Monthly Archives

August 2005

2005, مقالات, نشرة رعيتي

الإيمان/ الأحد 28 آب 2005 / العدد 35

والد مفجوع يدنو من يسوع متلهفا. ابنه عنده عدة عوارض تجعلنا نقول انه مصاب بداء الصرع épilepsie الموصوف بنوبات تشنجية مرتبطة بإثارة خلايا دماغية، ويقع المريض على الأرض ويفقد الوعي. السبب قد يكون جرحا في الدماغ او خللاً في النظام العصبي او يكون السبب غير معروف. وكان الأقدمون يعتقدون ان هذا النوع من المرض مرتبط بالأرواح.

          لم يستطع التلاميذ شفاء هذا الشاب فغضب يسوع عليهم وعمم توبيخه: ايها الجيل غير المؤمن. كاد ينفذ صبر المعلم من تلاميذه. اما هو فشفى الغلام فورا. ولما سأله تلاميذه لماذا لم نستطع نحن ان نشفي هذا الشاب، قال لعدم إيمانكم. هكذا بكل صراحة، بلا مواربة وبصورة قطعية. غير اننا نعلم من اعمال الرسل ان التلاميذ صنعوا العجائب. لقد استمدوا ايمانهم من القيامة.

          اذ ذاك قال هذه القولة الشهيرة: “لو كان لكم ايمان مثل حبة الخردل (وهي صغيرة جدا) لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا الى هناك فينتقل”. هذه صورة تعني ان العقبات مهما عظمت تسقط امام المؤمن وان كل أثر للشرير يخرج منه ومن الذين يمدهم بإيمانه.

          ماذا يعني الإيمان بالله وبمسيحه؟ يتضمن فكرة التصديق بكل ما قاله الله عن نفسه وعن اعماله وبكل ما كشفه لنا بالإنجيل (موته وقيامته). ورأس كل هذه الأمور يعني الحياة الأبدية اي معرفته هو ومعرفة قوة المسيح للشفاء والغفران.

          سألني مؤخرا احد الأصدقاء: ما دليلك على صحة هذا الأمر الذي تؤكد انه من الإيمان. قلت له لا دليل عندي الا ان الكنيسة تعلمه وانه مكتوب في الإنجيل. اشخاص عديدون يذهبون الى الكنيسة منذ عشرات من السنين يسألون عن الحياة الأبدية وقالوا: “مين راح واجا يخبرنا”. كنت اجيب واحد راح الى الموت وعاد منه وأخبرنا وهو يسوع المسيح وشهادته كافية لأنه هو الحق. واذا آمنتَ به تصدق كل ما قال.

          نحن نعرف ان المؤمن الحقيقي يذوق المسيح ويمتلئ به ويعرف ان المسيح أنقذه من خطايا كثيرة، وربما عرف انه انقذه من مرض او من موت. هو يعرف بالقلب، والقلب يستنير بالإنجيل والعبادات والمحبة المتدفقة من الأتقياء علينا. العقل المجرد يعرف اشياء العلم، ولكن الإحساس هو الذي يعرف الفن وصاحبه يلتقط بشعوره انه محبوب وانه انتقل من حال سقوط الى حال نهضة. المؤمن يرى من داخل كيانه، وهذا ليس اقل قوة من الذي يدرك فقط بعقله الخاضع ايضا الى الخطأ. نحن ليس ضد المعقول نتكلم، ولكنا نتكلم مما لا يحصره العقل.

          غير ان الحقائق الإيمانية ليست كل الإيمان. الإيمان اساسا الثقة بالله. وفي اللغة العربية الإيمان ان تعرف ان الله مأمنك اي انه لا يصيبك شر حقيقي، نهائي ان كنت مع الله. وكما يهدأ المصاب بداء الصرع من بعد تشنج بالدواء، انت، ان كنت مع الرب، انسان يعيش في سلام ويعيش بهذه القوة الداخلية والاطمئنان اللذين لا يعرفهما الجاحد. انت بالإيمان تخلص من القلق الشديد او القلق الدائم لعلمك انك مبني على الصخر وتحس بهذه المتانة. الثقة بالله هي ان ترمي نفسك عليه، ان تجعل نفسك في حضنه فتعرف انك محفوظ. واذا ألمت بك خسارة صحة او مال، تبقى متيقنا ان “كل الأشياء تعمل معا خيرا للذين يحبون الله”.

          يكون في هذه الحالة لك عناية من عند الله بطريقة اخرى. يمنّ عليك بالرجاء والاتكال عليه فيُنزل عليك رضاه وبركات وهداية هي اعظم بكثير من كل الذي خسرته في دنياك. ثم يقويك اخوتك المؤمنون وتؤلفون معا كنيسة المسيح. ويعطيك ايمانك حنانا عجيبا ولطفا كبيرا، وكلما قوي فيك تتزين بفضائل ما كنت تحلم بها.

          غير ان الرب يطلب منك ان تحفظ الإيمان بالصلاة التي تجعل الله حاضرا في قلبك ويقوى ايمانك بإنجيل يعزيك ويكشف لك غناه كلما قرأته، فلا تبقى مصروعا تهزك كل ريح، وتتكئ على صدر يسوع فتحيا بنبضات قلبه الى ان تلقاه متجليا في الملكوت.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

مهداة إلى أمين معلوف / السبت في 27 آب 2005

الهوية ان هي الشيء الذي تؤمن انك اليه تنتمي. ما اهمية هذا الهاجس ان عرفت ان الله يقرأك؟ في الكتاب العزيز يقول: “سأكون لكم الها وتكونون لي شعبا” والمعنى اني سأنظر اليكم واذا رأيتكم تكونون، اي انكم لستم شيئا قبل هذه الرؤية. وتقرأكم محبتي لابيكم ابرهيم. وابرهيم اول من سار الى الله. وقيل انه ذهب الى ارض الموعد. ولكن كل ارض تافهة او ليس من ارض الا اذا صارت سماء. لقد ذهب الى موعد مع الهه واجلي شعبه المرة تلو المرة لكي يلقى ربه في ارض غريبة. الهجرة هي الطريق الى وجه البارئ – الفادي وكل الوجوه محطات وليس لها تكوين الا اذا ارتسم عليها نور وجهه.

واذا فهم القوم انهم شوهدوا عند ذاك يصيرون شعبا له لانهم قبل ذلك كانوا بعثرة اجساد. وعندما كان الشعب اجسادا قال الرب لهوشع:”سمه ليس بشعبي، فانكم لستم بشعبي وانا لا اكون لكم الها”. ثم يقول: “وسيكون في المكان الذي قيل لهم “لستم بشعبي” انه يقال فيه: “ابناء الله الحي”. فالقضية اولا ان يراك الله برحمته فتكون ثم ان تعرف انك مرحوم فيثبت كيانك. وخارج التقاء عينيه بعينيك لست بشيء.

الا ان اهل الارض اصطنعوا لانفسهم هويات ليعرفوا انفسهم من اهل الارض. ولكنهم ينسون انهم جبلوا من تراب واذا لم يتحركوا بروح الله الذي القي عليهم يظلون من تراب. انهم يحبون ان يلزموا الارض ولهم منها اشياء. اول ما فيها العائلة وتعني ان رجلا اتخذ امرأة بعقد او لا يكون لك نسب لان من انجبك لم يوقع كتاب العقد. واذا اعتبرنا انك ثمرة هذا التلقيح فقد تكون اعظم من ابيك ومن امك وقد تتجاوز كل التهيؤ الجيني الذي وضعاه فيك ويذهب عقلك الوضاء وقلبك المستنير الى ابعد من المجرات وما هو اعمق من التاريخ. بالله عليك لا تنتسب. غير ان ثمة دولة وهي في حاجة الى قيود من اجل موانع الزواج ومن اجل ضبط احواله ومن اجل الميراث وشروطه وربما من اجل الامن.

