Category

2008

2008, جريدة النهار, مقالات

٢٠٠٩ / السبت ٢٧ كانون الأول ٢٠٠٨

إن أطللت على السنة القادمة لا بد ان تودع العام المنصرم في كل بشاعاته. تودعه بالغفران للذين قتلوا وأتلفوا الجمالات التي رأوها جمالات ولكنهم ظنوا ان قبائلهم تدوم بالميتات اذا اقترفوها. انا أبقى وأنت لا تبقى لأن الدنيا لا تتسع لنا كلينا اذ ينبغي لي ان أسكت الآخر بإهراق دمائه. قطرة دم باقية في الآخر تهددني.

          ظاهرة الإبادة من خصائص العالم الحديث فالحرب العالمية الثانية لم تنته. تشرذمت في أقطار عديدة. تغيرت الأعداء فقط. عداء يفنى وعداء آخر يبدو. نلازم قلوبنا الشريرة هنا وثمة. يصغر عدد المقاتلين وتستيقظ البغضاء بين عناصر قديمة او دينية ويبدو انها كالمغطاة تحت تعددية طلبت الوحدة ولم يتوفر صدق الوحدة لأن الوحدة كانت تفترض زوال الأنا المقوقعة ولكن هذا الزوال لم تتوفر شروطه فانكفأ القوم الى القبائل يطمئنون اليها وما من طبع القبائل ان تتشارك. وقد تبقى الاوطان على أعلامها وحدودها ولكن القلوب تصدّعت وتناثرت موداتها.

          الموت كان الصورة الصارخة في العام الذي ينصرم. واذا لم يوجد مصدر سلاح تشتريه وتفتقر فقد تقتل وتجوع معا اذا كانت الجريمة غذاءك العاطفي والجريمة أبقى فيك من غذاء الجسد. لم يبق في الحياة الا بطولات الموت والبطولة، صحيحة كانت ام كاذبة، دائمة فيها استكبار.

          الفاجعة الكبرى في التشنجات الاثنية المركبة على التشنج الديني فاجعة روحية كبرى لانها تكشف في جماهير كثيرة ان ايمانها كان سطحيا للغاية كما تكشف انها ليست مجموعات روحية تطلب الله ولكنها تطلب طوائفها حيث يكون المعتقد الديني قشرة تبث احقادا عتيقة راسخة في منافع الذي يغذون عداء الجماعات بعضها لبعض حتى بات كثير من الناس يذهبون الى ان الأديان مصادر عداء. هذا سؤال ليس سخيفًا اذ بان حقيقة تاريخيّة والأمر الرهيب ان اهل كل دين توحيدي ينسب الى أهل الدين الآخر طاقة موت وينبش حوادث الاقتتال التي التبست بالدين. هذا ما يغذي الخوف. ما يجعلنا نشكّ في ان المسؤولين روحيا عن الامم قاموا قليلا بتأكيد العدل الواجب لكل امة وبتثبيت المحبة في كل أمة. وما يعزز الشك ان الامم الوثنيّة القائمة في افريقيا وآسيا كانت ولا تزال أقل الديانات هجوميّة او تحرّشا.

          وتنتهي السنة بالمجزرة المالية التي عمّت العالم وهبوط المستوى الاقتصادي في بلدان من العالم عدّة وانتشار الحاجة بصورة مروعة بسبب من الرأسماليّة المتوحّشة ورمي الفقراء في قعر العوز ويقول العارفون ان معرفة ما قد يحصل في الأزمة كان متوقعا عند اهل الاختصاص مما يوحي بأن ثمة جرائم بلا سفك دم.

#                      #

#

          مقابل هذه الفظائع عندنا وعند سوانا لا ريب ان المجتمعات عرفت ايضا بهاء كبيرا في حقول العمل الاجتماعي والتعاضد والأدب والفنون الى جانب حياة روحية صافية، هادئة، مقدسة وان ناسا كثيرين لم يتدنّسوا. طبعا الأعمال الصالحة لا تدون لأن الكثير منها على مستوى شخصي. في هذه الدنيا أبرار كثيرون ولكنهم يؤثرون الخفاء والخفر وحسبهم ان الله يراهم وهم يحلّون بالبكاء خطايا الآثمين. وجود القديسين في الدنيا يعزينا والخيرون منا يحاولون التشبّه بهم كي لا يلعن الله اهل الأرض.

          غير ان الصالحين لا يؤلفون جمهورا ولا فاعلية لهم ملحوظة في أنظمة الحكم. يحملون شهادة البرّ وببرهم أنت تتزكى. الذين لا يحسبون لأنفسهم حسابا بالمال او الزعامة او تبؤ المناصب يقول عنهم الكتاب انهم قلة عزيزة. انهم دائما في حالة الإصغاء الى الآية الكريمة: بفذكّر انّما انت مذكّر. لست عليهم بمسيطرا (الفاشية، الآية ٢1). متى يبيد المسيطرون بسبب من وداعة الودعاء؟ متى تصبح الأرض سعيا الى ملكوت الله او بعضا منه لنكون وحدة حب ب فالحب ديني وايمانيا كما قال عظيم من عظمائنا!

          أينشأ الحب في الناس ويثبت؟ جاء ابن الانسان ورتب عيد مولده مع نمو ساعات النهار إشارة الى ان خطة الله أن يزداد كل منا نورا على رجاء ان تزول عتماته ويصبح كله قامة ضياء. هذا الميلاد دعوة على رجاء سمع السامعين. هكذا يبدو ان تاريخ الناس بعضهم مع بعض هو بسبب من كثرة الأشرار تاريخ الخطيئة وان تاريخ الله مع الناس هو تاريخ حبه لهم وحبهم له وهذا هو النور يكشف بعضه ولا يكشف جله حتى يدين الله سرائر الناس على قدر المحبة التي بذلوها.

#                      #

#

          مرة تكلم بولس الرسول عن بسر الإثما ومن الطبيعي ان يستوقفه هذا السر. لماذا كل هذه الكثرة من المعاصي؟ لماذا الايغال في التمرّد على الرب؟ لماذا القلب البشري وكر للأفاعي؟ من مكامن هذا السر ان الخالق لا يضرب حرية  العصاة. لماذا هم قادرون على حكم الناس الذين يهوون لذاتهم.

          هذه الرؤية الرهيبة لا تُنهي الرجاء للعام القادم وربما لكل الزمان الآتي. يقول اسحق السرياني الذي كان اسقف نينوى بالقرب من الموصل في القرن السابع: بلكم تمنح كل الخيرات وكل شرف للكافر، للقاتل لأنه هو ايضا اخ لكا. ثم يردف: بمتى يعرف الانسان ان قلبه بلغ الطهارة؟ عندما يعتبر ان كل البشر صالحون فلا يبدو له احد دنسا. هو، اذ ذاك، نقي القلب!ا.

          هذا لا يعني بالتأكيد ان البار لا يرى المآثم ولكنه لا ينسبها الى الأثيم نفسه. يبصر الأعمال ولا يدين الشخص لكون الرب وحده هو الديان الذي لا محاباة عنده للوجوه. اجل تعذبك مشاهدة البشرية المذنبة وانت تكافح ذنبها وعليك ان تقتحم بنى البلد والعالم بالضياء الذي يخرج منك وبالكلمة الطيّبة الحلال ومشاركة اهل الخير ليعظم نضالك وتؤثر في كل المجالات بما فيها مجال السياسة. هذا يفرض ان تدرس وسائل السياسة الطاهرة ويمكن اهل السياسة ان يكونوا طاهرين.

          نحن نعتزل الشر ولكن لا نعتزل مرتكبيه اذ نرجو لهم الخلاص والهدى واذا اقتحمت في مجتمعك زاوية من زوايا الضلال فأنت ناشر لملكوت الله. وهذا يتطلّب جهدًا موصولا وحصول قلبك على حركة إلهية فيك. حذار ان يتعرّض فكرك وعملك للكبائر حتى لا ييأس الناس من الطاهرين اذا وقعوا. وهذا يتطلّب منك تطهّرا دائما ورجاء لا ينقطع.

          هذا رجاؤنا لمضمون السنة الـ 2009 عسى تصير سنة لله مقبولة.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

العيد / السبت 20 كانون الأول 2008

غدا هذا الأحد يسمّى في كنيستي أحد النسبة تُقرأ فيها أسماء مَن اعتبرهم متى الإنجيلي أجداد يسوع الناصري ثم يأتي سر مولده من العذراء. الخط يبدأ من ابراهيم لأن متى وجّه إنجيله الى العبرانيين ولا سيّما الى كهنة الهيكل الذين اهتدوا الى المسيح فعزلتهم سلطات شعبهم عن الهيكل فافتقروا وكانوا في حاجة ان يتوطّدوا في ايمانهم ان يسوع الناصري سليل أبيهم ابراهيم وملكهم داود. نحن اذا مع اطروحة لاهوتية قد لا تكون كاملة الدقة من الناحية التاريخية وما كان هذا همّ متى الرئيسي ولكنه لم يخترع الأسماء. انها جميعًا في العهد القديم. ركّز الكاتب على النسب الإبراهيمي للمعلّم.

لوقا يورد لائحة اخرى على طريقة اخرى يمكن ان نسميها صاعدة اذ يبدأ من السيد ليصل الى آدم. كان همّ لوقا عالميًا او كونيا اكثر مما كان يهوديًا. هو ومتى أرادا ان يكشفا ناسوتية المسيح متأصّلة في التاريخ القديم. كلاهما مع ذلك يؤكّدان ألوهية المخلّص.

كلمة عذراء المأخوذة من الترجمة السبعينيّة (اليونانية) هي استشهاد متى من اشعيا وفي النص العبري لإشعيا تسمى العذراء في سن الزواج علماه ولم تستعمل هذه اللفظة في العهد القديم لأية حالة غير العذراوية. تاليا اشعيا ومتى ولوقا ينسبون العذراوية الى ام يسوع. اما قول متى: «لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر» فيؤكّد ان صلة جنسيّة لم تكن بين يوسف ومريم قبل ولادة يسوع ولا تؤكد اطلاقا انه عرفها فيما بعد. هي تنفي العلاقة ولا تقول شيئًا عن علاقة متأخرة. اما عبارة «ابنها البكر» فليست واردة في النص الأصلي. يسوع لم يكن بكرا لأحد واما عبارة «اخوة يسوع» في الإنجيل فهي أوسع من المدلول العربي وتُطلَق على ابن الخال او العم او الخالة او العمة عند العبرانيين وينفي التراث المسيحي وجود أبناء آخرين لمريم. والمجمع الخامس يؤكّد أن مريم دائمة البتولية. في التقليد الشرقي هؤلاء منسوبون الى يوسف من زواج سابق له.

