«لأجْلهم أُقدّسُ ذاتي» (يوحنا 17: 19) / كلمة المطران جورج يوم سيامته كاهنًا، كنيسة المريمية في دمشق، 19 كانون الأول 1954.
هذا ما قاله الرب يسوع في ذلك الخطاب الوداعي بعد أن أسس خدمة العشاء السري التي أقمناها معكم اليوم. وما التقديس بلغة يسوع سوى تكريس نفسه للآب. إنه يكرّس نفسه بالخدمة، بشفاء المعذبين، بالتعليم، بالصلاة، بالدم. ان الكائن المعطى، الإله المبذول الذي لم يرتضِ أن يقبع في سكون أزليّ بل شاء أن يتّضع ويسكن بين الناس ويتصرّف بينهم كانسان يُخالط أدنى طبقاتهم اجتماعيًا وروحيًا ليعطيهم الرفعة التي تستحقّ وحدها أن تعطى، رفعة القداسة.
إنه كرّس نفسه لنتكرّس له في الحق، في النور، في المعرفة. والمسيح لا يزال قائدنا الأوحد ومثالنا القريب. ليس كائن أقرب منه الينا. على طريقه نقدر أن نسير «لأني أستطيع كل شيء بالمسيح الذي يُقوّيني» (فيلبي 4: 31). على غراره إذًا يسلك مَن انتدبَتْه النعمة التي للمرضى تشفي وللناقصين تُكمّل ليكون خادمًا لأسرار الله، متممًا خدمة المصالحة بين الله والناس. هذا رُفع من وسط الكنيسة، ووُضعت عليه أيدي الأساقفة ليصير نذيرًا للرب، يتابع تقديس ذاته في سبيل تقديس إخوته.
لا مبرر لخدمته إلا أن يكون وسط شهوات العالم رسولَ الوداعة والبساطة والتواضع حتى إذا تمم بعض هذه الخدمة يجعل في قلوب الناس رجاءً ويُدخل إلى نفوسهم سلام الله. هذا ما يطلبون منه حتى إذا كان لهم ذلك صاروا أقرب إلى الله. غاية الكاهن أن يكون رجلَ الله، رجلاً يَسُرّ الثالوث القـدوس أن يأتي اليه ويصنع عنده منزلاً. وإذا كان كذلك يستطيع أن يصبح نورًا للعالم وملحًا للارض.
إن رجل الله لا يهمّه في الأرض غير الله، ولا يعمل إلا لقضية الله، وقضيته كثيرًا ما تكون منسيّة في كنيسته نفسها. ولذا فمَن قصدَ القداسة لا بد له أن يحمل في جسده سمات الرب يسوع. لقد حُقّقت قضية الله في الأرض منذ ألفي سنة لما رُفع ابنُ البشر على خشبة. ليس بطريقة أخرى يمكن أن تظفر قضيةٌ اليوم. انها قضية جهاد الخطيئة، جهاد الجهل، جهاد الإلحاد. انها قضية المعركة الكبرى التي شنّها الناصريّ على الشيطان والتي دُعينا أن نُساهم في تحقيق انتصارها. ولذا لا محلّ في قضية المسيح للمجادلة والدمدمة. انها أولاً وآخرًا من ألفها إلى يائها قضية التزوُّد من النور يومًا بعد يوم إزاء هجمات الشرير. هي أن تزرع محبةً حيث تجد حقدًا، محبة مجانية للصديق والعدوّ، للمؤمن وللجاحد. إن كانت رسالة المسيح لا تُؤدّى في مكان ما، فما ذلك إلا لأن هذا المكان لا وجود فيه للمحبة. وإن تجددت رسالة المسيح في موضع ما، فإنما تتجدّد بمقدار عودة المحبة اليه، والمحبة ثقة بأن الله قادر أن يُخرج من الحجارة أولادًا لإبراهيم. هي محبة صورة الله في الانسان وفي قدرة الله على ايقاظ صورته في كل حين.
