Category

1966

1966, لسان الحال, مقالات

إلى راعٍ[1] / الأحد 9 تشرين الأول 1966


[1] وُجّهت إلى المطران اسبيريدون (خوري)، متروبوليت زحلة، إثر انتخابه.

ستفصلنا البحار غدًا اذا أدرجك أسقف أنطاكية في المصفّ الرسولي. في هذه الأويقات التي أقضيها بانتظار الطائرة وأستطيع فيها وحدها أن أُناجيك، شئتُ أن أقول لك، في شركة الإخلاص، ما قد لن أجرؤ عليه غدًا بعد أن تكون قد أحاطت هامتك هالةٌ من نور.

سيدور الشرير حولك ليُمزّقك. لن تعصمك ملائكية لم ينلها احد. ولكن في خضمّ الرعاية ستكون مأخوذًا بين حكمة العالم وحكمة الإنجيل. والأُولى دائمًا أسهل ويحتسب المرء فيها نفسه أنه ذو فطنة. والكتاب العزيز لا يطلب أن نُلقيها جانبًا ولكن أن نُخضعها للحكمة الأُخرى المرتكزة على اللطف والعفة والتواضع ويثيرها أمامك، في لحظات اعتكافك الحقة، ذلك الجسد الدامي الذي عُلّق من أجلنا على الخشبة. لـمّا قال: «لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض» كان عالـمًا بأن قلب الانسان في ما يكنز وبأنه إن لم يحلّ في القلب البشري دون سواه لن يكون في ذلك القلب لمحة من الملكوت. هذه الاختطافات إلى عرشه لن تكون على فمك وفي أعمالك ما لم تكن فقيرًا، معرّضًا إلى التشرد، إلى إهمال الكثيرين حتى تظهر أمامه، في كل يوم، صفر اليدين، متعطشًا إلى الرحمة، حافيًا عاريًا كأنك إزاء عتبة السماء. العراة وحدهم يلجون السماء.

في تجرُّدك هذا الكامل لن تأبه لوجه مخلوق لأن الحكم يكون فيك لله. سيتخبّط الناس حولك في «شهوات الغرور»، كما يقول الرسول العظيم وأنت في منأى عن العاصفة لأنك ترى الله عن يمينك في كل حين وتعرف أنه مخلّصك. ولكن إن تسرّبت اليك محبة هذا العالم لتسترضي هذا وذاك وتكسب مجدًا فليس لك أن تنتظر إكليل المجد الذي أَعدَّه الله للذين يحبّونه. الله أكبر من رعيتك وأكبر منك. إن جعلتها تشعر بأنها صغيرة أمامه وبأننا جميعًا أقزام أمام عزّته، تكون قد ساهمتَ في التجلّيات التي أتى الناصريّ من أجلها.

وفي مجمع الأحبار لن تكون بلا تجربة. الحكمة الدنيوية تقرع أبوابه أحيانًا بقوة. القيادة الكنسية هي نفسها ضمن السفينة التي تتلاعب بها الرياح. ولكنك عالم أن الأنواء تسكن فقط عندما يستفيق المعلّم. أنت ومن شاركك المسؤولية الكبرى في سياسة أُمّة الله لن تأتوا بشيء اذا نظر أحدكم إلى الآخر. ستكونون كل شيء اذا تطلّعتم إلى السيد النائم إلى جانبكم في السفينة واستغثتم. عند ذاك يأخذ ألحاظكم كلكم ويُسمّرها على آفاقه.

ساعتئذ سترون أنطاكية الجريح. ستُغذّونها بدمائكم. ستُضمّدونها بلحمكم، هذه التي أبقتها دموعها جيلاً بعد جيل شهادة للأمم. وقتئذ لن يسألكم أحد عن قانون لأن دمكم المسفوك قانونكم. تكون، أنت ورفقاؤك، ماسحين كل دمعة من عيوننا. ستُعيدون إلينا ايماننا بأنّ أبوّة الله ممكنة أيضًا على الأرض لأنكم حاملوها. أعطونا إلهًا حيًّا، إلهًا حيًّا فينا جميعًا، إلهًا نُفاخر به الشعوب.

