1993, محاضرات

معرفتنا بعضنا لبعض: شرط من شروط الحوار الإسلاميّ المسيحيّ / المجمّع الثقافي – أبو ظبي / 14 كانون الأوّل 1993

أيّها الأكارم،

إنّه لمن دواعي الاعتزاز أن أتحدّث إليكم في هذا الصرح الكبير بعد أن شهدت خلابة هذا البلد الأمين الناطق بفضل صاحب السموّ رئيس الدولة الشيخ أبو زايد بن سلطان آل نهيان -نور على نور- هذا ما يقوله في نفسه كلّ زائر لهذه الإمارة الأخّاذة. إنّها كذلك فرصة لأحيّي معالي الوزير أحمد خليفة السويدي الممثّل الشخصيّ لصاحب السموّ رئيس الدولة وأحيّي المجمّع الثقافي والقائمين على إدارته وأن أحيّيكم جميعًا.

ليس من باب الاتّفاق أن وضعت في مستهلّ هذا الحديث الأخويّ البسيط هذا الكلام القرآني «تعالوا إلى كلمة سواء»، هذا ما استمعتم إليه منذ لحظات ومعنى هذا أنّ القلوب شواهد وأنّنا نعود إلى القرآن كتابًا حواريًّا. هذا ما كان الدكتور حسن صعب، رحمه الله، دائمًا يذكّرنا به. هناك كلمة المؤمن للمؤمن، هناك توحيد أصيل يجمع الناس وهذا يعني أنّ من سعى إلى الحق يسعى إلى المواجهة. والمواجهة هي أن يكون الوجه إلى الوجه، في حين أنّ المجابهة أن تكون الجبهة إلى الجبهة. المواجهة ليس فيها ما يصدع كما الجبين يصدع. وهي تنطلق من الأخوّة إيمانًا، والأخوّة طبعًا تنبع عند المؤمن من اعترافه بالله مهيمنًا على الجميع ولطيفًا بالجميع. هناك حوارات قائمة في العالم منذ حين ليس بيسير. منذ بضع من عشرات السنين في المؤسّسات الروحيّة والثقافيّة القائمة المحاورات جارية، ولعلّ بعض مردّها إلى أنّ الإنسانيّة تعبت من الصراع. تعبت من الحروب الإيديولوجيّة وأحسّت بأن سيل الدم وسيل الحقد لا ينتهي إلاّ إذا انفتحت القلوب بعضها إلى بعض واستقرّ الله فيها.

هناك مؤسّسات ترعى هذا الحوار في دنيا الإسلام وفي العالم المسيحيّ. وإذا قلت العالم المسيحيّ فإنّني مبادر إلى القول إنّنا نعني بذلك الكنيسة. نحن لا نؤمن بأنّ ثمّة عالـمًا مسيحيًّا بمعنى الكتل السياسيّة. هذه أمور تخطّاها إيماننا. نحن قوم، ليس ذلك في العالم العربي ولكن في دنيا المسيحيّة بأسرها، نحن قوم شجبنا الحروب الصليبيّة، وقد نالت من المسيحيّين العرب بقدر ما نالت من المسلمين، «وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة». نحن ذُبحنا هنا. إنّ الإفرنج ذبحوا المسيحيّين العرب ذبحًا وحاربوا المسلمين حربًا. لهذا رأينا أنفسنا منذ البدء في أنطاكية مثلاً إلى جانب أهل البلد وما رأينا أنفسنا في جانب الوافدين، ولهذا طُرد بطاركتنا وأساقفتنا من كراسيهم خلال مئتي سنة ونيّف.

نحن نشعر بأنّنا من هذه الأرض، من تراب هذا المشرق العظيم. وبالتالي نحسّ أنّنا طبيعيًّا، مباشرةً، تلقائيًّا، نحسّ أنّنا مقيمون في أخوّة مع المسلمين. هذا طبعًا شيء منه آتٍ من عقيدتنا هذه التي تقول بأنّ المحبّة شاملة، بأنّ الله محبّة وبأنّه ليس هناك من قريب ومن بعيد، فالأبعدون بانتسابهم والأقربون هم واحد في رؤية الله. هذه الفوارق التي تقوم بين الناس لا تصل إلى عرش الله.

