كان يروج في الاوساط المحافظة انك لا تستطيع ان تقول ان الكنيسة خاطئة لان الكتاب المقدس ودستور الايمان يقولان انها مقدسة. وهي كذلك لان رأسها المسيح يقدسها. غير ان الآباء الاقدمين ولا سيما منهم السريان نعتوها بزانية اذا خانت عريسها المسيح.
ان هؤلاء رأوا اليها من منظورها التاريخي المجتمعي وليس من كون رأسها يحفظها بنعمته. صعوبة الكلام على أخطائها في الزمان – وليس فقط على أخطاء أعضائها – يجعلنا نؤكد انها دوما مقدسة وانها – من حيث هي جسم – قادرة على السقوط. من هذه الزاوية اجترأ البابا الراحل يوحنا بولس الثاني ان يعتذر عنها لا أن يعتذر فقط عن معاصي قادة سبقوه وكان في ذلك غاية في التواضع. أظن اننا في مرحلة تواضع هو شرط التحاور مع الآخرين. أجل هي جسد المسيح ولكنها كذلك بسبب من القرابين التي تنشئها وتحييها: غير ان البهاء الذي هي عليه لا يجعلنا نغض الطرف عن كونها جسما سوسيولوجيا تعبره الازمنة الرديئة. هي ما ينظر (بضم الياء) وما لا ينظر، هذا الجانب القدسي فيها، سماويتها يجعلانك تعيش فيها ومنها وبها. أما الجانب الذي يهترىء فيها فيجعلها – من حيث هي جسم – قائم في المكان والزمان قابلة للنقد فلا يسعك ان تختبىء كالنعامة لتقول ان ما أشاهده من السقوط ليس منها.
هناك حقبات تاريخية يزداد فيها التلألؤ وهناك حقبات تتكشف فيها العتمات. هناك التقلب بين الظلمة والنور، يبن ما ينزل عليك من الله وما تقع فيه من أوحال. هذا كله في كيان واحد فلا تكفر أنت بالهيتها ولكنك لا تتعامى عن هذه البشرية المهترئة التي تبدو لك.
انت لا تقدر على ان تتنفس خارج الكنيسة. لا حياة لك بلا هذه العظائم التي كونتها خلال الدهور اذ تجيء من القديسين ولا لقاء لك والسيد اذا لم تسبح بكل كلمات الذهب المتراكمة منذ الفي سنة. لا وجود لك بلا هذه العبادات الخلابة والفكر المتأجج الذي يجعلك ترى جمالات الرب. الذي لم يذق هذه الخلابة يقول أحيانا أنا أحيا وحدي، انا أصلي وحدي. ليس من انسان وحده اذ هذا الجاهل او المتجاهل لا يعرف انه يصلي على انفراد إلا لكونه ابن هذا الكتاب وان دمه من دماء الشهداء وانه يعجز عن ان يتمتم اية كلمة لو لم يكن بولس وصحبه واغناطيوس والذهبي الفم وكل الذين خطفهم يسوع الناصري. لم يولد أحد في صحراء فاننا جميعا شربنا من هذا الماء الحي. فمن ظن نفسه خارجا قد يكون من الداخل وأحياناً من ظن نفسه من الداخل هو خارجاً حقاً.
ليس السقوط محصوراً بالمسؤولين ولكن بسبب من السلطان الذي أعطي لهم من الله وممارسته في الجماعة وتوليهم المال والاوقاف وامساكهم بالقرار واساءتهم الممكنة للسلطة يتفشى فسادهم وتبدو الكنيسة قبيحة بهم. وما من شك عندي ان خطايا الكنيسة كانت تاريخيا خطاياهم. هم الذين يؤرخ لهم. واذا تتبعت التاريخ المسيحي فالى جمالات القديسين حكايا انقسامات وأحقاد ولم يحصل انشقاق بلا كيد واستكبار شخصي أو استعلاء كرسي على كرسي.
الكنيسة كشريحة اجتماعية فيها كل الخطايا التي لك ان تتصورها. لذلك رآها كتاب الراعي لهرماس انها عجوز تلبس أطماراً كما رآها من ناحية اخرى عروساً بهية. الكنيسة فيها قهر كبير وظلم كبير يختفيان وراء قدسية السلطة. عندك اليوم صور مهذبة للاقصاء المهذب لعناصر قد لا تكون دون سواها علماً وتقوى. كل ذي سلطان يتربص التعسف به.
المشكلة ان المطران بشر ويشتبه عليه كلامه وليس عندك معيار لتعرف ما اذا جاء هذا الكلام من الله أم من شهوات هذا الرجل، من جنوحه الى الاستبداد، من مزاجيته. هو وحده اذا تطهر وتاب وأعرض عن شغفه بالدنيا وبنفسه يستطيع ان يقترب من مشيئة الله لينقلها اليك. هذا يتطلب استعفافاً كبيراً وزهداً بالسلطة. فالمفروض ان يمارسها شاعراً بأنه مؤتمن عليها ائتماناً وانه حر من الانفعال ومستعد ليقوم اعوجاج نفسه. عندما يقول بولس عن الرسل انهم «وكلاء اسرار الله» يريد ان ليس لهم كلمة منهم لكونهم استودعوا كلمة الله يفصلونها باستقامة وبلا محاباة للوجوه.
مفروض في الاول بين قومه ان يطلب من الله الحكمة ليتصرف في ظرف محدد بما هو صالح للبنيان. هو يأمر وينهي حسب متطلبات الكلمة ومنفعة الانسان الذي جاء اليه طلبا لنصيحة أو خدمة. يأمر وينهي بما يجعل الناس احسن وأقرب الى معرفة الله. هو مجرد جسر لله.
