Monthly Archives

February 2010

2010, مقالات, نشرة رعيتي

الكنيسة الصائمة/الأحد 28 شباط 2010 / العدد 9

نتوغل يوما فيوما في هذا الموسم الطيب في الصيام. ليس اننا فقط نألف الطعام الصيامي منذ طفولتنا، ولكنا رأينا ان الصائمين صاروا كثرا في السنوات الأخيرة. ونرى عددا متكاثرين من المؤمنين يَؤمّون الكنائس وبعضهم كلّ ليلة في ما عُرف بصلاة النوم الكبرى وفي يومي الأربعاء والجمعة في القداس السابق تقديسه حيث يتناولون جسد الرب ودمه بين أحد وأحد.

يخرج المؤمن من الكنيسة حاملا مسؤولية التوبة، وهذا يجيئه من حركة هذه الخدمة المسائيّة المؤلّفة من مزامير وأفاشين وطلبات قصيرة وذلك في قراءة او ترتيل، وتتأصل المعاني بالتكرار من الإثنين الى الخميس. اما في يومي السبت والأحد فصلاة الغروب، والجمعة فالمديح الذي هو ربع المديح الكبير الذي يُتلى كاملا في حينه ما يجعل في الخِدم تنويعا.

من الفائدة بمكان أن نقف معا في المعبد. الصلاة الجماعية لها قوّة خاصة. والعهد الجديد يتكلّم على المواظبة على الصلاة بحيث نتوجّه معا الى الله. «وكانوا يُداومون على الاستماع الى تعليم الرسل وعلى الحياة المشتركة وكَسْر الخبز والصلاة» (أعمال الرسل 2: 42). فاذا كنا معا نُبيّن صفتنا اننا جسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا. هذا التماسك يبدو بخاصة في اننا نصلّي «بفم واحد وقلب واحد». وأن نكون في الأمسيات في ايام الأسبوع مُلازمين بعضُنا بعضا يُطهّرنا من الخطيئة ويُعدّنا لقداس الأحد الى طهارة كاملة.

القداس قمة اتحادنا بالرب. قبل الوصول الى القداس هناك سير طويل. من مراحل هذا السير في هذا الموسم الانحصار في الله ليس فقط عن طريق التقشّف بالأطعمة ولكن عن طريق رجوع القلب الى السيّد بإخراج كل خطيئة منه وكل تعلّق بأمور الدنيا اي بتفريغ النفس مما هو غير الله وإحلال الله فيها. هذه العمليّة عظيمة جدا وتتطلّب سهرا دائما على الذات اي انها عملية تسبيح وشكر وطلب.

بالطلب تقترب من الله، واذا وُهبتَ ما طلبت تدخل في كلام الشكر حتى اذا انتهيت منه لا يبقى امامك سوى التسبيح الذي تتجاوز فيه الطلب والشكران وتُمجّد الله في ذاته ولا تلتمس منه شيئا. تكون عندئذ قد أكملت الحوار، صاعدا على سُلّم الفضائل ونازلا منها لتقوم على الأرض بأعمال إلهيّة. الصلاة هي تلك الرياضة التي تؤهّلك لتقوم بأعمال صادرة في قلبك عن إلهام إلهيّ. بهذه الصورة تتحرك كإنسان إلهيّ.

الله تكلّم بالأنبياء قديما وبمسيحه. أخذت الكنيسة هذه الكلمات، فمن جهة احتفظت بها، ومن جهة صاغتها بما يوافق المؤمنين بحيث صارت كلماتك اليه هي أصلا كلماته اليك، فيبقى ربك صاحب الحديث وانت تستلذّ الحديث فتُعيد كلماته اليه.

وأفضل مكان لتسمع ولتقول هو الكنيسة ففيها الكلمات الإلهية بدءًا من الإنجيل وتلك الكتب الضخمة التي نتلوها موسما بعد موسم والموافقة معانيها للأعياد. عشْ في الكنيسة مع الإخوة لتحسّ بأن الروح القدس نازل عليكم معا.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

بركات النور / السبت 27 شباط 2010

أن احذروا الغنى التي علّمها يسوع الناصري، بتعبير او بآخر، تدلّ على أن كلّ ما يفهمه الإنسان يزيده رونقًا او جمالا او فهما ويسرّ به او يعتدّ كأنه مُلك له. نحن لا نملك شيئا لأن كل ما نلتمع به ورثناه بتكويننا الجنيني او سكبه الله في النفس. مواهب من الطبيعة او مما فوق الطبيعة وانت استلمت وما استلمته لا فضل لك فيه. تحافظ عليه وتُنميه او تعطّله او تؤذي نفسك به ولكنك لست بشيء.

أفهم الجهد وأهميّته في تنمية العطايا ولكن اذا كانت تضاعيف دماغك غليظة فلن تصبح ذكيا الى الأبد، والتي وُلدت قبيحة قد تُسعفها عمليّة تجميليّة ولكن الى حد. تقبل نفسك كما انت فليس مصابا أن تكون قليل الفطنة وليست كارثة أن تكون الفتاة قبيحة الوجه إن كانت حلوة النفس، طاهرة السيرة.

الجمال لا ينتمي الى عالم القيم لنعترف له بمكانة في سُلّم القيم. هو مجرّد واقع لا نعرف له غاية الا اذا احتسبنا انه نافع في علاقة الجنسين اذا اجتمعا. ربما كان لله مقصد في هذا. هذا في عالم الإنسان وليس في عالم كل الأجناس. ولست أظنّ أنك تستطيع أن تتعمّق أكثر من ذلك. ربما أفاد هذا في عالم الشعر. غير أن القرآن حذّرنا من الشعر بقوله: «والشعراء يتبعهم الغاوون» (سورة الشعراء، 224)

لا يضرّ الإنسان أن يحمل جمالا جسديا ليس منه ولكنه مدعوّ أن يفهم انه ليس هو صانع هذا الجمال وأن الاعتداد به تاليا مرفوض لأنه نكران لعطاء الخالق واعتبار الجمال مُلكا لصيقًا بمن ارتداه وهو ليس أكثر من رداء. طبعا لا يملك الجميل قدرة على القبح، وعندي أن ليس عليه أن يشكر لله هذا الرداء الذي ارتداه لأنه موروث الطبيعة ولم يهبط من السماء.