قلت إنّ هناك حوارات تقوم في مؤسّسات نذرت أنفسها لهذه اللقاءات في أقسام، في دوائر جامعيّة، وتقوم في حلقات أخويّة في مجلس الكنائس العالميّ، في مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي يضمّ البيع كلّها من هذا الشرق العربيّ. ويبدو طبيعيًّا أنّ المسيحيّين المشارقة يواجهون على أرض المحبّة إخوتهم المسلمين ويتباحثون بالدرجة الأولى في الأمور الاجتماعيّة والقيم الخلقيّة. تبحث قليلاً الأمور اللاهوتيّة أو ما يأتي في علم الكلام. ليس خوفًا من التصدّي لها ولكن يبدو أنّ الإنسان العصري الذي ملّ الصراعات يحبّ أن يسرع إلى ما هو تطبيقيّ عمليّ، إلى ما يمكّنه من معايشة بقيّة الإخوة إدراكًا منه أنّ في الديانتين وفي اليهوديّة نفسها مناقب مشتركة. هناك قيمة الرحمانيّة والرحمة والعدل والرأفة. كلّ هذه الأشياء التي هبطت علينا من السماء، هذه يريد المسلمون والمسيحيون أن يعيشوها من جديد في صدق. كلمة صدق تعبّر عن هذا الجو الذي ليس بجديد بالنسبة إلينا نحن أبناء العالم العربيّ، ولكنّه قد يكون جديدًا بالنسبة إلى أهل الغرب. إنّ خبرتنا تدلّ على أنّ المؤمنين الغربيّين يقيمون مسافة بينهم وبين دولهم. طبعًا علينا أن نتروّض على هذه الحقيقة أنّ الغرب بمعناه السياسيّ ليس الكنيسة. ليس “أمة الله” إذا شئتم عبارة إسلامية. الأمة بمعناها الروحي عندنا شيء وبالمعنى القومي شيء آخر. والدليل على ذلك على سبيل المثال لا الحصر هو أن كنائس أميركا نفسها هنا وهناك وهنالك في المجتمعات الروحية تدين سياسة البلد الذي تنتمي إليه. مَن تابع الصحافة الكنسية والسياسية يجد أن ثمة فسحة على الأقل بين موقف الكنائس وموقف الدول عندهم. ويزيَّن لي أننا نحن هنا في العالم العربي ركّزنا كثيرًا على الغرب وأقمنا ترادفًا بينه وبين المسيحية. فهناك دول كبيرة في العالم وفي شرق أوربا لا علاقة لها بالغرب ولا هي تنتمي حضاريًا إلى أوربا الغربية. وهناك طبعًا المسيحيون العرب الذين سوف آتي على ذكرهم بعد قليل.

ما يبدو إذًا من هذه العجالة أن ثمة حوارًا أول هو حوار الحياة، وإذا شئتم تمييزًا في الحوار أقول إن ثمة حوارين في العالم، حوار الحياة وحوار الفكر.