واذا نظرت الى الاخوال والاعمام ومن اليهم فقد لا تكون لك بهم صلة ولو نفعت الصلة لنمو عاطفتك في احايين. ولكن من هم اذا لم تقم بينك وبينهم رابطة قلوب؟ ولا مانع عندي ان تربي روحك على ذلك اذا رمت بعضا من انتعاش. غير انك في بعض من أحيان تكون اسيرا لهذه الروابط، حادا في التناصر حتى لتشعر انكم كيان ولا تريد ان تفهم ان منافع الدنيا وحدها تقضي بتلاحم يصنعه الخيال وما هو بقائم الا للغلبة او بسبب من الخوف والافتخار. وتجد في هذه العائلة الواسعة كيانا وليس من كيان ما لم يكن هناك نفوذ او مال او سلطة اي اشياء من هذه الترابية التي وصلت اليك من آدم قبل ان يفتديه ربه بالحب.

الى هذا انتماؤك الى جماعة دينية. طبعا هذا ليس من الارض. لذلك يستوقفنا. غير ان في الامر لبسا اذ قد تكون اصلا محبا لله وتكون، اذ ذاك، صعدت بقومك اليه فهذا انتماء اليه. لكن الجماعة الدينية تتحرك بالايمان وما فيه من طاعات او تجمد بجهلها وخطاياها. هل المولودون على المسيحية يحيون بالمسيح؟ هل كل مسلم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ لذلك لا يعني لي شيئا تناصر المسيحي والمسيحي في هذه الدنيا اذا تناصرا خارج المسيح. المسيحيون ليسوا قوما. انهم نوعية او لون او بهاء. غير ان هناك مقتضيات الانتخابات وما اليها وهذا كله ترابية آدم. لذلك كانت امة الله تلك التي الله عارفها وهي ليست مسجلة في دفاترنا. هذا ولست بقائل انه لا ينبغي عليك ان ترعى المعتبر انه اخوك وان ترده الى وجه ربه وان تنتظم الجماعة على قدر النعمة في العقل الالهي. غير ان الجماعة التي قيدها الله على اسمه مؤلفة من الذين عشقوه. الى هذه تحاول انت ان تنتمي وقيود دوائر النفوس ليست منسوخة في السماء.

انا ليس عندي اعتراض على سعيك الى اطمئنانات: الحي، المدينة، او القرية، غابة نخيل لهذا ولذاك غابة صنوبر، البحر وما يؤنس. وانا آخر من قال ان المدن متساوية السحر. غير ان هذه بعض من جسدك ولا ينمو ذوقك الا بها. وبها تنتمي الى نفسك واحيانا يأخذك الله بها اليه. ولكونها منك هي تنتمي اليك والى من ذاقها معك وهي حلاوة من حلاوات الوطن الذي جاءك اليه ذووك وارجو ان يكون موطن الله او يشتهيه بعض كذلك.

والوطن صنيعة التاريخ وليس هو سجلا في عقل الله وليس الله ضامنه الى الابد غير انه فوض اليك الحفاظ عليه من أجل خيرك وخيرك في الارض ينبت بين حدوده وينشىء الساكنين بينها اذا سعوا بالجد بعضهم الى بعض، والوطن فرصتك المباشرة والاولى للخير. وانت تنتمي اليه بالخدمة ثم بما يعطيك وتتواصل وكل أبنائه في سبيل هناءة عيشهم وذلك في المشاركة. هويتك الوطنية ليست تلك التي تتقبلها بقدر ما هي انتباهك الى شعبك ومحبته أي انها في حال النمو.

غير ان في الاوطان خرافة كثيرة هي صنع الشعراء الذين يصنعون صورة البلد وهي ليست حقيقية ويدخلوننا في الغرور وهذا ما يصنع الايديولوجية التي ينتفخ بها الناس ليعوضوا بصورة الماضي المصنوع ما فاتهم من تحصيل الحاضر. أجل الشعوب المتخلفة في حاجة الى شعر قومي. تضعه لانها جائعة. انا لا أمنع عن أحد العواطف ولا ان يتغنى قليلا بجمالات لبنان على ان يصنع لبنان في الواقع الساحق. أنا لا أعرف شعبا يمدح بلده مثل شعبنا. نحن ننتمي اذا الى الصورة الشعرية التي ورثناها من شعراء الفصحى اومن شعراء الزجل. فالى اي شيء ننتمي؟ هل الى لبنان الحقيقي أم الى لبنان المصنوع؟ وافرضوا اننا انشأنا يوما بلدا عظيما. أنا متأكد عند ذاك من ان اهتمامنا بهويتنا يضعف وان التغني يتضاءل. انت تشتهي ما لست حاصلا عليه. ولكوننا بلدا صغيرا ومشتهى وضعيف الزخم في الانتاج يتضخم شعورنا بالانتساب.

الهوية اللبنانية تعني في أدنى حد الاخلاص للوطن والعمل من أجله. والاخلاص هنا حصري بمعنى ان ليس لك ولا لبلد آخر. وهذا لا يناقض شعورك بالانتماء الثقافي الى العالم العربي وارادة التعاون الكبير مع الشعوب العربية على ان تعتبر لبنان وطنا نهائيا. عندك تاليا هويتان ليستا على مستوى واحد ولا مضمونهما واحد. فكما لا يتناقض انتماؤك الى العائلة وانتماؤك الى مدينتك والى الوطن من حيث هو كل لا يتناقض من حيث المبدأ هويتك اللبنانية وهويتك العربية بمقدار ما يقبل العرب هذه الثنائية.

الا ان اللبنانية نفسها تفسح في المجال لرومنسية تاريخية تدعو الى القول بفرادة لبنان وانه سليل ستة آلاف سنة من الحضارة كما تفسح في المجال لرؤية أكثر واقعية وأمتن عملا. وفي هذا تختلف الشعوب. فالفرنسيون والروس واليونانيون والالمان يعيشون في غنائية كبيرة ويتشدقون كل بتاريخه وحضارته الخاصة في حين ان الاميركيين ليس عندهم شيء من هذه الرومنسية وليست عندهم قومية واحدة فمنهم الى هذا اليوم الايرلنديون والايطاليون والانكلوسكسون وولاؤهم لوحدة لهم مشتهاة وللدولة.

أما نحن فعلينا ان نصنع هويتنا من العمل، من النشاط الاقتصادي والمجتمعي والثقافي وان نزدهر على كل صعيد. واذا بلغنا مستوى من الازدهار عاليا تأتي هويتنا معبرة عن هذا الازدهار. ولذا كان البحث في الهوية ثانويا للعمل يلهينا عن النشاط الحقيقي.

والشعور بالانتماء يقوى على قدر التخلف او المقهورية. فلماذا لا تجد جدلا حول الهوية في انكلترا وتجد تأكيدها في بعض من بلدان اوروبا الوسطى والشرقية. ذلك لأن هذه البلدان تحررت حديثا بعد سقوط الشيوعية وهي تسعى الى تثبيت ذاتها، وفي وضعنا الاقليمي المتدهور انت لا تثبت انتماءك اللبناني ما لم تقو هذا الوطن الان بصورة لم يسبق لها مثيل.

أنا واثق من ان الجدل في قومية لبنان القائم من نهاية الحرب العالمية الاولى والذي تشدد بظهور ايديولوجيات قومية منذ مطلع ثلاثينات القرن الماضي كان هدرا من الوقت والطاقات. من نحن وما هي جذورنا التاريخية لم يطعمنا من جوع ولم يدفعنا الى الانتاج. الانتاج وحده من شأنه ان يجعل المبحث في الهوية غير ذي نفع او غير ذي نفع كبير. من انا بالنسبة الى التاريخ والى حضاراتنا السابقة نقاش يضمحل اذا أكد شعبي نفسه بالعطاء الكبير. انا عطائي.

