هل المسيحية معقولة؟ / السبت 31 كانون الثاني 2009
لست في معرض المقارنات بين الأديان ولا المفاضلة ولا التحديد لطبيعة الدين. هل هو شرائع وفرائض وتنظيم ومحظورات. المسيحيّة ليست من كل هذا وان كان لا بد في أزمنة الناس ان ترتّب بعضا من شؤونهم. ولكن المسيحيّة في مطلقها شيء آخر فالمحبة التي هي كل المسيحيّة بما فيها عقائدها هي حركة إلهيّة في القلب وبالقلب وتحرّك الى الأخ ومن هنا انها لا تشبه شيئا آخر.
فاذا قلنا ان الله محبّة واضح انه لا يخفي وراءه عددا فمن عدّه كما يقول الإمام علي. فقد حده اي لا تنطبق عليه مقولة الرقم فإن جعلته واحدًا بمعنى النفي للاثنينيّة تكون قد عددته. واذا قلت ان فيه ثلاثة وجوه تكون قد عددته فأنت لا تعنيها حسابيا. وحدانية الله عندنا لا يجوز عليها المعنى الرقمي.ّ في إطارها فقط نستطيع ان نرى الله صفات تصفه ولكن جوهره بارز بأفعاله كلها التي تجمعها المحبة.
من تعابير هذه المحبة سرّ الشكر أي مناولتنا الكأس المشتركة يوم الأحد الذي كُتب عنه لاهوت ضخم ودارت حوله جدالات لم تنته مع هذا ليس هذا السر سوى انسكاب ذبيحة المسيح التي رفعها الى الآب وهي اياها التي نشارك فيها. الحياة التي انتشرت من الجلجلة على الكون نستدخلها لنحيا في اقتبال الحب الذي أحبنا الله به. نحيط هذا التناول بأناشيد وتلاوات. اما جوهر السرّ فنزول المحبة الإلهية علينا والاستجابة لها بالطاعة.
بيّنت في غير موضع ان «عيد الأعياد وموسم المواسم» الذي هو الفصح انّما هو عيدنا الوحيد لأنه غلبة المسيح الموت وكل عيد آخر ليس سوى توضيح لسر هذه الغلبة. عندنا في الأعياد فقط صور عن المحبة.
المسألة هي هذه ان المحب ينزل حبه كاملا على المحبوب اذا أدرك هذا محبوبيّته. الله يدعونا الى ان نعرف محبوبيّتنا وان نبشّر بها والمسيح كلّه في هذا. اجل انت في حاجة الى تعاليم ولكن هذه كلها ان هي الا لتفهم انك مدعو الى دخول الخدر الإلهي. لكل حديث بغير هذا اللقاء بينك وبين الله لغو.
هناك من كان غير قادر على هذه الرؤية لأن نفسه مدلهمة او قلبه ضعيف الحس حتى يقذف الله نوره فيه.
والنور من النور يقتبس. فمن شعر بمحبوبيّته ينقلها الى الآخرين. لذلك بعد ذكر المحبة لله كانت الوصية أحبب قريبك كنفسك. لماذا تستطيع ان تحب الآخر مع كونه آذاك؟ لعلمك بأنه حبيب الله ولا تستطيع انت الا ان تحبه بالمحبة التي ورثتها انت من ربك. كل ما ليس على مستوى هذه المحبة هو مقاضاة والمقاضاة تفترض ان على الأرض من يدين الآخر بقوانين وضعها البشر. ان أقاضيك تعني اني اراك دوني او ضدي واني اريد ان استردّ ما هو لي بقوّة القانون.
في ملكوت المحبة ليس من مقاضاة في عالم الخطيئة تلجأ الى المحاكم في حال انك مارست المحبة ورفضها الآخر. أجل في الدنيا مال وحقوق وأرزاق. هذه يسوسها أهل الدنيا ولا بد منهم في عالم الخطيئة. وقد لا تستطيع ان تهرب من الدهر الحاضر. ولكني في المسيح يسوع انا آخذك معي الى الدهر الآتي. اشدك اليه بكل جوارحي أصلي من أجل أن ترافقني اليه. قد تكره الدهر الآتي لأنه يهدد مصالحك. والصدام قائم ابدا في هذا العالم بين رغبتك في الله وانصبابك في شهواتك. الخيار لك.
