Category

1992

1992, مقالات, نشرة رعيتي

نشوء الزواج / كلمة الراعي “رعيتي”، الأحد 9 آب 1992، العدد 32

الزواج عهد مؤسس على الطبيعة. ينشأ بالحب الذي يجمع رجلًا وامرأة. ولكن هناك مجتمعات قديمة لا تطلب الحب شرطًا ولكن لا بدّ له ان يتكوّن قبل الزواج أو بعده. هناك جاذب يكشفه القول الإلهي منذ التكوين: «ليس جيدًا أن يكون الإنسان وحده على الأرض. فلنصنعنَّ له مُعينًا على شبهه». فاللقاء بين شخصين من الجنسين يضع مبدئيًّا حدًّا لهذه الوحدة.

أجل الحب قائم في الطبيعة، يختلط بما لهذا الجسد من نزعات. يلتقيها وتلتقيه. فالشاب يحسّ بضرورة المرأة إلى جانبه. ميل عام غير محدّد حتّى يجد في مرحلة من مراحل نموّه ووعيه ان نزعته إلى وجهٍ معيّن يلغي الوجوه الأخرى. إذ ذاك يتوحّد بهذا الوجه أي يرى نفسه واحدًا معه. ولا يرى نفسه وطاقاته محقّقة إلَّا مع هذا الشخص. الزوجة الواحدة والزوج الواحد شيء من الطبيعة البشريّة لأنّ الإنسان الناضج عاطفيًّا لا يرى نفسه إلَّا مع إنسان واحد من الجنس الآخر. ما عدا ذلك مراهقة. ان تعدُّد الزوجات تنقُّل وعدم استقرار وعدم رضا. فأنت تتعهّد من تحب وتبقى معه وحده. لا يمكنك احترامه إلَّا إذا كان وحده معك. ولا تتركه أصلًا لأنك معه في صباه وشيخوخته. ولك في كل أطوار عمرك فرح واكتمال.

نحن نتّخذ الطبيعة كما هي. نبدأ بها. لا نحتقرها لأنّ «الزواج مكرَّم ومضجعه غير دَنِسٍ». نحن المسيحيين لا نكره الجنس. نعرف ان الله خلقه وانّه جزء من الكيان البشري، ولكنّه يحتاج إلى ضابط لأنّ الإنسان لا يتّزن بلا ضوابط. والقناة الطبيعيّة للجنس هي الارتباط الدائم بامرأة. الجنس لا يكون نزوة ولا يتغيّر بحسب المزاج. يكون في حراسة الشريعة الإلهيّة.

ذلك ان الإنسان معرّض لتقلّبات النزوة والإغراء، ومحبّة المسيح تنقذه من ذلك. بالزواج يطفئ لهيب الشهوة ويجعلها خاضعة للحب.

الجسد يذهب إلى حيث يشاء. فإذا نزل الحب عليه يجعله إنسانيًّا لأنه يقيمه في علاقة إنسانيّة. الحب شخصي، يجعلك شخصًا بعد أن كان جسدك شيئًا من الطبيعة. كنتَ تلقى أجسادًا. تصير الآن في لقاء وجه. الحبّ والجسد يتواصلان. كلّ منهما يمكث في الآخر ولا يفترقان.

وإذا احتدم الحب يصبح هوى. الإنسان تحت وطأة الهوى يخسر حريته. الهوى جارف يستولي على الآخر حتى الاستعباد. الشخص الآخر يصير الكون كلّه، معبودًا كالإله أو كأنّه الإله. هذا هو الدمار لكل اتّزان.

أمَّا المسيح إذا حلّ فيعيدنا إلى التوازن. يلغي الهوى الجارف ولا يلغي الحب. يزيل الأنانية، الاستبداد الذي يحكم العاشقين. يعيدهم إلى الحريّة الداخليّة. تخمد النار. يبقى الحب نورًا. ينتظم الجسد.

عند ذاك نحب الحبيب كما المسيح أحبّ الكنيسة. المحب يبذل نفسه عن شريكه، يعلّيه. يتطهّر به ويطهّره. يموت من أجل الآخر. العاشق يميت الآخر. الـمُحب يعاهد حبيبه كما عاهد المسيح الكنيسة أن يبقى لها حتّى نهلية الأزمان. المحبّة إذا انسكبت في القلب فالروح القدس فيه. يحب الناس بالصّداقة، بالخدمة، بتضحيات لا تُحَدّ. الحب بين الذكر والأنثى، إذا صفا حتّى يصير انعكاسًا لمحبّة المسيح لأتباعه، هذا الحب ليس شيئًا آخر عن المحبّة التي نادى بها يسوع يُضاف إليها احتضان وحميميّة وعلاقة تعاش على صعيد الجسد حتّى الموت. وهذا ما نسمّيه الزواج.