العائلية في المدن بعامة وفي القرى بخاصة هدمتنا تهديما كبيرا?. التفاخر بالطائفة وماضيها وانجازاتها الحاضرة وتاليا وقوفها ازاء الطوائف الاخرى كان ولا يزال فيه تبديد طاقات كبيرة. الرؤية الى واقع البلد من اجل التغيير والنهوض هذا هو الموقف المنقذ.
ليس الخلاص في القول بأن لكل منا هويات متكاملة إذا تصادمت تصير قتالة. انا أقول ان هاجس الهوية لا يطعمك خبزا ولا يهبك حيرة ولا يشجع مساهمتك في بناء الحياة الجديدة. كن ما يجب ان تكون وعمّر البلد واحفظ عائلتك واطرح عنك العائلية. ولا تهتم لطائفتك وحدها سياسيا بل اهتم بالطوائف كلها في الوحدة الوطنية. عند ذلك ينبلج في نفسك وبين يديك نور الصباح.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

يسوع الأساس/ الأحد 21 آب 2005 / العدد 34

 إنجيل اليوم يكلمنا على تهدئة العاصفة في بحيرة الجليل. السرد عندكم. أهم ما فيه أن بطرس اندفع نحو السيد الماشي على المياه. كانت الحماسة  من طبع بطرس فاستطاع أن يخطو بعض خطوات إلى المعلّم. ثم يقول الكتاب: “فلمّا رأى شدة الريح خاف” ثم أخذ يغرق واستنجد بيسوع الذي مدّ يده إليه وأنقذه.

          لاحظوا أن أحدًا لا يرى الريح ولكنه يسمعها. غير أن الإنجيلي استعمل فعل رأى ليقيم مقابلة بين رؤيتين: رؤية السيد ورؤية الريح. أنت تمشي فوق بحر الحياة إذا سمَّرت نظرك على نظر المخلص. أما إذا حاد نظرك واهتممت بشيء آخر لا يبقى يسوع أمامك، لا يبقى لك منقذ فتغرق في هموم الحياة.

          أما في الرسالة فيتحدث بولس عن السيد ويقول عن المؤمنين به أنهم حرث (مثل الزارع في الإنجيل) ويقول بخاصة إنهم البناء ويبقى السيد هو الأساس. في أكثر من موضع يقول بولس إننا هيكل الله أو بيته وانه هو الذي يبنينا. في مواضع عديدة يتحدث الكتاب عن أن الله أو مسيحه صخرة. تذكرون مثل الذي يبني بيته على الرمل والآخر الذي بناه على الصخر. كذلك في اعتراف بطرس: وعلى هذه الصخرة (أي إيمانك بأني ابن الله) أبني كنيستي.

          ماذا تبني؟ فضة، خشبا، تبنا الخ… إلى أي حد أنت جدي في التعامل مع المسيح؟ يقول بولس: “فإن عمل كل واحد سيكون بيّنًا لأن يوم الرب أي يوم الدينونة سيُظهره لأنه يعلن بالنار والنار هنا تعني التمحيص. سيبقى عمل الإنسان إن كان جديًا “فمن بقي عمله الذي بناه على الأساس (أي المسيح) فسينال أجرة ومن احترق عمله (بدينونة المسيح) لهذا العمل فسيخسر وسيخلص هو ولكن كمن يمر في النار” (أي انه صعب أن يخلص) فإن الإنسان وعمله واحد.

          بعد هذا يقول الرسول: “أما تعلمون أنكم هيكل الله؟”. بدءًا المسيح في الجسد هو هيكل الله بناء على قوله في الإنجيل: “انقضوا هذا الهيكل -أي هيكل جسدي بالصلب- وأنا بعد ثلاثة أيام أقيمه”. وامتداد للهيكل الإلهي الذي هو المسيح صرنا نحن هيكل الله “لأن روح الله ساكن فيكم”. الروح القدس هو الذي يجعلنا هيكل المسيح.

          بعد هذا ينتقل الرسول إلى تعليم أخلاقي ويقول: “من يفسد هيكل الله يفسده الله لأن هيكل الله مقدَّس وهو انتم”. والمعنى أنكم في الخطايا والشهوات تدمرون هيكل الله وتصبحون لا شيء. لأن هيكل الله مقدس بالميرون أي أن هذه المسحة تجعلكم مخصصين للمسيح. هذا معنى قول الخدمة “ختم موهبة الروح القدس”. الختم هو ختم غلاف (بالشمع الأحمر). فمن استلم رسالة مختومة يحق له وحده أن يفضها. انتم فقط للمسيح. والصورة الأخرى للختم إن كل خروف يُختم بلون معين يدل على انه ملك فلان.

          خراف الحظيرة التي تكلم عليها إنجيل يوحنا أو جسد المسيح أو الهيكل كلها صور مختلفة في العهد الجديد تدل على إننا أخصاء المسيح. هذا يجعلنا تابعين له وحده وليس لنا مخلص آخر حسب قوله المبارك: “لا يأتي احد إلى الآب إلا بي”. لذلك نسلك بما يوافق تبعيتنا له.

          هذا يفرض علينا سلوكا طاهرا “فمن ارتكب الخطيئة فهو عبد للخطيئة ومن عمل البر عبد للبر” أي لا يملكه إلا البر. ومن تصرف بخلاف ذلك لا يكون مؤسسا على الصخرة.

          من هنا أن لا مجال للقول: أَعمل بعض ما يرضي المسيح واعمل بعض ما يرضيني بحيث أكون مترددًا بين ما هو للسيد وما هو للعالم. لذلك قال: “من أراد أن يكون لي تلميذًا أو من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني”.

          إن الحياة في المسيح فيها مشقات كثيرة. “ادخلوا من الباب الضيق”. هناك اضطهادات محتملة من قبل الذين لا يحبون السيد وقد يكون هؤلاء من الكنيسة. بلا دموع وجراح لا نستطيع أن نرى وجه الله. الطهارة شرطها الصبر.

          وأنت وسط الآلام تعيش في الفرح لأنك تعرف نفسك مؤسسًا على الصخر.

          هذا عمل يومي يدوم الحياة كلها فلا تقدر أن تكون يومًا مع سيدك ويومًا آخر مع شياطينك. لا تستطيع أن تتحايل على المسيح إذ المهم قلبك، وهو يعرف قلبك.

          وإذا تم البناء تروح وتجيء إلى أعمالك كلها وتتعاطى بيتك وتجارتك أو أي عمل آخر ولكنك حر منها جميعًا. تتصرف في الأشياء ولا تكون أسيرًا لشيء بعد أن أَسلمت نفسك ليسوع وعرفت انه إلى جانبك في كل حركة لك. يكون هو ملهما تصرفاتك وداعما لكيانك وتبقى به وحده حرا من طغيان الخطيئة عليك. تكون هنا قائما من بين الأموات.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الكنيسة والانبياء / السبت 20 آب 2005

كان يروج في الاوساط المحافظة انك لا تستطيع ان تقول ان الكنيسة خاطئة لان الكتاب المقدس ودستور الايمان يقولان انها مقدسة. وهي كذلك لان رأسها المسيح يقدسها. غير ان الآباء الاقدمين ولا سيما منهم السريان نعتوها بزانية اذا خانت عريسها المسيح.