لم تتوقف الكنيسة عند نسب يسوع الناسوتي الوارد عند متى ولوقا عندما قررت ان تعيّد للميلاد والمعمودية في يوم واحد ورأت انها تعيّد للأصل الإلهي ليسوع بتسميتها هذا التعييد الظهور الإلهي استنادا الى قول الآب في المعمودية: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت». هذا الكلام كُرِر يوم التجلي. لذلك لا نعرف اليوم ولا الشهر ولا السنة التي وُلد فيها المخلّص. هو وُلد غالبًا ست سنوات قبل التاريخ الميلادي الذي نحن فيه. الذي وضع التقويم الميلادي قرونا بعد الحدث الراهب دنيسيوس الصغير أخطأ بخمس او ست سنوات.
# #
#
لم يخطر على بال المسيحيين في البدء ان يضعوا تقويمًا لأنفسهم لأن البدء عندهم لم يكن ميلاد السيد بالجسد اذ كانوا يؤمنون ان المسيح من حيث هو كلمة الله كان بلا بدء. لذلك اتخذوا تقويم الامبراطورية الرومانية التي كانوا فيها يعيشون وهو التقويم اليولياني. والتركيز على يسوع كان عندهم التركيز على الصليب والصليب مولد الانسانية بالحق وإعلان الحق كاملا كان بالقيامة. ولذلك في الأيقونة جاءت صورة المذود شبيهة بمغارة القبر التي دُفن فيها المخلّص. عتمات كاملة والصبي مقمّط بأقمطة بيضاء ومريم ممدودة طويلة، تنظر الى الكون الذي ينتظر إنجيل هذا الطفل اذا حان أوان بشارته.

والزمان الذي تهتم له روما يجري زمانا للملوك ولكن الزمان الحقيقي الذي يقرأه الله هو ذلك الذي قال عنه الرسول: «ولما حلّ ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبنّي» وقد كنا قبلًا أبناء الغضب الذي هو الخطيئة ولكن لما جاء ذاك في جسد من أجسادنا حلّ رضاء الله علينا فجعلنا أبناءه وبِتنا نهتف لله: «افا» وهي اللفظة الآرامية التي نسمي بها الآب يا «بيّي» (بصورة التصغير) لأننا بتنا أمامه أطفالا لا ننمو الا بنعمته علينا ونجالسه كما جالسه المسيح بعد قيامته من بين الأموات.

هذا العيد الذي نحن مُقبلون اليه ليس عيد مولد Birthday  او anniversaire  لأن ظهور يسوع بالجسد لم يكن بدء الذي لا بدء له. فاذا أقمنا العيد ولا بد من أعياد تجدّدنا ننتقل الى اللابداءة وننتقل بها الى الحياة الأبدية التي فيه. لذلك نرنّم في سحر العيد: «إن مملكتك الأبديّة تجدّدت أزليّتها». ليس عندنا اذًا في العيد بدء. إن هذا الطفل قائم في أزليّته. والآن هي تسطع لنا نحن المؤمنين به. العيد يبدو نزولا وهو كذلك في جسد هذا الصبي ولكن العمق هو ان نصعد ونرسم منذ الآن صعوده الى السماء بعد القيامة وبه يتم وعد صعودنا.

الأطفال يلتهون بالهدايا لحسبانهم انها بطريقة ما هدايا يسوع لهم ونحن الذين بلغنا قامة الإيمان نعرف انه هو وحده الهدية وأن أزليته تخترق زماننا لتجعله من الأزليّة.

مع ذلك لنا عيد لا بد له من حنان وهذا ليس من شعور بشري محض لأنه حنو الله الذي يحرّك قلوبنا. امام مذود بيت لحم عندنا هذا الملفوف بخرقة، المشلوح على كومة قش الذي سوف يهدّده سلطان بلاده. انه مكتوب على الدم منذ ظهوره وعلى الظلم ومحسوب بين الفقراء حتى لا يدين الى أحد او شيء من هذا العالم. منذ الآن مكتوب عليه من أبيه ما سطّره اشعيا: «لا صورة له ولا جمال فننظر اليه ولا منظر فنشتهيه. محتَقَر ومنبوذ من الناس، وموجع متمرس بالحزن» (إشعياء 52: 1و2). الآن في هذه اللحظة نقرأ ايضا في النبي: «كان كنعجة تُساق الى الذبح، وكخروف صامت امام الذين يجزّونه ولم يفتح فاه» (إشعياء 53: 7). نحن في الفصح يا إخوة، نحن فقط في الفصح، مع انكسار الجلجلة وظفرها. لذلك نرتّل في الميلاد ترتيلة جديدة اي التي لا تأخذ معناها كاملا الا عندما يسيل من جنبه دم وماء.

لذلك قال آباؤنا: هذا هو العيد الصغير. ليس لكونه قليل المعاني ولكنه يحبل بالمعاني التي تتفجّر فيما بعد ليكمل الفرح.

قال عظيم في المسيحيّة (باسكال): «أحببت الفقر لأنه هو (اي يسوع) أحبّه». السؤال الشرعي الوحيد في هذا العيد هو هذا: هل انا قابل مثله ان أكون مشلوحا في هذا العالم لا املك منه شيئا على رجاء الا يتملّكني بانتظار الحلّة البيضاء التي يمنحني الله اياها عند قرعي باب الملكوت وانا اعرف، اذ ذاك، اني لا أملكها فهي هبة من الآب لأنه يريد ان يراني مكسوًا. المسيح وحده لم يَستعر النور الإلهي. في ثابور او حرمون انبلج النور منه انبلاجا ولم يعرف التلاميذ انه منه حتى رأوه على هذا الضياء لمّا دخل عليهم وهم في العليّة.

فاذا أقمتَ العيد في الأسبوع القادم اعلم انك عارٍ وانك مرميّ على هشاشة هذا العالم كما كان السيد في المذود واطلب الحلّة البيضاء لكي تتمكّن من الدخول. هذا العيد اذًا ترجمة السماء بشكل أرضي، تصوير لله بشكل طفل. واذا انت أدركت الطفولة التي تحدث عنها، تقدر ان تخترق سر يسوع وأن تقيم العيد.


Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

أحد الأجداد / السبت ١٣ كانون الأول ٢٠٠٨

هذا الأحد في كنيستنا يدعى أحد الأجداد أي أجداد المسيح لكونهم أعدّونا للميلاد. أرادت الكنيسة به ان تكشف تواصل الإنسانية التي هيأت ظهور المخلّص ليس لتقول المسيحية ان يسوع الناصري سليل البشريّة منذ بدئها ولكن لتقول، بخاصة، ان البشرية القديمة، بصورة او بأخرى، تحمل بذار المسيح ولو كان مباشرة وليد مريم وعندما يقول الإنجيل انه نزل الى الجحيم في موته لينقذ الذين سبقوه من عبودية الموت فلكي يعني انه مخلص العالم مذ وُجد العالم لأنه ليس فقط الكائن الكامل ولكنه ايضا المخلص الكلي، الشامل لأزمات الناس جميعا. ومن هذا المنظار ليس هو بدءًا كليا الا بمقدار انه انصباب كل خير وحق تجليا في الانسانية القديمة كما سيكون منطلقا للإنسانية الجديدة اذ يتعمّد فيه الذين سبقوه والذين تبعوه.

        بهذا المعنى يمكن ان نفهم قول بولس عنه انه “باكورة الراقدين” (١كورنثوس 15: 20). وكذلك يقول الرسول نفسه: “في المسيح سيحيا الجميع”. واذا حيا الجميع فيه “يكون الله الكلَ في الكل” (١كورنثوس 15: 28).

        سؤال شرعي بسبب من بشريّة يسوع ان تفتش عما اذا كان المسيح في عقله البشري مدين للحضارات الدينيّة التي سبقته ولا سيّما ان البلد الذي نشأ فيه يسمى “جليل الأمم” اي منطقة وُجد فيها وثنيون يتكلّمون اللغة اليونانية. وما من شك ان من بين تلاميذه من كان يحمل اسما يونانيا مثل اندراوس وفيلبس. هناك أسطورة اخترعها كاتب انكليزي في القرن التاسع عشر ان المعلّم سافر الى الهند. الأكيد انه ليس من وثيقة هندية او يهودية تثبت ذلك وان ليس من تعليم هندوسي او بوذي ظاهر في الإنجيل. كثرة الآلهة في الهندوسية والتقمّص ان اكتفينا بذكرها يناقضان الأناجيل. وعدم وجود الله في البوذية يجعلها غريبة كليا عن المسيحية. فاذا كان الناصري لم يقتبس من ديانات الهند شيئا ماذا يكون قد عمل فيها.

        الى هذا ان تكون الفلسفة اليونانية ببعض أبعادها الروحية قريبة من المسيح فلا يعني هذا انه قرأها ولا سيّما ان فلاسفة اليونان يتكلّمون عن عدة آلهة. الفلسفة اليونانية تلمّست الحقيقة ولكن هذا لا يعني أن السيد استمد منها شيئا. ولا شيء يدل على أن يسوع تكلم غير الآرامية. ربما عرف بعض الكلمات اليونانية ولكنها لم ترد على لسانه وما كانت كافية لتطلعه على نصوص يونانية. الى هذا ورد في انجيل يوحنا بعد اقامة لعازر ما يأتي: “وكان بعض اليونانين يرافقون الذين صعدوا الى اورشليم للعبادة في ايام العيد، فجاؤوا الى فيلبس، وكان من بيت صيدا في الجليل، وقالوا له: “يا سيد نريد ان نرى يسوع. فذهب فيلبس وأخبر أندراوس، وذهب فيلبس وأندراوس وأخبرا يسوع” (12: 20-22). لماذا توسط هؤلاء اليونانيون التلميذين الوحيدين اللذين يحمل كل منهما اسمًا يونانيًا؟ ولا سيّما ان يسوع ما كان محتاجًا الى بروتوكول ليكلّمه الناس. أليس لأنه لم يكن يفهم اليونانية؟

        من الأناجيل الأربعة لنا ان نعرف ان السيد كان يقرأ العبرية وتكلم بالآرامية المحكية في فلسطين. يقول لوقا انه دخل مرة الى مجمع الناصرة “وقام ليقرأ فدُفِع اليه سفر اشعيا”. طبعا هذا من التوراة وفي العبرية. بعد هذا توجه الى الناس ليعظهم اي ليفسّر لهم هذا الذي قرأه. هذا لم يكن ممكنا الا باللغة المحكية آنذاك في فلسطين وهي الآرامية.