لا بدّ لي أن أقف هنا. بعد قليل يجب أن أكون في المطار. هي أسطر أملتها عليّ عشرون سنة من تلك المصاحبة الطيّبة التي كان فيها وجهُك الصبيح أبدًا فرحًا للكثيرين. وكانت البشاشة، بالطبع، دليل انفتاح على خير ما في الحياة. أستودعك حنان الله رفيقًا لأتلقى غدًا منك بركة الأب والسيد. استلِمْ عصاك بالحزم والدعة بآن. سنشرب معًا، يوم الأحد الكأس واحدةً في قارّتين. الله معك.

Continue reading
1966, لسان الحال, مقالات

دينٌ في دنيا / الأحد 28 آب 1966

انقضى، أمس، لقاءُ خمسين فتًى منَ الحركة الأرثوذكسيَّة في دير بكفتين في الكورة. ثانويُّون وجامعيُّون أتَوا، ليتدارسوا قضيَّةَ التزامِهم في كنيستِهم وهذه الديار. صلَّوا معًا. قرأوا الإنجيلَ، محَّصوه، هذا أمرٌ عاديٌّ عند شبيبةٍ مؤمنة. المهمُّ أنَّهم تطارحوا الأسئلة، البلدُ كلُّه يفيدُ من بحثها. أرادوا أنْ يفهموا متطلِّباتِ إيمانِهم، أن يلقوها في المجتمع بذرة خصب، أنْ يعبِّروا عنها، ليلاقوا غيرهم إلى أيَّةِ مذهبيَّة انتسب، على صعيد الإنسان وفي سبيل الإنسان. قبل ذلك، كان المسيحيُّ إمَّا طقوسيًّا منكفئًا مُعرضًا عن الدنيا، أو متعصِّبًا مناضلاً في السياسة وفق مفاهيم انغلاق، هي، في صميمها، اللاَّدين. وكان الذين يلتزمون النشاطَ الاجتماعيّ والسياسيّ يفعلون ذلك توقًا من نفوسٍ محبَّةٍ للخير، مأخوذةٍ بمثاليَّةٍ إنسانيَّة. فئة لم تكن لتروي ظمأها منَ الكنيسة، تلك التي لم يكن معلِّموها يشيرون إلى تطلُّعات. فكان التزامُها السياسيّ دينها.

جاءَ هؤلاء الشبَّان يواجهون، بصراحةٍ كلّيَّة، قضاياهم في الجامعة ومعضلات الإنسان الحديث. أخذوا، مثلاً، يتساءلون، بصدق، عن نوعيَّة البيئة المسيحيَّة التي ترعرع فيها ماركس. شجبوها كما شجبها، وتوصَّلوا، بعد ساعات منَ البحث، إلى أنَّ اللهَ لم يمتْ. لاحظوا، مع مالرو، بالحريّ أنَّ الإنسانَ يموت بموت الله، واستنتجوا أنَّ بعضَ الإنسان إنَّما يقتضي إيقاظ الله فيه. يتبنَّون النقد الماركسيّ لله والدين. يرفضون إلهَه الممسوخَ، ليعبدوا إلهًا حيًّا، هو غير الصنم الذي وصفَه ماركس. يومان قضاهما هؤلاء الشبَّان منصرفِين لا إلى جدلٍ رخيص، بل إلى دراسة ولا أعمق منْ أجل تفهُّم عقيدة ما تزال منْ أصلب العقائد التي أنتجَها دماغُ الإنسان. ولكنَّهم قالوا نحن مع ماركس في رفضِهِ استثمار الإنسان للإنسان، نحن نرفضُ الرياء البورجوازيّ، نشجبُ لا أخلاقيَّةَ الرأسماليَّة المفضوحة. قالوا: رفضُنا الإلحادَ الماركسيّ لا يسوغ أن يقودَنا، بشكلٍ ما، إلى أيِّ تحالف يمينيّ على مستوى الحياة الطلاَّبيَّة. يجب أن نعبِّرَ اجتماعيًّا، وليس فقط بالكلام، عن وحدتِنا مع معذَّبي الأرض. ولذلك سوف نلتزمُ الدنيا. لن يكونَ لحركتِنا، وهي مؤسَّسة دينيَّة، أيُّ رأيٍ في السياسة والاقتصاد. ولكنْ، كلٌّ منَّا بمفردِه، وفي وطنِهِ، ينبغي له أن يتَّخذَ موقفًا سياسيًّا. يجب أن يكونَ، في الواقع لا في الوعظ، مع المظلومِين والمناضلِين في سبيل الحرّيَّة. وقد يكون موقفُ كلٍّ منَّا ممزَّقًا، لأنَّه قد يكون وحيدًا في بيئةٍ تؤمنُ بأنَّ المحافظةَ مرادفةٌ للدين. وبالضبط، ولاؤنا للمسيح يقضي برفع الدنيا إليه، بمدِّهِ فيها بالمؤسَّسات والنظم، بترجمةِ الله فعلاً خلاَّقًا في التاريخ.