ان هؤلاء رأوا اليها من منظورها التاريخي المجتمعي وليس من كون رأسها يحفظها بنعمته. صعوبة الكلام على أخطائها في الزمان – وليس فقط على أخطاء أعضائها – يجعلنا نؤكد انها دوما مقدسة وانها – من حيث هي جسم – قادرة على السقوط. من هذه الزاوية اجترأ البابا الراحل يوحنا بولس الثاني ان يعتذر عنها لا أن يعتذر فقط عن معاصي قادة سبقوه وكان في ذلك غاية في التواضع. أظن اننا في مرحلة تواضع هو شرط التحاور مع الآخرين. أجل هي جسد المسيح ولكنها كذلك بسبب من القرابين التي تنشئها وتحييها: غير ان البهاء الذي هي عليه لا يجعلنا نغض الطرف عن كونها جسما سوسيولوجيا تعبره الازمنة الرديئة. هي ما ينظر (بضم الياء) وما لا ينظر، هذا الجانب القدسي فيها، سماويتها يجعلانك تعيش فيها ومنها وبها. أما الجانب الذي يهترىء فيها فيجعلها – من حيث هي جسم – قائم في المكان والزمان قابلة للنقد فلا يسعك ان تختبىء كالنعامة لتقول ان ما أشاهده من السقوط ليس منها.

هناك حقبات تاريخية يزداد فيها التلألؤ وهناك حقبات تتكشف فيها العتمات. هناك التقلب بين الظلمة والنور، يبن ما ينزل عليك من الله وما تقع فيه من أوحال. هذا كله في كيان واحد فلا تكفر أنت بالهيتها ولكنك لا تتعامى عن هذه البشرية المهترئة التي تبدو لك.

انت لا تقدر على ان تتنفس خارج الكنيسة. لا حياة لك بلا هذه العظائم التي كونتها خلال الدهور اذ تجيء من القديسين ولا لقاء لك والسيد اذا لم تسبح بكل كلمات الذهب المتراكمة منذ الفي سنة. لا وجود لك بلا هذه العبادات الخلابة والفكر المتأجج الذي يجعلك ترى جمالات الرب. الذي لم يذق هذه الخلابة يقول أحيانا أنا أحيا وحدي، انا أصلي وحدي. ليس من انسان وحده اذ هذا الجاهل او المتجاهل لا يعرف انه يصلي على انفراد إلا لكونه ابن هذا الكتاب وان دمه من دماء الشهداء وانه يعجز عن ان يتمتم اية كلمة لو لم يكن بولس وصحبه واغناطيوس والذهبي الفم وكل الذين خطفهم يسوع الناصري. لم يولد أحد في صحراء فاننا جميعا شربنا من هذا الماء الحي. فمن ظن نفسه خارجا قد يكون من الداخل وأحياناً من ظن نفسه من الداخل هو خارجاً حقاً.

ليس السقوط محصوراً بالمسؤولين ولكن بسبب من السلطان الذي أعطي لهم من الله وممارسته في الجماعة وتوليهم المال والاوقاف وامساكهم بالقرار واساءتهم الممكنة للسلطة يتفشى فسادهم وتبدو الكنيسة قبيحة بهم. وما من شك عندي ان خطايا الكنيسة كانت تاريخيا خطاياهم. هم الذين يؤرخ لهم. واذا تتبعت التاريخ المسيحي فالى جمالات القديسين حكايا انقسامات وأحقاد ولم يحصل انشقاق بلا كيد واستكبار شخصي أو استعلاء كرسي على كرسي.

الكنيسة كشريحة اجتماعية فيها كل الخطايا التي لك ان تتصورها. لذلك رآها كتاب الراعي لهرماس انها عجوز تلبس أطماراً كما رآها من ناحية اخرى عروساً بهية. الكنيسة فيها قهر كبير وظلم كبير يختفيان وراء قدسية السلطة. عندك اليوم صور مهذبة للاقصاء المهذب لعناصر قد لا تكون دون سواها علماً وتقوى. كل ذي سلطان يتربص التعسف به.

المشكلة ان المطران بشر ويشتبه عليه كلامه وليس عندك معيار لتعرف ما اذا جاء هذا الكلام من الله أم من شهوات هذا الرجل، من جنوحه الى الاستبداد، من مزاجيته. هو وحده اذا تطهر وتاب وأعرض عن شغفه بالدنيا وبنفسه يستطيع ان يقترب من مشيئة الله لينقلها اليك. هذا يتطلب استعفافاً كبيراً وزهداً بالسلطة. فالمفروض ان يمارسها شاعراً بأنه مؤتمن عليها ائتماناً وانه حر من الانفعال ومستعد ليقوم اعوجاج نفسه. عندما يقول بولس عن الرسل انهم «وكلاء اسرار الله» يريد ان ليس لهم كلمة منهم لكونهم استودعوا كلمة الله يفصلونها باستقامة وبلا محاباة للوجوه.

مفروض في الاول بين قومه ان يطلب من الله الحكمة ليتصرف في ظرف محدد بما هو صالح للبنيان. هو يأمر وينهي حسب متطلبات الكلمة ومنفعة الانسان الذي جاء اليه طلبا لنصيحة أو خدمة. يأمر وينهي بما يجعل الناس احسن وأقرب الى معرفة الله. هو مجرد جسر لله.

وإذا كان لا بد من موقف في هذا الوضع او ذاك فيقول ما يقوله كتابه اي ان يستمع الى «ما دفع مرة واحدة الى القديسين» ويترجمه. قد يكون له في الكلام تعابير تصل الى حد الابداع ولكنها كلها من التراث ومن كانوا على التراث أقرب اليه واحب. لذلك لا يصنف احدا ولا يحسب احدا على أحد فيحجبه او ينفيه او يسكته بلا مسوغ اذ لا يتحزب لاشخاص او فئة لكونه حرا من الجميع، خادما للكل، ومثل معلمه غاسل ارجل، غير مقيم على احد خطيئته.

منذ فترة قريبة قرأت لافتة على الشارع العام في قريتي تتضمن دعاء وضعه مؤمنون قالوا فيه انهم يطلبون الى الله «كهنة قديسين». قلت في نفسي ان هؤلاء الاخوة انما تاقوا بسبب صدمات الى ظهور رعاة طاهرين. ويقيني ان ابن الرعية يغفر لراعيه جهلا للاهوت ولا يغفر له نقيصة جارحة.

مشكلتنا ان الكنيسة تقوم على ادارة وتنظيم قانوني ومشكلة المشاكل هي في السلطة اذ الكثيرون يفيدون منها وينتفخون بها ويسيطرون ولا يقدرون الاذى الحاصل من كونهم يتولون الشأن الالهي في زخم شهواتهم وليس طاعة للرب. الكنيسة في واقعها التاريخي مدى يجلس فيه المسيح الدجال كما يقول الكتاب العزيز والمسيح الدجال حسب تفسير كبارنا ليس شخصا محددا بالضرورة ولكنه ظاهرة الدجل.

اذكر عندما اسسنا حركة الشبيبة الارثوذكسية من 62 سنة ان بعض شيوخنا قالوا لنا: من انتم لتعلمونا. وكان الجواب المضمر وغير المقول بسبب التهذيب: من انتم حتى لا تتعلموا. وأتوقع ان يقول لي قارئي اليوم: من خولك حق وصف قيادة كنسية انت منها. جوابي المقول هذه المرة: انا واعظ لأني موعوظ. ومن قال لك يا صاحبي اني لا اوجه اللوم الى نفسي اذا وجهته الى الكنيسة جمعاء. فانا مدقق في امورك وامور نفسي ولا اطيق هدر الطاقات عندما اهدرها انا وتهدرها انت ورجائي ان تعذر وجعي لئلا اذهب انا واياك الى الموت او نقوم منه اليوم لحياة جديدة. الكنيسة ليست ملك احد لأسكت عن تمزيقها.