#              #

#

        بقي لنا بعض من التراث الآرامي وكان منتشرًا جدًا بين القرن السادس والقرن الرابع قبل الميلاد ولكن لم تكن مكتبة آرامية في ايام السيد ولا يعقل ان يطمح ابن النجار كما كان يُسمى الى معرفة عالية. هذا ما يخوّلني ان أقول ان يسوع الناصري كان يعرف التراث العبري فقط أعني العهد القديم وذلك الأدب اللاهوتي الذي بدا بعد الانتهاء من وضع اسفار التوراة. من الواضح أن يسوع يعرف جيدا العهد القديم وانه مفسر مبدع له ولك ان تتبيّن خلافه مع هذا المذهب التفسيري او ذاك كما لك أن تتبيّن قرباه اللاهوتيّة من مذهب الفريسيين ولو قاوم سلوكهم الخلقي وربما قرباه من فرقة الأسينيين دون التصاق بهم كما قد يُظن.

        لا غرابة ان يكون المسيح في خط الأنبياء القدامى اذ كان يعتبر ان كلمة الله انسكبت في “موسى والانبياء والمزامير” وبعد هذا تحققت فيه فمضمونها مضمونه ولو تجاوز الحرف القديم بتجليات كبرى. “ما جئت لأنقض بل لأكمل”. الحقيقة قديمة ولكنها لا تتخذ مداها الا بموته وقيامته ولا تتحقق الا بمحبته. من ظلال العهد القديم نهتدي الى القائل: “انا نور العالم” وعند سطوع هذا النور نعود الى هذه الظلال لنفهمها تداعيات لهذا الضياء.

        بالنسبة الى العهد القديم يتحتم القول ان يسوع لم يأخذ تراثا غريبًا. انه لقد أخذ من نفسه. هذا وقد حافظت الكنيسة على المسيح غير مختلط بشيء آخر. لقد أخطأ هارناك قديما وأخطأ كتاب عرب بزعمهم ان المسيحية هي مزيج بين الإنجيل والفلسفة اليونانية. لقد أردنا ان نستعير ألفاظا يونانية لتبليغ الشرائح المثقّفة في الامبراطورية اليونانية فحوى الإنجيل ولكنا لسنا مدينين في جوهر تعليمنا للفكر اليوناني. ليست بذار الأقدمين مزروعة فينا. نحن زرع الله فقط.

        فاذا أقصينا التمازج العقدي بيننا وبين من سبقنا لسنا ننكر أن هناك افكارًا او صورا في الحضارات القديمة شبيهة بما عندنا وهذه ما سماها احد كبار آبائنا يوستينوس الفيلسوف الشهيد الكلمات المزروعة وكان من نابلس وقد رأى وجه الشبه بين حقائق قديمة والحقيقة الساطعة في المسيح دون ان يكون هناك تلقيح. قال الكلمات المزروعة بمعنى ان الله نفسه زرع في الحضارات القديمة ما يهيئها لاستقبال المسيح. بهذا المعنى فقط للمسيح أجداد. ولكن كل فكر قديم يجب ان يقتبل صبغة الله التي هي معمودية الفكر فيجمع بين الصواب الذي كان فيه والصواب الكامل الذي في الانجيل. وكما ان الانسان البالغ يتحرر من خطاياه بالمعمودية هكذا يتحرر الفكر القديم من أخطائه ليتعمد بالفكر الجديد، الدائمة حقيقته. بهذا المعنى يصير القديم جديدا.

#                 #

#

        السؤال الأخير هل للمسيح أحفاد بالمعنى الفكري اذا اعتبرناه مركز التاريخ او اذا اعتبرناه هزة أرضية دون ان نؤمن به. لست أريد هنا ان أتبنى مجانا حديث هنري برغسون مع ريسة ماريتان Maritain زوجة جاك ماريتان وريسة اليهودية كانت قد تمسحنت وبرغسون مستعدا للاهتداء. هنا برغسون قال لها ما مفاده ان كل شيء عظيم وجليل جاء بعد المسيح نحن مدينون به للمسيح.

        طبعا هذا يحتاج الى توضيح. فالماركسية عندي بحد نفسها فيها شيء من مسيح. كارل ماركس اليهودي الأصل كان مسيحيًا معمّدًا. السؤال هو مَن محرّك القلوب لتحب الفقراء؟ ولئن كان فيها شفقة من دفع تاريخيا الى هذا الاشفاق. من دفع روسيا في آخر القرن العاشر الى الحضارة سوى رهبانها؟ هناك الشأن ملموس. مَن مدّن أوربا بعد سقوط روما وهجمات البربر سوى الرهبان الايرلنديين؟ هل يمكن ان تُفهم الحضارة العربية الاسلامية دون مساهمة المسيحيين في بنائها في تكوين الأبجدية والطب والعمارة ونقل الفلسفة اليونانية وما الى ذلك؟ روح العطاء الكبير في كل المجالات بلا كلل في سبيل استمرار الحياة واستقامة الفكر مع كونه نزعة في الوجدان كان يجب تفعيله تاريخيا والسهر عليه والتذكير به في التربية. ان تذهب فتاة ارستوقراطية غنية تاركة أهلها واي خطيب متوقع او موجود لتهتم بأطفال الأفارقة ولكن من دفع يسوع الى هذه النفس حتى تحقق انجيله هناك.

        ليسوع أحفاد او أبناء او إخوة عاشقون له يقترفون معجزات في كل مكان وفي كل أزمنة الناس.

        أحد الأجداد هذا استعدادا للميلاد ينبغي ان نفهمه ايضا على انه احد الأحفاد ليبقى السيد مركز القلوب.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

الدينونة / السبت 6 كانون الاول 2008

صورة من صور الله انه قاضٍ لأن الإنسان جاءه تكليف ليرعى هذه الأرض لتعود خيراتها رزقا للإنسان وتاليا قربانا لله اذ كل ما خلقه يعود اليه بقوة وتعزيز. وما كان ترابا يلبس النور في اليوم الآخر ليعترف الرب ان هذا كان خلقه. ما يقوله الخالق للمخلوق ان أدِّ حسابك عن نفسك وعن حراثتك للأرض بما فيه كم الجهد ونوعيّته ولانهائية إنتاجه فيظهر الانسان بذا انه اقتنع على انه خلق على صورة الله ومثاله.

الإنسان والخليقة واحد والسؤال المطروح عليه في اليوم الأخير هو: ماذا فعلت بنفسك وبأخيك وبالأرض التي سلّطك عليها تخدمها حتى تخدمك؟ والسؤال يتضمّن هل أهملت نفسك وأخاك والعالم ليحلّ الجدب في هذه الخليقة التي لما خلقتها ذقتها.

هل تذكر هذا: «وقال الله ليكن نور فكان نور. ورأى الله النور انه حسن» (تكوين 1: 3 و4). وفي تأويلي ان هذا لا ينحصر فيما بدا ضوءًا محسوسا. ولكنه نعمة هذا الضياء على الخليقة كلّها فاذا استنارت الدنيا تأتي منها الخلائق التي يذكرها سفر التكوين. وما ينزل على الخلائق حسن لأنه يتنزّل من فوق وبعد هذا تجبله بالتراب الذي انت منه وبالتراب الذي منه الخلائق.

والإنسان يتحوّل الى نار اذا قبل ان مخلوقيّته هي بالكلمة. في سرد قصة الخليقة ظهرت الموجودات كلّها بالكلمة وبعد رقي كبير جاءت النبوءة بالكلمة بحيث تصير انت انسانا آخر مكوّنا من هذه الأرض ومن السماء معًا. وترابيّتك تسقط اذا عرفت ان توظّف النور الذي انسكب عليك. غير ان العتمات قد تهاجمك لتطرد النور الذي فيك او تدفع نورك ليطارد العتمات. انت مسرح الظلمة والنور فاذا قبلت ان تصبح مسرح الله فقط، تجاهد جهادًا حسنًا ليبقى الله وحده صاحب المكان. كل نعمة الله هي فيك فقط. ولكنك لن تجاهد جهادًا شرعيا الا بأسلحة النور اذ لا تعلم الله شيئا عن فنون الحرب الروحية التي يجب ان تخوض. هو يعلّمك كلّْ شيء وهذا نسمّيه النعمة. فإن رفضت ان تخوض حربه تكون سلّمت نفسك الى العدو.

في هذه الحرب التي نخوضها ولأنّ الرب سلّمك نفسك تصبح مسؤولا عن استعمال السلاح الإلهي فيك فتمسك به او تهرب الى اللاشيء.

وما نسمّيه الدينونة هو سؤال ربّك ايّاك : هل استعملت السلاح الذي سلّمته ايّاك ام هربت من المعركة فاستولى العدو عليك. هل كنت أمينا على تفويضي؟ وانا سلّمتك ما كنت تستطيع ان تحمله ولن أسألك عن أكثر منه. هناك من كان أعلى منك قامة فوهبته ما كان قادرا على احتوائه. هذا أسأله كثيرا والفرق بينك وبينه أمر لا يعنيك. انا وحدي عارف بالأحجام.

يبقى اني سأقاضيك لأن الأشياء التي كانت فيك هي لي. انها ودائعي. واذا فرّطت بها ففي قوانين البشر هذا يسمى سوء ائتمان. أرجو الا تتكل على حناني بدون معرفتك بقضائي. اما كيف أجمع بين القضاء والحنان فهذا أمر لا تعرفه ولن أكشف لك الا عند حصوله في اليوم الأخير اذا حصل.

ليس من حقّك ان تقول للملاك الذي يسوقك الى يوم الدينونة: لماذا لا توفّر عليّ هذا المثول؟ ان واحدا من أحبّتي كتب: «هائل هو الوقوع بين يدي الله الحي». كيف لا تكون من الواقعين اذا انا مددتك بالنور وعدت اليّ بالظلمة؟ كيف أقرأ عتماتك نورا وهي ليست بذلك. هل تسمي هذا حنانا ورأفة ومغفرة؟ انا تحدثت عن الغفران لئلا تقع في دنياك في غيبوبتك اذا شاهدت نفسك مفتّتة. انا استطيع ان أرحمك في دنياك ولكني لا اقتحم نفسك اقتحامًا. يجب ان تدعوني اليك وهذا يسمى التوبة. ولكن غفلتك عن نفسك تجعلك ترجئ التوبة لكونك توكّلت على غفراني. انت مدعوّ ان تعمل معي. شيء من مطواعيّتك مطلوب. ولكونك مخلوقا انا أعطيتك حريّتك وما قلت لك اني بديل عنها. اذا ذقت محبتي فهي ترشدك الى جميع الحق ولكن اياك ان تعتقد اني أجرّك اليك جرًا لأن في هذا اقتحاما لحرية فيك انا ابدعتك عليها لتفهمها وتعرف كيف تلقاني بها. واحد قال اني دفعت اليك وزنات لكي تستثمرها. سوف أسألك عن الوزنات فاذا أغفلت عن توظيفها على طريقة اهل الدنيا الذين يعرفون كيف يوظفون اموالهم لن يبقى لك مني ميراث، هذا الذي اعددته لك لو كنت طائعا.

