنا 13: 1).

         الفصح الدائم الذي تركه لنا يسوع هو الذبيحة السرية التي تتحقق بأننا نأكل جسد الرب ونشرب دمه اي نأخذه كاملا فينا، نأخذ ذاته. لهذا كان كل قداس ذكرى موته وقيامته معا. فهم المسيحيون هذا منذ البدء فصاروا يجتمعون كل يوم احد لِما سُمِّيَ كسر الخبز. ولهذا سمي اليوم الاول من الأسبوع يوم الرب. ولهذا السبب ايضا نقول بالعربية يوم الأحد ولا نقول الواحد لأن الواحد في الأرقام يليه اثنان وثلاثة. هذا هو يوم الأحد اي المكتمل بذاته الذي ليس كبقية الأيام. وقد ابتدأت الكنيسة تقيم فصحا اسبوعيا وهو اليوم الاول من الأسبوع. وبعد هذا انشأت العيد السنوي. وفيه نعلن تحررنا من الخطيئة والموت ونتحد بالمسيح المصلوب والقائم حيا على رجاء عبورنا الأخير الى الآب عند قيامتنا. فبعد المجيء الثاني نحقق العبور الكامل الى الله. لذلك عندما نقيم ذبيحة القداس نكون مشتركين بالمجيء الاول ومتوثبين الى المجيء الثاني.

         اما في الحياة الطقسية فالعيد هو ثلاثية تبـدأ مـن الجمعة العظيمة. لا ندخـل في اعمـاق العيـد الا اذا اشتركنا في فرح هذه الأيام الثلاثة. ولا ينحصر فرحنا في ان المسيح قام ولكن فرحنا ايضا في انه انتصر على الموت بقبوله الصلب. جوهر الخلاص ان السيـد قَبِـل موتـه طوعا فانسكبت حياته الإلهيـة في مملكـة المـوت وأماتت المـوت. ولهذا سميت عندنا ايقونة العيد النزول الى الجحيم، وعلى الايقونة ترى المسيح في ممـلكة الأموات منهضا بيديه آدم وحواء الممثلين لكـل الجنس البشري. لقد تـم الخلاص على الصليب كاملا وجاءت القيامة كشفا لهذا الخلاص. هي الدليـل على ظفر المسيح وتبيان ان الموت لم يستطع شيئا على المخلص.

         إسقاطا لهذا الخلاص علينا نقرأ في سبت النور من بولس: “ان كل من اصطبغ منا في المسيح يسوع اصطبغ في موته فدُفنا معه في المعمودية للموت (اي حتى نذهب الى موته وإماتة الخطيئة فينا) حتى اننا كما أُقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب كذلك نسلك نحن ايضا في جدة الحياة”. وحتى تظهر الكنيسة الوحدة بين السيد والمؤمنين به كانت تقيم معمودية الداخلين جديدا في الإيمان في الليل الفاصل بين سبت النور وفجر القيامة وذلك في بيت المعمودية فيدخل المسيحيون الجدد مبنى الكنيسة حاملين الشموع التي تدل على استنارتهم ويستقبلهم المؤمنون بالهتاف: “انتم الذين بالمسيح اعتمدتم (اي الآن) المسيح قد لبستم”.

         اما المؤمنون القدامى والجدد فيقولون للسيد المبارك: “قم يا الله واحكم في الأرض”. ان ما نعنيه بهذا ان المسيح الحي والظافر قد تم إعلانه ملكا على اهل الأرض، واننا مدعوون بقوة قيامته ان نصير بشرا جددا لا عيب فينا ولا دنس بل نكون لابسين فضائل الإنجيل.

         ولكوننا تائقين الى الحياة الجديدة، يقف الكاهن عند الباب الملوكي حاملا شمعة متقدة يقتبس منها المؤمنون نورا لشموعهم ويقول لهم: “هلموا خذوا نورا من النور الذي لا يعروه مساء ومجدوا المسيح الناهض من بين الأموات”. واذا كان ضياء المسيح لا يتبعه مساء او ظلمة، فما يريده السيد من كل واحد منا ان يحتفظ طوال حياته بنور يسوع ولا تدخل الى قلبه عتمات.