حوار الحياة هو الذي نذوقه ونختبره كل يوم. هي الحياة المشتركة الطيبة بين أهل الديانتين ولا سيما الوحدة الروحية بين المسلمين والمسيحيين العرب. طبعًا أنا لست مدافعا لا في انتمائي الديني ولا في انتمائي القومي على ما يجري في الغرب أو في أوروبا بعامة ولكن لا بد لي ابتغاء الإنصاف أن أقول إن هناك تحولا نحو المسلمين ايجابيا. ولو رأينا في الفترة الأخيرة بعض تشنج أو سياسيات تمييزية عرقية إلا أن الصورة الكاملة ليست هذه. نسبيا هذا التوتر جديد فيما عشناه بعد الحرب العالمية الثانية. الكنيسة المسيحية في أوروبا هي التي تدافع عن حرية المسلمين في تلك الديار وعن حقوقهم. على سبيل المثال، ما اعتبر سياسة تفريق في الحكومة الفرنسية الحالية تصدت له الكنيسة الكاثوليكية. الكنائس هناك هي التي تطالب بحرية التشييد للمساجد والمراكز الإسلامية، وتجدون هذا ليس فقط في العواصم ولكن في المدن الصغرى. الكنيسة المسيحية هي التي تريد أن يتعلم المسلمون في أوروبا الإسلام. الدولة البلجيكية أقرّت التعليم الإسلامي في المدارس الرسمية. بالتالي اللوحة الكاملة هي أن هناك تقاربًا وسعيًا حميدًا إلى جانب مظاهرة متوترة نرجو أن تزول. ما ارجوه وما يرجوه المسيحيون المشرقيون من إخوانهم المفكرين في العالم الإسلامي هو ألا يقيم احد منا ترادفا بين المسيحية في معناها الروحي الكنسي والكتلة الغربية بمعناها السياسي والحربي. هذان شيئان مختلفان لا يترادفان، وقد بيّنت لكم ذلك قليلاً. ليس من حاجة إلى أن أذكركم بالوثيقة المتعلقة بالإسلام في مجمع الفاتيكان الثاني. وأنا طبعًا لست بجاهل المقالات السيئة، إذا صح التعبير، التي ظهرت بحق الإسلام أو المسلمين، ولست جاهلا للكتب العديدة التي كانت سلبية بحق النبي العربي. غير أننا لسنا في معرض البكاء على الماضي أو ذم الماضي. نحن في حركة توبة. اعتقد أن المسيحيين العرب أداة تواصل، وهؤلاء المسيحيون العرب يعرفون القرآن ويستلذونه. هناك شخص ممارس الصلاة والالتزام المسيحي في مقاطعتي عاش في لندن أربعة أشهر. انه من مدينتي طرابلس وهي مدينة إسلامية بالدرجة الأولى. قلت له: ماذا افتقدت في لندن، ما أعوزك هناك؟ قال لي: الآذان … الآذان. طبعا المسيحي العربي هو إنسان يعيش في هذا التوقيع الإسلامي للزمن ويستمع إلى خطبة الجمعة. مرة سمعت باب بيتي في الجبل يقرع وكنت استمع إلى تسجيل للقرآن فأوقفت المسجل وفتحت الباب ودخل احد الأصدقاء، قلت له: الآن يمكن ان تستمع ايضا معي، لأني ما كنت عالما بالآتي وكنا في أوقات أزمة. قلت: اطمأننت اليك واخالك لا تستغرب ان يستمع اسقف عربي للقرآن.

هؤلاء المسيحيون العرب، أقولها بتواضع، لهم إسهامهم في الحضارة الإسلامية. لا اتكلم عن وجودهم في هذه الجزيرة العظيمة منذ العصر الجاهلي وعن حضورهم في الشعر، ولكني بسرعة اود ان اذكر بإسهامهم الكبير في الفن المعماري الإسلامي في بناء المساجد. كنت اقول هذا في ندوة في بيروت في حي اسلامي فاعترضت علي سيدة قائلة: انت انسان متعصب. قلت لها: أنا إنسان قارئ للتاريخ. هذه اسماء الذين أسهموا في بناء المساجد منذ عصر الراشدين. طبعا كلكم يعلم مساهمة المسيحيين العرب في نقل الفلسفة اليونانية إلى اللسان العربي. كلكم يعلم حضورهم في الطب في العصر العباسي، وحضورهم في الفكر الديني الواد للإسلام. عندما يكتب الجاثاليق تيموثاوس وهو أسقف كبير في العراق، في عصر الخليفة المهدي، عندما يكتب ان محمدا سلك مسلك الأنبياء كان يقول شيئا جريئا طبعا بالنسبة إلى معتقده وكان محافظا على معتقده. كان هؤلاء القوم يلبون دعوة الخلفاء في البلاط لمناقشة المسلمين. القضية ما كانت سجالا او جدلا. كانوا طبعا يجادلون بالتي هي أحسن ليس فقط حسب الوصية الإسلامية ولكن حسب ما كانوا يعتقدون. هم ايضا يحيون المودة في المواجهة الفكرية. عندنا عدد عديد من الكتاب في بلاد الشام ومصر الذين كتبوا في حرية كاملة عن المعتقد المسيحي وشرحوه بما يمكن استيعابه آنذاك في تلك البيئة وكانوا من المحظيين عند الخلفاء. إذن عشنا حياة مجتمعية واحدة. وقد بدا هذا في النهضة العربية في القرن التاسع عشر، وأريد بها بالدرجة الأولى النهضة الأدبية، وقد ذكر لنا هذا شبلي الشميل وطبعا ذكر أدباء المهجر والوطن. أبقى في حيز التواضع اذا قلت ان المسيحيين العرب صقلوا اللغة العربية وحافظوا عليها ونشروها ودرسوها ومحصوها وكتبوا في اللغة كما كتبوا في الآداب، في الشعر. بعامة هناك اسلوب حديث كان نقلة مما اعتبره النقاد عصر الانحطاط إلى عصر النهضة.