سأسألك عن كل خير وعن كل شر لأن الخير منّي والشر منك وكان يجب ان تبدده. لا تقل جاءتني ظروف فاضطرتني على الخطيئة. هل نسيت اني جعلت لك ظروفا افضل وهي ظروف النعمة واني احببتك كما لم تحب نفسك؟ ولكنّك لم تعرف ان تحبّ نفسك وأحببت عليها خطاياك.

لا تظنّ اني دفعت لمن ارسلتهم وصاياك ليضيقوا الحياة عليك. فأنا ليس من طبعي تعذيب من أحب وأحببتك ولم تفهم وخدمتك ولم تحس. خطيئتك انك لم تحس بي وأحسست فقط بخيالات رأسك وشهوة بطنك. واستكبرت بجمالك وما ظننته جميلا فيك وكل هذا من صنع البشر.

ستحضرك الملائكة امامي وأذكّرك بما فعلت لأنك لا تحب ان تنسى اللذائذ التي استسلمت لها وما أحببت ان تستسلم للفرح الذي تؤتاه من الفضائل التي حدّثتك عنها لتعظمك.

سوف أقول لك هذا لأنهضك من الغيبوبة الطويلة التي وقعت عليك، لتقرأ نفسك وما أحببت ان تقرأها. سأكشف لك ذاتك بما اقترفته بالفعل وبالقول وبالفكر اذ كنت تغمض عيني نفسك لكي لا تراها.

في اليوم الآخر سأريك نفسك كما انت. غالبا ما ترتجف لأن الإنسان لا يستطيع ان يرى القباحة ويحيا. انا إله الفهم ولا أخلّص إنسانًا غبيًا. لذلك كان لا بد لك في اليوم الأخير ان تقرأ نفسك كما أنا أقرأك.

وبعد أن تشاهد بشاعتك واستطعت ان ترى عليّ لمحة من نور وتطلب مني ان أبدّد بشاعتك فسأنقيك بماء كلمتي الأخيرة: أنا أحبّك لأنك ابني على رغم انك سهوت كثيرا وأردت ان تؤذيني. سأخلق فيك من جديد محبّة لجمالات السماء.

انت الآن امامي واقف عاريا. سآمر ملاكك ليلقي عليك الحلّة الذهبيّة التي تجعلك مؤهّلا لمجالسة القديسين الذين أرضوني وأوحّد بينهم وبينك مع انك لم ترضني على الأرض واذا رأيتك وانا أعبر طرق السماء لن أشاهدك الا لابسا الحلّة الذهبيّة وقد أيقنت الآن اني انا القيتها على عرائك.

تعال الآن ايها الحبيب فإني ولو جلبتك الى محاكمة الا اني لن أجلبك الى الدينونة.


Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

أي لبنان نريد؟ / السبت 29 تشرين الثاني 2008

من زمان طويل كان المرحوم الشيخ بيار الجميل الجد يرى المسيحيين عندنا ينتمون الى الثقافة الغربية والمسلمين الى الثقافة العربية وتغاضى عن ان الأديرة المارونية باعتة للثقافة العربية وعن ان المثقفين المسلمين لايتنازلون عن ثقافتهم الغربية. صلاح ستيتيه مثلا يكتب الفرنسية ببلاغة لم يتجاوزها مسيحي. المغاربة معظمهم يكتب بالفرنسية. وهل ننسى ان اهم عالمين بالعلوم الطبيعيّة في لبنان كانا مسلمين شيعيين وهل نجهل ان اهم علماء الإسلاميات هم آباء يسوعيون؟ هذا التفريق الى معسكرين فكريين سقط. اذًا لا نزاع يبقى على المستوى الثقافي ولا انتماء فكريا مزدوجا في بلدنا.

في المجال السياسي واضح ان المتقربين من ايران هم من كل ديانتي هذا البلد. وفي الفكر ايضا ايران تقرأ الثقافة الفارسية القديمة بنهم وتحس بأنها آرية. ولو تعلّمت العربيّة في الثانويات. في الوقت نفسه تنزع الى الحضارة الأوربيّة والشرائح المتغرّبة فيها لا يزعجها أحد في السلطة والقرآن العربي المبين فيه مفردات من الفارسيّة وغير الفارسيّة. والموسيقى العربيّة في مطالعها فارسيّة وفي مسيرتها تركية وفيها عناصر غربية مع محمد عبد الوهاب والرحابنة. معنى ذلك ان ليس عليك ان تقف موقفا حادا صارما بين الفرس والعرب.

اما الخيارات السياسيّة ففي تقلّب دائم. على سبيل المثال الغرب كان يعني لنا الاستعمار. والآن يقدّم نفسه دعامة للعرب كبرى. أميركا تستتبع بعض عرب ولكنها لا تريد هذا الاستتباع عداوة لإيران. ما يهمّ الولايات المتحدة الوحدة النفطيّة التي تجمع العرب وإيران. وكل خبراء. السياسة الخارجية يميلون الى القول ان لن تقصف اميركا ايران ولن تجرؤ اسرائيل على فعل ذلك لئلا تعرّض نفسها الى رفع الغطاء الاميركي عنها.

الذين يرون هويّة لبنان في صداقة الغرب لا بد ان يعرفوا ان الغرب السياسي هو فقط اميركا وان اوربا لا تتمتّع في السياسة الخارجيّة الا بالهامش الذي تتركه لها أميركا. الباقي ثقافة وعواطف تقليدية نحو الشرق. على الصعيد السياسي ليست أوربا حاسمة. لقد ولّى نظام الحمايات الذي فرض نفسه بانتهاء حوادث الـ 1860 وبعد زوال الانتداب. واذا لم تقم روسيا او الصين بدرجة أدنى فعلى اللبنانيين ان يفكّروا مليًا بالحليف الجدي الذي يختارونه. اميركا ليست صديقة احد الى الأبد. وهذا اذا قامت من كبوتها المالية الحاليّة. لا يستطيع لبنان ان يركّز سياسته الخارجيّة على اميركا. ان هذه لم تقتنع ان لبنان معشوقها. لا يمكن تغيير الأم الحنون.

فلنصادق اميركا الى حين وفي حذر (اي حسبما يوافق مصالحنا). ولنقف على مسافة معقولة من كل بلد بما في ذلك البلدان العربية وهذا يعني طبعا الابتعاد عن سياسة المحاور.

اما مسألة ولاية الفقيه فخيار شيعي والجدليّة كلها شيعية. والذين يأخذون بهذه الولاية لهم ان يقولوا اذا كانت تشمل اوامر عسكرية تصدر عن الفقيه. هذه تصبح، اذ ذاك، جدليّة وطنيّة. ولكن بصرف النظر عن ولاية الفقيه سياستنا تجاه الجمهورية الايرانية الاسلامية مسألة من مسائل سياستنا الخارجية. وهذه تبحث بين دولة ودولة. وهي مرتبطة بعوامل عديدة ومتغيّرة. من هنا أقول ان الذين يجعلون آمالهم في الولايات المتحدة ليس عليهم ان يرتضوا آليا موقفها من قضية تخصيب الاورانيوم في ايران. لماذا عند اسرائيل رؤوس نووية (اي قنبلة ذرية) ولباكستان الاسلامية القنبلة الذريّة؟

هل يهم أميركا أن نماشيها في رغبتها في معاقبة ايران. ماذا نستطيع ان نقدّم لها؟ اذا كانت الولايات المتحدة تسعى الى توازن مع العالم الرسلامي بما فيه ايران اولا فنحن لا نقدّم ولا نؤخّر في هذا التوازن.

المسألة التي تبقى في سؤال «اي لبنان نريد» هي مسألة الحرية والديموقراطية. في بلد مولّف من 18 طائفة لا احد يجرؤ ان يقول انه يريد الحرية لقسم من اللبنانيين دون آخر. فالإسلام باقٍ في لبنان الى قيام الساعة والمسيحيّة كذلك وأئمّة المسلمين وزعماؤهم يناشدون المسيحيين الا يهاجروا وانا اؤمن انهم صادقون لمعرفتهم بما قدم المسيحيون ويقدّمون لعزة هذا البلد وللونه الخاص في دنيا العرب… هل قرأ المسيحيون في آخر انجيل متى ما قاله المخلص: «انا معكم (ومعكم في لبنان) حتى منتهى الدهر». لماذا اذًا يشكّون باستمرارهم؟ المسلمون العقلاء يكرهون التطرف والإرهاب ويخشونه كما يخشاه المسيحيون لأنهم يريدون البقاء اسيادا في لبنان حر وديموقراطي.

وما يذهلني ان سياسيي هذا البلد اتفقوا على الديموقراطية التوافقيّة التي لا تعني شيئا في الفلسفة السياسيّة. الديموقراطيّة تقوم تحديدا على تنافس بين اكثرية حاكمة واقليّة غير حاكمة وعلى التداول عندما تتكلم عن انتخابات حرة تكون مقتنعا بأن الديموقراطية التوافقيّة لا معنى لها. وعجبي ان الأفرقاء المتخاصمين اليوم يريدون شيئا واحدا جامعا بينهم وهو الديموقراطية التوافقيّة اي في السياسة الخارجيّة التوازن بين الغرب العلماني والشرق المسلم.

نظريا ايضا او كلاميا اللبنانيون متفقون على ضرورة علاقة الندية والود بآن مع سوريا. العلاقات العملية خاضعة للنقاش لتأمين الندية والود. وهذا ينبغي ان يكون صحيحا، صادقا.والصدق هنا يعني صدق الطرفين واقتناع كل طرف ان الطرف الآخر موجود وانه يناقَش وان شيئا لا يُملى عليه. واللبنانيون الذين اختاروا الديموقراطية والحرية اختاروهما لأنفسهم وليست المرة الأولى في التاريخ حيث الأنظمة الحرة على الطريقة الغربيّة تقيم علاقات سلاميّة مع أنظمة يغلب فيها التشدد. نحن نقيم صلات مع سوريا التي تحكم نفسها كما تشاء وهي لا تنتظر ان نعلمها الحرية كما نحن نفهمها. يخطئ من يريد البلد في أحضان سوريا كما يخطئ من أراد ان يقاطع النظام الذي يسوسها.

الشيء الوحيد الذي نرجو ان يلهمه الله سوريا ان قراءة للتاريخ حادة بحيث تقرّ في وجدانها ان لبنان بلد قائم بنفسه وحر في سياسة خارجيّة له لا تعادي سوريا. ربما اخذ هذا ردحا من الزمن والسياسة ممدودة على الزمن وتتخذ خطوات عمليّة لتكتمل. المبتغى ان تؤمن سوريا بنا كما نؤمن نحن بها.