وجدَ الشبابُ  النبراتِ النَّبويَّةَ الأولى. وفي مواجهتِهم كنيستهم الجريح، لم يتسمَّروا على وضع فيها رهيب. ولكنَّهم تأمَّلوا في ما ينبغي لهم أنْ يلتزموه حياةً روحيَّةً وعمقًا ثقافيًّا ووثبةً اجتماعيَّة، صراعًا ملموسًا في حيِّزِ هذا العالم الذي فيه يتجلَّى ربُّهُم. هكذا يؤمنون. بواكير للفكر، تحفّزات للعمل نهدت في جوٍّ مفعم بالإخلاص، معبأ بالمحبة. هذه كلُّها دعتْنا إلى رؤيةِ البهاء في آفاقِ بلادِنا.

Continue reading
1966, لسان الحال, مقالات

خواطرُ في الكنيسةِ والسياسة / الأحد 21 آب 1966

منْ طبيعةِ الإيمان أنْ يشدَّ صاحبَه إلى غير هذا العالم، إلى غيرِ منطقِ العالم، أنْ يتجاوزَه إلى ما يفوقُه. والدولةُ تسودُ العالمَ، وهي نزاعة إلى الشموليَّة، إلى استقطاب القوى، ولا سيّما إذا فلسفَتْ ذاتها، أو تمذهبَتْ كأنَّها حاملةَ الخلاص. وإذا كانتْ كذلك، فإنَّها تستعظمُ شأنَها، تنتفخُ فكأنَّها الصنمُ الذي يدنّس. أمّا الذي يمتدُّ إلى الآفاق الكبرى، فيرى الدولةَ مشمولةً لا شاملة، في ظلِّ جناحَي الله، وخادمةً كرامةَ الإنسان، كيانًا لا غنى عنه إلى أمدٍ بعيد، ولكنَّه مأخوذ في حكمِ الربّ، مالكِ السماواتِ والأرض وكلِّ سلطان فيها.

هذا التوتُّرُ بين شموليَّةِ الدولة وشموليَّةِ الله يجعلنا مدركِين قولَ المسيح: «في العالمِ، سيكون لكم ضيقٌ». وأمّا قوله: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، فيدعونا إلى ذلك الخضوعِ الذي لا خيانةَ فيه لحقوق الله على الدولة، يلقينا في خضوعَين لا تناقضَ بينهما إذا عرفَتِ الدولةُ ذاتها خادمةً مقاصدَ الله في الكون وأهدافَهُ فيها. ولذلك كان المؤمنُ خاضعًا للسلاطِين ومنذرهم بشرعة الربّ، مسالمًا لا مستسلمًا، وديعًا وصارمًا بآنٍ، لطيفًا وناطحًا برأسه السماء، حتّى تصغيَ السماءُ إليه، وترتعدَ الأرض.

بسببِ القلق الذي تثيرُهُ كلمةُ الله عند المستريحِين في العالم، المنبطحِين فيه، يقول السيّد عن أحبَّائِه: «العالمُ أبغضَهم، لأنَّهم ليسوا منَ العالم». الذين يَرضى عنهم المتسلِّطون وذوو النفوذ هم منْ صميمِ العالم، منْ نسيجِه، منْ لحمِهِ ودمِه، لا يزعجون أحدًا. إنّهم قد لفّتهم شموليَّة الأنظمة القائمة في الدنيا، صاروا منسجمِين مع كلِّ شيء فيها (الجاه والمال والقوَّة)، بعضًا من برنامجِ الشهوة المتحكِّمة في الناس. أمّا القطيعُ الصَّغير الذي يرعى على هضاب الدهر الآتي، فقال عنه ربُّهُ «ليسوا منَ العالمِ، كما أنِّي أنا لستُ منَ العالم». سيظلُّون على عنادِ الإنجيل، حتّى نهاية العمر. ستبقى منهم قبضة طاهرة، حتّى انقضاء الأزمنة، تتقدَّس في الحقّ.