         اذ ذاك يبدأ الفرح الأعظم الذي نرجو بعده ان يكون كل يوم من ايامنا فصحا اي حقيقة ليس فيها زغل وبر لا تخالطه الخطيئة، وهكذا نقدر ان نرتل باستحقاق: المسيح قام.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

الأسبوع العظيم/ الأحد 20 نيسان 2003 / العدد 16

من احد الشعانين نحن مع يسوع في سر آلامه وفي سر خلاصنا. دخل يسوع اورشليم القاتلة في حقيقة تواضعه ليذهب الى آلامٍ تطوَّع لها من اجل ان نعرف بموته محبة الله. هتاف الأطفال: مبارك الآتي باسم الرب، ألا نفهمه مبارك المسيح الداخل ليس فقط المدينة ولكن قلوبنا لتحيا به؟

         ثم تأتيك الأمسيات الثلاث الساطعة اعني ليالي الخَتَن (وتعني بالعربية العريس)، السيد يدعونا الى ان نسهر معا ولا ننام نومة الخطيئة. الايقونة تمثله مهانا وأحيانا واقفا في القبر لتوحي بأنه يجعل النفس عروسا له بالموت الذي هو قمة حبه (ليس من حب اعظم من هذا ان يبذل الانسان نفسه عن احبائه). وتتوالى في هذه الليالي فصول الإنجيل التي اوردها متى وقالها يسوع بعد ان دخل اورشليم.

         في صلاة الخَتَن الاولى يقول الرب: “ها نحن صاعدون الى اورشليم وسيُسلَم ابن البشر”. تسنتج الكنيسة: “هلم اذن نحن يا إخوة نصحبه بضمائر نقية”. واخيرا يأتي التعليم عن التواضع منسوجا من انجيل مرقس: “الاول فيكم ليكن خادما للكل”. طبعا الخِدَم الصباحية وفيها القداس السابق تقديسه على ثلاثة ايام مع قراءة النبوءات وايوب البار المتألم وهو صورة المسيح. وكل يوم مساء تتكرر قطعة الختن لنعرف اننا ذاهبون بمشاركة آلامه الى عرس معه حتى نصل الى قمة اولى في الترتيل: “يا رب ان المرأة التي سقطت”، وكأننا نقول: نحن مثل هذه المرأة وقعنا ونبغي القيام. الأربعاء مساء نقيم صلاة الزيت وهو سر من اسرار الكنيسة يقام اصلا على المريض في البيت. غير ان استعماله سقط في الواقع عندنا، ولكنا نقيمه للجماعة كلها في هذا اليوم لكوننا جميعا مرضى جسديا وروحيا.

         قمة ثانية قداس الخميس العظيم الذي يمتاز بأنه ذكرى للعشاء السري. وفي الليل كل روايات الآلام كما وردت في الأناجيل الأربعة. وقد ارادت الكنيسة على رغم التكرار واختلاف التفاصيل ان نصغي الى وصف الآلام كما حصلت. والذروة هنا الإنجيل الاول وهو انجيل العهد المأخوذ من يوحنا وهو أغزر قراءة عن العلاقات التي تربط بين الآب والابن والروح القدس، وهو خطاب الوداع الذي ألقاه يسوع على تلاميذه في طريقه الى بستان الزيتون.

         غير ان الخدمة التي تحتوي على جوهر الآلام هي خدمة الساعات الملوكية صباح الجمعة اذ تتلى المزامير والنبوءات المتعلقة بالفداء الى جانب بعض الروايات الإنجيلية التي تتكر فيها بعض من الفصول الإنجيلية التي تليت مساء الخميس. وفي نهاية صلاة الغروب التي تختم الخدم نطوف بالإبيتافيون المسمى النعش عندنا، وهو كناية عن ايقونة المسيح المدفون، فتوضع في وسط الكنيسة بانتظار خدمة جناز المسيح. وهي كناية عن سَحَر السبت العظيم وفيها التراتيل المعروفة بالتقاريظ وهي مؤلفة من ثلاثة اجزاء تخاطب المسيح الدفين والمرتقبة قيامته،  وانتظار القيامة يضفي على هذه الخدمة طابع الفرح. فإنها كانت تقام صباح السبت العظيم. خدمة الآلام هي في الحقيقة الصلاة التي تقام صباح الجمعة في الترتيب الحالي.