الجمال خطر ككل غنى، خطر التصوّر أن المخلوق قد يأتي بديلا للخالق ويسرق فضله. قد يعي البهي بهاءه او لا يعيه. الوعي او عدمه في هذا المجال كلاهما تافه. كل هذا من عالم التراب.

مرّة كنت أحضر في روما تنصيب كردينال كانت بيني وبينه علاقة عمل في مجال تقارب الكنائس وكان للشماس دور عظيم في هذه الحفلة. ولما انتهى هذا من أعماله صرخ بهذا القول الكتابي: «هكذا يَعبُر مجد العالم» ليحذّر الشماس الكردينال من الاستكبار.

اذا نزل عليك مجد الله واعتبرته لنفسك تكون كمن حسب نفسه إلهًا اي تكون قد وقعت في الشرك. لذلك نقول في الرهبانيّة: «ان الراهب وهو بتول اذا فقد المحبة يفقد بتوليّته». انت فقير وبفقرك وحده تنظر الى وجه الله ليصير لك وجه. واذا حصل هذا لا تستطيع أن ترى وجهك، واذا استكبرت وأخذت مرآة لترى نفسك تصير لا شيء حسب قول مأثور عندنا: «من اشتهى انتهى». تنوجد انت بالفقر فقط. كل استعراض زوال للعارض لأن الله يُفني العارضين «حَطّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين، ملأ الجياع خيرات والأغنياء أرسلهم فارغين» (لوقا  1: 52-53)

المجد اذا نزل عليك من الله تعيه نعمة ولا تعيه مُلكا. فقد شاء الرب أن يُكلّلك به لقصد يعرفه هو ولا يكشفه لك الا اذا أراد أن تعي مسؤوليتك عند استلامه. من استلم النعمة فقير وعليه أن يعي فقره ليستغني. أما من نسب فضلًا الى نفسه فيمحوه الله. لذلك كانت خير صلاة صلاة التسبيح فهي تفوق دعاء الطلب او السؤال اذ فيه تنال ثم تشكر. اما في التسبحة فلا ترى الى نفسك ولكنك تنظر الى وجه الله فتحبّه وتصبح كلك حنانا.

#   #

#

لعلّ ما يُغري حتى الفتك هو استلذاذ الذكيّ ذكاءه. وما كان ركيزة عقله هذا الدماغ الموروث وقد عمل هو على حرثه. من الكتاب الإلهي نعرف أن الشيطان ذكيّ ولعله سقط من غرور. اما الأعلون في البشرية المتقدسة فليس عندهم وقت ليروا الى أنفسهم اذ يُبصرون فقط وجه الرب. عنده أن من زيّنهم عقلهم ليسوا في نظر الخالق أدنى اليه من المحدودة عقولهم اذ لا فرق عنده بين الناس إلا تقواهم.

ليس ما يدلّ على أن من يسبر غور أسرار الكون يقترب من سر الله. هذه قضيّة قلب: «يا عبد كل شيء قلب» وهذا له ذكاؤه الذي يتصل او لا يتصل بالعقل. وعند آبائنا أن العقل لا يدرك حريته الا اذا نزل الى القلب فتَطهّر فيه ثم صعد الى مكانه. وعندنا أن هذا التلاقي لا يتمّ الا بنعمة من عند ربك وعندئذ يبدأ العقل رحلة التواضع. في هذا المقام تكون الطهارة قد بلغت ذروتها ومن بعد ذلك ليس الا الرؤية.

الذكاء فيه رئاسة وهو خطر ككل رئاسة وسلطان. هذه ليست دعوة الى أن تضربه لأن في ذلك لونا من الانتحار. انها دعوة اليه الا يعمل الا بدءًا من الكلام الإلهي المدعوّ أنت ان تصوغه ببراعة بشرية لا زهو فيها ولا اعتداد «ليكون الفضل لله لا لنا». ووظيفتك عند الناس ما عبّر عنه القرآن: «فذكّرْ انّما انت مُذكّر لست عليهم بمسيطر» (سورة الغاشية، 21و22) بمعنى أن ذكّر بالكلام الذي نزل من فوق وانت اياه مُبلّغ. استحسن الأسلوب. هذا شأنك وليس ربك ضد الإبداع البشري اذا صحّ اننا مبدعون.

قد يأتي الرد عليّ أن الذكاء جاء بالعلوم والفلسفة والآداب وما اليها وهذا جميل. الله لا يهمّه الجمال ولا يهمّه العلم. همّه الحقيقة التي فيك والقادر انت أن تعطيها. العلماء يقتربون من الحضرة الإلهية او لا يقتربون. الأذكياء ليسوا مضمونين من قبل الرب. هو يبارك فقط للفقراء اليه الذين يعرفون انهم يأتون من رضائه. هذا الذي يُكوّنهم مما يفوق كلّ عقل ووصف.

يؤثّر فيّ الغافل عن العلم اذا أتاه ربّّه علما لدُنِيا (بضمّ الدال وكسر النون) ينكشف له كل حب يعلو به. اجل يحتاج الإنسان الى أدوات المعرفة ليتدبّر أمور دنياه. وهو لا يتدبّر في العمق البشريّ شيئا إن فاتته خبرة المحبة التي ليس قبلها ولا بعدها شيء وهي التي تخلص الفطِن والغبيّ بالقوة نفسها. وكلاهما يُدان بالحدّة الإلهيّة الواحدة على فكرهما وأعمالهما.

لستُ أعرف روحانيا واحدا في تاريخ التوحيد احتقر العقل. ولكني أتعجّب دائما من الذين لا يعرفون حدوده ولم يسمعوا بسقطاته او بخطر استكباره. انا ما تكلّمت على القلب المائع بذاته. هذا هو ايضًا استكبار. ولكني كما أخشى صلابة الانفعال وعصبيّة القلوب أخاف من انغلاق العقل على ذاته. هذه ربوبيّة مشركة. اما اذا تذلّلت في حضرة الرب فتفتح أبواب العقل والقلب معا وتكون اتخذت لنفسك مقاما علويا هو مقام العشق.

ما أجمله موقفا للفاهمين أن يساووا أنفسهم بمن دونهم فهمًا اذ يكونون قد شهدوا أن الخلاص هو المحبة. وهذه هي التي دبّرت العقل عند بدء المعرفة في الحضارة التي ورثنا.