فإذا عاهدنا بالمحبّة الدائمة شخصًا من الجنس الآخر وساكناه بلا أن نملي شرطًا عليه ما عدا المبادلة يُسمّى هذا زواجًا. الزواج هو المحبًة التي تعمل في اتّجاهين ويذوقها الكائن البشري من حيث هو مركّب من نفس وجسد. ينشأ الحب لأنّه قوّة. تشرف عليه المحبّة الإلهيّة. عند ذاك يقيم المحب والمحبوب معًا في مشروع عطاء دائم يزول مع الموت أو لا يزول حتّى يجيء المسيح ثانية ويتزوّج الكنيسة العروس في ملكوت أبيه.

Continue reading
1992, مقالات, نشرة رعيتي

الميلاد الآتي/الأحد 20 كانون الأول 1992 / العدد 51

العيد في الروزنامة آتٍ. ولكن هل انت ذاهب اليه؟ هل تريد مثل الرعاة حول بيت لحم ان تتبع الصوت الإلهي القائل: المجد لله في العلى وعلى الأرض سلام؟ فهل انت راعٍ لقضية الله ام انت راعٍ لخطاياك تسوقها وتسوقك. وإذا رعيت خطاياك فاذهب بها إلى قدمي السيد وارمها هناك لتتمكن من رؤية مجد الله ساطعا لا في السماء بل فيك لتتقبل في نفسك سلاما.

وإذا لم تحصل لك الرؤية تبقى ساعيا إلى ما أُلصق بالعيد من أزياء الغرب: شجرة ومغارة وهدايا وسهرة وقد يعفيك هذا من التغني بيسوع في سر تواضعه وسر سطوعه. أنا لا اريد ان اضرب لك ما جعلته لك مسرة. استغرق في هذا الفولكلور ان شئت ولكن ارمِ نفسك في اقيانوس المعاني التي تنزل عليك من صدر الله.

ارجو الا تفضل سطحيات الميلاد على أعماقه وان تقرر الغوص على ينابيع المياه الحية المتفجرة في قلب الله. انت تعرف ما يرويه الانجيل عن الميلاد في متى ولوقا. المهم وراء ما تقرأ. فمما تقرأ ان الرب ولد في مذود بين البهائم. كان هذا لأن غرف الفندق كانت مليئة بأهل بيت لحم الذين عادوا اليها ليتسجلوا في احصاء النفوس الذي أمر به أوغسطس قيصر أو كان هذا لأن يوسف لم يكن عنده اجرة الغرفة أو غالبا ما كان المذود تابعا للخان الذي امتلأ بالنزلاء فوضع يوسف ومريم في المذود.

قلبي وقلبك مذود، مأوى لحيوانية الخطيئة. في هذا القلب يريد المسيح ان يولد اليوم. أدركت الكنيسة هنا المعنى لما رتلت عشية العيد: «اليوم يولد من البتول الضابط الخليقة بأسرها في قبضته». وإذا ولد المسيح فيك بسبب من الرضا الالهي عليك لا تبقى مذودا لحيوانية الخطيئة بل تصير نفسك بتولا. تدخل في سر مريم هذه التي لم تتقبل زرعا بشريا لتصور بذلك انها حاضن فقط لكلمة الله وعطائه.

فإذا أنت تخليت عن كل شيء يستعبدك لهذه الدنيا تستعيد نفسك المفقودة إلى بهاء عذريتها.

الأمر الحاصل معنا هو الآتي ان المسيح يظهر لك في وقت ما من حياتك نورا للعالم. ارجو ان يكون هذا الخامس والعشرون من الشهر بدء الرؤية. اذ ذاك تكون انت المولود، لا من أبيك وأمك ولكن من الروح القدس. إذا وهبك العيد ان تحس ان ضياء المسيح يمكن ان يدخل إلى قلبك فافتح نوافذه ليرتاح إلى المسيح.