الأمر الهام هنا ان سوريا ولو ببطء تسير نحو حل الخلاف بينها وبين اسرائيل بمفاوضات غير مباشرة بانتظار التفاوض المباشر ومعنى ذلك انها آخذة بالتقارب مع الغرب وتاليا بردم الهوّة بينها وبين الفريق اللبناني المحسوب على الغرب. لا يعني هذا انها ستتخلى عن تقاربها مع ايران الذي ينتظر حركة مصالحة مع الرئيس المنتخب اوباما. طبعا من المبكر ان نتوقّع تفاهما سريعا بين ايران واميركا. غير ان النزاعات في التاريخ لا بد ان تنتهي الى سلم.

اذا كان هذا التحليل على شيء من الصحّة فإنه يعني ان الفرقة بين اللبنانيين المتنازعين أضيق مما كان يظنّ وانه حان وقت الهدوء والثقة بيننا لنقيم على فلسفة سياسيّة نابعة من مشاكل البلد حتى نقترب من وحدته بحيث نتفق على نوع من التوازن في سياستنا الخارجيّة بين الشرق والغرب. ولا نخشى ان يهتزّ لبنان حتى مشارف الزوال.


Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

الشعب السلبي / السبت 22 تشرين الثاني 2008

نُسب الى أحد كبار المستشرقين قوله إنّ الشعب اللبناني شعب سلبي un peuple negative. كان يحب العرب كثيرا وتردد قبل إبداء رأيه في شعبنا. ربما كان هذا رأيًا غالى فيه او كان تعميما ظالما. وسأحاول دون أن أتبنّاه أن أرى فيه بعض الحق.

أن نكون سلبيين هو الا نكون بنّائين بالقدر الكافي، ان نعفي أنفسنا من مسألة الفكر أو مسألة العمل، أن نخاف من الالتزام ومن تكوين أنفسنا فرديا او جماعيا. هل نحن محبون للجهد او كسالى او متكاسلون؟ ربما لم يكن في البلد إمكان جهد كبير لقلّة الموارد الثابتة او لا تزال الذاكرة الجماعيّة عندنا مثقلة بكارثة الجوع التي قصد جمال باشا السفّاح ان يحلّها بنا. على ذلك نسعى الا تخشى طائفة طائفة وان نتفاهم في سبيل وحدة نعيش في ظلّها بلا تسلّط للواحد على الآخر.

يبدو حتى الآن اننا نريد اجتماعنا كما هو في هذا التنوع المذهل الذي يكاد ان يكون تبعثرًا. انه شبيه بالتعدّد في الهند. ولكن الهنود الذين تعددهم أعظم مما عندنا يعيشون في التزامهم بلدهم وقبل كل شيء في ديموقراطيّة ثابتة. الدولة عندهم ترعى تراكمهم ان لم تستطع ان ترعى التحامهم. فاذا كان الالتحام عندنا صعبا لا داعي ان نبقى سلبيين تجاه الدولة التي هي حظنا الوحيد في التلاقي. غير ان الدولة لا تجمع ان رفضنا التلاقي الوجداني الذي يفترض حدا أدنى من ذبح المصالح الدنيويّة. فالتسابق على المناصب ان غابت طائفة عنها يعني في الحد الأدنى اننا نأبى الإنسان الكفوء في مكانة ما ظنّا منا ان هذا المنصب مسجّل لنا الى أبد الآبدين وان قوتنا هي فيه واحترامنا به حين لا تعظم جماعة بواحد منها ينال منصبا ولا يتدهور البلد من غياب هذا المنصب عنها. الاقتتال المعنوي على وظيفة مؤذٍ لوحدتنا. وهذا يهم القليل من الناس. من قال انه لا يقتتل يخفي الحقيقة ومن اقتتل له فكر المتسلّطين وجموحهم . كلا الطرفين رافض للبلد او هو سلبي كما قال ذلك العالم الأجنبي.

# #

#

غير ان عقلاء كبارا: مهندسين، أطباء، محامين، أساتذة جامعات يتقن كل منهم مهنته. غير ان قسما من كبار المثقفين لا يشتركون في توجيه الأمّة وبعضهم منحصر في مجاله المهني فلا تنصب المعرفة في تكوين الدولة. هناك إهمال للشأن العام وما تهمله يهلك. الانكفاء سلبيّة ان أيقنت أنك على هدى.

لعل الإهمال على كل صعيد هو السلبيّة. في اختباري القضاء المذهبي عندنا مدة أربعة عشر عاما لاحظت ان رفض الرجل لزوجته وأولاده أكثر شيوعا مما كنت أظنّ. ليس أنه يخون بالضرورة ولكنه يهمل حضوره وقد لا يقوم بأية عناية. كسل لست أعرف سببه أحيانا. ان ترمي انسانا في جوعه الى خبزه اليومي والى حضورك هو ان تلغيه وبجانب ما انت ملغٍ نفسك. لماذا أهملت نفسك في عجز رؤيته وعجز حبه ومن المؤكّد انه مهما كان مستواك الاقتصادي انت قادر ان تحضر.

مرة شكت لي امرأة زوجها وهما ميسورا الحال. استدعيته وسألته عن الأمر فأخذ يحكي لي كم يغدق عليها من أموال ومما يتيح لها فرص السفر. فاتحتها في ذلك فقالت انه لا يحرمني من شيء ولكنه يحرمني ذاته.

أعرف أن ثمّة ناسا منهمكين في الواجب المهني وان الوقت الذي يبذلونه لرعاية اولادهم قليل وأحيانا يساوي الغياب. المشكلة ان الولد لا ينمو وحده ولا يفهم وحده ولا يتهذّب وحده. اعرف ان الظروف تختلف وانك احيانا لا تستطيع ان تعيل ذويك ما لم تغب عنهم ولست هنا لأعرض عليك حلولا ولكنك تواجه مسؤوليّة رهيبة بجعلك هذه الزهور المحيطة بك تنمو بلا سقاية.

# #

#

شؤون وشجون أخرى تفضح شعبنا وكل شيء يتطلّب ان نصبح شعبا مجددا بالحضور في المجالات التي نحن عنها مسؤولون.

للمسيحيين من قرّائي أقول ان علاقاتنا بعضنا ببعض ضعيفة أحيانا اولا في الغياب عن العبادة وفي عدم الإبداء للرأي القويم اذا كان اهلنا متعبين روحيا او مهمَلين. فنترك الأمور تمشي او لا تمشي. نتشكّى ولا نقدم على الإصلاح، نتذمّر ونيأس احيانا ولا نقول للمسؤول المخطئ انه اخطأ ولا نقدّم حلولا ان كان في استطاعتنا تقديمها ونثرثر في المجالس ليقوى حزننا وحزن السامعين والثرثرة غياب.

لماذا ننتقد ولا نواجه او لا نتكتّل للمواجهة؟ لماذا لا ندعو الى الخير بلا انتقاد هدام؟ في الحقيقة في اي مجال من التي ذكرت انا موقن ان السلبيّة في معاملتك أهلك ومواطنيك والدولة والناس بعامة مستحيلة ما لم تكن على صلة بالله لأنه هو الذي يدير وجهك الى الوجوه ونفسك الى الهيكليات التي انت عنها مسؤول. والواضح انه اذا سكن قلبك يتحرّك قلبك وإهمالك لذويك والدنيا والساهرين على الأمّة وكنيسة الله انما يصير فيك لأنك حجبت وجهك عن رؤية الله لك. الإنسان ليس كائنا من مجتمع فقط وما هو بجسد محدود او منغلق دون بقيّة الناس. كل إنسان زرع الله في بستان الإنسانيّة. فإن لم تصبح هذا الزرع يجف بستان الإنسانية وتمسي أنت في قفر والذين لم تحبهم يموتون عطشا وبعد هذا تسأل لماذا الدولة عاجزة والكنيسة مشلولة والإبداع غير قائم؟ هل صدق المستشرق برؤيتنا شعبا سلبيّا؟ لست أعلم على وجه الدقة وقد لا ينفع السؤال. سلْ نفسك وحدك في فحص قلبك ان كنت انت سلبيا، ان كنت غائبا، ان حجبك سبات عميق عن حركة الوجود. هل رجوت الرب ان يتحرّك فيك، ان يجعلك في خدمة دائمة، معطاء؟ المهم ان تزيل عنك اسباب الغياب حيث ينبغي ان توجد اذا أردت ان يوجد الله فيك.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

الرأي الحر / السبت 15 تشرين الثاني 2008

السوال الوحيد الوجداني الذي يطرح على المجاهد الوطني ان يبدي رأيه بحريّة، ليواجه ويجبه فإن المبتغى ان نعرف أنفسنا قائمين في الحقيقة ونخدمها بحريّة ممن نشايعهم او من نخاصم. هل ترضى نفسك بوقًا تردد قول من جمعتك معهم منافع لتعزيز مصالحك ام تبدع انت رأيك في استقلال عمن تشايع او من تحب لأنك رأيت ببركات بحث او إلهام الرؤية المنقذة؟ اذًا لك ان تكون في تفاهم مع بعض ممن حولك او في تواطؤ فكري ومع ذلك انت تختلف بتباينات (nuances)  قلّت أم كثرت وانت مستقلّ عمّن أحببت في فواصل ترى انت أهميّتها وهم لا يرون.

أضعف الإيمان أن تكون زاهدا بكل شيء من دنياك لا تبغي ربحًا ولا مدحًا ولا استتباعًا ولكنك تجهد في سبيل تبيان موقفك لإيمانك ان الحقيقة تمليه عليك وتحرّرك لتضمن استقلالك وإخلاصك لله الذي لا يقول ابدًا قول كل الناس ولا معظم الناس. انت تأتي من تاريخ اي من سياسة لأنك لست مولودًا اليوم. انت تأتي من قراءتك للماضي والحاضر ومن تطلعاتك. انت وليد الذين تنسجم معهم في البلد وفي العالم ولكنك ايضا مستقلّ عن التاريخ وعن وطأة طائفتك عليك. انت تحبّها لأن فيها أشياء مجيدة وتأخذ هذا المجد لتجعله عظمة الوطن وعظمة الأقربين اي العرب والأبعدين الذين يحملون حضارة محبة تبنيك وترفعك.

انت متجرّد ولو كنت موصولا وتقف من كل الكتل السياسيّة على مسافة تضيق او تتسع حسب قناعاتك التي تتخذها من إيمانك بالقديسين والفهماء من كل قطر ومن ماضي كل الأمم المتأدبة والذين لم يسفكوا فيها دما وتكوّن نفسك من كل بهاء روحي جذبك واخترته فإنك حامل التاريخ الناصع كله وهو وطن روحك الى جانب هذه القطعة الجميلة من أرضنا والتي تدعى لبنان.

واذا اخترت السياسة عملا لك فلكي تشيع هذه القيم المطهرة لكل انسان فيصبح فكرك الحر رأي جميع الناس الذين يتوقون الى حمل الحق فيرصفون نفوسهم بك لأنهم أنسوا الى ما تقول مبتغين ان ينقّوا ذواتهم بما تحمله من حق ويتحرّكون، اذ ذاك، حيث يستطيعون لينوجدوا في سطوع الحق الذي به يحدد أفلاطون الجمال.