وعندما اشاهد هذا التلف الكبير لا استطيع ان امنع نفسي من الاعتقاد ان الروح القدس هو الذي قاد كنيسته جيلا بعد جيل. انه استعان بأدوات بشرية خانت من البدء او تعلمت الخيانة بعد مراس. ان تكون هناك نيات حسنة ليس همي. الله فاحص القلوب والكلى بعدل. ولكني احزن للأذى الشديد الذي اصاب البشرية جيلا بعد جيل من الذين كانوا محسوبين نورا للعالم.

ماذا انتظر من كنيسة اليوم؟ انتظر ان يجددها عريسها الالهي بأعجوبة وقد جددها من وقت الى آخر بواسطة الانقياء ودائما كانوا قلة. والحاذقون يهمشون القلة لئلا يميتها توبيخهم الصامت. كيف عبرت الكنيسة صحراء العاطفة وكيف لم تختنق؟ كيف طرحت الثياب الرثة عنها وطلبت الى السيد ان يرمي عليها ثوب العرس؟ كيف مزقت ثوب العرس وعادت عارية كالزانية؟

من يهمس في آذان الطاهرين ليجهروا بالحق ولسان حالهم ما قاله يسوع امام بيلاطس «جئت اشهد للحق». «اللهم اشهد اني بلغت» وليمت بالشهادة من يموت ويحي من يحيا. «تعال ايها الرب يسوع» فالاغصان جفت لان الناس اعداء النسغ. واذا ارسلت انبياءك – وعهدك الجديد يذكرهم – فسيقتلهم الباغي ولكننا نعيش من دم الشهداء وكل ما عدا هذا الدم تندر.

هلا انزلت كلمتك من جديد حتى لا يستشري سرطان النفاق ولا يتحول وجودنا مسرحية! هل تستطيع الدنيا ان تسير مسيرتها وكأنك لم تحل فيها. نحن نعرف من صلبك آنذاك. وانت تعرف من يصلبك اليوم. انت تتدبر شؤونك كما تعلم وحتى يوم التجدد العظيم لا تطلب انت منا الا نتوجع. لا تطلب منا الا نصرخ.

انت لا تريد ان نطمئن الناس بالكذب. لا تبغي منا ان نفعل اقل ما فعلت انت في الهيكل لما طردت منه الصيارفة وباعة الحمام. لا تقبل انت ان تريد لهيكلك غير النصوع. اما قلت مرة بواسطة احد انبيائك: «روح افواهنا مسيح الرب؟». سوف نصرخ ونبح ويتهلل الكثيرون لبحتنا حتى يصموا آذانهم ولكن في صمتنا نبقى لك شهودا.

قبل ذلك قد لا تكون «سماء جديدة وارض جديدة» لقد الفنا القحوط وتعلمنا من الجفاف الكثير. غير ان رجاءنا ان مياها غزيرة قد تنفجر في البادية حتى تسقي الازاهير القليلة التي تكون انت وحدك قد غرستها. وحتى تتفجر الينابيع نصلي ونغفر.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

تأمل في رسالة اليوم/ الأحد 14 آب 2005 / العدد 33

كتب بولس رسالتين الى أهل كورنثوس نحن مع الأولى اليوم. وكورنثوس مرفأ في اليونان على قنال. وكان الرسول قد بشرّها بعد ان أخفق في أثينا (أعمال 18). ظل بولس على علاقة مع هذه الجماعة. في هذه الأثناء استقبلت الكنيسة مبشرًا مسيحيًا قادرًا يدعى أبلوس كان فصيحًا متبحرًا في كتب العهد القديم فساعد أهل كورنثوس على مجادلة اليهود وكان يفوق بولس فصاحة فتحزّب له قوم. ولا يعني هذا أنه كان يشجع المحازبين.

          كذلك تحمّس بعض لبولس وتشيّعوا له. كذلك تحزب بعض لصفا، وهو بطرس، ولعل بطرس مر بالمدينة في طريقه الى رومية. هل كانت تكمن نزعات لاهوتية في هذا التحزب؟ لا شيء يدل اولا على ان بطرس ترك أثرًا لاهوتيًا خاصًا ولا أبلوس. نزعات عاطفية سادت.

          لا نعرف بالضبط معنى الذين قالوا إنهم للمسيح. هل المعنى أنهم تجاوزوا الخلافات، وتاليا جعلوا أنفسهم ازاء الآخرين، وبهذا المعنى كانوا حزبًا؟

          ما أزعج بولس الانقسامات سواء أكانت نزعات لاهوتية تغذّيها ام كانت تعبّر عن تفضيل شخصي لهذا او ذاك من المسؤولين. هذه لم تكن انشقاقات بسبب اختلاف حول العقيدة.

          في الواقع الأنطاكي لا نشهد انقسامًا بين المؤمنين ظاهرًا على مستوى العقيدة، ولئن وجدتَ هذا او ذاك يشك بمعتقدات اساسية اقتبسها من كنائس اخرى او اديان اخرى. انا سمعت كثيرا من يشك بقيامة الأموات او من كان غير مقتنع بالصيام.

          غير أنك تجد في بعض الأوساط المتقدمة في المعرفة تباينات تصل احيانا ببعضهم الى رفض الآخرين او الى التشدد وربما الى التكفير. ونحن نعلم ان السلطة الروحية وحدها تستطيع ان تحكم على الناس بالهرطقة وانك، فردًا متعلمًا ، يمكنك ان تبيّن خطأ ولا تكفّر صاحبه.

          عندنا في الكنيسة مساحة من حرية الاختلاف لا تمس جوهر العقيدة. والكنيسة لم تجزم في كل شيء.

          ليس صحيحًا  مثلاً أن عندنا اعتقادًا واضحًا بما يحصل للنفس بعد الموت. هل هناك مراحل لارتقائها ام ليس من مراحل؟ هناك من يميل الى المعلمين الذين يحوّلون آراءهم عقائد ثابتة ويجزمون بقوة ان هذا الرأي أرثوذكسي وذاك غير أرثوذكسي.

          من هنا ينشأ أننا نتّبع هذا المعلم دون سواه فتتألف كتل متصادمة سرًا او علنًا. مرة سألت لاهوتيًا عظيمًا في كنيستنا هو الارشمندريت ليف جيلله: “ما هو إيمانك؟”. اجابني انا اؤمن بما يؤمن به مطراني. هذه هي القاعدة وان كانت لا تنفي إمكان النقاش.

          لك أنت أن تستحلي فكر فلان وأن تحب شخصه لأنه يقوّيك بالمسيح. ولا مانع أن تفاضل بينه وبين سواه. ففي سماء الكنيسة نجوم يختلف ضياؤها. ولكن عليك أن تُقبل الى الجميع بمحبة لا أن تصنّف الناس، ولا يحق لك أن تبعد عن قلبك فلانًا وفلانًا لمجرد انضمامه الى جمعية او حركة روحية لمجرد أنك قررت بعصبية وبلا امتحان أن هذه الجمعية أو الحركة موصومة بالفئوية. 

          انه من روح الانقسام ان تستبعد عنك ناسًا لمجرد انهم يحبون فلانًا ويتأثرون بروحه اذ تخسر احيانًا وجوهًا مشرقة قررتَ الا ترى إشراقها فيبطل تعاون في الكنيسة خصب لمجرد حقد في نفسك. غير ان الله انقذ هذه الأبرشية من الأحقاد الاكليريكية على ما ارى فلا نشهد بين كهنتنا اثرًا للتباعد العاطفي. ورجائي ان يحب الكاهن كل ابناء رعيته وان يعاملهم معاملة واحدة. ورجائي ايضا ان تحب الرعية راعيها فلا تستسلم الى انتقاد مرّ والى استعراض عيوبه وان تحبه اكثر فأكثر لأنها كلما ازدادت حبًا له يتحسن هو ويصبح اكثر رقةً واكثر اندفاعًا واعظم إخلاصًا لها.