قد تكون حتى اليوم مرتاحا إلى خطيئة تجترها أو عيب معشش فيك. في أكثر الناس سيئة أو سيئات يألفونها كما يألف الانسان غرفته. ألسنا ننام في خطايانا؟ إذا جاءك الرب وقال لك: هذا كله غلط. عاداتك وعيوبك وكبرياؤك لا تريحك حقا. هذه خدعة. انا وحدي اريحك ولكن هذا يتطلب شقلبة كبيرة وتعزيلا كبيرا وسأغير محتويات الغرفة واطليها طلاء جديدا. وقد يحدث هذا فيك هزة كبيرة.

ألم تقرأ: «لما حان ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة»؟ لقد تعبنا كثيرا بلا مسيح. لم تعطنا الخطيئة شيئا. لم تعطنا السياسة شيئا ولا اللهو اعطانا شيئا. وبقينا على جوعنا. الميلاد موسم نذوق فيه المسيح. «ولد لكم اليوم مخلص في مدينة داود هو المسيح الرب» (لوقا 2: 11). يختبر هذا المخلِّصَ من وُلد المخلص في قلبه فصار به «خليقة جديدة». الا جعل الله هذا العيد مولدا لنا في النور.

Continue reading
1992, مقالات, نشرة رعيتي

الأسبوع العظيم المقدس/الأحد 19 نيسان 1992/ العدد 16

هذا يدخل يسوع الى اورشليم بالوداعة والتواضع ليكمل خلاصنا «ويتكلم بالسلام للأمم» ويبسط سلطانه بالمحبة على العالم ويقيم معنا وفينا الى الابد. يجلس على جحش ليحل بهيمية الامم التي كانت عقيمة لأنها لم تعرف محبته. ونشدّ انفسنا اليه كما لم تكن مشدودة لعلنا بأنه يحررنا من وطأة الخطيئة ووطأة الخوف. اليوم ندشن اسبوع الآلام المقدسة فتقيم الأحد مساء والإثنين والثلاثاء صلاة الختن اي صلاة المسيح العريس الذي سيجعل كل نفس تائبة عروس له. ها نحن مرافقوه الى اورشليم لنتقبل الحياة من موته. سوف نراه مسمرا على الصليب ونتبعه الى القبر حتى نشاهده قائما من بين الأموات لننال منه فصحا طيبا.

سنحشر انفسنا في الصلوات لتتضح رؤيتنا لسره وهي تبيد خطايانا. في هذه العبادات قراآت من العهد القديم بما في ذلك المزامير تتحدث كلها عن الحَمَل المذبوح من اجلنا ورسائل وأناجيل تتكلم عن الخلاص الذي نلناه بتطوعه للموت. هذه وتلك تُسرَد في إطار صلوات وترانيم تدفعنا الى التمسك به حياة لنا. فاذ ا قرأنا مثلا عن آلام أيوب وصبره نفهم انه كان صورة عن المخلص, ونتنبه لئلا نقع في الغفلة. «ها الختن يأتي في نصف الليل». ليزيل الظلام عن النفس ويطلقها في التسبيح حتى تختلي معه في ذلك العرس الروحي الذي يجعلها تنسى ما كانت تعشقه قديما: «انني اشاهد خدرك مزينا يا مخلصي». والخدر في اللغة الغرفة الزوجية والفكرة ان النفس بعد ان كانت مخطوبة للمسيح ترجو لقاء الاتحاد معه والاتحاد بيننا وبين المخلص تم على الصليب. ولكن الانسان المدنس لا يدخل. يحتاج الى لباس العرس الذي هو التوبة.

وندرك قمة من قمم التوبة الثلاثاء مساء في الترنيمة الشهيرة: «يا رب ان المرأة التي سقطت في خطايا كثيرة». أم الاربعاء مساء فنقيم صلاة الزيت المقدس التي تريدنا الكنيسة ان نتممها للمرضى في بيوتهم في صيغتها للمرضى في بيوتهم في صيغتها الطويلة أو صيغتة قصيرة. ولست اعلم لماذا ومتى سقط سر مسحة الزيت هذا من منازلنا في بيوتهم في صيغتها الطويلة أو صيغة قصيرة. ولست اعلم لماذا ومتى سقط سر مسحة الزيت هذا من منازلنا في الكرسي الانطاكي ولا شيء يمنع اي كاهن من تجديد ذلك بنفسه لما فيه من نفع للمريض.وهكذا ينتهي النصف الاول من اسبوع الآلام.