         واخيرا يأتي سبت النور الذي كان يقام قديما مساء السبت وتجري فيه معمودية الموعوظين الذين آمنوا بالمسيح واعددناهم للمعمودية، فكان يُذهب     بهم الى بيت المعمودية القائم عند غربي الكنيسة، وبعد ارتدائهم الثوب الأبيض كانوا يدخلون حاملين الشموع ونستقبلهم بكلام بولس: “انتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح لبستم”. في اثناء عمادهم كان المؤمنون يتلون من النبوءات ما يتعلق بالعماد والقيامة. ثم تأتي الرسالة لتقول: “ان كل من اصطبغ في المسيح يسوع اصطبغ في موته فدُفنّا معه في المعمودية للموت حتى اننا كما أُقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب كذلك نسلك نحن في جدة الحياة”. هذه دعوة لنا نحن ايضا لنعرف ان الفصح اذا تساقط علينا ننال به الحياة الجديدة. ثم يتلى من متى روايته عن القيامة.

         هذا هو في الحقيقة اول قداس للعيد، وكان ينتهي عند الفجر. ثم يقام قداس آخر صباح العيد.          كنا في هذا الصيام كله نستعد للقيامة بالتوبة والصوم والنسك. كنا نتطهر حتى نستحق رؤية المسيح الغالب لخطايانا والمعطينا حياة الأبد.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

يا يسوع الناصريّ / السبت 19 نيسان 2003

لن يكتبك احد يا سيدي. أنت كتبت الكون بدمك. كان وحده هو النطق، المطرح الذي عرفنا فيه أن فرادة الله أن يحب. نحن إليك بسبب من تلك الحرية التي أَزلت بها من طبيعة الدين العبودية اذ قلت اننا أحبة وان لنا جسارة على أبيك لكوننا أصحاب البيت.

أنت تقول كل ما في أحشاء أبيك، تترجم الأحشاء ومنها يأتي كل شيء فيه حنان ويأتي إلى جوف الألم، إلى قاع كل جحافل الخطأة فتمسك رحمانية أبيك بعيوننا لنرى الحقيقة الأخيرة أن الله باعثك لتقوله مسمَّرًَا على الخشبة، لتقوله في ما يبدو ضعفه.

لقد رفضت النزول عن الصليب لأنك لو فعلت لظلّوا يرون ان الله يؤتيهم برهانًا بآية منه وأنت لا تريد لهم آية الا هذه الشلحة على الخشبة. بهذه الميتة دخلت اللعبة التي أرادها لك الشيطان اذ ظن انه سيقضي عليك بالموت الذي هو نطاقه. هو ما كان عارفًا ان أحدًا من الناس يتطوع للموت حبًا وان الحب قادر وحده على ان يقضي على الموت.

ما من شاعر في العالم يقدر على ان ينظم قصيدة حب كهذه التي قلتها بأوجاعك وبدمك. قيل للإنسانية التي كانت تعيش قبل الميلاد إلى جنوبنا انها مودودة ربها. غير ان الناس لم يصدّقوا أو ما استطاعوا ان يصدّقوا لأنهم كانوا رازحين تحت نير الشقاء، شقاء خطاياهم، ولم يحلموا ان الله هو القدير على ان يرفع عنهم الأحمال التي كانت تُثقل نفوسهم.

كل البشر كانوا يعلمون ان الله قادر على أن يزلزل الدنيا وأن يبسط الإنسان على الوحوش الكاسرة، لكن أحدًا لم يكن يعرف حقا وبدقة انه حبيب الله وانه مؤهَّل بهذه المحبوبية لأن يكون أعظم من الكون وأفعل من كل عناصره.

***

يا يسوع الناصري اذا سمحت لحظة من لحظات الرياضة العقلية ان أفكر فيك مستقلاً عن ايماني بك لقلت للناس العارفين بحضارات الشعوب ان أحدًا قبلك ومن بعدك وعلى جنباتك لم يتكلم على المحبة كما تكلمت أنت. كلماتهم كانت توصيات خلقية لطيفة أقرب ما تكون إلى الشعر. أنت قلت: «وصية جديدة أُعطيكم أن تحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم». قد نجمع من حوارات أفلاطون ودماثة أفلوطين شيئًا يشبه المحبة. وقد يجد المرء ما يشير اليها في أساطير الشرق القديم. ولكنّي لا أعرف في الأدب القديم الديني منه أو الأدبي من تكلم بهذا الزخم وهذه الشمولية اللذين أتيا على لسانك.