كلّ آبائنا قالوا إن الخطيئة الأولى والكبرى الى يومنا هذا هي الكبرياء التي اذا حللتها كانت خلع الألوهية عن الله لكونها عبادة للذات. اما اذا تقبّلت العقل الإلهي فيك تتأله كما يقول الروحانيون في كل مجالات التوحيد. هؤلاء وحدهم يحقّقون في ذواتهم: «قل هو الله أحد» (سورة الإخلاص، الآية الأولى). أما من أقام نفسه منعزلا عن الحكمة الإلهية فينسب الفهم الى بشريّته وحدها.

الجمالات التي هي فقط من الدنيا بما فيها الجسد ولذّاته وسلطانه ورونقه انما هي في حقيقتها زينة لأهل الدنيا وتذهب بهم كما تذهب بدنياهم اي الى التراب اذ كانوا ترابيين. اما الذين استضاؤوا بالنور الإلهي فيصيرون قامات من نور ويعرفهم ربّهم على أنهم له الآن والى أبد الآباد. هؤلاء يقومون فقط أمام الله ويجيئون منه الينا ونحيا ببركاتهم.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

دعوة بعض التلاميذ/ الأحد 21 شباط 2010 / العدد 8

حسب إنجيل يوحنا، أوّل تلميذ دعاه إليه يسوع هو أندراوس الذي بدوره دعا أخاه بطرس. كان هذا في اليهودية. بعد هذا ذهب السيد الى الجليل «فلقي فيلبس فقال له اتبعني». يقول الإنجيل ان هؤلاء الثلاثة كانوا من بيت صيدا التي هي على بحيرة طبرية.

ثم «لقي فيلبس نثنائيل» وهو غير مذكور مع الإثني عشر في الأناجيل الأولى. والمُعتَقد انه هو برثلماوس المعدود بين الإثني عشر. فيلبس يقول له: «وجدنا الذي ذَكَره موسى في الشريعة والأنبياء وهو يسوع ابن يوسف (المعروف هكذا عندهم إذ لم يعرفا بعدُ بتولية مريم) من الناصرة (لأنه كان لا يزال يسكن الناصرة)». أي ان كلام نثنائيل يعني أن يسوع هذا هو «المشيح» (هكذا بالعبرية، وهو المسيح بالعربية). نثنائيل يكون ضمنا بهذا الكلام اعترف بأن يسوع هو المسيح.

في يوحنا 21: 2 نعرف أن نثنائيل كان من قانا الجليل التي كانت قريبة من الناصرة. عند دعوة فيلبس لنثنائيل حتى يلتحق بيسوع قال نثنائيل: «أمِنَ الناصرة يُمكن أن يكون شيء صالح». هذه المدينة كانت حقيرة إذ لم يذْكرها العهد القديم مطلقًا. عندئذ أجابه فيلبس: «تعال وانظر»، أي تعرّفْ على هذا الرجل المعروف بيسوع بن يوسف. عاشرْه او استمعْ الى ما يقول. اختبرْه فتعرف أنه المشيح الذي تكلّم عليه موسى والأنبياء.

ذهب نثنائيل مع فيلبس الى المعلّم، فلما رآه يسوع قال: «هوذا إسرائيليّ لا غش فيه». هنا شبّه المعلّم هذا الشاب الى إسرائيل القديم أي يعقوب أبي الأسباط الذي لم يكن خاليًا من الغش.

ووعدَ المسيحُ هذا الرجل برؤية شبيهة بالتي شاهَدَها يعقوب في سِفْر التكوين (28: 10-17) وهي سُلّم يعقوب. هذه الرؤية هي في أن يعقوب حلمَ أنه «رأى سُلّما منصوبة على الأرض رأسها الى السماء وملائكة الله تصعد وتنزل عليها». عند أعلى السُلّم كان الله حسب سفر التكوين. عند أسفل السُلّم ليس عندنا صورة. في إنجيل يوحنا فقط نلحظ أن مَن كان عند أسفل السُلّم هو ابن الإنسان اي المسيح.

الإنجيليّون الأربعة لم يُسَمّوا مرة يسوعَ ابنَ الإنسان. هو سَمّى نفسه هكذا. عبارة «بن الانسان» وردت عند دانيال هكذا: «ورأيتُ في منامي ذلك الليل، فإذا بمِثْل ابن إنسان آتيا على سحاب السماء، فأسرع الى الشيخ الطاعن في السنّ، وأُعطي سلطانا ومجدا ومُلكا حتى تعبده الشعوب من كل أمّة ولسان ويكون سلطانه سلطانا أبديا» (دانيال 7: 13و14). الشيخ الطاعن في السن صورة عن الإله «القديم الأيام». ابن الانسان يتقدّم امام الله كي يتسلّم مُلْكا أزليا لن يُعطى لآخرين.

ابن الانسان تسميةٌ للمسيح في ألوهيّته كما يشدّد عليها إنجيل يوحنا.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الفقر / السبت 20 شباط 2010

الصوم زمان الفقر. أيا كان أمرنا مع القاموس نستعمل لفظة الفقير ولفظة المسكين مترادفين. على ضوء هذا أقول انّ الفقير هو الذي عنده حاجة لا يصل اليها. والحاجة إن تعسّرت تُوجعك. وحيث لا وجع لا حاجة. لهذا كان الناصري الذي توقّع آلامه هو نصير الدائمين في الحاجة اي الواقعين تحت لعنة الدهر، المقصيّين عن انتباه الميسورين، المرميّين خارج الإشفاق وبخاصة خارج المحبة. انهم الطوافون على الأبواب اذا تسوّلوا او الباكون على حرمان أطفالهم من العشاء او الفطور وأعرف عن بعضهم أنه كان يُغمى عليهم في الحرب في إحدى مدارس بيروت اذ لم يجد لهم ذووهم لقمة عيش في بعض أحوال الضيق.

انهم أذلّة ولو جاءتهم صدقة لأن الشعور بالمحرومين كثيرا ما لا يرافق العطاء. هؤلاء كما أصفهم هم المحكيّ عنهم في الإنجيل. ويسوع الذي كان منهم يسمّيهم إخوته الصغار، ونحن نعرف أنه هو وتلاميذه كانت بعض التابعات له يتصدّقن عليهم. وكانوا يأكلون من السمك الذي يتيسّر لهم من بحيرة طبرية ولست أرى دخلا آخر للجماعة. وربما كان بعض مناصري يسوع يتصدّقون عليه ايضا اذ كان بين تلاميذه من يتولى الصندوق وهو يهوذا الإسخريوطي. نعرف أن من كان عندهم أموال هم الصدوقيون. اما باقي الشعب فكان وسطيّ الحال او دون ذلك بكثير.