هذا الاستمرار في الاستنارة يحصل عليه الكاهن بانكبابه على تعلُّم كلمة الرب لأنه يتقدس بالكلمة ولأنه، حصرًا وتحديدًا، خادم الكلمة، والعبد لا يستطيع ان يخدم معلّمًا لا يعرفه. وإنه يقرأ الكلمة لأنها موجَّهة اليه، مرسَلة اليه في الحين الذي يطلبها. الكلمة تُواجهه بعنفها، بمتطلباتها حتى توقظه ليوقظ بدوره الآخرين. إنه منبّه الشعب. اليه سُلّمت وظيفة النبوّة التي تأمره بأن يكون نذيرًا للشدة والضيق على كل من يفعل الشر ومبشرًا بالمجد والكرامة والسلام لكل من يفعل الصلاح لأن ليس عنده محاباة.
الكاهن رجل الله إنْ كان لا يحابي، ومَن حابى أنّى له أن يُتمّم المصالحة بين الله والناس وأن يرشدهم إلى الحقيقة وإلى معرفة أنهم محتاجون إلى رأفة المسيح. الكاهن صاحب رسالةٍ أُمِرَ بتبليغها، والويل له إنْ لم يبلِّغ. يضع الشعب أمام الكلمة بالتعليم والوعظ وإقامة الخِدَم، والكلمة تُعرّي وتترك الانسان طريحًا أمام دينونة الله إذ إن الكلمة تدينُنا في كل حين. وإذا ما قام الكاهن بهذه الوظيفة فإنما يَمَّحي ولا تثبت فيه غير شخصية المسيح، والويل له إن قاد الناس إلى نفسه لا إلى المسيح. الكاهن وسيط لأنه نبيّ ولأنه يفدي. إنه يشترك في وساطة المسيح الوحيدة ولا يقدّم وساطته الشخصية التي لا قيمة لها ولا معنى. ولكن خدمة الكلمة كما وصفناها خدمةٌ لا تكتمل إلا إذا قدَّس الكاهن ذاته وأفرز نفسه في سبيل تأمُّل أحكام الله وإعلانها على الناس.
نحو هذا أُحبّ أن أسعى لعلّي أُدركُ الذي لأجْله أَدركَني أيضًا المسيحُ يسوع. وإني في ذلك أُكمل نهجًا انتهجتُه مع فئة من شُبّان هذه الكنيسة عاهدوا الله أن يخدموه خدمة مرضية. إن الانصراف إلى شؤون الله ومحبة الدراسات الروحية والعمل في سبيل الملكوت لغايات علّمتني حركةُ الشبيبة الأرثوذكسية أن أصبو اليها. أنا ما أنا لأني أَردتُ أن أُقدّس نفسي من أجلها. انها بالنسبة إليّ الطريق التي يقال لها المستقيمة (أعمال 9: 11) والتي رأيتُ عليها يسوع المسيح حيًا ومخلّصًا.
هذه الرؤية الأولى قادتني إلى دراسة اللاهوت فأوفدني صاحب الغبطة السيد البطريرك ألكسندروس للتحصيل. وهناك في المعهد اللاهوتيّ دعاني الله بنعمته إلى الكهنوت. رجعتُ إذًا إلى دمشق (غلاطية 1: 17) كما يقول الرسول فأراد شيخُ أنطاكية أن أُقدّس ذاتي من أجل الكنيسة جمعاء، فأمر بمسحي كاهنًا لله العلّي، وإني مدين له بالتضحيات التي جَعلتْ هذا الأمر ممكنًا. وإن فرحي بكم لجزيل أيها الإخوة المؤمنون الذين أشتركتم مع الحبرين الجليلين والإخوة الكهنة والشمامسة باستدعاء الروح القدس عليّ.
وإني أشكر بنوع خاص الوجوه الحبيبة التي تكبّدت مشاقّ السفر.
فإلى اللقاء أيها الإخوة كل يوم في شركة الصلاة على مذبح الرب.
Continue reading