المشرف على العالمِ منْ هذا المنظار، الناسُ عنده عبيدٌ أو أحرار. لكلِّ نظامٍ عبيدُه وأحرارُه. أو قُلْ إنَّ النفسَ تعرفُ ربَّها أو تعرفُ الأصنام، تنطلقُ أو تستزلم. ولا فرقَ بين مَنِ استزلمَ لنظامٍ رجعيّ أو نظام ثوريّ. المهمُّ أنَّ نفسَه مطيّة. أمّا ابنُ الحرّيّة، فيحيا في ظلِّ كلِّ نظامٍ في الولاء لأولي الأمر، لكي يبنيَ بلدَه بالمعطيات التي بين يدَيه. ولكنَّه يتجاوزُ كلَّ وضعٍ إلى المتطلّعات. الكبرى التي فيها خيرُ الإنسان وكرامته وفرادته وأصالته. المؤمنُ لا شيءَ في محدوديَّةِ النظام وعسفهِ يحدُّه، ولا شيءَ في كليشهاته يستويه. الحقَّانيّات، فقط، تغريه. ولكنَّه يجاور الزائل، يعامله، يسندُه، كي يكونَ أنفعَ للإنسان، أضمنَ للسلام، أدنى للازدهار. وبكلمة، يلازمُ كلَّ نظامٍ ويتعدَّاه، في روح لا تستكين، نحو الأفضل. يقبحُ الظلمَ، ويباركُ العدلَ، ويسعى إلى أن يتكلَّل العدل بالرحمة. لا ينحرفُ بالحقد، كما لا يذعن للجمود. ولكنَّه، دائمًا، إلى هذا التخطِّي الذي يجعلهُ رافضًا لفكرٍ سياسيّ لا توثّب فيه أو ثورة تتبرجز. المؤمن هو هذه الثورة التي تجعل الثورات لا تضيع روحها.

المؤمنون يعاهدون على الإخلاص، ولا يحالفون شكل حكم حلفًا أبديًّا. إنَّهم، دائمًا، أعمقُ ممّا يجري حولهم. ولذلك يمدّونه إلى الأمام. شهادتُهُم أنَّ الإنسانيَّةَ لا ترضى صورةَ حكم نهائيّ. ولذلك عندهم أنَّ مَنْ لا يعيدُ النظرَ، باستمرارٍ، في الأنظمة، ولو سمِّيتْ ثورة، فهو رجعيُّ الثورة. الأنظمةُ ينخرُها أولئكَ المتزلّفون لها الذين تستعمل. ولا يفيدها إلاَّ من ينقدُها، لتتجاوزَ ذاتها في سبيلِ حياة لا تنقطع.

Continue reading
1966, لسان الحال, مقالات

وحدانية الروح والأزمة الأرثوذكسيّة / الأحد 12 حزيران 1966

آلمت الأزمة الأرثوذكسية القائمة قلوب الكثيرين لأنّها، بنظر المواطن، تَصدّع في جماعة كريمة، وفي رؤية المؤمن تمزيق لثوب المسيح غير المخيط. غير أنّ الألم لن يكون خلاّقًا ما لم يثر فينا هاجسين متلازمين: الحقيقة والوحدة.

الحقيقة تفرض ألاّ يتّبع المرء سياسة النعامة ويضطرب لكون الصحف قد أشاعت الخبر. فبوسائل الإعلام لم يبقَ من الممكن ألاّ يُذاع سرّ. يُغضِب الناس، على ما يبدو، إعلان الشر ولا يقلقهم وجوده. في قضية كهذه حيويّة يتعلق بها مصير طائفة، لا يمكن التغاضي عن الفساد. بعض الصمت إثم وإفساح مجال للمفسدين. أما كشف النقاب عن القبائح التي تلوث الأمّة فتطهير للأمّة. بثّ النور فضح ظلام. هذه دومًا كانت خطة الأنبياء ونهج يسوع. هذه صارت طريق الآباء الذين عرفوا الضيق والنفي والعبوديّة المُرَّة، وكتبوا دفاعًا عن الحق. والرسائل اللاهوتيّة والجدليّة كانت صحفهم آنذاك. «ما جئتُ لألقي على الأرض سلامًا بل سيفًا، جئت لأفرّق». وهذا الصراع المستمرّ الذي عاشوا فيه، كان سبيلهم إلى الله وإلى وجهه. كانوا يأبون الإستكانة الكذوب التي تتوخّى وحدة الناس على أساس التحذلق والمساومة. وحدة البشر، فيما بينهم، تَلاقي أهواء ومصالح. يتساندون لبقاء كلّ منهم. ولكنّ الوحدة الحقّ هي التي تقوم بينك وبين ربّك ثم تنعكس على الجماعة، فإذا بها تتآلف حول كلمة الله ولها.