في هذا الوضع كان للناصري تعليم عن الفقر واضح وتاليا عن الغنى. هناك كلمات على الأغنياء تبدو قاسية. هل هي صورة عن الصدوقيين الذين ما كانوا يؤمنون بالقيامة وكانوا عملاء للاستعمار الروماني. أدنى درجات خلافهم مع السيد انه هو كان يؤمن بالقيامة. والولاء للرومان كان بلا ريب خروجا عن الأمّة. غير أن الأهم من كل ذلك أن كان ثمة المعروفون بالفقراء الى الله وتقديرنا أن مريم كانت منهم وأن زكريا أبا يوحنا المعمدان (او يحيى) كان ايضا منهم وزوجته أليصابات كانت نسيبة لمريم. هؤلاء وصحبهم كانوا مقصيّين عن الذوات في إسرائيل.

*       *

*

بغضّ النظر عن كل هذا التأمل التاريخي، يمكن إيجاز فكر المسيح في موضوع الغنى أنه خطر على صاحبه لكونه شهوة جامحة قلّما يستطيع صاحبها أن يتحرّر منها او لا يقدر على ذلك بقواه الشخصيّة. ويتمكّن من السيطرة على نفسه اذا استولى الله عليها. المطرح الكلاسيكي هو حديث يسوع مع شاب غنيّ حفظ شريعة موسى كلّها وسأل السيد بعد هذا «ما يعوزني؟». أجابه يسوع: «اذا أردتَ ان تكون كاملا فاذهب وبعْ ما تملكه ووزّع ثمنه على الفقراء وتعال اتبعني» (متى 20:19 و21). لست أعتقد أن المسيح يريد لنفسه فئة كاملين وفئة غير كاملين. ليست هي توصية الكمال الرهبانيّ كما ذهب بعضهم اذ لم يرد حرف واحد على الرهبانية في الأناجيل الأربعة. عندي أن القول موجّه الى الشاب بالذات الذي كان تعلّقه بالمال يمنعه أن يكون كليا لله. مُلك هذا الشخص كان يمنعه أن يلتصق بيسوع. لذلك قال له اتبعني. المعنى أنه يجب أن نقطع من ذواتنا كل ما يحول دون اتّباع الرب بصورة كاملة.

بعد هذا يصل يسوع الى تعليم يتجاوز هذه المقابلة فيقول لتلاميذه: «الحق أقول لكم يصعب على الغني أن يدخل ملكوت السموات». استعمل فعل صعب وليس استحال فأكمل فكرته بقوله: «مرور الجمل في ثقب الإبرة أسهل من دخول الغني ملكوت الله». صعب جدا على الغني دخول ملكوت الله لأنه يتّكل على ماله. يظن ان ماله يخلّصه. غير ان التلاميذ لما تعجبوا من هذا القول قال لهم: «هذا شيء غير ممكن عند الناس، اما عند الله فكل شيء ممكن». السؤال الذي يطرح نفسه هو هذا: هل يصنع الرب أعجوبة فيخلّص الغني المتمسك جدا او كليا بماله ولا يفعل شيئا للناس؟ السؤال التالي هو ماذا يعمل الغني لينقذه الرب من الجشع، من عشق الفضة كما نقول في بعض صلواتنا؟

المقطع الذي لا يقل صعوبة عن الحوار مع الشاب الغني قول السيد في متى ايضًا: «لا تجمعوا لكم كنوزًا على الأرض… بل اجمعوا لكم كنوزا في السماء… فحيث يكون كنزك يكون قلبك» (6: 19-21). اين يكمن الخطر؟ كسب المال عملية تستغرق قوى الإنسان وتقوده بسهولة الى نسيان الله. هناك خطر البخل والاستعلاء والاعتداد بالنفس القادرة على الربح. إغراء الأغنياء أن يتصوروا حذقهم طريقا الى الكسب الكبير. ينسون الإخاء الذي يأمر بالعطاء. ينسون الموت.

هناك اغنياء في الإنجيل ربحوا الملكوت مثل زكا العشّار، نيقوديمس، يوسف الرامي.

عندنا كلمة اساسية في متى وهي «محبة الغنى» (13: 22). لعلها مفتاح هذا البحث كله. مقابل الغنى لا يرد كثيرا على لسان يسوع الدعوة الى تبديد المال على المساكين. يقابل عنده غرور الغنى الاستغناء بالله. غير أن تعليمه الجارف عن محبة القريب اي كل انسان يسوق الى العطاء. ولم يكن ليسوع ان يتوسع في موضوع العطاء الذي كان كثيرا ما ورد في المزامير واشعياء وبقية الأنبياء. يسوع لا يوازن بين البخل والإحسان ولكنه يوازن بين عشق المال وعشق الله والباقي يأتي زيادة.

*        *

*

يأتي بولس بعد السيّد ويهتم بجمع مال من الدنيا كلها لفقراء أورشليم ويتحدّث عن المشاركة. واذا تابعنا ما جاء في رسالة يوحنا الأولى الجامعة عن أن الله لا تعامله الا كما تعامل الإنسان الذي تراه، نفهم أن الفكر الجامع الذي انبثق عن يسوع الناصري شاع عند أتباعه ومفسري كلمته ولاسيّما عند الآباء القديسين مثل باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم القائلين بأن الإنسان لا يملك شيئا بل هو مؤتَمَن على ملك الله الذي في يديه. بكلام أوضح، التعليم عن الفقر والغنى لا نستكمله الا اذا تتبعنا الخبرة المسيحية في العطاء مبنية على إقامة المؤسسات التي شُيّدت لخدمة الفقراء وعلى تعاطي بعض المومنين وأوّلهم الرهبان الفقر الاختياري الكامل حيث لا يملك أحد فلسًا واحدًا.

لا يمكن فهم التراث المسيحي في هذا المجال الا في هذا أن الرب يريد نفسه حبيبا واحدا لك. ليس انه يريدك جافّا او فاترا مع زوجتك وبنيك وبناتك وأصدقائك ولكن كل هذه المودات وان وجب ان تكون قوية ليست الحب المطلق وفي هذا في الإنجيل كلام كثير.