انت اذًا مع اولئك الذين يحبونك من اجل الحق الذي فيك المستقل عن قبيلتك واستقلالك هذا هو نزاهتك ولا يحبونك الا لكونهم يشاركونك هذا الحق وتتجلّى، اذ ذاك، انسانيّتهم التي على سعتها تلتزم شيئا خاصا وهو البلد. هذا هو فن الحقيقة وليس من فن الا في الخاص، في المحلي. وليس اذًا من تعارض بين ان تكون من البشريّة وللبشريّة كلها وبين ان تكون من بلدك.

# #
#

هذا الموقف قد يقودك الى الفعل السياسي او الى الفكر السياسي لأن الإنسان كما يعرّفه أرسطو حيوان سياسي. وهذا يجعلك في مواجهة مع الحكم لا دفاعا عن خيار اتخذته، ولكن دفاعا عن الدولة التي تريدها نقية. واذا التزمت هذا الجهاد الوطني لا بد ان تكون موضع اتهام لأن معظم الناس متحيزون ويحسبونك متحيزا اذا وقفت موقفا في قضيّة تبدو لهم صغيرة وتبدو لك عظيمة لأنك تنطلق منها الى إصلاح الدولة اي الى الكل الجماعي الذي تحيا انت برقيه وهو يحيا بإصرارك على الحق.

يهمك ان يكون أوّلو الأمر في البلد على الحقيقة نظرا الى الفاعليّة التي في ايديهم اذ الحكم يصلح الجماعة اذا ارتضى ان يصلحه الخيّرون.

انت تكلّم الناس جميعا بحريتك وتصونها لإيمانك بأنك تحمل الحق الذي يبرّرك امام الله. سوف يضطهدك الكثيرون ويحاكمونك على ما يعتبرونه نياتك. من الأسئلة التي أسمعها دائما: لما قصدتني يا سيدنا لما لِمتَ الرعية في موعظتك. او اسمع سؤالا كهذا: ماذا دفعك ان تكتب هذا المقال؟ يعتقدون انك ترغب في إرسال رسالة «شخصيّة» من وراء كلمات تعتبرها انت من الحقيقة. كثيرون لا يؤمنون بموضوعيّتك او بحبّك للحقيقة. هناك استلذاذ بالنميمة وبتحويل كل كلمة منك او موقف الى انفعال ذاتي ما يعني عندهم انك تنطلق من مشاعرك الخاصة لتعود اليها. في الكلام اللبناني هذا محسوب على فلان وذاك على آخر. قلّة تعتقد باستقلال أصحاب القلم. فإلى جانب طائفتك يخلقون لك قبيلة وهميّة يرصفونك فيها لأنهم لا يتصوّرون الا الفئويّة. من هنا ان الخطاب الحقيقي يبطل بين الناس.


# #
# أطلق رأيك حرا ولا تدارِ احدا الا الفقراء والمظلومين. وليرتطم به من يرتطم. واعلم ان شدّة الفكر يمكن ان تقترن برقة تجاه الإشخاص اذ لا تفتعل انت صداما شخصيا وهم قد يفعلون.

وقد يكلفك هذا احيانا ان تخرج من الحزب ان كنت منحزبا لأن العقيدة تستلبها اللجنة المركزيّة وهذه كثيرا ما يستلبها شخص. العظماء في الإبداع قلّما يطيعون قرارا يُملى عليهم من فوق. وانقسام الأحزاب علامة صحّة في كثرة من الأحوال لأنه اكتشاف الحريّة.

غير اني في تأكيدي المفرط على حريّة الرأي أقول ان القيمة التي تعلو حريّة الرأي هي استقامة الرأي. انت تتراجع عن رأيك بعد مناقشة اذا تبيّن لك ان الصواب هو عند من يناقشك. فالشورى كثيرا ما كانت أعظم إبداعا من رأي الفرد لأنها قائمة على المحبة وبالمحبة تنجلي الحقيقة.

التربية الأولى هي في الانتقال من العبوديّة الى حريّة الفكر والقول والعمل والتربية الثانية هي التعظيم لاستقامة الرأي ولو جرّ ذلك عليك عذابا شديدا.

ما أكّدته الديموقراطيات انها ركّزت على مواجهة الآراء في حريّة شخصيّة ولكنّّها لم تؤكّد على المسعى المشترك الى الحقيقة. ليس في الديموقراطيّة تركيز على الشركويّة مع ان الشركويّة قائمة على استقلال الشخص. الديموقراطيّة اذا فسدت تولّد الشرذمة. فقط اذا نزل هاجس الحقيقة على جماعة سويّة متحابة ولو تنافست في الآراء نكون في مسعى تحويل الدولة الى كنيسة كما يقول دوستويفسكي.

حريّة الرأي شرط استقامة الرأي واذا ما تحقّق الصدق في تلاقي الجماعات نكون قد أقرنّا السياسة والنور.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

الهدايا / السبت 8 تشرين الثاني 2008

لي صاحب يتعذّب من الهدايا التي تُهدى اليه. أتكلّم طبعا على الهدايا البسيطة: كتاب، قلم حبر سائل او ناشف لأني لا أعرف الناس الذين يتقبّلون عطايا كبيرة. انا اعرف نفسي- في داخل احاسيسي – اني صبيّ صغير من حارة النصارى في احدى مدننا الساحلية. اعرف ايضا التاريخ الذي حصرنا في هذه الحارة وتقبلت الظلم لعجزي عن ان اقلب التاريخ. واذا قبلت الأزمنة الغابرة مع انها في لحمك يقال انك بليد او عاجز. كيف تكون عاجزًا امام ما مضى؟

في واقعي وشعوري بقيت من حارة النصارى من الذين كانوا يحيون من جمال ما يُتلى ويُنشد في كنيستهم الكبرى التي ساهم جدي في بنائها. غير ان ظروف أبي مكّنتني من ان ادرس ما استطعت دراسته وجنيت منه القليل القليل وظللت اذًا على شيخوختي الطاعنة فتى ممحوا من حارة النصارى ولم أحزن. في هذا السياق يتعجّب كل من أعرفهم اني لا اعرف قيادة سيارة ولم أقتنِ سيارة. تلك التي أركبها الآن بسبب مسؤوليّتي الحاضرة ليست لي. انها للمؤسسة التي أسعى الى إدارتها او رعايتها كما يقال في لغّتنا.

الى هذا أعرف ان أحدًا لا يحب الفقر. انا أحسّ انه يحميني لأني لا أخاطر بخلاص نفسي بالخروج منه. رسمت اذًا نفسي في حارة النصارى مع اني أعيش في جبل لبنان حيث تستطيع ان تبقى فقيرًا او ان تتخلّص قليلا او كثيرا منه. ولكني لست اريد هذا الخلاص. احبّ أن أستغرق في اللاشيء واحبّ فوق هذا الا يعرفني أحد. وأتعذّب لأني لم أبقَ مجهولا بسبب مما هيّأه الله لي من عمل.

أحب ان يعرفني الله وأخشى معرفته اياي في واقعي النفسي. ماذا يعمل بهذا الواقع. هذا ما لست اعرفه قبل اليوم الآخر. أتساءل لماذا أكشف لكم هذا بعد ان آليت على نفسي ان أكون موضع نسيان. هل انا نموذج؟ اي هل احب ان يصبح الكثيرون منكم من حارة النسيان على اي دين كانوا.

فيما يتبقى لي من أيام او سنين – وحسب سنّة الطبيعة هي قليلةـ أقول لكم متواضعا اني أتمنى أن يصبح كلّ منكم – ولو أمسى غنيا كبيرًا- نسيا منسيا اي الا تكون نفسه على علاقة بالمال ولو كانت جيوبه او حساباته مليئة. كان لي في الغربة صديق كبير مليء جدا كما تقولون اليوم ولكنه كان مسكينا بالروح كما يقول متى الانجيلي. ولما كان في بلده من حارة النصارى ايضا، لم يخرج روحيا منها وكان يصر على ان يبذل الكثير من المال خشية ان يحبه. لا تستطيع ان تكون منقبض الكف ومن حارة النصارى في آن.

ما أتيتكم معلّما وأنا لا أزال أتعلّم. ولكني قلت لكم هذا خوفًا مني عليكم. أخشى اذا أردتم ان تربحوا العالم ان تخسروا نفوسكم اي ان تخرجوا من كونكم نسيا منسيا، أعرف كل النظريات التي تدافع عن المال الكثير، المخزون بشغف لأنّه يوهمكم انكم أقوياء ولستم بأقوياء. أخاف ان ترحبوا بوجوده لاعتقادكم انه يزيدكم قوة. وانا لست خبيرا بتوظيفه مع اني مجاز بعلم المحاسبة وأعرف قوّة هذا العدو الممكن ان يتحوّل في جيوبكم أفعى تلسعكم او تلسع الذين تقربونهم اليكم لتحسوا ان لكم عليهم سلطانًا. فاذا تحول فيكم الى سلطان فأنتم آلهة وربكم قال على لسان موسى: «انا هو الرب إلهك الذي أخرجك من مصر، من بلد العبودية لا يكن لك إله سواي» ولكنكم لا تسمعون لظنكم ان ما لكم قوة وهو كذلك في هذه الدنيا ولكنه عدوكم اذا سعيتم الى ما هو فوق هذه الدنيا اي الى نفوسكم الطاهرة التي هي وحدها ترى الله.

# #
#

هل جعلتم مالكم جزءًا من شخصيتكم او جزءًا من تعاملكم ومن كان حولكم؟ اي هل هو مكوّن لطبيعة العلاقة بينكم وبين الناس ام تعدونه للفقير وحده لتدخلوا في الرحمة التي ينزلها ربكم على المساكين فتنالوا بذلك أجركم فتصبح في ذلك قلوبكم فقيرة الى غير ما تمتلكون اي الى الله المعطي لمن يشاء في سبيل خلاصه؟

هل تجمعون حولكم الناس لاستجدائكم ام تبددون أموالكم ليرى الله انكم أعطيتم من نعمته عليكم أكان موردكم شرعيا ام لم يكن. ان ما تعطونه يصبح شرعيا ولو كانت الوسائل غير الشرعية مصدره. انتم قرأتم كتبكم وتعلمون ان اموالكم هي مال الله وحده وانها تاليا للجائعين او شبه الجائعين. واذا بددتموها تصبحون متساوين مع الذي أعطيتموه. قبل العطاء أنتم وحيدون. وليس لكم مع الأبرار شراكة.

ولعلّكم تكنزون على الأرض لخوفكم من مرض او مصيبة. و«المحبة تطرح الخوف خارجًا». اذ يبقى ان من أحببتموه يصير الى جانبكم. وحده هذا الحب يقيكم شر نفوسكم المتعبة.