ولكن المستقبل اهم من الماضي فالمسلمون والمسيحيون العرب واحد في تطلعاتهم إلى نهضة هذا العالم العربي. هم معًا في مواجهة ما يهدد المصير العربي الواحد. وإذا تكلمنا عن المصير العربي الواحد فإنني أتّخذ كلمة رمزًا وهي القدس. القدس محجتنا جميعًا هي بالواقع محجة الديانات الثلاث ولكن طبعًا الخطر هو على العرب وهذا الخطر ليس فقط كامنًا وإنما تحقّق. العرب يهجرون القدس ونحن نتمنى كما قلنا في مؤتمر القمة الإسلامي في لاهور: نحن لسنا مع قدس الحجر ولكن مع قدس البشر. هناك حرية إذن لأبناء القدس. هناك شهادة مقدسية للعالم كله.

يبقى حوار الفكر، في هذه المرحلة من تأملي على رجاء نشوء مؤسسات كبرى ترعى هزا الموضوع. وقد علمت منذ ثلاثة أيام وأنا اتمتع برؤية بلدكم الجميل أن صاحب السمو رئيس الدولة أخذ يدعو إلى إنشاء مؤسسة فكرية تبحث في تلاقي الديانتين وأهل الديانتين. نحن في جامعة البلمند في لبنان التي انشأها المسيحيون الأرثوذكس قد أسسنا منذ قليل معهدًا للدراسات الإسلامية والمسيحية. قبل نشوء الجامعة كان عندنا معهد لاهوتي، يدرّس الاسلام لقسس المستقبل. وكان لي شرف تعليم هذه المادة. أود أن تصدقوني إذا قلت لكم ان أي طالب مسلم، إذا ما أتى وحضر هذه الدروس، لا يمكن بأية طريقة أن يجرّح بمعتقده، فهذا يعطى موضوعًا علميًا وكأنني شيخ مسلم. هذه الجبة واحدة يمكن أن تكون بيضاء كما في بلادكم. مرة كنت غائبًا خلال السنة فاسندت المادة إلى عالم مسلم. نحن ليس عندنا هذه الحساسية. وفي الجامعة نفسها أي في الدراسات الثقافية التي يتلقاها كل الطلبة على مختلف دياناتهم، من أصل 160 ساعة في الدروس الحضارية خلال أربع سنوات يخصّص 40 ساعة لدراسة الإسلام. أن تخصّص الكنيسة العربية الأرثوذكسية ربع الوقت من الحضارات الأولى في العصر الحجري إلى يومنا هذا لدراسة الإسلام يعني أنها تحب الكلام في الاسلام.