          الويل للذين يزرعون الشقاق لأنهم بهذا يمزقون ثوب المسيح غير المخيط وهو القائل: “كونوا واحدا كما انا والآب واحد”.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

مريم / السبت في 13 آب 2005

في الشرق الارثوذكسي ليس من عقيدة تتعلق بمريم. فاذا سميت والدة الله في المجمع المسكوني الثالث، مجمع افسس 431، فهذا ليس قولا فيها مباشرا. انه قول في ما نسميه تبادل الخواص اللاهوتية والخواص الناسوتية في شخص المسيح. واذا نعتها بالدائمة البتولية نعتا في سياق حديث عنها في المجمع الخامس 553 فان هذا الا من باب تأكيد ما كان فيه التقليد متواترا. الشرقيون لاهوتيون اي يتكلمون على الله وحده ولا يأتون بكلام عقدي عن القديسين مهما سما أمرهم. لكن بهاء الله يسطع عليهم او انت تضمهم الى هذا البهاء في تقواك باعتبار ان كلمة الله يحويهم او يمتد اليهم او هم ملصقون به وليس لهم وجود مستقل قد يدفع مشاعر التقوى فيك الى ان تعتبرهم انصاف آلهة مع كونهم بشرا سويا.

المسيحي الذي يأتي من التراث الشرقي وحده لا يحس انه “يتعبد” لمريم اذا كان الفعل الثلاثي عبد، يعبد. انه يكرم ويأخذ القديسين في دربه الى المسيح وذلك في عبارات من العبادات مركزها الوحيد الله او مسيحه. لذلك لا خطر في الطقوسيات البيزنطية ان ترى مريم منعزلة عن سيدها ومحصورة فيها فضائلها. لا معنى عندنا لعبارات شعبية تجعلك تستعطي مريم في كل حين ناسيا انها مضمومة الى ابنها في مجده اذ ليس لها مجد من ذاتها ولا يسوغ لك ان تنظر اليها على انها تدوس بقوتها الحية. فالمرأة التي تحمل الطفل في البرية ويطاردها التنين ليست هي مريم. انها الكنيسة التي صورها كاتب سفر الرؤيا (الاصحاح 12) بصورة مريمية اذ العذراء الدائمة امامنا هي كنيسة الله.

في تتبعي لكل تراثنا الطقوسي يدفعك التعبير الى ان تظن اننا نخلص بواسطة القديسين. هذا غلط. نقولها ولكن قصدنا ان الذين ارتفعوا الى الملكوت واعلنا قداستهم انما هم شركاؤنا في الدعاء. في هذه الشركة كل منا يصلي للآخر. رجاؤنا فقط ان قوة الصلاة التي يرفعها القديسون مرتبطة بانهم تحرروا من وطأة الجسد ومن الاهواء لان “صلاة البار سماويا كان ام ارضيا قادرة كثيرا في فعلها” (يعقوب 5: 16). المسيح وحده هو المركز ولكن في كونيته واصطفافنا حوله يجعل هو كلا منا يحمل الآخر. سمّ هذا – اذا شئت – توسلات عند الذين هم فوق او شفاعات او ما الى ذلك. لكن القربى بين اهل الارض في الصلاة هي قربى من السيد لا تختلف بطبيعتها عن قربى بالروح سكان السماء. لا نعني اكثر من هذا اذا قلنا: “بشفاعة والدة الاله يا مخلص خلصنا”.

ما يجري حقيقة في قلب الله ان كل اهل السماء يتضمنهم المسيح في ذاته وهم في صحبته عندما يستجيب لنا بمعنى ان احدا منهم ليس جسرا بيننا وبينه فانه الصق بنا من رأسنا اذ قد يقطع رأسنا وهو لا ينقطع من اللصوق. لذلك لا محل لاعتراض القائلين انا ادعو المسيح مباشرة اذ الجواب اني اذا ارتفع دعائي الى قديس فاني لا ازال مع المسيح مباشرة ولكنه هو ليس وحده اذا لبى دعائي لان اصحابه السماويين هم معه ويبقى حاويهم وهم لا يضافون اليه اذ لا تفريق بينك وبين الملتصق بك. هنا الكثرة تغنى في الوحدة والوحدة تبدو بالتعدد. نحن دائما في الشركة.

كل ما في الامر اننا لا ننسى الذين ذهبوا الى المجد وهم لا ينسوننا اذ يجدوننا مثل رجاء او وجود متوقع في هذا المسيح الذي يشملهم جميعا.

مريم لا تخرج عن هذه القاعدة. غير انها اسمى المخلوقات اذ قال الله ذلك بواسطة جبرائيل (او جبريل اقرأ كما تشاء) وفي تأملنا رقادها او موتها واستقبال ابنها لها رأيناها اعظم شأنا من الملائكة. وقد نحا بعض آبائنا الى القول ان الانسان اعظم شأنا من الملائكة. في المصطلح الطقوسي اردنا ان نقول انها حققت في ناسوتها ما لم يحققه آخر واهلها الله لذلك في اختيارها. كنيستنا تعتقد ان والدة الاله ساكنة المجد مع انه لن يكشف قبل اليوم الاخير. وهذا ما نعنيه في اقامتنا عيد الرقاد في الخامس عشر من آب. ولا نوغل ابعد من هذا الحد.

الى هذا، في دنيانا، عندي قولة تتفرع من امومة مريم ان المرأة، كل امرأة ما لم تلد كائنا شبيها بالاله، متخلقا باخلاقه، ناريا كالانبياء، حريصا على نقاوته مثل القديسين لم تلد شيئا. الناس لحم ودم ما لم يصيروا آلهة. الناس كلام ما لم يصبحوا مثل كلمة الله. همّ الله في كل التكوين البشري ان يصنع آلهة.

في قراءة بعض لانجيل يوحنا عندما كان يسوع مرفوعا على الخشبة كان الى جانبه امه وشاب يدعى التلميذ الحبيب. يقول التراث عندنا ان هذا الرجل كان يوحنا كاتب الانجيل الرابع ولكن ليس من اقرار في النص بانه كان يوحنا بن زبدى. هنا قال السيد لمريم: “هذا ابنك”. فهمي للنص وما رواء الظرف ان مريم جعلت اما لكل تلميذحبيب. ليس احد يعرف معنى بنوتنا لمريم. الكلام يتعدى مجرد التحرك الشعوري. ما يبدو انه يمكن القول اننا نولد من نقاوتها النموذجية لكل نقاوة. غير ان التراث يقول لنا ايضا ان من بث المسيح في العالم (بالتعليم والشهادة) يصبح هو ايضا مريميا?. هل هذه تسمية رمزية ام اكثر؟ ان لفي الامر سرا. ولكن ايا كان التأويل يبقى ان لنا مع هذه المرأة صلة حميمية لا معنى لها ان لم نصبح، بصورة ما، مريميين اي مولدين للمسيح في الدنيا.

يبقى ان الادبيات المسيحية في الشرق على الاقل لا تذكر السيدة العذراء من حيث هي امرأة. مقام النساء لا يبدو انك تستطيع ان تستخرجه مباشرة من مريم ولاسيما ان الرجال والنساء عندنا يلوذون بها لوذا واحدا. لا يبدو ان الجنس يلعب هنا اي دور. غير ان ابن الله ارتضى ان يسكن احشاء امرأة. لذا لا يمكن مسيحيا الا ان يكرم المرأة اكراما شديدا لكون رحم امرأة واحدة صار اشرف مكان في العالم. آسف طبعا للرؤية الدونية للمرأة كما ترد عند هذا وذاك من كبار المعلمين. ما اتيح لي ان ادقق في هذا الادب وقد لاح لي من قراءة سريعة ان الموقف لم يكن موقف انتقاص من كيانها ولكن موقف تخوف من الاغراء لان حواء تسيطر على عقل الرجل وعلى مشاعره الظاهرة او الباطنة. غير ان العبادات تلغي هذا التخوف اذا طالعت الشعر الطقوسي المتعلق بمريم. القصة ان ام يسوع كانت المرأة الوحيدة التي سحقت طغيان حواء فينا.

