الكذب كثير في البلاد المتخلّفة حيث الناس تخشى القوي القدير الذي يدعم العيش ويستقوي القوم به ويخشون عقابا منه او رفع حمايته عنهم. وفي هذه البلدان لا ترعاك دولة فحيث ترعاك هي سترك ازاء الأقوياء. عدلها درعك اذ القضاء يساوي بين الناس. اما اذا خشي القاضي نفسه الأقوياء فلا ملجأ لك سوى الكذب تحمي به نفسك.
اما البلد المتحضّر -اي القائم في الحضر وليس البداوة- فقائم على ان القوة محصورة في الحكم يرعى الناس جميعا ولا يخشى نافذًا. الحكم اذا قام حقا يهدد مَن سوّلت له نفسه الاعتداء فيردع او له قوة الردع ان لم يفسد.
غير ان الكذب ليس مرتبطا فقط بالبيئة وان أثارته. هو نتاج الضعف الشخصي امام القوة. فالتلميذ في المدرسة يخشى معلّمه ولا سيما اذا قسا والموظف يخشى مَن وظّفه او الإدارة الساهرة وفي العائلة خوف عند الفريق الضعيف رجلا كان ام امرأة. الكذوب يطمئن الى انه ينجي نفسه ولو الى حين ولكن الخوف يتكرر في ظرف آخر. يحسب ان الصدق يهدد وجوده او مصالحه ويختبئ في مخبأ هش لأن الكذب يجرّ الكذب فيصبح عادة متأصّلة في الكيان. يجب، اذ ذاك، ان يتغلّب على ضعفه بالتماس الصدق من الله. معنى ذلك ان هذه الآفة لا تقضي عليها الا النعمة النازلة من فوق. الطمأنينة الى الله تزيل الخوف عندما يقتنع الخائف ان ليس من إنسان قادرا على ان يلغيه او ان يؤذيه حقا.
هناك كذب بغير قول يخفي الحقيقة او يشوشها. فاذا قلت نصف الحقيقة تكون قد غششت الآخر. واذا وقفت موقفا يضلل الآخر مع ملازمتك الصمت فأنت مؤذٍ لمن تعامله عندما يكون له الحق بمعرفة موقفك الحقيقي. مثلا اذا شكت بك امرأتك وكنت خاطئا وسكت عن الجواب فأنت كاذب. اما اذا شك في هذا شخص آخر وليس له الحق بالمعرفة لك الا تجيب بشيء لك ان تخفي الواقع عن شخص ليس له الحق بمعرفته فمن حقك الصمت. ليس من كذب اذًا اذا حجبت الواقع عمّن ليس له الحق بمعرفته.
الحقيقة تتطلّب ان تكون مكشوفًا للذين من حقهم ان يعرفوا الحق وان تبيّن موقفك للذين لهم الحق بمعرفته. فاذا اعترفت للكاهن بخطاياك لا تستطيع ان تخفي حادثة او قولا او فكرا لأنه لا يستطيع أن يرشدك ما لم يعرف ما جرى في نفسك وما يعتريها من سقطات وان لم تكن مستعدا لذلك فالزم مكانك والتحف بأكاذيبك التي لن تنجيك يوما.
ماذا يقول الكتاب المقدس في هذا المجال؟ يقول السيد لليهود: «انتم من أب هو ابليس وشهوات ابيكم تريدون ان تعملوا. ذاك كان قتالا للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق. متى تكلّم بالكذب فإنما يتكلّم مما له لأنه كذاب وابو الكذابين» (يوحنا 8: 44). هذا كلام شديد الوضوح اذ رأى الرب ان الانسان الكاذب على صلة صحيحة مع حامل الشر الذي هو ابليس وليس فيه حق وكأن يسوع يريد ان يقول ان الكذب يعطل كل فضيلة فينا لأن كل فضيلة صدق ونور. ويتكلّم في عهديه عن الأنبياء الكذية المدعين ان ما يقولونه هو من الله مع انهم يلفقون كلامهم تلفيقا. هذه هي الخطيئة الأعظم. ولكن أليس كل كاذب ينسب كلامه الى الحق اي الى الله الكامن في قلبه. هو ضمنا في حالة تجديف. لذلك يقول سفر الملوك الثاني (4: 16): «رجل الله لا يكذب». لذلك يقول بولس: «رجل الله لا يكذب» (كولوسي 3: 9) ويؤسس هذا على ان المؤمنين خلعوا الانسان العتيق اي ذاك الذي كان مملوءا بالشهوات. وبعد ان يكون اغتسل بالماء والروح يكون قد تعافى.
# #
#
تبيانا لكون الكذب ليس فقط مجرد كلام ولكنه تعطيل للكيان جاء عند يوحنا الانجيلي في رسالته الأولى الاولى الجامعة (1: 6) «نكذب ولا نعمل الحق». هنا تلتقي الآية مع ما قلناه ان ثمّة كذبا في الموقف وليس في الكلام وحسب. لذلك يشجب الرب القسم الكاذب.
ماذا في الإسلام؟ هناك آيات فريدة في معناها مثل قول القرآن: انظر كيف كذبوا على أنفسهم (الأنعام ٢٤) ومعنى آخر قوله هؤلاء الذين كذبوا على ربهم (هود، ١٨) ومثلها في آيات عديدة من افتروا على الله كذبا. وربما كان قريبا منها الذين كذبوا بالآيات اذا نزلت.