البنية الأساسية في المسيحية هي انكم جسد المسيح اي قائمون في التماسك الكامل والتعاضد المستمر واذا كنتم جسد المسيح فالإخوة أعضاء فيه أفرادا وما لي هو لك وما لك انت مدعوّ لخدمتي به ولستُ مخوّلا ان أسرقه لكونك أخي. جماعية المُلك هي الأمر الإلهي وانت هالك إن لم تنفّذها بما يوجعك. اما اذا بقيت متكلا على ما عندك ومستريحا جدا لما عندك فهذا فيه عطاء قليل لا يخلّص نفسك ولا يستريح الفقير به.

هذا لم يوضع له ميزان او نسَب او حصص. هذا ليس متروكا لتقديرك الدنيوي. انه متروك لحبك الكبير الذي لكونه لقاء الإخوة يصير لقاء الله. وانت تخلص اذا رأيت وجه الله. وهذا لا تراه الا في المريض والحزين والفقير والمعزول والمهمّش. ان تذوب في كلّ هؤلاء مهما كلّفك الأمر قد يوصلك الى أن تشعر بأنك ممحوّ من دنيا الكبار والنافذين والفاهمين مصالحهم بحيث يحسبونك على شيء من الهبل.

هذا وحده يوصلك الى رؤية الحقيقة.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الغفران/ الأحد 14 شباط 2010 / العدد 7

هذا اليوم المدعو أحد الغفران، الرسالة فيه تنهينا عن الرذائل بما ان «الليل قد تناهى واقترب النهار». ماذا أراد بولس بهذه العبارة؟ هل قصد مجيء المسيح الثاني، ذلك المجيء الذي نستقبله بسلوك نورانيّ؟ هذا القصد لا يمنعنا أن نرى النور آتيا الينا بالصيام. تذكرون أن الكاهن في القداس السابق تقديسه عندما يُظهر شمعة للمؤمنين مضاءة يقول لهم: «نور المسيح مضيء للجميع».

ذكر الرسول بعض الخطايا ولو أراد ان نجتنب كل الخطايا، وحتى نترفّع عنها قال: «البسوا الرب يسوع المسيح ولا تهتموا بأجسادكم لقضاء شهواتها».

اما الانجيل الذي انتقيناه من اسم احد الغفران فيقول في البدء: «إنْ غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم السماوي ايضًا»، وكأنه يقول ان اتصالك بالرب يتم في هذه المسألة باتصالك بالقريب، بكل آخر. انت لا تغفر لأنك تظن ان هذا مسّ ما تسمّيه كرامتك او آذاك اي انك تعتبر نفسك شيئا والكتاب يقول لك: «من ظنّ نفسه شيئا فهـو لا شيء». اذا أضرّك أحد أو شتمك أشفق عليه وصلِّ من أجله لكي يرفع عنه ربّه هذه الخطيئة وأحطه بحنانك لكي يُشفى من خطيئته. ما دمت غاضبًا تؤذي نفسك وتؤذيه. حاول الهدوء وتصرّف معه بهدوء، وهكذا تُروّض نفسه على السلام. واذكر ان الرب يسوع غفر للذين قتلوه على الصليب. الذي يسبّك او يسرقك هو مثلهم لا يعلم ماذا يفعل اي ما ينفع نفسه.

بعد هذا يتكلّم الرب عن الصوم وكيف يجب أن نتممه بفرح لأنه صوم لله اي انشداد من لذة الطعام الى لذة التقوى.

وأخيرا يقول: «لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض». اولا الصوم مناسبة للإحسان. هكذا كان في بدء المسيحية. يحرم المؤمن نفسه من الطعام ويعطي ثمنه للمساكين. الصوم وقت مشاركة. بالمشاركة نصير إخوة، وكإخوة نتناول جسد المسيح. لا يشترك الإنسان بدم المسيح منفردا عن الإخوة. يأخذ الجسد وهو متّحد مع كل أعضاء الكنيسة الحاضرين والغائبين.

يقول السيد: «حيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم». المال للجيب والمصرف وليس للقلب. تستعمله للخير، لعائلتك والمحتاجين. اذكُرْ قول المزامير: «بدّد، أعطى المساكين فيدوم برّه الى الأبد». انا ما قلت لا تعشْ بيُسر يمكّنك من سد حاجات اهل بيتك. ولكن ماذا ينفعك فعليا الغنى الفاحش بعد أن تكون قمت بكل واجباتك تجاه اهلك وأدخلت اولادك الى الجامعات واقتنيت بيتا او قصرا. اذا بقي عندك ما يفيض على اليسر، ماذا تنفعك المتع الكبيرة الفائقة التصوّر. هذا حق للفقراء عليك، فإن قلبك يعظم بالعطاء ويفرح اذ تكون خففت عن الإنسان الآخر وجع الفقر او العوز وجعلته يحسّ بأن الله يفتقده بواسطة انسان آخر. كثيرون من الناس على شيء من البحوحة. هذا مال الله: انت مؤتمن على هذا المال. الله وحده مالك السموات والأرض. هو سلّم اليك شيئا من هذه الأرض. اجعل الآخر شريكك بمحبة الله بسبب ما يصل اليك منه.

غاية هذا الصوم الفرح الذي سيقوله الفصح. شيء من الفرح يتم بالغفران وشيء يتم بالإحسان. اذهب الى قيامة المخلّص بعد ان تكون أتممت شيئًا يرضيه.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الصيام الفصحيّ / السبت 13 شباط 2010

نحن فصحيّون أو نشتهي أن نكون كذلك. سندخل بعد يومين في هذا التوق بالصيام المسمّى الأربعيني وهو تربية تُقوّي فيها هذا التوق يوما فيوما وجهادا بعد جهاد لنستحقّ صبغة النور في عيد القيامة. نور للروح ونور للجسد في المساكنة التي بينهما الى حدّ التلاحم. ونحن لسنا في حديث قمع أحدهما للآخر. وإن أباحت اللغة استعمال كلمة إماتة فليس لنتحدّث عن إماتة للبدن، ولكن لكي نتكلّم على إماتة الأهواء والشهوات النابعة منها بغية اتحاد كياننا وكيان المسيح. بلا معرفة هذا الهدف، يأتي صومك متعة حرمان بشكل حمية.