وحدة الكنيسة ليست وحدة قبليّة، تجمّع عدد. فالكثرة الساحقة كثيرًا ما تُجمع على خطأ. فالجماعة مدعوّة لحمل الحقيقة، وهذه وحدها تبرّر كيانها. الطائفة الدينيّة إن لم يستقطبها الله فلا نفع منها. فالرابطة عقيدة وأخلاق وشريعة. وقد يكون الإنسان، ظاهرًا، على العقيدة ولكنّه منكرها في كلّ تصرّفاتها. قد لا يكون منحرفًا عن دستور الإيمان، ولكنه بعيد عن الإيمان الحيّ وكرامة الخلق وروح الشريعة.

الوحدة وحدة مع الله ومواكب القديسين والتطلّع إلى آفاق الخليقة الجديدة. وبها نتجاوز أنانيّتنا ومهارتنا، لنلقى الآخرين ببساطة المسيح ولطفه وتواضعه. وهذا يعني أنّ من اتحد بالكنيسة له، في كلّ ظرف، موقف تمليه الحقيقة وحدها. من وراء النصوص حقيقة هي حيث خلوص النيّة وبنيان جسد المسيح. الحقيقة تتجلّى في الآن، في لحظة إنقاذ، في خطّ التجدّد والتاريخ المستنير. الحقيقة لها وجه واحد في الأزمات.

في الشدَّة يفحص الله القلوب والناس بعدله العظيم. فيها يمتحن إخلاصنا فنتزكّى أو ننحدر. فيها تنفصم الصداقات، لأنّ بعضًا أحبّوا الله على حياتهم وبعضًا آثروا هذه الحياة.

أجل الحقيقة، في المسيحيّة، ليست مجرّد شريعة ولكنّها، بآن، ليست تجاوز شريعة. لا ندفعها ثمنًا لوحدة مزعومة تكون رَصْفَ بشر، تراكُم أجساد. الوحدة، لتصبح وحدة حقّ، تفرض التأديب. «من يحبّه الربّ يؤدّبه». ومن أحبّ الربّ يطلب لنفسه تأديبًا. بذلك يشهد الإنسان بأنّ للجماعة المؤمنة حقّ الإشراف عليه وحقّ النصح. وحتى يكون لقاء البشر لقاء في الربّ، كانت الكنيسة تَبتر قومًا من عضويتها، تقصيهم علّهم يرتدعون. وما قبلت في صفوفها إلاّ من تعاهد على الإخلاص ولم يسلمها إلى أعدائها. وهي تدين عمله وفق تعليمها ودستورها وقوانينها الرئيسة، ليقينها بأنّ الإنسان في وحدة مع ربّه إذا انسجم بهذا الدستور وهذه الروحيّة. تقطع بشرًا عن جسمها سعيًا منها إلى التصاق هذا الجسم بالرب. أليست الصلاة، بحدّ نفسها، توبيخًا مستمرًّا لمعصيتنا؟ الكنيسة تنشئ أولادها بالتوبيخ. أن نسعى لشقّ جسد المسيح ونلازمه دون أن ينفعل هذا الجسد ويطرد عنه المرض، لأوضح مظهر للتعفن. «ولكم في القصاص حياة»، هذا سرّ من أسرار الكنيسة اليقظة، التي تدفع عن نفسها من ظلمها بالتمرّد لتبقى في طاعة ربّها ووحدته وحقيقته.