دائما يواجهنا الناس بقولهم: كيف نحيا حسب الإنجيل فاذا لم نكذب في العمل الذي نحن فيه او نراوغ او نسرق فليس لنا عيش. ان هذا على صعيد الواقع ليس دائما صحيحا فليست كل المؤسسات قائمة على الخلل. هناك من كنت اعرفهم في الجسم القضائي من اكتفى بمعاشه ولكن اذا حصل تعارض بين الفكر الإلهي وانتظامك في عمل تختار الفكر الإلهي.
مرّة قالت لي فتاة ان رب العمل الذي انا فيه يراودني عن نفسي واذا لم ألبِّ يفصلني عن وظيفتي. قلت لها لا مانع ان تنفصلي. هناك قرارات في هذا العالم لا بد لها من حزم وعزم لتلازم الله ويلازمك، لتربطك به علاقة المحبة. هذا يفترض ان تفهم قول بولس: «لست انا احيا بل المسيح يحيا فيّ».
اذا ادركت هذا الطور من العلاقة لا تبقى لصيقا بالعالم الشرير. يزعجك تسرّب هذا العالم الى نفسك بعد ان روّضت هذه النفس على السلام الذي يعطيك السلوك الإلهي.
دائما الخطيئة خلابة وتتراءى لك مرات ساحرة. لست اعرف كذبا كالذي في الخطيئة. تتراقص امامك فيها ملذات سرعان ما تعرف انها موقتة من جهة وانها مريرة من جهة او هي مريرة لأنك قبل اقترافها كشفت لك أحلاما لم تحقق. المحبة الإلهيّة هي وحدها القوّة التي لا خيبة فيها لأن الله لا يقدّم لك الا في ما هو في صالحك.
اجل في الإنسان امام الإغراء معطوبيّة كبرى ويسعى ان يلجم نفسه بتطويع الإرادة. وعندنا في الأدب النسكي مطولات عن الأهواء المختلفة التي ترتاعنا ولكن قلّما نجد في الأدب الشرقي ما يفيد ترويض الإرادة. اجل هناك هروب من الخطايا ولكن ما يقف في وجهها ان تعرف مشيئة الله في هذا الشأن وذلك ان تعرف ما يقوله الله في كتابه حتى تتزوّد بالكلمة ترسًا وخوذة وسيفا كما يقول بولس. هناك رجاء الخير اذا أحببته واستولى عليك. هو يكون لك حصنا ويدفع عنك هجمات الشرير. ولكن كثرة من الناس لا يحبّون لأنفسهم ما يسمّيه الله خيرا ويرتضون ما يسمّيه الله شرا. هناك بشر محبب اليهم البخل والبغض والكذب واقتناص الفرص للارتكاب وعسير عندهم جدا ان يبدلوا حبا بحب لأن هذا يهدم كل البناء الذي أقاموه في أنفسهم للخطايا. واذا استغرقوا فيها حتى التحالف يسألونك عن طريق للخلاص.
بعد ألفة الشر الطويلة تصعب التوبة والثقة بإمكان الخلاص. وما ذلك الا لأنك حالفت الخطيئة وصارت بعضا منك. لا تعرف ان ألفة المحبّة الإلهيّة تنجّيك حقيقة وتسندك طويلا وربما على مدى حياتك.
في الموعظة على الجبل هذا الكلام: «ان كانت تقواكم لا تفوق تقوى معلّمي الشريعة الفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السموات» (متى5: 20). القضية كلها عند يسوع الناصري الا نكون ذوي تدين ظاهري قائم على الفرائض من صلاة وصوم وقراءة الكلمة الإلهيّة والعبادات ولكن ان نستقبل الله في القلب.
بعد هذا يقول: «سمعتم انه قيل عين بعين وسن بسن. اما انا فأقول لكم: لا تقاوموا من يسيء اليكم. مَن لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر». العين بالعين كانت إحراز تقدم على الثأر الانتقامي. بقيت ماكثة في الحقوق. لا تريد ان تلغي الحقوق فأنت من أهل الحقوق، من الدولة. السوآل هو كيف تنتقل من عالم المقاضاة الى الملكوت الإلهي؟ الجواب: «احبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم فتكونوا ابناء ابيكم الذي في السموات». والمعنى طبعا انكم وضعتم حدا للقصاص ودخلتم ملكوت التساوي بين أبناء الله الصالحين وابنائه الأشرار. يمكنك ان تفهم هذا اذا عرفت ان رحمة الرب مسكوبة على الناس جميعا.
المسيحية، مفهومة هكذا، معقولة.