ليس عندنا أمر إلهيّ بالصوم في الإنجيل. ولكن عندنا ما هو أبلغ، أعني صيام المسيح في البرية عندما كان يجرّبه الشيطان. أما زمان الصوم وتنظيمه وأطعمته فرتّبتها الكنائس منذ القديم كلّ واحدة منها في خيارها حتى اصطلحت الكنائس على أن نخصّص فترة أربعين يوما للرب متهيئين للعيد. وقد فهم آباؤنا في خبرتهم الروحية وبعدهم فرويد أن لذة اللسان واللذائذ الأخرى مترابطة، وأنك إن استطبت كثيرا وفي شراهة او رهافة تذوّق ما يؤكل يجعل تشهّيك خطرا على النفس، وتدرك أن الانكفاء عن بعض طعام وعن الخمر يقرّبك من الهدوء، والهدوء الداخلي يهيء لك سبل الرؤية وربما سبل الرؤيا.

لذلك كان قومي الى عشرات من السنين يتناولون وجبة واحدة في اليوم بعد أداء صلاة الغروب، وهذا أمر تحدّث فيه القديس أبيفانيوس القبرصي في القرن الرابع، وكان ذلك قبل التشريع الكنسي الذي اتّخذ فقط في المجمع الخامس- السادس في اواخر السابع.

ثم استرخينا، ولانعدام النص المقنن، أخذنا نفطر عند الظهر، ولكن استسلمنا بالصلوات كلّ يوم اذ الصلاة عندنا هي الغذاء سألني أحدهم مرّة: ماذا تأكلون؟ قلت: «نأكل صلاة». لست أعلم اذا هذا المرء فهم جوابي ولكني أعرف حقيقة جوابي. كيف تدخل في الحركة الصيامية كلها وكيف تسوق نفسك الى ضياء الفصح ذلك كان السؤال، وإن لم تفعل هذا فأنت مستغرق في جسدانيتك حتى غور أخطائها. هل تريد أن تستبق الانبلاج لأنوار العيد لتعرف نفسك إن كانت ذوّاقة لعيد الأعياد وموسم المواسم أَم يكفيك تراكم الأيام تافهة عليك؟ هل أنت متململ حتى تجنح ام تقودك الأيام في حزنها؟

*        *

*

هناك غير البعد التقشّفي الفردي. هناك لصوقنا بالجماعة. نحن نصوم معا لكوننا نستقبل القيامة معا. انت تتطهّر مع الإخوة وفي سبيل الإخوة. نحب أن نعرف أننا جسد المسيح في الجهاد الواحد، في التوثّب الواحد انتظارا لليقظة الواحدة اذا حان حينها.

هذا يرافقه تتابُع مع الصلوات المفروضة وتلاوة الفصول الإنجيلية الموضوعة ولا سيما في الآحاد وهذا كلّّ مسبوك او منسوج لكي ما ترقى من درجة الى درجة في العبادة ومن العميق الى الأعماق لأن النفس الصائمة تحب أن تحب وأن تشفّ لتتقبّل النعمة الراضية عنها وتكونها في بلّورية السلام.

نحن نعرف أن آباءنا الذين رتّبوا القراءات يوما بعد يوم وأحدًا بعد أحدٍ وذكرى قديس بعد ذكرى إنما كانوا صوّامين يوصلون الصلاة بالصلاة والدعاء وبالدعاء، تعبهم راحة، وانتقاص الأشياء عندهم غنى لكونهم يستغنون بما ينزل عليهم ولا تفوتهم بركات ويبلغون نهاية عزمهم متحسّرين على انقضاء صوم مبارك.

ماذا نزل على أكابرنا حتى نسقنا كل هذا الجمالات خلال سبعة قرون وأن نلازمها بدا لنا الحياة. لذلك نتوب في هذا الصوم او نحاول. كيف نصبح ناسا جددا هذا كان السؤال. كيف تتحول وجوهنا الى وجه يسوع هذا يبقى الهمّ. في هذا يتبيّن ايمانك لأن بعض الإيمان مراس والمراس وحده برهان الحب. الكلام في الروحيات بعض روحيات ولكنه ليس كلها. الكل في المصلوبية التي تفرضها المحبة. وفي مصلوبيّتك تنتظر تفجر القيامة على رجاء أن تزول عتمات الخطيئة كلها.

في هذه الأربعينيّة المقدسة وفي تلألئها تشبه كنيسة الأرض كنيسة السماء. كيف تأخذنا الأشواق؟ الكلمات الخارجة من فم الله تصير هي الشوق والإقامة معًا. فالسماء تنزل عليك شرط صعودك اليها.

*        *

*

السماء تنزل عليك وعلى الإخوة الفقراء اذا أحببتهم اذ كان أحد العناصر التي أوجبت الصيام قبل تقنينه في القرن السابع أن ما يوجبه الصوم التصدق على الفقراء بثمن الطعام الذي يمتنع المؤمنون عن استهلاكه، فقد كتب احد الآباء المعروفين بالمُدافعين عن الإيمان الى الامبراطور داعيا إياه الى عدم اضطهاد المسيحيين وذلك في القرن الثاني اذ قال ما مفاده اننا نحن المسيحيين عندنا حسنة، وهو أننا نُمسك عن الطعام إن وجدنا بيننا فقيرا لا يأكل. وقد قال القديس يوحنا الذهبي الفم المتوفى السنة الـ 407 أن روما لم يبقَ فيها فقير وثنيا كان أم مسيحيا بسبب عناية المسيحيين بكل الفقراء. هذا ما يدلّ على ارتباط التقشّف الشخصي بالمحبة الأخوية. وما يدل على أن المسيحية مركّزة ليس على التطهّر الذاتي وحسب ولكن على التعاضد والتمسك الجماعي. هو التنسك من أجل الإخوة.

من الواضح أن روحية الصوم الأربعيني هي التي أثّرت في نشوء الأصوام الأخرى. توزيع الإمساك على فصول من السنة مختلفة يجعل لممارسة الصوم إيقاعات خلال السنة فيتربى المؤمن على الاعتدال ويحفظ نفسه في ما قلّ ليذكّرها بأن اهتمامها آخر. واذا جمعت هذه المواسم الى الإمساك يومَي الأربعاء والجمعة من كل أسبوع ترى أن معظم أيام السنة في الكنائس الشرقية صياميّ وما نتوخّاه من هذا أن نضبط النفس لئلا تستكبر.