في القرآن فحص متعدد الجوانب والاتجاهات في الذين يكذبون وهناك ربط للكذب بالاستكبار. والعاقبة قوله: «قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله» (الأنعام ٣٤). وهنا يطيب لي بلا تأويل ان أقول ان لقاء الله الذي ينفيه الله على الكاذبين غير منحصر في اليوم الأخير اذ فيه يلقونه ولكني أحس ان الكتاب يعفي لقاء الكاذبين بربهم، في نفوسهم في الدنيا. ويلتقي الكلام الإلهي في الإسلام بالعهد الجديد اذ يربطان الكذب بالشهوات.
ولعل ذروة الكلام عن الكذب من الناحية الفنية لو سمح لي المسلمون بهذا النعت هو ما ورد في سورة الرحمان اذ يقول: «فبأي الأ ربكما تكذبان» والآية تأخذ القسم الأكبر من السورة. وفي مطلع سورة المنافقون يقيم ترادفا بينهم وبين الكاذبين. وبصرف النظر عن سبب النزول في هذه السورة وردت لفظة المنافقين في عدة سور ما يدلّ على كره الوحي للكذب وألوانه المختلفة.
اذا كان الكذب متعلّقا بالبيئة الى حد كبير، اذا كان متصلا بالفقر نسبيا فما من شك ان تطور البيئة الى الأفضل من حيث الثروة والتربية لا بد ان يصبح المواطنون أقرب الى الصدق. في البلاد الصناعية الكبرى انت تفترض ان الآخر صادق وتعامله على هذه القاعدة. من زمان ليس ببعيد عشته في مطلع شبابي هنا كان معظم الناس يثقون بالآخرين وكانوا يستدينون مبلغا كبيرا بالعملة الذهبية العثمانية بلا وثيقة ويدفعون ديونهم واللجوء الى المحاكم ما كان يطرأ على بالهم. البلد كان مزدهرا الى حد بعيد وما من شك ان الإيمان الديني الذي كان قويا الى حد بعيد كان يساعدهم على قول الحق. وما من شك ان التضخم المالي وسقوط الليرة اللبنانية السنة الـ ١٩٣٦ قد زاد نسبة الانحراف الأخلاقي الذي نعرفه اليوم.
واذا أخذت المدرسة اذكر ان التلميذ كان يحس ان المعلّم يريد معاقبته على هفوة صغيرة وكان يترقّب العقاب ويخاف. هناك بيئات صغيرة كانت تغذي الكذب العام الذي أخذ يستشري في البلاد. هناك تغيير للعلاقة بين الأستاذ والتلميذ لا بد منه. علاقة الحنو والثقة يمكن دعمها. مشاركة ما لتلاميذ بمناقشة إدارة المدرسة شيء وتكلّم عليه غيرنا في اوربا وأعطى ثمارا.
يبقى ان التربية العائلية لها الفضل في تغذية الصدق عند الاولاد. كنت أعرف عائلات يُشار اليها بصدقها، لانعدام الكذب كليا فيها وهذه التربية تقاوم كل سوء يطرأ على الولد في مجتمعه المدرسي او غير المدرسي.
ثم ما أتمنّاه على المؤسسة الدينية هو التركيز على الفضائل وعدم الانحصار في الدعوة الى العبادات والتقاليد المرافقة لها. ينبغي ان يعرف المنتمي الى اي دين ان مراجعه المسؤولة صادقة كليا وان هذه المراجع يركن اليها في ما تقول.
# #
#
مرة سألت شابا في موقع ارشاد: هل أنت تكذب؟ اجاب نعم. ولكني لا اؤذي احدًا. قلت له: بل هناك واحد تؤذيه وهو انت لأنك تقزّم نفسك. هناك دائما في الكذب تحجيم للشخصية وارتعاد امام القوة الواقعة او المظنونة.
اجل هنا من وُلد ضعيف البنية او النفس. هؤلاء يميلون الى الانقباض والتواري ولكن الإنسان مدعو الى اتخاذ دوره وهو تأكيد الذات وتثبيتها وليس ادنى الى تثبيت الذات مثل تحدي من نعتبره ذا فعالية كالوالدين والمعلّم ومدير الشركة التي نعمل فيها والسلطات المدنية.
ربما كان من وجوه التحرر من الكذب الصمت والابتعاد عن الثرثرة والمزاح. ينفعك الا تتبجح بأكاذيبك وبعامة الا تظهر خطيئتك حتى لا تسيء الى السامعين. تحاشَ الرياء فإنه مصدر لتشويه الحقيقة. ابتعد عن مدح أصحاب المقامات فهذا يؤذيك ويؤذيهم معا. الانسان الصادق مرجع ومكان طمأنينة اذ يرتاح الناس الى قوله ويعرفون ان ينظّموا أمورهم بنصائحه لأنها لا تتغير.
الانسان الصادق شبيه بالمسيح الذي يقول عنه الكتاب انه الأمين اي الأمين الى كلامه الأبدي الذي لا يتبدل ونجد فيه راحة لأنفسنا.
Continue reading