غير ان هذا ليس هو الأعظم. فالأعظم أنك قلت: «كما أنا أحببتكم» أي أني أحببتكم حتى النهاية، حتى الموت. وفوق ذلك وأبهى من ذلك كله أنك كشفت محبتك للبشر في واقع لحمك ودمك. أنا لا أعرف ابن امرأة لم تكن هوة صغيرة أو كبيرة فاصلة بين كلامه وفعله. لنأخذ التيار الذي أطلقتَه أنت وسمّى أعداؤك أتباعه في أنطاكية مسيحيين ليحتقروهم. أنا درست سيرة أتباعك الكبار وقرأتهم جيدًا. كلهم صغار اذا قيسوا بك. كل القديسين صغار. الكتلة الوحيدة التي اقتربت منك كثيرًا حتى دوام دموعي هي كتلة الشهداء. أنت وحدك في تاريخ البشرية لم يستطع واحد من أعدائك الذين وضعوا كتبًا ضدك منذ العهد الروماني حتى عصر التنوير وما بعده، لم يستطع واحد ان يرى فاصلاً بين ما قلته لتلاميذك وما عشته.

في نصوص أناجيلك العظة على الجبل عند متى ولوقا والخطاب الوادعي عند يوحنا ذروتان لا يستطيع أحد إن قرأهما فاهمًا أن يبقى بعد قراءته كما كان قبلها. غير أن دراسة نصوص اخرى، هنا وثمة، لا تجعل كل إنجيلك أعظم روحيًا من كتب أخرى. هناك صفحات في الفكر الديني من قبلك ومن بعدك أجمل تعبيريًا وأعمق ذكاء من الذي قلته أنت. ففي الدنيا التماعات وجدانية أخاذة لا نجد في إنجيلك على قوة نشوتها. والناس يسكرون بسحر اللغة وباللقطات النازلة عليهم كالنيازك. ولكن ليس هكذا يُقرأ إنجيلك. كله من ألفه إلى يائه مرتبط بالدم الذي سكبته على الخشبة. أنت ما سعيت إلى فصاحة فأنت نجار وعشير صيادين. لا يهمّك ألق الكلمات. لا شيء يدل على أنك كنت تتقن البلاغة، فاذا الناس جاؤوا إليك بفضل منها عليهم لا يكونون قد جاؤوا إلى الله المختفي بين لحمك وعظامك.

***

          الحب، يا سيدي، طاقة الله وحده. ولكنك أنزلته أنت على صعيد البشر فباتوا قادرين، بعطف منك، على أن يحيوه. ان في المحبة جوانب كثيرة. ولكن من اهم ما يلفتني أنا صاحب هذا الدعاء أنها بين البشر ناطقة بالغفران وفاعلته. أنت سامحت اليهود لأنهم ما كانوا يعلمون ما يفعلون. أنت تطلب من أتباعك الأكثر إذ تريدهم أن يغفروا لمن عمل لأذاهم ولمن يخطط باستمرار لتجريحهم والافتراء عليهم. أنت تقول: هذا الذي عمل لإسقاطك وإسقاط مشاريعك قاصدًا عامدًا لكون نفسه أَمّارة بالسوء، هذا عليك ان تغفر له بلا شرط فيه ولا طلب منه أو منك. وذلك كله لأنك تريده من أبناء الملكوت وتريده أعظم منك الآن وغدا لأن الملْك لأبناء الله جميعا وهو مفتوح ليدخله اللصوص والقتلة لأن هؤلاء هم أيضًا أحباؤك ولأني قد أكون واحدًا منهم بعلم واضح مني أو بجهل. أن نغفر باستمرار ولا نقيم مكانة لما يُسمّى الكرامة أي المجد الباطل، هو لعمري من أهم ما يشدّني إليك يا سيد القلوب المجروحة بلطفك والتواضع.

          يا يسوع الحلو جدًا اسكن قلوب الفقراء والمشرّدين في الأرض، التابعين لك ومن لم يسمع منهم بك. كلهم لك بحبك الواحد لهم. رافق الأطفال الذين يهملهم ذووهم إلى كل الرجاسات. خفف وطأة الأمراض الشديدة. عالج عزلة الحزانى. كن وئاما ووحدة للمتزوجين ومربيًا لأطفالهم. خذ إليك هذه الشعوب التي يسمّيها اعزاء الأرض متخلفة. انها حدقة عينك يا مخلصي. قل للمظلومين انك جئت لترفع القهر عنهم. انك ضد القاهر حتى يتوب.           امسح يا سيد كل دمعة عن عيوننا حتى يزول البكاء عن وجه الأرض ويكون الفرح مثل قي