طلابنا في هذه الجامعة قسم كبير منهم، اكثر من الثلث، مسلمون. أساتذتنا من الديانتين. عندنا مجلس امناء يدير الجامعة ويبحث في مصير هذه الجامعة وتعليمها وبرامجها واتجاهاتها. عندنا في مجلس الامناء مسلمون يقررون سياسة جامعة مسيحية ارثوذكسية. المعرفة ايها السادة والسيدات هي معرفة الديانة الاخرى في مصادرها. ما الاسلام؟ الجأ لمعرفته إلى القرآن، إلى الحديث – لست ادخل هنا في نقاشات المذاهب – إلى الإجماع، إلى القياس، إلى التراث الإسلامي. هناك طريقة واحدة لدرس الإسلام وهي ان تعرفه كما يعرفه المسلمون. انت لا تركّبه حسب مشتهاك وخيالك. وهناك طريقة وحيدة لمعرفة المسيحية الحالية، القائمة، وهي ان تعرفها حسب مصادرها. ماذا تقول هي عن نفسها. لا أستطيع مثلا ان اكلّم رجلا صينيا في حضارة بلاده وأن أدعي أني أنا أفسر له الحضارة الصينية. تعرف الأشياء كما هي. كما جاءت. يمكن ان تقول بعد هذا، هذا غير صحيح، هذا خطأ. انت انحرفت عن المسيرة، هذا لك. ولكن قبل ذلك لا بد ان تعود إلى المصادر، لأننا ان لم نفعل هذا فنحن في سجال وجدل. ونحن قلنا اننا محاورون لا نقوم بأية دعوة. طبعا لك انت ان تقوم بدعوة إلى الإسلام، هذا من حقك، وهذا واجبك إن كنت مؤمنا. ولي أنا ان أقوم بالتبشير. طبعا أنا داعية مسيحي وأستعمل الطرق الخلقية الروحية لبث الدعوة. ولكن إذا اتخذت موقفا حواريا فأنا لست قائما بالدعوة. هذا شيء آخر. هذا عمل يقوم على الصدق، على التفاعل، على التكامل. أريد ان أعرفك وأريدك ان تعرفني، من أجل المعرفة، من أجل نورانية المعرفة. ومن بعد هذا تبنى الأشياء. إذن نحن بحاجة إلى تدريس الاسلام في العالم كله على مستويات وعلى أصعدة مختلفة. يجب ان يعرف كل انسان في العالم الإسلام. وأتصور انه يجب ان يعرف كل انسان في العالم المسيحية، من اجل العلم، وأن نعرف البرهمية، الهندوسية، البوذية، الشنتوية وما إلى ذلك لأن هذا من شأنه ان يبدد الأساطير وان يهدم الجدران القائمة بيننا.

وهذا العلم من شأنه ان يقرب القلوب. فاننا في حاجة اساسية إلى سلام أهلي في العالم كله. هناك سلام بين اهل الديانات. قام تشاحن وبغضاء وحروب وسفك دماء بين اهل الديانات. أنا ليس عندي موقف اعتذاري، وأشجب ما قام به المسيحيون في الماضي وما قد يقومون به في الحاضر ضد حرية الناس. أتمنى ان لا يكون عند احد منا موقف اعتذاري. أتصور ان الروحانيين بيننا يقولون: كانت هناك أخطاء وكانت هناك تجاوزات في هذه الحقبة أو تلك. هذا مطلب علمي طبعا. ولكن يزين لي ان المسيرة التي نحن مدعوون إلى سلوكها هي بالدرجة الأولى مسيرة التصافي والتلاقي الوجداني الصادق في التواضع والمودة واننا اذا أمنّا هذا المناخ من الطمأنينة والسلام نستطيع ان نتبادل الفكر ولا سيما بين الأئمة فالأئمة قوم أصفياء ومن بعد هذا يُنزل الله على قلوبنا نوره ويطهرها، والسلام عليكم.

الأسئلة والأجوبة

  1. مستقبل الأديان الإلهية وكيف تراه من وجهة نظرك؟

أنا طبعًا رجل مؤمن وأعتقد ان الانسانية يمكن ان تحيد عن الله ولعل البشرية المعاصرة حائدة كثيرا. ولكن حتى لا نقع في القتام، في الظلام وفي اليأس، لا بد من رؤية حركات الانبعاث الروحي والاهتداء. إذا كلمتكم عن روسيا فقط، طبعا أعرف المنطقة الارثوذكسية اكثر من سواها، أرى الجحافل من الذين كانوا ملاحدة يعودون إلى الإيمان. وأرى هذا هنا وهناك. فمثلا في اثناء الحرب اللبنانية كنت أزور عائلة مسلمة صديقة في مدينتي، عائلة شابة. بعد العشاء سألت صديقي: أين زوجتك؟ قال: انها تقوم بصلاة العشاء. فسررت جدا لأن هذه العائلة ما كانت تصلي. إذن هناك اهتداء طبعا، ولهذا اعتقادي الراسخ ان الديانات لا يمكن ان تزول ولا سيما ان الله بنفسه هو حاضر في أبنائها.

