إلى راعٍ[1] / الأحد 9 تشرين الأول 1966
[1] وُجّهت إلى المطران اسبيريدون (خوري)، متروبوليت زحلة، إثر انتخابه.
ستفصلنا البحار غدًا اذا أدرجك أسقف أنطاكية في المصفّ الرسولي. في هذه الأويقات التي أقضيها بانتظار الطائرة وأستطيع فيها وحدها أن أُناجيك، شئتُ أن أقول لك، في شركة الإخلاص، ما قد لن أجرؤ عليه غدًا بعد أن تكون قد أحاطت هامتك هالةٌ من نور.
سيدور الشرير حولك ليُمزّقك. لن تعصمك ملائكية لم ينلها احد. ولكن في خضمّ الرعاية ستكون مأخوذًا بين حكمة العالم وحكمة الإنجيل. والأُولى دائمًا أسهل ويحتسب المرء فيها نفسه أنه ذو فطنة. والكتاب العزيز لا يطلب أن نُلقيها جانبًا ولكن أن نُخضعها للحكمة الأُخرى المرتكزة على اللطف والعفة والتواضع ويثيرها أمامك، في لحظات اعتكافك الحقة، ذلك الجسد الدامي الذي عُلّق من أجلنا على الخشبة. لـمّا قال: «لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض» كان عالـمًا بأن قلب الانسان في ما يكنز وبأنه إن لم يحلّ في القلب البشري دون سواه لن يكون في ذلك القلب لمحة من الملكوت. هذه الاختطافات إلى عرشه لن تكون على فمك وفي أعمالك ما لم تكن فقيرًا، معرّضًا إلى التشرد، إلى إهمال الكثيرين حتى تظهر أمامه، في كل يوم، صفر اليدين، متعطشًا إلى الرحمة، حافيًا عاريًا كأنك إزاء عتبة السماء. العراة وحدهم يلجون السماء.
في تجرُّدك هذا الكامل لن تأبه لوجه مخلوق لأن الحكم يكون فيك لله. سيتخبّط الناس حولك في «شهوات الغرور»، كما يقول الرسول العظيم وأنت في منأى عن العاصفة لأنك ترى الله عن يمينك في كل حين وتعرف أنه مخلّصك. ولكن إن تسرّبت اليك محبة هذا العالم لتسترضي هذا وذاك وتكسب مجدًا فليس لك أن تنتظر إكليل المجد الذي أَعدَّه الله للذين يحبّونه. الله أكبر من رعيتك وأكبر منك. إن جعلتها تشعر بأنها صغيرة أمامه وبأننا جميعًا أقزام أمام عزّته، تكون قد ساهمتَ في التجلّيات التي أتى الناصريّ من أجلها.
وفي مجمع الأحبار لن تكون بلا تجربة. الحكمة الدنيوية تقرع أبوابه أحيانًا بقوة. القيادة الكنسية هي نفسها ضمن السفينة التي تتلاعب بها الرياح. ولكنك عالم أن الأنواء تسكن فقط عندما يستفيق المعلّم. أنت ومن شاركك المسؤولية الكبرى في سياسة أُمّة الله لن تأتوا بشيء اذا نظر أحدكم إلى الآخر. ستكونون كل شيء اذا تطلّعتم إلى السيد النائم إلى جانبكم في السفينة واستغثتم. عند ذاك يأخذ ألحاظكم كلكم ويُسمّرها على آفاقه.
ساعتئذ سترون أنطاكية الجريح. ستُغذّونها بدمائكم. ستُضمّدونها بلحمكم، هذه التي أبقتها دموعها جيلاً بعد جيل شهادة للأمم. وقتئذ لن يسألكم أحد عن قانون لأن دمكم المسفوك قانونكم. تكون، أنت ورفقاؤك، ماسحين كل دمعة من عيوننا. ستُعيدون إلينا ايماننا بأنّ أبوّة الله ممكنة أيضًا على الأرض لأنكم حاملوها. أعطونا إلهًا حيًّا، إلهًا حيًّا فينا جميعًا، إلهًا نُفاخر به الشعوب.
لا بدّ لي أن أقف هنا. بعد قليل يجب أن أكون في المطار. هي أسطر أملتها عليّ عشرون سنة من تلك المصاحبة الطيّبة التي كان فيها وجهُك الصبيح أبدًا فرحًا للكثيرين. وكانت البشاشة، بالطبع، دليل انفتاح على خير ما في الحياة. أستودعك حنان الله رفيقًا لأتلقى غدًا منك بركة الأب والسيد. استلِمْ عصاك بالحزم والدعة بآن. سنشرب معًا، يوم الأحد الكأس واحدةً في قارّتين. الله معك.
Continue reading