أن احذروا الغنى التي علّمها يسوع الناصري، بتعبير او بآخر، تدلّ على أن كلّ ما يفهمه الإنسان يزيده رونقًا او جمالا او فهما ويسرّ به او يعتدّ كأنه مُلك له. نحن لا نملك شيئا لأن كل ما نلتمع به ورثناه بتكويننا الجنيني او سكبه الله في النفس. مواهب من الطبيعة او مما فوق الطبيعة وانت استلمت وما استلمته لا فضل لك فيه. تحافظ عليه وتُنميه او تعطّله او تؤذي نفسك به ولكنك لست بشيء.
أفهم الجهد وأهميّته في تنمية العطايا ولكن اذا كانت تضاعيف دماغك غليظة فلن تصبح ذكيا الى الأبد، والتي وُلدت قبيحة قد تُسعفها عمليّة تجميليّة ولكن الى حد. تقبل نفسك كما انت فليس مصابا أن تكون قليل الفطنة وليست كارثة أن تكون الفتاة قبيحة الوجه إن كانت حلوة النفس، طاهرة السيرة.
الجمال لا ينتمي الى عالم القيم لنعترف له بمكانة في سُلّم القيم. هو مجرّد واقع لا نعرف له غاية الا اذا احتسبنا انه نافع في علاقة الجنسين اذا اجتمعا. ربما كان لله مقصد في هذا. هذا في عالم الإنسان وليس في عالم كل الأجناس. ولست أظنّ أنك تستطيع أن تتعمّق أكثر من ذلك. ربما أفاد هذا في عالم الشعر. غير أن القرآن حذّرنا من الشعر بقوله: «والشعراء يتبعهم الغاوون» (سورة الشعراء، 224)
لا يضرّ الإنسان أن يحمل جمالا جسديا ليس منه ولكنه مدعوّ أن يفهم انه ليس هو صانع هذا الجمال وأن الاعتداد به تاليا مرفوض لأنه نكران لعطاء الخالق واعتبار الجمال مُلكا لصيقًا بمن ارتداه وهو ليس أكثر من رداء. طبعا لا يملك الجميل قدرة على القبح، وعندي أن ليس عليه أن يشكر لله هذا الرداء الذي ارتداه لأنه موروث الطبيعة ولم يهبط من السماء.
الجمال خطر ككل غنى، خطر التصوّر أن المخلوق قد يأتي بديلا للخالق ويسرق فضله. قد يعي البهي بهاءه او لا يعيه. الوعي او عدمه في هذا المجال كلاهما تافه. كل هذا من عالم التراب.
مرّة كنت أحضر في روما تنصيب كردينال كانت بيني وبينه علاقة عمل في مجال تقارب الكنائس وكان للشماس دور عظيم في هذه الحفلة. ولما انتهى هذا من أعماله صرخ بهذا القول الكتابي: «هكذا يَعبُر مجد العالم» ليحذّر الشماس الكردينال من الاستكبار.
اذا نزل عليك مجد الله واعتبرته لنفسك تكون كمن حسب نفسه إلهًا اي تكون قد وقعت في الشرك. لذلك نقول في الرهبانيّة: «ان الراهب وهو بتول اذا فقد المحبة يفقد بتوليّته». انت فقير وبفقرك وحده تنظر الى وجه الله ليصير لك وجه. واذا حصل هذا لا تستطيع أن ترى وجهك، واذا استكبرت وأخذت مرآة لترى نفسك تصير لا شيء حسب قول مأثور عندنا: «من اشتهى انتهى». تنوجد انت بالفقر فقط. كل استعراض زوال للعارض لأن الله يُفني العارضين «حَطّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين، ملأ الجياع خيرات والأغنياء أرسلهم فارغين» (لوقا 1: 52-53)
المجد اذا نزل عليك من الله تعيه نعمة ولا تعيه مُلكا. فقد شاء الرب أن يُكلّلك به لقصد يعرفه هو ولا يكشفه لك الا اذا أراد أن تعي مسؤوليتك عند استلامه. من استلم النعمة فقير وعليه أن يعي فقره ليستغني. أما من نسب فضلًا الى نفسه فيمحوه الله. لذلك كانت خير صلاة صلاة التسبيح فهي تفوق دعاء الطلب او السؤال اذ فيه تنال ثم تشكر. اما في التسبحة فلا ترى الى نفسك ولكنك تنظر الى وجه الله فتحبّه وتصبح كلك حنانا.
# #
#
لعلّ ما يُغري حتى الفتك هو استلذاذ الذكيّ ذكاءه. وما كان ركيزة عقله هذا الدماغ الموروث وقد عمل هو على حرثه. من الكتاب الإلهي نعرف أن الشيطان ذكيّ ولعله سقط من غرور. اما الأعلون في البشرية المتقدسة فليس عندهم وقت ليروا الى أنفسهم اذ يُبصرون فقط وجه الرب. عنده أن من زيّنهم عقلهم ليسوا في نظر الخالق أدنى اليه من المحدودة عقولهم اذ لا فرق عنده بين الناس إلا تقواهم.