مريم مستمرة هدفا وشوقا حاملة راية العفة ولست اريد بها عفة الجسد وحدها ولكن العفة عن شهوة المال والسلطة. الدائمة البتولية تعني دائمة الانقطاع لله والاقلاع عن اي تركز على سواه. وانت في زواجك بتول ان كان الله لا امرأتك هدفك وتأتي زوجك، اذ ذاك، رفيقة لك في هذا التبتل.

ولكن لا يبدو ان لكلام كهذا مكانة في مجتمع يقوم على عبادة الجسد. ان فحش الازياء رمز لهذه العبادة. لا اعتراض عندنا كبيرا ان يعجب الانسان بقوامه او خلابة وجهه ولكن على ان يأتي هذا طريقا الى الكمال الروحي. الجسد مصلى، موضع سجود للرب ومكان لغة، لا تجعله مصبا لكائن آخر. اذ ذاك يبطل، حقيقة، تواصله. لا تقمه في الهشاشة. شدده بالروح الالهي الساكن فيه لتصير كائنا مريميا.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

تجلي الرب / الأحد 7 آب 2005 / العدد 32

ان عشت حتى استلامكم هذا العدد من “رعيتي” سأكرس كنيسة التجلي المسماة شعبيا كنيسة المخلص في بحمدون المحطة وهي من اجمل كنائس الجبل، ورجائي ان تكون موضعا يتجلى فيه ارثوذكسيو هذه البلدة. غير ان بهاء هذا المعبد يأتيها من تجلي يسوع الذي اقمنا عيده أمس وهو وعد لتجليكم جميعا اي لالتحافكم بالنور الإلهي الأزلي، فاذا بكم تصيرون قامات من نور تطرحون عنكم ترابيتكم وأتعابكم وهمومكم ويبقى همكم الوحيد ان تفتشوا عن يسوع في كلمته وفي وجوه الذين يحبونكم والذين يبغضونكم.

          متى نصير ابرشية من نور لا يكره فيها احدٌ احدا ولا نتفرق قبائل، ونتعاون في خدمة الفقير حتى لا اموت وفي نفسي غصة انْ الحقود بقي حاقدا وفيّ قناعة ان كل مؤمن صار اعمق ايمانا مما كان عليه في الماضي وأقوى في الرجاء وأمتن في المحبة متقبلا اخاه “بلا محاكمة أفكار”، حاضنا عياله وأصدقاءه. واذا لم نفعل هذا يكون المسيح قد تجلى باطلا او لا نكون قد استلمنا تجليه.

          اذكروا ما جاء في انجيل السَََحَر للعيد  حسب لوقا ان الرب صعد الى الجبل ليصلي وفيما كان يصلي اي فيما كان واحدا مع الآب “تغير منظر وجهه وصار لباسه ابيض لامعا”. معنى ذلك انه تجلى من داخله لا من نور جاء اليه من الخارج. لا احد يستطيع ان يصعد عاليا الى الله الا اذا كان الروح القدس فيه. واذكروا ايضا ان النبيين موسى وايليا اللذين دعاهما اليه تراءيا في مجد لأنهما اشتركا في المجد الذي كان هو عليه. وما ينفرد به لوقا هو ان النبيين تكلما معه عن آلامه. معنى ذلك ان كل مجده كان بالصليب، بقبوله الموت الطوعي. هذا الموت كان ذروة طوافه على الأرض، وهنا اكتمل مجده في جسده. “مجِّدني يا أبتِ بالمجد الذي كان لي عندكَ قبل انشاء العالم”. من حيث انه إله كان يقيم في المجد الأزلي. الآن التحف كيانه الجسدي ايضا بهذا النور الذي كان مقيما فيه قبل كون العالم.

          ثم لاحظوا ان سحابة ظهرت فظللت التلاميذ الذين كانوا معه. والسحابة في العهد القديم كانت ترمز الى الحضرة الإلهية التي كانت ترافق بني اسرائيل في صحراء سيناء. والمعنى ان التلاميذ دخلوا هم ايضا الى المجد. الا نشتهي ان نكون مثل التلاميذ الثلاثة الذين اصطحبهم الى الجبل وكانوا ملاصقين المعلم في التجلي العظيم. ونحن الارثوذكس نؤمن ان هذا النور غير مخلوق. ليس هو نور الشمس. انه ذلك النور الذي يفيض من الله نفسه، ويسميه آباؤنا “القوى غير المخلوقة”. هذا ما نناله في النعمة. الرب لا يصنع لك هبة اليوم صنعا ولكن يعطيك مما فيه منذ الأزل وكأنك انت مخطوف الى الأزل، كأنك لم تولد من امرأة لأنك من اولئك الذين يقول عنهم يوحنا انهم من الله وُلدوا.

          ثم صار صوت من السحابة قائلا: “هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا”. يسوع بكليته اي في لاهوته وناسوته كان ابن الله. وانت اذا شاركته تجليه تصير ابن الله بالتبني. المسيح ابنه في الجوهر، وانت تصير ابنه بالعطف الإلهي. وهكذا يصح ان تسمى اخا ليسوع. ما بقيت انت عبدا، فلما حررك السيد بموته وقيامته واشتركت في جسده ودمه في الكأس المقدسة، بتّ اخا له واصبحت حبيب الله بالكَرََََم الإلهي.

          ولكن هذا له شرط واحد ان تتحمل كل صعوبة في الدنيا، ان تأخذ صليبك وتتبعه، ان تلقي نفسك على صدره بالعشق الإلهي. عندئذ تحترق خطيئتك بنار الغفران الذي ينزله الله عليك وتمتلئ من نعيمه ويزول عنك الغضب وتدخل في الرحمة، وما سوف تحصل عليه في الملكوت تنال عربونه هنا بحيث اذا صعدت الى السماء من بعد موت تكون قد ذقت جمالها فيك الآن.

          هذا هو تجليك الدائم. وما كان العيد الا ليكون كل يوم لك عيدا، فاذا ابتهجت بالمسيح وابتهج المؤمنون الآخرون بالمسيح، نصير كنيسة الفرح المتلألئة دائما.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

تجلي السيد / السبت في 6 آب 2005

اليوم نقيم عيدا للنور نسميه عيد التجلي يأتي في سياق حديثين عن آلام المعلم. كلاهما انباء عن الصلب وكأن الانجيليين ارادوا انه هو المكان لانبلاج النور.

الحديث الاول الذي يتضمن اعتراف بطرس بالمسيح تم في نواحي قيصرية فيليبس وهي بانياس التي عند سفح جبل الشيخ. بعد هذا بستة ايام صعد السيد ببطرس ويعقوب ويوحنا الى “جبل عال منفردين”. اي جبل هذا؟ يقول التقليد انه جبل ثابور في الجليل. غير ان هذا لا يتجاوز ست مئة متر في حين ان حرمون او جبل الشيخ ينطبق عليه وصف جبل عال. وفي قداس العيد نقتبس من المزامير: “ثابور وحرمون باسمك يتهللان”. غير ان الحجة التي تجعلني اميل الى جبل الشيخ ان السيد وتلاميذه قبل حادثة التجلي كانوا بقرب الجبل.