الخميس صباحا ذكرى العشاء السري. وفي القديم كان يقام مساء لانه يتم في سياق صلاة الغروب ولعلّه قُدِّم الى الصباح لان المؤمنين يؤثرون سماع اناجيل الآلام مساء. ونتلو, اذ ذاك, كل روايات الآلام كما وردت في الأناجيل الأربعة ومستهلها الخطاب الوداعي كما ورد في بشارة يوحنا وهو ذروة من ذرى اللاهوت اليوحنائي. والمؤمنون متعلقون بالطواف بالصليب الذي يجري بعد الانجيل الخامس: «اليوم عُلِق على خشبة». وهذا الطواف ظهر في القرن الماضي في الكرسي الانطاكي وعمَّ الكنائس اليونانية.

غير ان الاسمتاع بالمعاني اللاهوتية للآلام هو في خدمة الساعات الملوكية التي تتلى في صبحية الجمعة العظيمة. المزامير تنصّب مباشرة بما ذاقه المخلص من اوجاع: «الهي, الهي لماذا تركتني». والنبؤات تطل مباشرة على سر الفداء: «وزنوا اجرتي ثلاثين من الفضة (زخريا النبي) أو «كنت انا كخروف بريء من الشر يُساق الى الذبحْ» (ارميا) حتى نبلغ القمة مع اشعياء: «لا صورة له ولا بهاء فننظر اليه ولا منظر فنشتهيه… انه قد أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا… جُرح لأجل معاصينا وتألم لأجل آثامنا… كشاة سيق الى الذبح وكحمل صامت امام الذين يجزّونه ولم يفتح فاه».

وفي صلاة الغروب بنهاية الساعات يُطاف بالإبيتافيون (بالعامة النعش) ليضع في صحن الكنيسة ويُكرّم في الجناز. وخدمة الجناز هي خدمة صلاة السحر للسبت العظيم. ننشد للمسيح المدفون ونحن في ذهول وفي انتظار القيامة. »انزلوك القبر / يا يسوع الحياة / فمراتب الملائكة انذهلت / كلها ومجدت تنازلك /». فتتوالى التقاريظ نعظم فيها المسيح معطي الحياة. ونتوغل في تمجيد من كان خلاصنا المحيي وربيعنا الحلو ونشرف على السبت العظيم «الذي فيه استراح ابن الله الوحيد من كل اعماله لما سبت بالجسد بواسطة سر التدبير المكمل بالموت».

اما يوم السبت العظيم ففي اواخر الصبيحة نقيم القداس الالهي الذي كان في ما مضى قداس العيد. المسيح في سكون القبر وناهد الى القيامة. ونلتمس نهوضه من القبر: «قم يا الله واحكم في الأرض». نريدها فاعلة في نفوسنا.

شرط رؤيتنا لها ان «يصمت كل جسد بشري… ولا يفكر في نفسه فكرا ارضيا البتة». في تلك الليلة العظيمة كنا نُعَمّد الموعوظين اي اولئك الوثنيين الذين آمنوا وتعلموا الايمان فان المعمودية كانت لهم قيامة من بين الأموات.

واذا تدرجنا من يوم الى يوم بتكثيف التوبات ولمسنا محبة الله لنا تتجلّى بآلام المخلص نكون متأهبين لاستقبال الفصح.

Continue reading
1992, مقالات, نشرة رعيتي

صومنا اليوم /8 آذار 1992 / العدد 10

كيف يأتي صومنا في إطار هذه الحياة المتعبة التي نحياها اليوم، الحديث عن الامساك في مجتمع الاستهلاك هذا يبدو غريبًا. فالناس تتكالب إلى اللذات وإلى تضخّم وسائل الترف والبذخ ولو كانوا فقراء فهذا مشتهاهم. أن يقف إنسان ويشهد انّه مُعْرِض عن لذّة قويّة كالطعام هذا يجعله في عكس التيّار السائد. المطلوب كسر الطوق للمدنيّة الاستهلاكيّة وتاليًا أن نبشّر بعالم آتٍ يكون جديدًا أي لا ينصرف أصلاً إلى الشهوة ولكن إلى المحبّة والإبداع في العمل والتّعاون وإشاعة السّلام.