  • تدعون إلى التقارب بين المسيحية كفكر كنسي وبين المسيحية كسياسة غربية. كيف يمكن ذلك والممارسات الفعلية تشير إلى ما هو مؤلم كما تعلمون؟ ما هو دور أمثالكم في الحد من مثل هذه المآسي كما يحدث في البوسنة والهرسك مثلا؟

ما من شك ان الانسان المسلم أقرب في معتقده وفي تاريخه وفي تراثه إلى رؤية أن الدين والدنيا مجتمعان، او ان الاسلام دين ودنيا او دين وشريعة وما إلى ذلك. من الطبيعي ان تحسوا ان المسيحي يفرق اكثر بين هذين النطاقين. ولذلك لا يحمل الضمير المسيحي بسرعة مسؤولية ارتكابات ومجازر يقوم بها شعب تسيطر عليه ايديولوجية غير مؤمنة، ايديولوجية ملحدة. هناك معلومات لا بد منها ان بطريرك صربيا بولس منذ بضعة اشهر خرج من الصلاة يوم الأحد في ثيابه الكهنوتية حاملا عصاه وصليبه على رأس مظاهرة من عشرة آلاف رجل منددا برئيس الجمهورية هناك بسبب الحرب القائمة في يوغسلافيا السابقة، وكان آنذاك صداما مع كرواتيا من جهة ومع البوسنة من جهة اخرى. طبعا ليس المجال هنا ان احلل الاسباب وحتى ان أدلي بالأسباب السياسية الكبيرة القائمة وراء هذه الحرب، ولا ان أقول بانها ارث من تيتو وجماعته وكل هذه التقسيمات التي قام بها. ليس سرا على أحد وليس هذا طعنا بأحد اذا قلت ان كرواتيا استقلت وهرول الفاتيكان للاعتراف بها ثم هرولت المانيا. لماذا كل هذه السرعة؟ وعندنا اذًا هذا التأكيد ان المجمع المقدس اي مجلس الأساقفة المسؤولين في صربيا ندد بكل الحروب القائمة وعلى وجه التصريح بالحرب القائمة في البوسنة. كتَبتُ في جريدة النهار البيروتية مقالا حادا شرسا ضد الصرب، ويمكن طبعا ان تتصوروا صعوبة موقفي، ولكن تلك كانت قناعتي. اتصل بي القادة الدينيون في الاسلام يهنئوني على ذلك. بيّنوا فرحهم واغتباطهم لهذا الموقف الأخوي تجاه البوسنة.

كذلك حاول البطريرك بولس الصربي أن يجتمع إلى مفتي البوسنة سماحة الشيخ يعقوب سالموفسكي، ولكن طبعا ظروف الحرب لم تمكن المفتي، وهو رئيس مجلس رئاسة العلماء على وجه التدقيق، لم تمكنه ظروف الحرب ان يلتقي البطريرك، ولكن جاء سماحة الشيخ يعقوب إلى بيروت على رأس وفد من البوسنة واستقبلناه نحن في دار الطائفة الارثوذكسية في المطرانية في بيروت وكان لقاء وديا. نحن نتمنى ان تزول هذه السحابة السوداء وان نفرق بين الصراع العرقي والسياسي والدولي وبين شعور الشعب المسيحي الارثوذكسي. المؤمنون الارثوذكس هم ضد هذه المجازر.

  • هل يستطيع المجتمع المسيحي والاسلامي ان يتعايشا في بلد مختلف الطوائف كلبنان؟ إذا كان الجواب نعم، كيف تحقق هذا على الأرض وما هو دور المجتمعَين المطلوب أداؤه في سبيل التعايش؟