ولكن ليس هذا هو المهم. جوهر الحدث ان هيئة المسيح تغيرت قدامهم و”أضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور” (متى 2:7). المسيح لا يغيره شيء من خارجه ولا ينسكب نور عليه. ان التلاميذ رأوا النور الذي كان دائما يلتحق به ويخفيه بسبب من ضرورة اتصاله الطبيعي بالناس فلا يبقى على مظهر ساحر لهم يتجاوز الطاقة الانسانية التي اراد ان يكون عليها وحدها بلا معجزة ضياء دائم تسلخه عن الوضع البشري بحيث يأتي شكله البشري كشكل كل الناس ليتحقق التجسد على قياس البشر. واتخاذ الصورة البشرية العادية نسميها الاخلاء على ما جاء عند بولس: “اخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس” (فيليبي 7:2). والمعنى انه حجب المجد الالهي عن وجهه وجسده.

الامر الآخر ان موسى وايليا تراءيا له وان سحابة نيرة ظللتهم وسمع من السحابة قول يقول: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت “دائما يجب ان نذكر لغة العهد القديم وراء ما نقرأه في العهد الجديد. السحابة هي التي كانت تغطي خيمة الاجتماع في صحراء سيناء. وبهاء الرب يحل بها على المسكن. ذكر السحابة اذا اشارة الى ان حضرة الرب كانت على الجبل. ودخل السحابة هذان النبيان واكد لوقا انهما ظهرا بمجد “وتكلما عن خروجه (اي خروج المسيح) الذي كان عتيدا ان يكمله في اورشليم”. وفي قراءتي ان السحابة ضمتهما وان مجدا واحدا كان يلف المسيح ورفيقيه هذين.

لماذا استحضر السيد موسى وايليا؟ يزين لي ان هذين الاعظمين في التراث العبري لم يشتركا في النور الا عندما جمعهما المسيح اليه. في سفر الخروج قال موسى لله “ارني مجدك… فأجابه الله: اما وجهي فلا تستطيع ان تراه لأنه لا يرى وجهي انسان ويعيش”.

كذلك ايليا لما كان في حوريب (سيناء) لم يكن الرب في اي ما حصل هناك من ريح وزلزلة ونار. بعد هذا كان صوت نسيم لطيف وهناك كان الرب “فلما سمع ايليا ستر وجهه وخرج”. وحتى بعد صعوده في العاصفة على مركبة نارية الى السماء لم يصل الى وجه الله.

هناك على ثابور او حرمون ينضم الركنان النبويان الى المجد الذي كان المسيح عليه في السحابة. واثناء خوضهما في المجد كانا يتكلمان معه عن موته لانه هو ذروة المجد. وهذا يفسر ان المعلم تنبأ لتلاميذه عن موته بعد حصول المشهد.

لم يأت يوحنا على ذكر التجلي اذ يكشفه على مد انجيله وعنده باستمرار انه كلما ذكر المجد يريد به الصلب والموت. من هنا ان عبارة “ابني الحبيب” لا تدل حصرا – كما ارى – على النبوة الازلية ولكن على كون المسيح ايضا ابن البشر. لقد سر الاب بما حققه ابنه هنا في الجسد. العبارة تدل على التلاقي بين اللاهوت والناسوت في المسيح. التجلي صورة مصغرة عن كل ما سيحدث للمسيح بين الجمعة العظيمة وصباح الفصح. اصطباغه في الاردن هو كذلك. كل شيء في الانجيل مركز على سر الخلاص مهما تقلبت الصور وتقلب الكلام. الحياة الالهية كلها في هذا الانسكاب.

ما نسميه نور ثابور في الكنيسة الارثوذكسية هو اصلا ما شع عن المسيح وما ينزل في ما بعد على الناس. وفي عقيدتنا ان ما نستلمه من الله نعمة هو نور ازلي ونسميه “قوى او افعالا غير مخلوقة”. هناك الجوهر الالهي الذي لا يمس ولا يخترقه احد لانك ان فعلت ذلك تصر الها بالطبيعة وانت مخلوق. ولكن ان تشترك بالقوة الالهية الازلية فهذا يجعلك مألوها او مؤلها وجوهرك بشري. هذا سر لا يدرك ولكن اهميته انك ان لم تتقبل شيئا غير مخلوق فلست على صلة بالله حقيقية.

لقد شوهدت وجوه قديسين منورة بغير نور الشمس. ولكن بالطبع لا يشاهد أحد هذه الوجوه على نورانيتها ما لم يكن هو نفسه مستنيرًا.

الى هذا قول السيد لتلاميذه: “انتم نور العالم” لأنه هو نور العالم كما قال ذلك عن نفسه. هذه هي استنارة القلب بفضائل الإنجيل وهي مرتكزة على التوبة أي التحرر من الأهواء والشهوات. اللاهوى مقولة في اللاهوت الشرقي تدل على الحرية الداخلية من كل ما يضغط على النفس وما يكبلها بحيث لا يكون المستنير أسيراً لما يعتمل في نفسه من جذور المعصية فيتحول الى وجه الله فيأتي من هذا الوجه انساناً جديداً أو خليقة جديدة كما يقول بولس. طبعا هذه ليست حرية مسجلة الى الأبد في طبيعتنا اذ قد يسقط الانسان اليوم أو غداً. لكن الحرية الحقيقية اذا تأصلت من شأنها ان تصبح ينبوعاً “ينبع فينا الى حياة أبدية”. هذه مسيرة فيها كبوات وليس أحد مضموناً بنعمة يتسربل بها على الدوام. غير ان من عرف الجدة في عمق يكبر حظه في العودة اليها. فكما ان الانسان الموغل في الخطيئة تصعب عليه التوبة كذلك التائب الكبير الذي اكتشف حلاوة الله لا يخطىء بشدة حتى التهور الكبير. الخاطىء انسان تجرحت طبيعته وتشوهت ويحتاج الى ما يشبه الأعجوبة لينهض نهضة كبيرة تحول كيانه من جديد.

غير أنك تلحظ ان بعض الناس الذين ألفوا النور الإلهي لا يطيقون الظلمة ولا يألفونها ويشتاقون دوماً الى النور الذي ذاقوه وتصبح وجوههم مشرقة كوجه المسيح على جبل التجلي.

هؤلاء يهب فيهم الروح ويذهب بهم الى حيث يشاء وكأنهم يقيمون في مسكن إلهي. هؤلاء ينقلون النور الذي فيهم بالشهادة. والشهادة لا الفكر المجرد طريق التواصل بين المحبين. ليس ان ثمة مجتمعاً روحياً صافياً . فالإنسان يحيا بربه وحيداً غير انه يشع ويسطع بالمحبة فاذا انت تقبلتها تتكون فيك صلة بالله مباشرة. هؤلاء يأتون من دواخلهم بعدما تعمدوا بالنعمة النازلة عليهم لأن الله أحبهم وجعلهم لنفسه. وبذا يصبحون ابناء الله في مجانية العطاء الإلهي.

غير ان سواد الناس يعيشون خارج أنفسهم في دنيا هم اصطنعوها وحسبوها كافية لغذائهم. دنيا المال والطعام والشراب والسلطة والمجد الدنيوي. تلك هي دنيا الوهم والتشتت. وهم يتبدون فيها وينالون منها ملذات ترضيهم الى حين ولكنها مليئة بالحزن والقلق والآمال المصدومة وما هو بائد. ينشدون الى آفاق خلابة ليس فيها غذاء ولا فيها استقرار. جوع روحي يستبد بهم اذ لا شيء في هذه الدنيا المصطنعة يقيتك ويثبتك ويقيمك.

هؤلاء لا خلاص لهم ما لم يجدوا نوراً على وجوه الصالحين ويقتبسوه. اذ ذاك تتبدد الأشباح التي اصطنعوها لأنفسهم فيجدون اليقين هذا لا يحتاج فيه المرء الى مادة هذا العالم ومطرباته و”شهوات الخديعة”. لا شيء يغنيك عن ثابور، عن التنقية التي يحدثها الله لقلبك لتصبح قائما بالله والأزل.

Continue reading