الشّرِه والشرّاب ليس له سلام داخلي. هو انسان يحيا خارج نفسه. أنْ تقول: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» يجعلك ضدّ التيّار. وهذا التيّار دمار وتهلكة. التهالك على اللذات يأتي من خوفنا للموت. فكلما أكلنا أو حصّلنا مزيدًا من المال نظنّ اننا نستبعد عنّا الموت والأخطار ومغامرة الوجود. ولكن ان قلنا نحن لا نخشى هذا التشبّه بالموت الذي اسمه الصيام نكون قد وطئنا الموت بطريقة أوّليّة. ان أمسكنا عن الملذّات الباقية نكون قد أشرنا إلى أن مبتغانا الملكوت الذي يكون الإنسان فيه حرًّا من وطأة هذا الجسد وترابيّته. الممارسة تكسبنا قناعة إيمانيّة وهي ان محبّة الله لنا وطاعتنا له خير من نزعات الجسد.

هذه ليست دعوة إلى قهر الجسد فالجسد مخلوقًا من الله مقرُّ نعمته. ليس الجسد عدوًّا لنا، ولكننا نجعله نحن عدوّنا بإطلاق العنان للشهوة بحيث تتحكّم فينا. هناك شهوات صالحة بحدّ نفسها، الطعام والنوم والجنس، ولكن لنا قدرة على اساءة استعمالها أو استعمالها خارج إطارها الشرعي. في الفترة الأربعينيّة المقدّسة وأسبوع الآلام لا نقتل الجسد ولا نضعفه ولكننا نروّضه على الاعتدال والصّفاء فينسجم مع الرّغبات العالية فينا حتّى إذا صار حرًّا من تفلّته يدرك مرونةً ومطواعيّةً ليخضع للروح في توثّباتها العظيمة.

لذلك نكثف صلاتنا في هذه الحقبة. فالإمساك وحده مجرّد تمرين، ولكن إنْ صلّيت في عمق وحرارة تكون طاردًا للشياطين، مرتفعًا إلى عرش الآب، عشيرًا للقديسين. عند ذاك أنت حر للعطاء، أقل تمسّكًا بمالك، معرِضًا عن جاهك والكبرياء. اقتناء الفضائل مستحيل بلا أدعية موصولة. كيانك إمّا أن يملأه الفكر السيّء أو الفكر الإلهي الذي يشدّك إلى فوق. أنّى لك الفكر الإلهي إلاَّ من الكلمات الإلهيّة المسكوبة في عباداتنا من صلاة السَّحَر مرورًا بصلاة الغروب وانتهاءً بصلاة النوم الكبرى التي نغلق فيها النهار وننام على إلهامها فيكون ليلنا في «راحة نفس وجسد» خاليًا من كل شبح ووسواس شيطانيّ.

وأنت لا تصلّي وحدك ولكنّك مع الجماعة لأنّك عضو في جسد المسيح. فحيث يجتمع الأعضاء تكون، وتتطهرّون معًا، ويرى المسيح إليكم في سعي واحد إليه، حتّى إذا تكثّف النور في الأسبوع العظيم المقدّس تكونون أنتم أيضًا قد بلغتم التّوبة وتنقّيتم بالدم الإلهي ومشيتم معًا على خطى المخلّص ودخلتم معه في سر موته على رجاء دخولكم سر قيامته.

لقد وُضع الصوم منذ أوائل الكنيسة استعدادًا للفصح ثلاثة أيّام ثمّ زادت حتّى تبنّينا الأربعين تلك التي قضاها الرب في البرية يصارع تجارب ابليس. وأحسسنا اننا إذا عففنا عن الطعام يمكننا أن نقتصد ثمن الطعام ونعطيه المساكين. فأتى الصيام حقبة المشاركة في آلام الآخرين. كل منّا، على فقر حاله، له ان يتصدّق على الأحبّة المحتاجين بتواضع أو يزيد عطاءه للكنيسة الحاضنة لأبنائها.

فبالإمساك ومواصلة العبادة والإحسان، هذا الثالوث الفضائلي المبارك، نستطيع أن نتقبّل القائم من بين الأموات، فلا يأتي العيد إلينا من أوراق الروزنامة. يأتي بنعمةٍ وفضلٍ ونورٍ بعد أن نكون مشينا إليه بانسحاق القلوب.