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

مريم المصرية (+522)/ الأحد 13 نيسان 2003 / العدد 15

اذا فتحت في اول نيسان السنكسار، وهو الكتاب الذي يحتوي سير القديسين، ترى في العنوان سيرة امنا البارة مريم المصرية، واذا قرأت القصة تراها قصتين، واحدة عن الراهب زوسيما وواحدة عن مريم. غير ان التوبة المذهلة لمريم حجبت زوسيما فخُصص لها الى يوم عيدها في اول نيسان هذا الأحد الخامس من الصوم. ويقول القديس صفرونيوس واضع السيرة انه استقاها بالتواتر من رهبان دير القديس يوحنا المعمدان في الأردن.

         زوسيما حاول روح الشر ان يقنعه ان ليس من يفوقه في النسك في برية الأردن. فذهب والتقى مريم التي بعد توغلها في فسق كبير بلغت درجة من القداسة اعلى من التي رغب فيها الراهب لنفسه. الحوار بينهما أخاذ. زوسيما وهو كاهن يطلب منها البركة، وهي تذكّره، لكونه كاهنا، انه هو الذي يعطي البركة. سألها من تكون. هنا تأتي السيرة المعروفة. حدثته عن الدعارة التي تعاطتها في الاسكندرية ليس رغبة في الكسب ولكن لاعتبارها تعاطي الجسد مصدرا للحياة.

         مرة رأت جمهورا يتراكض باتجاه البحر قاصدا الحج الى اورشليم. لا تقول السيرة انها سافرت لمحبتها الأماكن المقدسة. مارست الخطيئة في السفينة مع الركاب الذين سافروا بقصد الزيارات. حاولت دخول الكنيسة. منعتها قوة غير منظورة. شعرت بالتناقض بينها وبين كنيسة القيامة. استفاقت وسجدت. دخلت. تابت. قال لها صوت إلهي: اعبري الأردن. بقيت هناك 47 سنة. لازمتها التجربة 17 عاما. قاومت حتى بلغت الهدوء. قاومت ذكرياتها.

         بعد حديث شائق طلبت الى الراهب ان يأتيها بجسد الرب. عاد اليها بالقدسات في الصيام. رغبت اليه ان يعود في السنة القادمة. رآها قد رقدت بالرب وكان هذا في اول نيسان.

         تقول السيرة ان أسدًا اتى وحفر قبرا فآواها زوسيما فيه. هناك ايقونة تملأها هي بقامتها والى يسارها زوسيما منحن، وهو اياه عن يمينها يحمل الكأس المقدسة ولكنه يبقى اقصر منها. النصوص الطقوسية تقول لنا ما مفاده ان التحرك الشهواني الذي كان فيها تحول الى تحرك نحو المسيح. التوبة ليست ان تصير باردا، بليدا بل ان تُحوّل احتراقك من اجل الجسد او الدنيا او المال او السلطة احتراقا من اجل يسوع. لذلك اعتبرت الكنيسة هذه المرأة نموذجا عن كل نفس تائبة. ووضعت ذكراها في الأحد الخامس وهو الأخير من الصوم لندخل – بهذه التوبة المحققة – مع الرب اورشليم في احد الشعانين مطهَّرين لاستقبال الأسبوع العظيم.

         من احد الفريسي والعشار مرورا بالابن الشاطر حتى يوحنا السلمي وذكر الفضائل انتهاء بمريم المصرية نرى قمم توبة الى جانب آحاد هي ادنى الى التأمل اللاهوتي. انما تكمن اهمية مريم المصرية في ان نذكر اننا نحمل عبء الجسد ثقيلا والقلة تنعتق من هذا العبء. غير ان حضور زوسيما في السيرة يذكرنا بأن الذين تحرروا من وطأة الجسد قد لا يتحررون مما هو افتك اعني الكبرياء. كل منا له ضعفه الخاص او ضعفات متعددة، وامام كل هذه الضغوط وداعة المسيح وطراوته. وازاء كل التجارب التي تنتابنا تنتصب صورة مريم المصرية مذكرة بأن الله قادر ان ينشلك من كل نجاسة ويريحك من كل خطيئة مهما ثقلت. المهم الا تستسلم الى اليأس والا تحالف الخطيئة، ان تقول ان المعاصي هي ضد المشيئة الإلهية وان محبة الله معي لكي أفيد منها حتى أَخلص.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