Continue reading
1966, لسان الحال, مقالات

ضلّوا كلّهم / الأحد 22 أيار 1966

«ليس بارّ ولا واحد وليس من يفقه ولا من يبتغي الله. ضلّوا كلّهم فرُذلوا جميعًا وليس من يعمل الصلاح ولا واحد… لم يعرفوا سبيل السلام وليست مخافة الله أمام أعينهم» (بولس الرسول). يتعثّر الإنسان في سعيه إلى الله إذا ما عمّ الفساد وشمل الراعي والرعيّة، وإذا صار اللسان الذي يعلّم الشريعة لا شريعة له، وغدا رئيسُ القوم يحمل الحقد. إن ضلّ المسؤول في متاهات شهوته «ففمه مملوء لعنة ومرارة». ولكونه أُوتي سلطانًا ونفوذًا، تزداد قدرته على الإفساد ويزجّ العباد في يأس سحيق، فيفقدون إيمانهم بالصلاح والطّهر وظفر الخير، ويترنّحون بالمطربات لأنّ الصاحي – أو من افترض كذلك – «تاه من المسكر وضلّ في الرؤيا وقلق في القضاء» (أشعياء).

وإذا كان حُماة القيم يدوسونها بأرجلهم فمن يصدّق البشرى؟ وإذا أمسى النور الذي فيهم ظلامًا فالظلام كم يكون؟ في لهجة ليس أقربها الى الحزن، قال السيد عمّن فسدت سيرته: «إنّه لا يصلح لشيء إلاّ لأن يُطرح خارجًا وتدوسه الناس». قال ذلك وهو اللطيف بالناس. وما ذلك إلاّ لأنّ الغصن اليابس يجب أن يُقطع ويلقى بالنار ليحترق. في منتهى الألم يبتر البستانيّ ذلك الغصن عن جذع الشجرة، فقد كان يرعاه فيما مضى. الإنسان يحبّ ما يرعى ولكنّ الشجرة أفضل من أغصانها.

إنها حقًّا مأساة الله أن يكفّ الراعي عن الرعاية أو أن يصبح عدوّ الرعية، فتضحى «مشتتة من غير راعٍ ومأكلاً لكلّ وحش الصحراء» (حزقيال). ولكون الرعاية وكالة – وقد يُفسد الوكيل الوكالة – يقول الله عن الرعاة: «أطلب غنمي من أيديهم وأكفّهم عن رعي الغنم… وأنقذ غنمي من أفواههم… أخلّص غنمي ولا تكون من بعد نهبًا». في أوان الضيق والالتطاخ، الله وحده مرجع الرعية ليكون لها مأمنًا ممن وُلي عليها، «فصدّوا عن سبيل الله أنهم ساء ما كانوا يعملون» (سورة المنافقون).

والله أوصى بجهاد المنافقين عن طريق التمسك بالشريعة والحق ونبذ ما يخالفها، والرحمة بأولي الأمر إذا عادوا عن غيّهم. والتكاتف والتراصّ في سبيل الله لصدّ العدوان عن الرعيّة، تكليف إلهي لا مفرّ منه «فلا محاباة للوجوه لأنّ الحكم لله» (موسى). وقد يضطرّ المرء أن ينفصل عن أعزَّائه في سبيل الحق، لأنّ لله وحده السيادة والعزة. والويل لمن يؤثر انفعالات اللحم والدم على صوت الرب فيه.

وإذا استمرّ الراعي في الغي فلا رعاية له ولا واجب تجاهه، بل الطاعة للخالق أولى في كلّ حال. وقد يتنبّه لفساده بموقف لشعبه حازم. والصلابة هنا تفرض نفسها علينا. ولكن كلّ مقاومة يجب أن تكون شرعيّة وأن تستنفذ كلّ المحاولات لإعادة الضال عن ضلاله.

ولا يسوغ، بحال، أن نسير مع أهل الزيغان شبرًا واحدًا بحيث نقبل بذرة واحدة مما أتوا به، لأنّ كلّ شبه مساومة مع الباطل باطل.

عند تفشّي الإثم ينبغي أن يمتحن كلّ منا قلبه ليعرف مقدار تساهله في الماضي مع المنافقين، ومدى تغاضيه عمّا ارتكبوا. إنّ تناسي الكبائر باسم السلام إشعال لنار الضلالة. فكلّ معصية عند الراعي تؤذي الرعية وتمسّ المبادئ التي تقوم عليها يجب أن تفضح، لأن الراعي لا يملك حياته بل يبذلها عن الخراف. والمعصية تحول دون هذا البذل. لا حقّ لأحد في منصب على حساب الحقيقة والعدل، لأنّ المناصب قائمة فقط لإحقاقهما.

Continue reading