Continue reading
1992, مقالات, نشرة رعيتي

الثقة والرجاء / 9 شباط 1992 / العدد 6

حياة المشاركة القائمة المؤمن والمؤمن، بين المطران او الكاهن والعلماني على خطين لا تقوم مطلقًا الا على أساس الثقة بيننا. الافتراض الأساسي في التعامل هو ان من تعامله صادق وانه لا يسعى الى أذاك. هذا يمكنك من التعامل السليم. انت في البدش لا تظن السوء  لأن “المحبة لا تظن السوء” وتبقى طويلاً طويلاً على الثقة الى ان يثبت لديك بما لا يدع مجالاً للشك ان الآخر تصرف تصرفًا رديئًا. عند ذاك تدلك حكمتك كيف يجب ان تسلك، على اي وجه تتعامل.

في قرانا، وبعضها ضيق الأفق، لمست الكثير من الحذر بين الناس. انهم يسمّرون الآخر على صورة هم اصطنعوها له من وراء كلمة غاضبة او اهمال. ولذلك يكثر الشك في بلدنا عن حق او باطل. لعله حسن ان نسأل الآخر عما نحسبه تقصيرًا او خطأ او خطيئة ثم نغفر فورًا اذا لام الآخر نفسه عن شيء من هذا. ولكن ان لم يكن مبرر لتأويل سلوك الآخرين نكون قد ظلمنا الآخر. ان نكون مغبونين فهذه صدمة او اجحاف يلحق بنا. ولكن ان نظلم في الحكم فهذه كارثة للروح، تشويه لجمال الأخوة في نفوسنا. والظالم كثيرًا ما ينمّ ويقمع.

المهم ان نصارح الآخرين بما لنا عليهم واذا لم يقبلوا فنقول للكنيسة اي لأخوة يحبوننا في المسيح وليس لهم غرض. والمهم الا نكون سريعي التصديق لكل ما نسمع في المجالس، ان نُسكت النمام، الا نقبل الذم بأحد، ان ندقق في الخبر تدقيقًا كبيرًا وان نذهب الى صاحب الأمر نعاتبه لئلا يشب الحريق في الرعية فتفوتنا فرصة الاطفاء.

البساطة في المسيح كما يسميها بولس ان نصدق كل شيء ما لم يثبت الكذب ثبوتًا واضحًا. اذ ذاك، نلوم عليه بوداعة. فالوداعة ممكنة مع الألم. ان روح يسوع ليس ان نغضب لما نسميه جرح كرامتنا ولكن روح الرب ان نحزن لأن الآخر ارتكب خطيئة هي بالدرجة الاولى ضد نفسه فآذى نفسه بنا قبل ان يؤذينا.

فاذا كان لا يجوز ان نأخذ انسانًا من أحلامنا هكذا لا ينبغي ان نأخذه من واقعية مريرة نشأت عندنا من صدمات توالت علينا في دهرنا. جراحنا التي تكونت من خبرتنا نتلقاها ونبقى في الرجاء. فكل انسان مشروع وقد لا يكون شبيهًا باشرار عاملونا بسيئات قلوبهم. نحن نولي الثقة اولاً ونلاقي الشخص الآتي الينا كملاقاتنا فجرًا جديدًا . فقد يطل هذا عليًا رسولاً من الله حاملاً الينا التعزيات او حاملاً الرفق بنا ورِقّة تصنع العجائب.

اكثرنا يصطنع صورة عن الآخر. نظنه شرسًا او محتالاً وقد لا يكون، محبًا للمال وقد لا يكون. ساعيًا الى انزالنا على مرتبتنا وقد لا يكون. نحن أسرى اشاعات تتفشى في الناس. فاذا تغيب الأسقف مثلاً عن دعوة الى مناسبة قد يكون مريضًا او في مكان آخر. نسأله في الأمر ولا ننشىء اسطورة من شأنها ان تذاع. وقد لا يأتي الكاهن في موسم الغطاس الى منزل لنا جديد ولا نحسب انه لا يعرف اننا حللنا حيث حللنا. رعايانل مليئة بالظنون. رعايانا ينبغي ان تتحرر من القيل والقال ومن صور مغلوطة تغذيها هذه العائلة عن تلك ونبقى سجناء لأقوال توترات وليس لها اساس. وقد يكون ابناء هذا خيرًا من ابيهم فلِمَ نظلمهم ونبقى على التباعد بين عائلة وعائلة؟

وقد يكون الكاهن الجديد خيرًا ممن سبقه فنحمل الكاهن الحالي وزر اسلافه. وقد يكون مجلس الرعية الجديد خيرًا من السابق فلماذا ننسب الى الأعضاء الجدد مسؤولية القدماء؟ كل هذا يتغير ان احببنا السيد حبًا جمًا.