القديس يوحنا السلّمي/ الأحد 6 نيسان 2003 /العدد 14

فيما يتقدم المؤمن على طريق التقشف بعد انتصاف الصوم، رأت الكنيسة ان تُظهر اليوم في هذا الأحد الرابع صورة ناسك عظيم، يوحنا السلّمي، وقد سُمّي كذلك لكونه صاحب كتاب سلّم الفضائل. توفي الرجل في بدء القرن السابع وكان قد تولى رئاسة دير سيناء. كان يعرف النفس البشرية كأنه عالم نفساني عصري ولا شيء يدلّ انه دخل جامعة. يحمل تراث الذين سبقوه ولكنه يلتمع احيانا فيقول مثلا: “من هو يا ترى الراهب الأمين الحكيم؟ هو من يحفظ غيرته متقده الى النهاية ولا يزال حتى الممات يزيد كل يوم على ناره نارا وعلى اضطرامه اضطراما وعلى شوقه شوقا وعلى همته ونشاطه همة ونشاطا دون انقطاع”. الراهب في سكون بمعنى انه اطفأ الشهوة ولكنه، ضمن هذا السكون، نار محبة لله وللإخوة. وهذا ما يطلبه الله الى كل مؤمن وليس فقط الى الرهبان.

         الايقونة اخذت هذا الكتاب الحاوي ثلاثين مقالة، وصورت السلم وعلى رأسها المسيح المبارك، وكل مقالة تمثل درجة من السلم. وانت ترى راهبا يتسلق درجتين او اربعا او عشرين وما فوق ويشده الشيطان اليه فيسقط، ولكنك ترى من يصل الى المسيح.

         غاية المؤلف ان يدخلك الكفاح العملي اي اقتناء الفضائل لأنها هي المنطلق الى التأمل في الأشياء الروحية. عن طريق الفضائل الإنجيلية اذا اكتسبتها تميز بين ما يجيء اليك من الفكر الإلهي وما يجيء من الشيطان او من طبيعتك البشرية وحدها. تنفيذ الوصايا يعطيك علما بما يخلّص نفسك.

         هذا الكتاب وان كان اصلا موجها الى الرهبان انما ينفع الناس جميعا. من لا يهمه ان يقرأ المقالة الخامسة عن التوبة الدائمة او عن الحقد والكذب او عن الطهارة او عن حب المال او عن عدم الحس؟ في حديثه عن عدم الحس يقول عن المصاب به: “يصيح لقد اذنبت ويهرع الى فعل ذلك الذنب عينه… يتفلسف في ذكر الموت ويتصرف كأنه غير مائت… يمدح الصلاة ويهرب منها”. هذا أدب روحي كبير. تأملوا في هذا: “ان كان وجه حبيبنا يغيرنا بجملتنا جليا ويجعلنا مشرقين فرحين فاقدي الحزن فكيف بوجه السيد اذا أتى الى نفس طاهرة وسكن فيها بحال غير منظور؟”.

         اذا اردنا ان نتابع هذا الصوم بجدية لا بد لنا ان نفهم انه، قبل كل شيء، زمان توبة. والتوبة ان ترفض ما لا يرضى عنه المسيح وان تحب ما يحب. لا بد ان نفهم هذا ان كل الصلوات وكل الأصوام لها غاية واحدة ان نتحول الى وجه يسوع حتى نعشقه، حتى ترتسم علينا انوار وجهه بصورة ان من رآنا نتصرف يدرك للتو اننا انما تصرفنا بقوة يسوع واننا من أصحابه.

         هذه التوبة هي الفصح، لأنها هي القيامة من موت الخطيئة. هذا الصوم ارادته الكنيسة مشوارا الى الفصح وتشربا لنوره يوما بعد يوم. ان لم نفعل هذا يبقى الصيام حِمية عن طعام اي شيئا تافها. العبادات كلها تذكير بالمعلّم الإلهي. ولكن ان لم نأخذ علمه اي ان لم نحول الإنجيل الى سلوك، يبقى الإنجيل كتابا مثل الكتب.

         فيما ينعطف الصوم الى نهايته، آن الوقت ان نستعد لاستقبال الأسبوع العظيم في كل جمالاته حتى يجدنا السيد طاهرين عند فجر الفصح.

Continue reading