ليس ما يدلّ على أن من يسبر غور أسرار الكون يقترب من سر الله. هذه قضيّة قلب: «يا عبد كل شيء قلب» وهذا له ذكاؤه الذي يتصل او لا يتصل بالعقل. وعند آبائنا أن العقل لا يدرك حريته الا اذا نزل الى القلب فتَطهّر فيه ثم صعد الى مكانه. وعندنا أن هذا التلاقي لا يتمّ الا بنعمة من عند ربك وعندئذ يبدأ العقل رحلة التواضع. في هذا المقام تكون الطهارة قد بلغت ذروتها ومن بعد ذلك ليس الا الرؤية.
الذكاء فيه رئاسة وهو خطر ككل رئاسة وسلطان. هذه ليست دعوة الى أن تضربه لأن في ذلك لونا من الانتحار. انها دعوة اليه الا يعمل الا بدءًا من الكلام الإلهي المدعوّ أنت ان تصوغه ببراعة بشرية لا زهو فيها ولا اعتداد «ليكون الفضل لله لا لنا». ووظيفتك عند الناس ما عبّر عنه القرآن: «فذكّرْ انّما انت مُذكّر لست عليهم بمسيطر» (سورة الغاشية، 21و22) بمعنى أن ذكّر بالكلام الذي نزل من فوق وانت اياه مُبلّغ. استحسن الأسلوب. هذا شأنك وليس ربك ضد الإبداع البشري اذا صحّ اننا مبدعون.
قد يأتي الرد عليّ أن الذكاء جاء بالعلوم والفلسفة والآداب وما اليها وهذا جميل. الله لا يهمّه الجمال ولا يهمّه العلم. همّه الحقيقة التي فيك والقادر انت أن تعطيها. العلماء يقتربون من الحضرة الإلهية او لا يقتربون. الأذكياء ليسوا مضمونين من قبل الرب. هو يبارك فقط للفقراء اليه الذين يعرفون انهم يأتون من رضائه. هذا الذي يُكوّنهم مما يفوق كلّ عقل ووصف.
يؤثّر فيّ الغافل عن العلم اذا أتاه ربّّه علما لدُنِيا (بضمّ الدال وكسر النون) ينكشف له كل حب يعلو به. اجل يحتاج الإنسان الى أدوات المعرفة ليتدبّر أمور دنياه. وهو لا يتدبّر في العمق البشريّ شيئا إن فاتته خبرة المحبة التي ليس قبلها ولا بعدها شيء وهي التي تخلص الفطِن والغبيّ بالقوة نفسها. وكلاهما يُدان بالحدّة الإلهيّة الواحدة على فكرهما وأعمالهما.
لستُ أعرف روحانيا واحدا في تاريخ التوحيد احتقر العقل. ولكني أتعجّب دائما من الذين لا يعرفون حدوده ولم يسمعوا بسقطاته او بخطر استكباره. انا ما تكلّمت على القلب المائع بذاته. هذا هو ايضًا استكبار. ولكني كما أخشى صلابة الانفعال وعصبيّة القلوب أخاف من انغلاق العقل على ذاته. هذه ربوبيّة مشركة. اما اذا تذلّلت في حضرة الرب فتفتح أبواب العقل والقلب معا وتكون اتخذت لنفسك مقاما علويا هو مقام العشق.
ما أجمله موقفا للفاهمين أن يساووا أنفسهم بمن دونهم فهمًا اذ يكونون قد شهدوا أن الخلاص هو المحبة. وهذه هي التي دبّرت العقل عند بدء المعرفة في الحضارة التي ورثنا.
كلّ آبائنا قالوا إن الخطيئة الأولى والكبرى الى يومنا هذا هي الكبرياء التي اذا حللتها كانت خلع الألوهية عن الله لكونها عبادة للذات. اما اذا تقبّلت العقل الإلهي فيك تتأله كما يقول الروحانيون في كل مجالات التوحيد. هؤلاء وحدهم يحقّقون في ذواتهم: «قل هو الله أحد» (سورة الإخلاص، الآية الأولى). أما من أقام نفسه منعزلا عن الحكمة الإلهية فينسب الفهم الى بشريّته وحدها.
الجمالات التي هي فقط من الدنيا بما فيها الجسد ولذّاته وسلطانه ورونقه انما هي في حقيقتها زينة لأهل الدنيا وتذهب بهم كما تذهب بدنياهم اي الى التراب اذ كانوا ترابيين. اما الذين استضاؤوا بالنور الإلهي فيصيرون قامات من نور ويعرفهم ربّهم على أنهم له الآن والى أبد الآباد. هؤلاء يقومون فقط أمام الله ويجيئون منه الينا ونحيا ببركاتهم.
Continue reading