1962, لسان الحال, مقالات

الذين ارتحلوا(1) / الأحد 15 تموّز 1962


[1] لمناسبة سقوط طائرتين واحدة في بومباي والثانية في برنديزي.

فاجعة بومباي وفاجعة برنديزي كيف نحشرهما في منطق، وقد قصفتا أزاهير من لبنان لم تذبل! كلمات البشر، إذا قيلت لذويهم، من تعزيّ، والموت لم يترك لهم جثّة إذا التصقوا بها كانت لهم خيال وجود. هذه المرّة، بلغ الانسلاخ أقسى حدّته، كأنّ شيئًا يوجب أن يطأ الألم كلّ قوانا. والتعبير البشريّ، في موقف كهذا، دائمًا دون الألم قوّة، فلا يواجهه ولا يلاقيه. ولذلك تعزية الله، وحدها، تنفذ إلى الجراح، وتستقرّ فيها صفاء.

الأرواح، التي اختطفت إلى السلام، انقطعت بيننا وبينها صلات اللحم والدم، لتحلّ محلّها رؤية الأبديّة الطهور، رابطة الشركة الكبرى التي تجمع بين أحياء الأرض وأحياء السماء. ومشكلتنا على الصعيد النفسيّ قائمة، لأنّنا لم نتخلّص من هذا الشعور، أنّ الحضور الوحيد هو حضور الناس في حواسّنا، وأنّ احتجابهم عن البصر إنّما هو اختفاء عن الحقيقة. ولكنّ الإيمان قادر على اعتلاء هذا الشعور. ففي الاستقلال الذي يعطيه الإيمان للنفس، وعلى الرغم من شدّة الواقع، ندرك أنّ الذين ذهبوا عنّا إلى جوار ربّهم إنّما هم في الرحمة واليقين، وأدعيتنا تتصاعد من أجلهم، ليصيروا في كامل الرضاء. الإنسان الترابيّ فينا يتمنّى لو أبقاهم سيّد الحياة والموت في حيّز الدنيا، ليكون لنا معهم فيها نصيب. ولكن، من أحبّ الحقيقة على الظلّ واليقينَ على الحيرة، لا يتردّد لحظةً بين الدارين لعلمه بأنّ الراقدين في نور إلههم إنّما بلغوا بالموت نضجهم، لأنّ الرشد في ألاّ يظلّ المرء محيَّرًا بين الزائلات والباقيات، وأن يلازم وجه الله المنير.

وماذا يجني الانسان في عالم الزيف هذا إن بلغ فيه عمرًا طويلاً؟ ماذا تعطي السنُّ نقضيها في المعاصي وفي ترّاهات المجد؟ وماذا يكتسب مِن تقادم الزمان عليه شابٌّ عرف من كثافة الإقبال على الحياة معنى الفرح والخلق وكان في تفتّق قواه، بعلم منه أو من دون علم، يبحث عن حقيقةٍ تروي؟

في حدود الايمان، وعلى ضوء منطقه، النفوسُ المتجرّحة يمكنها أن تطلّ على الضياء. كلومها، ولو بالغة، صائرة إلى الشفاء. أجل، الآثار باقية حتّى النهاية، ولكنّ طمأنينة الله تكون قد انسكبت في القلوب.

Continue reading