«ادخُلوا من الباب الضيّق». تلك هي التوصية الضامنة للخلاص. المسيحية فعلية بحيث انها تسعى الى تطويع المؤمن لربه نفسا وجسدا وليست ضائعة بالتنظير والتخيّل. المسيح فيها حاكم للملكات البشرية كلها حتى تتناسق وتُنتج معا لتجعل الله سيدا عليها، واذا تواضعت أمامه يرفعها من الموت كما رفع حبيبه.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

كنيسة الخطأة / النهار، السبت ٧ شباط ٢٠١٠

عرّف المصلح الروتستنتي الكبير الكنيسة بقوله انها جماعة المؤمنين. عند القديس افرام السرياني عندنا تعريف أدقّ وهي انها كنيسة الخطأة الذين يتوبون. هذا يتضمّن اننا جميعا خطأة وان بعضنا يتوب. اما تعريف بولس الرسول وهو أدقّ منهما كليهما أنها جسد المسيح. انه هو رأس هذا الجسد المتكوّن منه والنازل منه، وهذا يستتبع أن ما نسمّيه الكنيسة كيانه المطلّ على التاريخ. انت من الكنيسة إن سكنك المسيح بمواهب روحه. هو إذًا يعرف من هم له ونحن نعرف بعضنا بعضًا بما يبدو أي بالمعمودية ومشاركتنا في المقدسات.

من هذه الزاوية ليست الكنيسة مؤسسة قائمة على تراتبيّة درجات او مناصب. هي حياة في المسيح كما قال الأب سرجيوس بولغاكوف العظيم. المنظور في الزمان والمكان مجتمع مسيحيين، تراكُم مسيحيين وهي رؤية في عالم الاجتماع اي ما يسمّى في لبنان طائفة قابلة أن تصير كنيسة اذا هذه الطائفة كانت تتحرك بالتوبة، اي اذا كانت تسير نحو مجد الله.

أنا وأنت نرجو أن نصبح من الكنيسة. وسيقول الله لك ذلك في اليوم الآخر. بانتظاره نحب بعضنا بعضا او نسعى، وإن لم نحب نبقى جماعة من الدنيا اي من السياسة، وليس لنا نصيب مع المسيح وليس هو نصيبنا. لذلك ليس في الحديث عن الكنيسة مكانة للعدد ولا للمال ولا للأوقاف. وأن يُعدّ المسيحيون حوالى مليارَي نسمة فهذا من باب علم الاجتماع وليس من باب اللاهوت. المسيحية نوعية وجود. في مجال الحق ليست الأجساد شيئًا. الى هذا ليست المسيحية عائلات ولا قبائل ولا رعايا منظمة إكليروسًا وعوامًا. هي الروح القدس فاعلا.

المسمّون مسيحيين بناء على معموديتهم فقط هشاشة لأن كل ما كان من العالم الهش. المسيحيون ليسوا من هذا الدهر. انهم من الدهر الآتي اذ وهبهم ربّهم المُلك الآتي كما يقول يوحنا الذهبي الفم في قداسه. لذا لا معنى لقول الناس ان موقف المسيحيين او بعض منهم هو كذا او كذا في سياسة العالم. المسيحية ليس لها كلمة في السياسة. قد تكون ثمة كلمة لمجتمع القوم المسمّى مسيحيًا. هذا لا علاقة له بيسوع الناصري. ما يُحزنني في بلدنا أن الطوائف المسيحية تتحدث في السياسة. هذا غير ممنوع عليها. غير أن هذا كلام يخصّها من حيث انها مجموعة من الدنيا اذ لم أسمع من زعيم من زعمائها أيّ ذكر للمسيح ولم ألحظ استقاء من الإنجيل.

يبقى أن هؤلاء المسيحيين غير الممارسين او الممارسين موسميا هم إخوتنا لكونهم معمّدين بالماء والروح او بالروح والنار. نهتم بهم اهتماما بالغا لأنهم خراف يسوع علموا أَم لم يعلموا. يستطيع الإنسان أن يجهل هويته. نقرأها له عنه يحبها فينتمي. الإنسان ينتمي الى الرب لا الى بشر. لذلك نسعى معا الى إصلاح ما يعتبرونه مؤسسة لأنها حاضن. والعبادات حضن واللاهوت المستقيم الرأي غذاء. كل شيء هو للإخوة.

عطاؤنا لا يمنعنا أن نتألّم في الكنيسة. قد لا تكون بيئة موجعة مثلها لأنك تتوقع الخطيئة في كل مكان وتتوقع أن تكون الكنيسة مكان البر. الذين ترجو منهم متعة روحية لا يصل اليك منهم شيء او يصل ما يخيب ويحزن ويعيدك هذا الى عزلتك في جماعة الرب. الكنيسة في واقعها التاريخي بشر والبشر واقعون في بشريتهم وهي عند بعض نتنة. عندما يصوم الرجاء يبتعد الكثيرون اذ كانوا يحسبون انهم يعاملون من عليه صبغة الله ولا تجد أية مسحة ألوهة على ناس فرضت عليك معاشرتهم واذا بقلبك يبكي في كل حين.

الجهالة الدينية في اوساطنا المسيحية مريعة. كيف يحيا ألوف من الناس بلا أدنى اطّلاع على أبسط أركان العقيدة؟ والمصلّون ماذا يفهمون من كلمات صلواتهم؟ هل نحن نجمع المؤمنين على مختلف أعمارهم ليذوقوا الإيمان ويحيوا به؟

هذا غياب. من المسؤول عن الجهلة ومن المسؤول عن تشويه الإيمان وعن تفه الكلمات التي يعرض بها. الجهلة ايضا أحباء يسوع. من يقول لهم انهم كذلك؟ يقول لنا علماء الإحصاء ان المسيحيين منذ ألفي سنة هم ستون مليار إنسان. هؤلاء كلهم ماذا عرفوا؟ ماذا فهموا؟ الى أين وصلوا بالحب؟

اذا كانت كلمة الله هي الإيمان اين كنا، اين نحن من الإيمان؟ بشر، بشر، بشر. المريع انك لا تجد إلها على الأرض. من مصلحة الناس أن يحسبوا إلههم في السماء اذا تربّع فوق هو لا يحاسبنا هنا. بلنأكل ونشرب لأننا غدا نموتا (1كورنثوس 15: 32).