Continue reading
1992, مقالات, نشرة رعيتي

رعيتي/ 5 كانون الثاني 1992 / العدد 1

ها «رعيتي» إلينا من جديد بعد أن حجبتها محن كثيرة. تنشر عشية الظهور الإلهي لتقول لكم عيدًا طيبًا يحل الثالوث فيه في أعماق قلوبكم بالمحبة. سنأتيكم فيها بكلمات الحلاوة الإلهية، بأخبار كنيستكم لتصبح هذه النشرة صلة بين الإخوة والمجال الذي تعبرون فيه عن خلجات نفوسكم في توقها إلى الصالحات وفي سعيها إلى أبرشية تتجدد بالنعمة والجهد.

نحن مقبلون على تجديد مجالس الرعايا لتصبح كما يريدها المسيح مكان مجد له و دراسة لكلمته، مدى للعبادة الحسنة حتى تحافظوا على «وحدانية الروح برباط السلام» (أفسس 4: 3). وسنحاول توزيعها على كل بيت ليصير بكل أفراده مجتمعين كنيسة صغيرة تبني عائلة الآب. وإذا شكلنا هذه المجالس كما أراد المجتمع الأنطاكي المقدّس وفق القانون الأساسيّ للبطريركية نتمكن من عقد مؤتمر الأبرشية خلال هذه السنة ومنه ينبثق مجلس الأبرشية الملي الذي أرجو أن يساعدني بالثقة والحب على تسيير أموركم كلّها.

ومما لا ري فيه ان من فوائد الشدائد التي حلّت بنا استرجاع الهوية الأرثوذكسية تلك التي جعلتنا نفتخر بانتمائنا إلى كنيسة المسيح وهي ملتقانا ومصدر نمونا في الحقيقة. هذه الكنيسة ان أحببناها ندرك بها أن المسيح هو «قبل كل شيء وبه قوام كل شيء» (كولسي 1: 14) والكنيسة كما تعلمون، هي في عباداتها والأسرار المقدّسة انكشاف وجه السيد في محبته المذهلة لنا. انها تعصمكم عن كل فكر باطل وعن كل بدعة وكل إغراء.وكلما نزل أحدنا إلى أعماقها يفرح ويفرح به الكون. فبالإيمان الأرثوذكسي والشهداء ومواكب القديسين نطل على الجمال ويدخل إلينا الملكوت منذ الآن.

قد تشاهدون فينا ضعفنا وتشهدون عندنا خللاً ونقصًا. ولكننا سنتعاون لتقويم ما اعوج حتى تصبح كل رعية عروسًا للمسيح بهية.وسوف تتآزرون محليًا وعلى صعيد الأبرشية لئلا يبقى فينا أثر للمنازعات أو للتشنج أو للشك. قولوا لنا ما يجب عمله. اكتبوه ومن كان على حق نستمع إليه لأن من قال لنا الحق يكون الروح القدس ناطقًا فيه. لا ينفي ان تظل جماعة من جماعاتنا مكانًا للفوضى أو للإهمال أو للجهل. وإذا تسلحتم بالغيرة والمعرفة  فيخرج منكم روحانيون كبار وكهنة ورعون.

تعاونوا والكهنة تعاونًا صادقًا لأنهم يقربون عنكم ذبيحة الحمد. فان من سهر على نفوسكم يستحق الإكرام. اقصدوهم وكلموهم عما يتعبكم. وإذا مرض أحدكم أو حزن أو رأى نفسه في إهمال فليذكر كاهنه بانه يريد منه عزاء . لا تتذمروا بل بثوا شكواكم فان في الحسرة والانغلاق ذبولاً للنفس.

«أناشدكم، أيها الإخوة، أن تتحملوا كلامي» (عبرانيين 13: 22) عددًا بعد عدد ما مكنني الله من ذلك عسى أن تجدوا في موعظتي ما يبلسم الجراح. ووزعوا هذا الكلام على كل أخ لئلا يفوته افتقادنا له بالمسيح.

Continue reading