طبعًا لبنان وجواره واحد. هذا هو الشرق العربي. لبنان أفضل بلد في العالم في التعايش بين المسلمين والمسيحيين. أنا أوضح هذا. إذا اتخذنا العلاقات العائلية والعلاقات الصداقية والتجارية وما إلى ذلك فاللبنانيون في مودة كبيرة أنا لم أشهدها في الألزاس حيث كان يتقاتل الكاثوليك والبروتستنتيون أو في مونبليه، ولم أشهدها في ايرلندا ولم أشهدها في المانيا. انما اللبنانيون طوائفهم أحزاب هي أيضًا، هي طبعا جماعات دينية، ولكن لها مكانتها الحزبية، مكانتها في بنية الدولة. لها تمثيل نيابي، لها محاكم مذهبية. انت تجد اللبناني إلى اللبناني في جلسة ودية كبيرة وحول مائدة طعام وفي الجامعة وفي البيوت ولكن لا يظهر الخصام الا اذا تكلمنا في المشكلة السياسية. أنا لم أرَ في لبنان خصومة بين بشر من حيث هم بشر. هذه قضية سياسية. اذًا نحلها على هذا الصعيد. وطبعا أنا شاهد. كنت في حرب لبنان عند الاحتلال الاسرائيلي الأخير. هرب المسلمون من رأس بيروت وصعدوا إلى مصيف برمانا إلى الفنادق. رحب بهم المسيحيون ومنهم الموارنة ترحيبًا حارًا لم أجد له مثيلا. هذه القصة خرافة ان اللبنانيين بعضهم ضد بعض.

  • كيف تفسرون موقف قوافل التنصير التي تستقبل أطفال البوسنة وتسعى لتنصيرهم في كل مكان؟

يؤسفني أن أقول ان كل المعلومات التي تصل الينا هي معلومات من الصحافة الغربية، وأنا أتهم مسبقا الصحافة الغربية، الألمانية بالدرجة الأولى والفرنسية بالدرجة الثانية. اتهمها بأنها متحيزة. عندي أدلة كثيرة على التحيز. ولذلك يجب التدقيق بهذه المعلومات. ما يمكن ان أؤكده هنا بدون بحث هو ان الكنيسة الأرثوذكسية الصربية لا تنصّر أحدًا ولا تسعى إلى هذا الشيء. الروم ليس هذا من مسالكهم. أما إذا ذهبوا إلى المانيا وإلى غير المانيا واحتضنوهم واستضافوهم فماذا يفعلون؟ أنا أولًا أشك ان يؤخذ صبي وان يعمّد هكذا بسكب الماء عليه بدون معرفته وبدون قناعته وبدون دراسة. المسيحيون في الكنيسة جديون جدا. هم قد يبشرون. الغربي يبشر. يجب ان يقضي غير المسيحي سنتين او ثلاثة يتعلم. هكذا عند وصوله من البوسنة إلى شتوتغارت أو فرانكفورت يؤخذ قليل من الماء ويُسكب عليه وينصّر؟ لا. هذا ضد المسالك، ضد القناعة، ضد قناعة المسيحيين. المسيحيون لا ينصّرون احدا بالرغم منه. اذن قضية الأطفال مقصية. هذا من حيث المبدأ. هل خالفوا؟ هل هذا القسيس البروتستنتي او الكاثوليكي خالف في هذه المرحلة او تلك ؟ لست أعلم. اعتقد ان كل هذه القضايا يجب ان يدقق بها بحيث نتحرى نحن العرب هذه الامور مباشرة. على سبيل المثال، بدون الدخول في التفاصيل، في الحرب تفيدني معلوماتي ان كل الأفرقاء يرتكبون، وان الارقام التي اعطيت ليست بهذه الضخامة. هذا لا يبرر احدا. اذا اعتُدي على عشرة آلاف مسلمة او اعتدي على مسلمة واحدة فالمعصية واحدة. ما اردت ان اقوله ان الصحافة الألمانية، ومنها يستقي الآخرون، الفرنسيون والانكليز، هي طبعا واقفة موقفا شرسا مع الكروات ضد الصرب. اتصور انه يجب ان نقوم بقراءة سياسية لهذه المشكلة.

  • هل يمكن لسيادة المطران ان يحدثنا عن مواقف كنيسته من المواقف التي تتخذها الاصولية المسيحية يقصد بذلك بعض الفرق التي نشأت عن فروع بروتستنتية معينة وتدعم السياسة الصهيونية بمواجهة الوضع العربي الفلسطيني؟