وإذا كان لا بد من موقف في هذا الوضع او ذاك فيقول ما يقوله كتابه اي ان يستمع الى «ما دفع مرة واحدة الى القديسين» ويترجمه. قد يكون له في الكلام تعابير تصل الى حد الابداع ولكنها كلها من التراث ومن كانوا على التراث أقرب اليه واحب. لذلك لا يصنف احدا ولا يحسب احدا على أحد فيحجبه او ينفيه او يسكته بلا مسوغ اذ لا يتحزب لاشخاص او فئة لكونه حرا من الجميع، خادما للكل، ومثل معلمه غاسل ارجل، غير مقيم على احد خطيئته.
منذ فترة قريبة قرأت لافتة على الشارع العام في قريتي تتضمن دعاء وضعه مؤمنون قالوا فيه انهم يطلبون الى الله «كهنة قديسين». قلت في نفسي ان هؤلاء الاخوة انما تاقوا بسبب صدمات الى ظهور رعاة طاهرين. ويقيني ان ابن الرعية يغفر لراعيه جهلا للاهوت ولا يغفر له نقيصة جارحة.
مشكلتنا ان الكنيسة تقوم على ادارة وتنظيم قانوني ومشكلة المشاكل هي في السلطة اذ الكثيرون يفيدون منها وينتفخون بها ويسيطرون ولا يقدرون الاذى الحاصل من كونهم يتولون الشأن الالهي في زخم شهواتهم وليس طاعة للرب. الكنيسة في واقعها التاريخي مدى يجلس فيه المسيح الدجال كما يقول الكتاب العزيز والمسيح الدجال حسب تفسير كبارنا ليس شخصا محددا بالضرورة ولكنه ظاهرة الدجل.
اذكر عندما اسسنا حركة الشبيبة الارثوذكسية من 62 سنة ان بعض شيوخنا قالوا لنا: من انتم لتعلمونا. وكان الجواب المضمر وغير المقول بسبب التهذيب: من انتم حتى لا تتعلموا. وأتوقع ان يقول لي قارئي اليوم: من خولك حق وصف قيادة كنسية انت منها. جوابي المقول هذه المرة: انا واعظ لأني موعوظ. ومن قال لك يا صاحبي اني لا اوجه اللوم الى نفسي اذا وجهته الى الكنيسة جمعاء. فانا مدقق في امورك وامور نفسي ولا اطيق هدر الطاقات عندما اهدرها انا وتهدرها انت ورجائي ان تعذر وجعي لئلا اذهب انا واياك الى الموت او نقوم منه اليوم لحياة جديدة. الكنيسة ليست ملك احد لأسكت عن تمزيقها.
وعندما اشاهد هذا التلف الكبير لا استطيع ان امنع نفسي من الاعتقاد ان الروح القدس هو الذي قاد كنيسته جيلا بعد جيل. انه استعان بأدوات بشرية خانت من البدء او تعلمت الخيانة بعد مراس. ان تكون هناك نيات حسنة ليس همي. الله فاحص القلوب والكلى بعدل. ولكني احزن للأذى الشديد الذي اصاب البشرية جيلا بعد جيل من الذين كانوا محسوبين نورا للعالم.
ماذا انتظر من كنيسة اليوم؟ انتظر ان يجددها عريسها الالهي بأعجوبة وقد جددها من وقت الى آخر بواسطة الانقياء ودائما كانوا قلة. والحاذقون يهمشون القلة لئلا يميتها توبيخهم الصامت. كيف عبرت الكنيسة صحراء العاطفة وكيف لم تختنق؟ كيف طرحت الثياب الرثة عنها وطلبت الى السيد ان يرمي عليها ثوب العرس؟ كيف مزقت ثوب العرس وعادت عارية كالزانية؟
من يهمس في آذان الطاهرين ليجهروا بالحق ولسان حالهم ما قاله يسوع امام بيلاطس «جئت اشهد للحق». «اللهم اشهد اني بلغت» وليمت بالشهادة من يموت ويحي من يحيا. «تعال ايها الرب يسوع» فالاغصان جفت لان الناس اعداء النسغ. واذا ارسلت انبياءك – وعهدك الجديد يذكرهم – فسيقتلهم الباغي ولكننا نعيش من دم الشهداء وكل ما عدا هذا الدم تندر.
هلا انزلت كلمتك من جديد حتى لا يستشري سرطان النفاق ولا يتحول وجودنا مسرحية! هل تستطيع الدنيا ان تسير مسيرتها وكأنك لم تحل فيها. نحن نعرف من صلبك آنذاك. وانت تعرف من يصلبك اليوم. انت تتدبر شؤونك كما تعلم وحتى يوم التجدد العظيم لا تطلب انت منا الا نتوجع. لا تطلب منا الا نصرخ.
انت لا تريد ان نطمئن الناس بالكذب. لا تبغي منا ان نفعل اقل ما فعلت انت في الهيكل لما طردت منه الصيارفة وباعة الحمام. لا تقبل انت ان تريد لهيكلك غير النصوع. اما قلت مرة بواسطة احد انبيائك: «روح افواهنا مسيح الرب؟». سوف نصرخ ونبح ويتهلل الكثيرون لبحتنا حتى يصموا آذانهم ولكن في صمتنا نبقى لك شهودا.
قبل ذلك قد لا تكون «سماء جديدة وارض جديدة» لقد الفنا القحوط وتعلمنا من الجفاف الكثير. غير ان رجاءنا ان مياها غزيرة قد تنفجر في البادية حتى تسقي الازاهير القليلة التي تكون انت وحدك قد غرستها. وحتى تتفجر الينابيع نصلي ونغفر.
Continue reading