من يشعر أن انطباق سلوكه على الكلمة هو كل حياته وأن ما دون هذه النوعية من الحياة لحم ودم ولهو وزينة. ولعل بعضا يتحرك وكأن الطقوس تعطيه كل شيء. عندي أنه في هذا التراث المسيحي او ذاك هي قمة الوجود او دسمه او فرحه. ولكن اذا سكرت في أشكالها ولم تمتصّ معناها لتُحوّلها الى نار فيك تصبح مائتة ومميتة. تنهي فيك التوثب الى أحضان الرب وتظلّ سجين هذه الأرض.

وتدخل في السجن اذا تحوّلت الكنيسة عندك الى مؤسسة. يهمك عدد الناس في طائفتك وأموالها وظهورها اليوم وأمجاد أمسها ومقارنة مجدك بمجد الآخرين. منافسة الأمجاد أنظومة دينية عند بعض بحيث تكون شاهدًا على ما هو بشريّ. تجمع في ذهنك وأحاسيسك ما يمكن تسميته دينا ولكنه ليس بالإيمان.

أجل لا معنى بلا شكل، بلا صورة وقد تكون الصورة غنية وكثيرا ما ذقنا الصورة ولم نذق معناها. قد تتعصب مثلا لما تسمّيه انت الأرثوذكسية ويكون شيئا بشريا بحتا لا علاقة له بالمضمون وتكون في الواقع مفتّشا عن نفسك، عن بقائك في هذا الدهر ولا سعي فيك الى ملكوت الله. أحيانا تصعد الى أطر الصورة اذ فيها جمال. تركّب لنفسك دينا جميلا ولكن ليس فيه روح الله ونعلنك ارثوذكسيا اذ ينبغي أن تنال جنازة أرثوذكسية تتوقع تأبينا لك فيها وتكون قد دخلت الكنيسة من بعد موت ليُقال عنك حسنا ولا سيما اذا كنت من كبار القوم. هذا الدين الحسّي يحمل في نفسه طيّات حياة وطيات موت ويُشيّعك كثيرون أرواحهم مائتة.

يبقى أن كل هذه الجماعات المهمّشة، المكسورة هي من إخوتك. انت لا تحكم على ما يبدو منها ولا تدين ولا تستعلي عليها. في رؤيتك اياها كثّف محبتك لها.  تدعو لها بأن تعرج على الله حتى تحبه يوما حبا كثيرا. تكون كانت بعضا من كنيسة الخطأة. تصبح بعطائك كنيسة خطأة تائبين وانت لا تعلوها لأنك ربما عدت عن توبتك. غير أني موقن أن من عرف التوبة يوما وسقط يعود اليها لأنه يعود الى نكهة ما ذاقه قديما في نفسه من جمالات الله.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الدينونة/الأحد 7 شباط 2010 / العدد 6

هذا هو أحد مرفع اللحم أي الذي نرفع بعده (يوم الإثنين) اللحم عن الموائد، وأُسّس هذا الأسبوع تمهيدا لدخول الصيام الكامل بعد أسبوع. ويُسمّى «أحد الدينونة» اذ نقرأ فيه إنجيل الدينونة كما ورد في متى. الحديث عن الدينونة يصوّر المسيح جالسًا على عرش مجده وحوله الملائكة القديسون ليقوم دائنا للجنس البشريّ، ويميّز، عند ذاك، الأبرار والأشرار، ويسمّى الأبرار خرافًا والأشرار جداء، بالنظر الى لونَي هذه الحيوانات. «ويُقيم الخرافَ عن يمينه». واليمين عند الشعوب الشرقية صورة عن التكريم، واليسار صورة عن الغضب.

بعد هذا يصوّر الإنجيلي حديثا بين يسوع والصالحين، وحديثا آخر بينه وبين الخطأة. للأولين يقول: «تعالوا يا مباركي أبي، رثوا المُلك المُعَدّ لكم منذ إنشاء العالم». أعدّ الله المُلك للذين يعرف مسبقا أنهم يستحقّونه بسبب أعمالهم الصالحة وليس لأنه شاء اعتباطا منه وتعسفا او بصورة كيفية أن يجعل ناسا في الملكوت وناسا في جهنّم. هذه الفكرة كانت منتشرة عند بعض المسيحيين اللاتين وكثيرا عند البروتستنتيين التابعين لمذهب كالفين Calvin الى أن تخلّى هؤلاء عنها في القرن التاسع عشر. نحن موقفنا أن الله ينظر مسبقا الى عمل الإنسان الذي يقوم به بحريته.

الى الصالحين يقول: «كنتُ جائعا فأطعمتموني… وبقية الأعمال الصالحة (عطشتُ فسقيتموني)». هنا يوحّد المسيحُ نفسه مع الجائع والعطشان والعريان والمريض والسجين، فكأنه كان هو جائعا في الجائع ومريضا في المريض وسجينا في السجين. يدمج السيد نفسه بالمحتاج الى خبز او كساء او تعزية. أنت إذا أردت أن تُقدّم شيئا للسيد قدّمْه للناس لأن يسوع جعل نفسه واحدا مع الناس. هو فيهم، وخِدمتك لهم خدمة له.

للخطأة يقول: «اذهبوا عني يا ملاعين الى النار الأبدية». هنا تأكيد ليس على وجود نار حسيّة. هذه صورة. ولكنه تأكيد على أن عذاب الأشرار في اليوم الأخير انصراف عن وجه الله. الله موجود امام الأشرار، وهم في حضرته، ولكنهم أعداء له. وجودهم في حضرته يكون عذابا لهم.

عمّا يؤاخذهم؟ «كنتُ جائعا فلم تُطعموني». انكم أهملتم الجائع والعطشان والعريان والسجين والمريض. انكم في الحقيقة أهملتموني انا. لم تشاهدوني في المساكين. انا في السماء، كيف تشاهدوني؟ ما من سبيل الى لقائي ما لم تُلاقوا المعوزين بمحبتكم. فإن لم تحبّوهم لا تكونون قد أحببتموني. الإنسان هو مكان لقائك بالله إنْ كنت حسنا، ومكان إهمالك لله إنْ كنت سيئا.

ينتج عن تصرّف الصالحين حياة أبدية، وعن تصرّف الأشرار عذاب أبدي لأن أعمال الإنسان تلحقه.

أرادت الكنيسة قبل أن تدخل الصيام أن نفهم أنه فرصة للقاء البشر بالمحبة. الله لا يهمّه إمساكك عن الطعام إلا لتُعطي ما لم تأكله الى الذي ليس عنده ما يأكل. فاذا حاكمت نفسك وسلكت صالحا لا يُحاكمك الله.

Continue reading