أنا أوصيكم بعدة كتب منها كتاب صديقي الدكتور محمد السمّاك عن الصهيونية المسيحية. باختصار ان فرقا انجيلية بروتستنتية منذ مطلع القرن التاسع عشر وقبل ذلك نادت بعودة اليهود إلى فلسطين وكانت تزعم ان هذه العودة مؤسسة على الكتاب المقدس. ثم تعاظمت الموجة بعد الحرب العالمية الثانية وظهر لاهوتيون في هولندا بالدرجة الأولى وفي بقية الغرب، يحاولون ان يعظموا الشعب اليهودي والقضية اليهودية ككل وكانوا يعطون اهمية كبرى لليهود دينيا ولاهوتيا، وبرأينا نحن هذا انحراف عن التراث المسيحي. باختصار ما قمنا به نحن المسيحيين العرب في مجلس الكنائس العالمي، وفيه هذه الموجات قوية، اننا اقنعنا كنائس العالم بأن تقول: هناك سوء استعمال للعهد القديم من قبل بعض اللاهوتيين المسيحيين. فشاع نتيجة لذلك ان ليس هناك في الكتاب المقدس ما يبرر عودة اليهود اليوم إلى فلسطين. هذه قضية انتهت وعندما جاء المسيح لم يعد يهتم دينيا بفلسطين. فلسطين عند الانسان المسيحي قضية قومية. للفلسطينيين قضية انسانية. هناك سوء استعمال للعهد القديم. استطعنا ان نجعل قضية فلسطين قضية قانون، دولي وعبارة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني التي ظهرت في هيئة الامم المتحدة هي عبارة وضعناها نحن في المجتمعات الكنسية وانتقلت إلى هناك.

  • في معرض حديثكم عن المسيحيين العرب ذكرتم فقط الكنيسة الأرثوذكسية، ماذا عن العرب غير الأرثوذكس؟

بالحقيقة لم أذكر اسماء في النهضة العربية. الدكتور شبلي الشميّل الذي ذكرته هو من الروم الكاثوليك. جبران خليل جبران ماروني. ميخائيل نعيمة ارثوذكسي. معظم ادباء المهجر في الولايات المتحدة والبرازيل كانوا ارثوذكسيين. لا أبخل على بقية الإخوان بالوطنية. الحقيقة ان الموارنة والروم الكاثوليك والروم الارثوذكس والمسلمين كانوا معا في الحركة القومية العربية قبل 1914. بعد الخيبات والانتكاسات عاد الكثيرون عن القومية العربية. في الطائف عادوا اليها ايضا. وصار الاعتراف بانتماء عربي للبنان. نحن الارثوذكسيين كنا ضد الانتداب صراحة في البدء. عندما جاءت لجنة كنغ كرين من عصبة الامم المتحدة في جنيف لتستفتينا قلنا لها اننا ضد الانتداب ونحن مع فيصل. لم يكن هذا فقط موقف بطريركنا في دمشق ولكنه موقف كل شعبنا في بيروت وطرابلس وكل لبنان.

  • لم يتطرق حديثكم إلى الثوابت المشتركة بين الإسلام والمسيحية. هل لك بإبراز بعض هذه النقاط مثل المحبة والسلام والتسامح والتبشير وغيرها؟

أنا ذكرت بالحقيقة المناقب. ما أحببت ان أذكر، لضيق الوقت، القضايا الإلهية الكبرى مثل وحدانية الله، أو الخلق. هذه عقيدة نعرفها لا توجد في آسيا في الهندوسية. الثواب والعقاب، الآخرة، فكرة النبوة، كل هذا غير موجود في البوذية والهندوسية. فكرة النبوة ان الله اصطفى بشرا ليحمّلهم رسالة هي كلامه، فكرة النبوة فكرة مشتركة بين الاسلام والمسيحية. المسيحيون والمسلمون يؤمنون بفكرة الوحي وهو ان الله تكلم في زمن من الأزمنة وفي أزمنة متعاقبة. الخطوط العريضة فيما يتعلق بالله خالقا ومخلصا للناس ولو استعملنا هنا مصطلحا مسيحيا ولكن المعنى قرآني وهو معنى الرحمة. اذا اعتبرنا الله مهيمنا على الخليقة وعلى البشر في الحياة الأبدية او في الملكوت. نجد هذا في جوهره في المسيحية والاسلام.

  • ما هي الكلمة التي توجهها إلى الأرثوذكس الذين يعيشون في دولة الإمارات؟

أنا لا أوجه كلمة إلى الأرثوذكس العائشين في دولة الامارات لأن الامارات ترعاهم أكثر مما أرعاهم أنا.

Continue reading