الأزمة المالية التي حلّت في العالم اليوم كافية لتعلّمكم ان ليس من مصون، ورجائي الى الله الا تصل الى بلدنا او الا تصل بما يهددكم. أنا أصلّي من اجل طمأنينكم اذ أكره ان تهدد الأزمة أحدًا ولكنّها تعلّمنا بالأقل ان أحدًا من الناس غير مضمون بما عنده. ولكنكم اذا احببتم كثيرا يزيدكم الله نعمة ورزقًا لتعرفوا انكم مفوضون على ما رُزقتم به. من له مثل هذه النعمة ان يكون مفوضًا من العلي؟ اعطوا يقوَ تفويضكم ولكن اشيعوا ما عندكم ليصير المسكين بدوره مفوّض الله لا ليصبح مفوضا عندكم. انتم تصبحون شيئا ان بذلتم الكثير مما عندكم ولا تبغوا من ذلك شكورا ولا استتباعا. اعرفوا انكم والفقراء معا خلائق هشة او معرضة للعطب في كل حين. اذ ذاك فقط تعلمون انكم قادرون ان تصبحوا شيئا. تعلّمت مما يقوله كل الناس ان احدًا لا يأخذ معه في الموت شيئًا، غير ان آباءنا النساك علّمونا انه يأخذ في موته ما اعطاه والذين تمنحونهم شيئا يدعون من اجلكم فيسجل الله ليوم الدينونة ما اعطيتموه ربحا لكم.

# #
# انتم تعرفون، بطريقة او بأخرى، ان المال طريق الى السلطة اي الى السلطة على الناس فيما هي خدمة. والسلطة تمارَس سياسة. انا كتبت مرارا في هذه الزاوية ان السلطة مسؤولية اي مسؤولية للخدمة. لا مانع عند الله ان يختزن بعضٌ كثيرا من المال على الا يحسب انه مالكه لأنه فقط مؤتمن عليه. لقد وضع الله في عنق الأثرياء مسؤوليّة الحب. والحب يعطى والا كان كنزًا من الكنوز اي محجوبا. تصرّفوا اذا كالفقراء اي لا تسرفوا في شيء من متاع الدنيا. اما قرأتم: «وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور» (سورة الحديد، الآية20) وقبلها جاء: «اعلموا ان الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم». والسؤال الذي توصي به الآيتان هو كيف تتخلصون من الغرور واللعب واللهو والزينة وتقيمون في الحق والمشاركة والمشاركة توزيع إلزامي وفي ذلك وصية او أحكام حسبما ذهب مذهبكم. فاذا اكتفيتم بهذه الدنيا وزخرفها فليس في نفوسكم رحمة وليس لي انا الصبي الفقير من حارة النصارى ان أبحث في مصيركم في اليوم الآخر. هذا لا يعلمه الا ربّكم ولكن منظر السلطان المنفتح يبكيني وأتوجّع عنكم وقلّما تتوجّعون .

اعطوا ولا ترجوا من أحد شيئا بديلا لتقيموا في مملكة الحق والبرارة التي تنقذكم منذ هذه الدنيا فيكون المعطي بتهليل كالذي يُعطى بتهليل. ليس في المال مشكلة الا اذا انقبض او اشترط صاحبه شيئا على أحد.

اجعلوا الناس في حنانكم ولندخل جميعا ملكوت الفرح في هذا العالم. والفرح ليس من عمل الناس ولكنه منّة من ربّكم عليكم. ان في بلدنا تجمّعا صغيرا يدعو نفسه «واحة الفرح» وهو يهتمّ بالمعوّقين من الأديان كلّها. لماذا لا يكون الأثرياء بعضهم الى بعض واحة للفرح الذي من مكوّناته العطاء المبرور وفوقه العناية الشخصيّة بكلّ من كان ضريرا او أخرسَ او أصم أو مبتور الأعضاء. متى يكون هؤلاء تاجا فوق رؤوسكم لتزول حارة الفقراء وحارة الأغنياء معا من القلوب حتي نصبح جميعا حارة الله او سماءه على الأرض فنصعد اليها منذ الآن اذا امتلأت نفوسنا من حضرة الآخر الذي هو لنا ترجمة لحضرة الله.

هل يصير لبنان كلّه واحة الله ليس فيها استعلاء وليس فيها بؤس ويكون ربّكم مستعيرًا الأيدي التي تعطي والأيدي التي تأخذ ويبدو من أعطى ومن أخذ في حالة الشكر لله وحده ويعلن كل واحد ربه سيدا. النفس التي تحب تنتفض من ذاتها من شغف الزينة واللهو واللعب ولا يبقى في ميدان هذه العلاقات غير وجه ربك ذي الجلال والإكرام.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

نائب رئيس الحكومة / السبت 1 تشرين الثاني 2008

قارئي وعشيري يعلمان اني لست منحازا الى فريق سياسي ولست أدعو الى هذه الكتلة او تلك ولا يعني هذا ان نفسي حائدة وكأني متحيّر عند ما يبدو لي حق غير ان ثمّة أمورا تظهر عند أوّل فحص انها خارقة للمنطق منها قضية نائب رئيس الحكومة. صدام للمنطق ان يتنطّح زعيم كبير ليقول ان مجرّد إثارة الموضوع يحدث فتنة كلنا يعرف ان طائفة اللواء عصام أبو جمرا ليس لها تاريخ في الفتن وان شؤونا ضخمة جدا في هذه السنين الأخيرة لم تحدث صداما دمويا في هذا البلد. الذين أنشأوا ميلشيات او حالفوا قوى عسكريّة أجنبيّة لا يستطيعون ان يلوحوا بخطر الفتنة.

أما الحجة الكبرى فتحصن بعض من كبار القوم عقلا وثقافة بأن نيابة رئاسة الوزراء لم يرد شيء عنها في الدستور فتعني ان اولي الأمر لا يقومون بشيء الا اذا ورد ذكره في الدستور وهو نص توجيهي، تكويني وليس مجموعة دالوز وإمامك العقل وليس حصرا.

ما يلفت في هذه القضيّة ان المنصب يبدو محصورا بالطائفة الارثوذكسيّة فقد تقلب عليه منذ أكثر من نصف قرن جبرائيل المر وحبيب ابو شهلا وفيليب بولس وغسان تويني وفؤاد الخوري وجورج حكيم وفؤاد بطرس وألبير مخيبر وميشال المر والياس سابا وعبد الله الراسي وموسى كنعان وعصام فارس. وهؤلاء ما اختيروا لكونهم لا شيء. كان هناك قصد من الحكمة السياسيّة لم يذكر عنه الدستور شيئا.

وقد نسب الى دولة رئيس مجلس الوزارء الحالي الذي أنا معجب بصبره وهدوئه ومرانه في ديبلوماسيّة متحرّكة فضلاً عن جوانب أخرى في شخصيّته وممارسته الدينيّة، نسب اليه قوله ان هذه النيابة شرف. جوابي ان التشريف تعامل كان سائدا في نظام الملوك في فرنسا وأوربا يوزّعون فيه لقب بارون او كونت او ما إليهما وهؤلاء لم يكونوا بالضرورة في الحكم. كذلك مارست التشريف السلطنة العثمانية والبك والباشا كان اكثرهم خارج الدولة. ومُنحوا الألقاب لمسرّتهم وزعامتهم في بلداتهم او قراهم. ولقب الشيخ الذي تميّز فيه حكم الأمير بشير الثاني استبقى كل شيخ في قريته. كان هؤلاء الأشراف أصحاب عظمة دنيوية لا خدمة فيها للدولة.

بجهد كبير قد أقبل ان المنوط بهم أمر هذه النيابة قصدوا تشريف الشعب الأرثوذكسي بإعطاء لقب لن يكلّف السلطة شيئا. السلطة اللبنانية هي تتشرّف بالمجد الأرثوذكسي الذي أحاط بهذه الدنيا عندما كانت قفرا منسيا. لكني مضطر ان البادئ بالشعر العربي من مذهب انتمى اليه في المشرقية المسيحية كان يستطيع ان يدخل على امبراطور الروم اي ان المسيحيين العائشين في البداوة كانوا على صلة عضويّة مع الحضارة. واذا قفزت الى العصر العباسي متجاوزا الأخطل لا بد لي ان اذكر ان الروم الأرثوذكس ومنهم قسطة بن لوقا قد أسهموا في تعريب الفلسفة اليونانيّة. والأمر المجهول عند الكثيرين انه كان عندنا لاهوتيون في العصر العباسي اذكر منهم في النثر بولس الأنطاكي وفي الشعر سليمان الغزاوي.

غير ان النظام الملكي زال في اوربا وسقطت الامبراطوريّة العثمانيّة وسقطت معها ألقابها وحاول المرحوم الرئيس الياس الهراوي إلغاء الألقاب ولكن التخلّف اللبناني أبى الا أن يقيم في التشريفات لفراغه من الحقيقة.

كففت عن الرد على اعتبار نيابة رئيس مجلس الوزراء اعتبرت “قيمة مضافة” وهي مصطلح اقتصادي ولا سيما ماركسي استعير هنا وانا معجب – اذا لم تقصد السخرية- بأن الحكومة “مجتمعة” قرأت كارل ماركس وغيره من فلاسفة الاقتصاد.

انا لست مشرعا لأذكر الحكومة بأن لها ان تأخذ قرارا مستقلا في إحدى جلساتها ليبقى عرفا او يعدل به النظام الداخلي في بند خاص على طريقة الحكم التفسيري في القضاء. صدقوني اني في هذا حريص على الحكومة التي فيها من نجلّ حتى الإعجاب ونحبّ حتى عمق الأعماق. سؤالي الى مجلس الوزراء الوقور هو هل اتخذ قرارا بأن اللواء عصام ابو جمرا ليس له صلاحيات ام قال ان هذه الوظيفة هي بحد تسميتها فارغة من الصلاحيات. عند ذاك نكون في أمر خطير اي في التنحي عن اتخاذ موقف منطقي.

ازداد حزني لما لاحظت ان احدا من غير الأرثوذكسيين ما احتجّ على هذا الموقف وهو بامتياز موضوع وطني لأنه تكريس لفكرة ان في الدولة وظائف إسميّة من اجل ما يعتبر مجدا وليس من مجد. لماذا يراد ان يحضر اللواء عصام ابو جمرا جلسة ليس من المؤكّد ان له حول طاولتها كرسيا وليس عنده تفويض بأي أمر.

عصام ابو جمرا في الحقوق الإداريّة في التحديد الواضح يقيم في العدم اذا قررت له ذلك الحكومة “مجتمعة” واذا لم يتخذ قرار جماعي يبقى هذا رأيا لواحد او بضعة من المسؤولين ويجوز العودة عنه.

تأمّلت بهدوء في ما يحدث وصدمني حتى الحزن ان تكون الحكومة مستعدة للإنفاق لاستئجار غرفة او شقّة للواء خارج السراي الكبير وان يوضع كرسي تهذيبا له في قاعة مجلس الوزراء. انسجاما مع المنطق وقدسيّة البشر اذا استمرّ أصحاب التعنّت بتعنتهم ان يلغوا هذه الوظيفة ولا “يشرفوا” الطائفة الأرثوذكسيّة. بربّكم لا توزعوا على الناس من هو “قيمة مضافة” او قيمة غير مضافة. فمنّا من يعرف العربيّة وتاريخ الفلسفة السياسيّة ويفهم ما تقولون إن انتم أعطيتم كل كلمة فحواها. نحن لسنا بطائفة نطلب اعتذارا ما. الفهماء منّا يشرحون لكم معاني الكلمات التي استعملت. هذا لا يمنع الحوار بيننا وبينكم.

يبقى شيء أعظم أساسيا من كل ما قلناه ان احدا في الإدارة المدنيّة لا يستطيع ان يقول لنا ماذا يحلّ بالناس اذا ما غاب رئيس المجلس الوزاري وعيّن مثلا واحدًا من المقرّبين قد يكون من الفئة الثالثة او لا صلة له بالحكم إطلاقًا. او هَبوا ان رئيس الحكومة اعتراه حادث صحي اضطر عنده ان يلازم الفراش وقد عيّن انسانا لا يفقه شيئا في الحكم ماذا يحدث للبلد؟ وفي هذه الحال يستطيع رئيس الجمهورية ان يناقش الوزراء ولكن لا صوت له. اما نائب الرئيس الذي يعيّنه الرئيس فيفهم انه عاقل ومثقّف وخلوق وللوزراء ثقة به وهو قادر – اكثر من موظّف من الفئة الثالثة مثلا- ان يصدر رأيا مع الحكومة “مجتمعة”.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

هل من تطوّر في المسيحيّة؟ / السبت ٢٥ تشرين الاول ٢٠٠٨

المرّة تلو المرّة تسمع من يتمنّى تطورًا  في الدين لملاءمة العصر وفي الحقيقة يريدون بهذه الكلمة ملاءمة الشهوات. وهنا وددت أن أتكلّم على المسيحيّة وحدها فذلك أسهل عليّ. لعلّ تشدّد بعض في حفظ هذه الطقوس وحرفيّة التفسير كان من العناصر التي تدفع بعضا الى فكرة تحديث العبادات والعبارات وربما العقيدة. والمنطق عند هؤلاء اذا صفت النيّات انهم، بوعي او غير وعي، يأخذون التطوّر شاملا لكلّ الوجود ويجدون فيه حقيقة الوجود. معيار الحقيقة عندهم التغيير لأن التغيير نتاج العقل ولأن العقل هو كل شيء.

          يذهلني في كل هؤلاء ان أحدًا منهم لم يحدّد العقل ولم يكشف لنا ثبات العقل واذا كان معرّضًا للعطب واذا ما كان واحدا عند جميع الناس. والعقل عند هؤلاء هو العلم والعلم حقيقته لا يجوز النقاش فيها ثم العلم تحول الى تكنولوجيا واستطاب هؤلاء القوم عظم التكنولوجيا ولم يبحثوا في أضرارها او في حدودها.

          إزاء هذا الاقتناع بالعقل تأتي الديانات التوحيديّة لتقول ان الله تكلّم بالأنبياء ولتقول المسيحية انه تكلّم أخيرا بابنه يسوع المسيح. السؤال الذي يتطارحه بعض المؤمنين المدققين: هل هذا حقا هو كلام الله وما معناه اذا ثبت انه كلام الله وهل يُفهم من خلال التاريخ؟ أليست القراءة التاريخيّة تدخل عنصر النسبيّة في إدراك الحقيقة؟

          هذا كلّه أُشبِع درسًا في المسيحيّة ومنذ عصر الآباء دخل الظرف التاريخي في فهم الكلام الملهم. فالكلام الإلهي عندنا يُنسب الى الحقيقة الأبدية ولو كان فهمه متعلّقًا بظروف التفوّه به بشريا. المطلق لا يخسر شيئا من مطلقيّته اذا لوناه بأوضاع الأزمنة التي تأطر بها.

          هذا موضوع الفهم والمضمون لا يتغيّر لأنه صادر عن فم الله. لا تغيير اذًا في المضمون اذا الله قال. كيف يجب ان تفهم ما قال؟ هنا نستعمل النقد الأدبي والنقد التاريخي وسيلة لنصل الى ما جاء مطلقا. اذ ان الله يكلّم التاريخ كلّه في أسلوب التاريخ الذي نزل فيه الكلام ولا بد تاليا من درس الحضارة التي انكشفت فيها الكلمة ولكن الكلمة بمضمونها هي اياها. يبقى ان مقاصد الله قد لا تنجلي بوضوح كامل للقارئ او المفسّر. ذلك لأن المقاصد هذه مسكوبة بقالب معين.

#                    #

#

          الكلمة الإلهيّة نص ونطبّق عليها قواعد فهم النصوص. والكلمات المنسكبة بما فيها من إطار حضاري وتاريخي تبقى الكلمات الإلهيّة التي لا يناقض الله فيها نفسه والا لما كانت إلهيّة. فالنص ثابت وتكتشفه بالنقد التاريخي للنصوص وعلى رغم هذا التأطير والحدود النقديّة لك ان تصل الى معرفة المعنى الإلهي.

          اعترف ان هناك صعوبات جمّة للفهم اذ ينبغي ان تغرق في القواميس اعني قواميس اللغات الثلاث التي استُعملت في العهدين القديم والجديد لتصل عند خروجك من القواميس الى العمق. مع هذا هناك مشاكل لا تنتهي. كيف يلتتقي الفهم الإلهي والفهم البشري. الى أيّة طاقة فينا مرسلة الكلمة الإلهيّة؟ كيف يتم التلاحم بين العقل الإلهي والعقل البشري؟ كل هذا لا بد له من إدراك لتغوص على العمق الإلهي اللابس كلمات معربة.

          المسيحيون يضيفون الى هذا ان فهم المصادر ليس أسير اللغة. هناك الروح القدس الذي بعدما ألهم الكتبة النص هو إياه الذي يلهم القارئ والكنيسة إدراك النص لأن النص لا يأخذ مداه فيك الا بقوّة الروح. فاذا أخذنا بكل هذا نصل الى الوحي ونحيا به. غير ان محدوديّة الكلمة وتاريخيّتها لا تلغيان الحقيقة الأبديّة التي تحملها الكلمة. معناها ومبناها من حيث هو لباس لها.

          تلك هي النصوص التأسيسيّة الصادرة من الله في روحه القدوس التي لا تتغيّر بتغيّر الأزمنة لأن الأزمنة لا تأتي بمضمون ولو أتت حسب التنقيب العلمي بتفاسير تلقي الضوء على الأساس الذي الله واضعه. اما اذا كانت النصوص التأسيسيّة لا تتغيّر ففي المسيحيّة ان العبادات قابلة للتغيّر مع المحافظة على الجوهر. فاذا اتخذنا القداس الإلهي مثلا لا يظل يعني شيئا اذا مسست بماهيّته التي هي تحويل القرابين الى جسد المسيح ودمه. تؤطّر هذا بترتيل يختلف وفق التربيّة التي تريد اعطاءها. الأنظمة تتغير في حدود معيّنة. صورة الصوم عندنا مثلا قابلة التعديل فتأتي نسكه او تقشفه في شكل او في شكل آخر مع المحافظة على روحه. بخلاف ذلك لا يمكنك إقامة جماعة بلا أسقف أو قس لأن هذا بنظر الكنائس التراثية فيه كشف إلهي. تغيير الأحكام والنظم من ضمن روح الوحي.

          ولكن ليس من تغيير لتلائم بشكل هذا الدهرا. لا تبطل الأخلاق التي هي جزء من الوحي لتنسجم مع شهوات اهل العصر. لا تبطيل العائلة مثلا لمسرة المنحرفين: لا تقوم باختبارات على الجنين لأنك بذلك تقتله ولو كان في ذلك انفتاح على معالجة بعض الأمراض.

          لا تزول ماهية المعتقد ولو كان ممكنا نظريا ان تغير الصيغ العقدية لتوضحها حسب العقليّة المعاصرة. لا يسعك مثلا ان تلغي الثالوث ولو استعملت تعابير جديدة للتعبير عنه. فقد لا ينفعك هذه الأيام ان تقول ثلاثة أقانيم لأن لفظة أقنوم سريانيّة لا يفهمها احد في العالم العربي ولكن لك ان تستعمل عبارة ثلاثة وجوه متقابلة كلها من جوهر واحد.

          قد لا تقول للمسيح طبيعتان إلهيّة وإنسانيّة فتقول مثلا انه من عنصرين إلهي وإنساني اذا باتت مفردة طبيعة غير مفهومة لأنها آتية من عقل أرسطو ولكن تبقى مستعملا عبارة تجسد الكلمة اذ لا اجد ما يعرف على التقاء الإلهي والبشري في المسيح اليوم لفظة أفضل. ولكن في كل هذا التغيير ليس من انحراف عن مضمون العقيدة.

          الفلسفات تتغيّر ولك ان تدخلها للتعبير على ما بدُفع مرة  للقديسينا. نحن لسنا أسرى للفلسفة اليونانيّة التي جاءت فيها عباداتنا وانا اعرف ان كبارا في العالم الأرثوذكسي يخالفونني هذا الرأي. انا لا استطيع ان أفهم انك مكبل بالفلسفة اليونانيّة. انا ما قلت مع هارناك ولا مع استاذي الكبير جورج فلوروفسكي ان المسيحية التي نعرفها مزيج من الانجيل والعقل اليوناني. حتى مع إصرارنا على عبارات العقيدة المجمعيّة ولا سيّما المجمع النيقاوي الأول ما كنا سجناء الفلسفة اليونانية ولكني اقول ان توضيح العقيدة للعقل المعاصر هو امر قد يكون مفيدًا لتعميم البشارة.

          اما ان يكون عندك مضمون آخر فهذا يعني ان الله لم يتكلّم بصورة نهائية وكاملة وان كل عصر يأتي بمضمون جديد. من قال ذلك يعني في الحقيقة انه يقف من الكلمة الإلهية موقفا انتقائيا وان العصر ينشئ ايمانا جديدا ليس من النصوص التأسيسيّة.

          لا، ليس من تطور معقول للإلهام المسيحي الذي ظهر دفعة واحدة ولئن كانت الكنيسة عندها حرية كبيرة في تطبيق النصوص التأسيسيّة احكاما وأنظمة وعبادات حتى يبقى الله هو الله.

Continue reading