منذ خمسين سنة تقريبا كنت اتمشى مع والدتي ونسيبة لها امام الجامعة الاميركية في بيروت. وكانت هذه المرأة تنتمي الى هذا الرعيل الذي سبقنا، المولود جسديا في الكنيسة الارثوذكسية وتقلب على غير بيئة فكرية فسألتها: هل تؤمنين بالله. اجابت نعم اؤمن بأن هناك قوة فوق العالم. ثم سألتها: هل تصلين. قالت: لا. قلت لها: “انت لست بمؤمنة”. اذ الايمان يبدأ باعتقادك ان هذا الاله الذي فوق الكون يتصل بك وانت تتصل به. وهذا ما يسمى الصلاة. لا ايمان بلا وصل.
اظن ان الملحدين بمعنى الكفر الكلي بالخالق قلة في لبنان. ويمكن كتابة تاريخ الجحود الكامل في هذا البلد من بعد نشوء المتصرفية ولاسيما عند جيل سبق الحرب العالمية الاولى. رغم ذلك يبدو لي ان معظم الناس متدينون (او كما كان ينقح لي المغفور له الشيخ صبحي الصالح دائنون) لا بمعنى انهم ملتهبون جميعا بالعشق الالهي ولكن من حيث ان لهم علاقة بالله عن طريق الصلاة او الدعاء. غير اني اود، وبلا محاكمة للنيات، ان افحص قليلا طبيعة هذه العلاقة في الوسط المسيحي لاني اعرفه واتفحصه بمقاييسه.
اعتقادي الجازم ان الوثنية ما ماتت بدخول الانجيل هذه البقاع. هذا يذكرني بجملة رائعة قالها لنا، طلابا في باريس، قرب السوربون، الاب جان دانييلو رحمه الله: “انا وثني فرنسي احاول ان اتنصر”. نحن ايضا وثنيون كنعانيون تلقى بعضنا الانجيل بعمق وتلقاه آخرون بحيث حفظوا في قلوبهم عبادة عشتروت (الجنس) وبعل (القوة) ولم يلتقوا اله المحبة المصلوبة، الغافرة، الحية ابدا والمحيية. واقاموا الصلاة مغلفة بالبهاء الامبراطوري البيزنطي عند بعض وبأشياء اخرى عند بعض. ولكن ما رأوا الرب المدمّى ولو حكت عباداتهم عن الدم المهراق. لعل هذا يمسهم عاطفيا مرة في السنة ولكن الاحتفالية المفرطة في الجمال من شأنها ان تغطي سر الحب الالهي وجرحه القلب البشري. وما اريد به استنزال الله (ولا يعني الدعاء اقل من ذلك) تسطح في مجتمعية العبادة. ما من شك ان صلاة الجماعة في كنائس التراث لا بد لها ان تؤدى افقيا فالاخوة مرصوفون اليك وهناك لغة لتنزل اليها موحدين وموسيقى محسوب لها ان ترافقهم. ولكن الجماعة يمكن ان تتسطح وتتفه في حين ان كل هذه العمارة الطقوسية يقصد بها ان يسمو قلب الفرد (وهو دائما منفرد) الى وجه الله المبارك.
غير ان القلب بما اصطلح عليه الساميون لا يعني مركز الشعور ولكن مركز الفهم. والخوف من الصلاة، أوحده كان المؤمن ام في الجماعة، ان ينتظر العواطف تحرك احشاءه، ان يحس بحضرة الله وما الى ذلك من مشاعر. وليس هذا هو المبتغى اذ المبتغى وحده ان تؤم بصلاتك كلمة كلمة وان تتعهد الطاعة وليس المطلوب ان تلتهب عشقا لله نتيجة صلاتك اذ قد يكون هذا وهما كبيرا يحجب وصلك الحقيقي بالله. في هذا السياق قال لي مرة كاهن ليس من كنيستي في حلقة مسكونية: انت في وعظك وفي ما تكتب لا تقصد ان تحرك العاطفة. قلت له اصبت وهذا مقصود لأن الكلمة الالهية فيها وحدها قوة التحريك الوجداني ولو حاولت ان احرك مشاعرك بكلمات من بلاغتي لكنت مضيفا شيئا على الكلمة الالهية.
اذا دققنا في اهم صلاة عند المسيحيين وهي القداس لوجدتم ان الاناشيد التكوينية لها مثل قدوس الله وما بعدها عندنا وعند الموارنة وما يهيئ للتلاوين (الرسائل والانجيل) والقانون الشكري الذي تسميه العامة الكلام الجوهري لا تتوجه الى العواطف ولكن الى ما هو اعمق منها اعني الايمان اي الى هذا الالهي المنسكب علينا. فالنعمة تستجيب للنعمة كما اللجة للجة. ان ابتعاد الموارنة عن اللوحات الدينية المتأثرة بالنهضة الايطالية والتماثيل للدليل الاكبر على ذلك وتبنيهم الايقونة السريانية او البيزنطية (والعودة لم تكتمل) انما هو الدليل الاكبر على اكتشافهم الفن الالهي المبني على جلال المسيح وتجليه. والحاح الارثوذكسيين على اللحن البيزنطي التراثي النسكي الملامح انما هو ايضا عندهم الاشارة على انهم يلتمسون الارتفاع الروحي الصرف الذي يأبى شهوانية الطرب.
ولكن في هذه الكنيسة او تلك تعبد جانبي لا تخلو منه الكنيسة البيزنطية وهو اقوى عند غيرها حيث تسومح بالهياج العاطفي ولاسيما ما يتعلق بمريم. واقل ما يقال فيه انه يجانب الاعتدال الطقوسي والاتزان العقائدي. ربما اتى هذا من ان الجمهور تعب من الوجه التعليمي في العبادات اذ يقوم على صحوة كبيرة وعلى علم والجماهير تريد ان تثار عواطفها ظنا منها ان الله هو المحرك. ويزين لي ان السلطة الكنسية الواعية خطر هذا التعبد الجانبي مدعوة الى مقاومته ولا تطمئن الى ان هذا الجمهور العددي يعني ان هذه الحشود تقية. انها ليست تقية لكونها تعبد إلهة المشاعر عشتروت المغلفة باسماء القديسين.
***
الفن خطر والكلمة خطرة وانا لا ادعو فقط الى ان تنحصر عباداتنا بالمزامير وتلاوة الكتاب الالهي. ولكن لنا تراث الآباء الذين حتى في كتاباتهم الشعرية ما حادوا عما “دفع مرة للقديسين” وما سعوا الى طرب الذهن ولا القلب. انا لست ادعو الى تأليف خدم الهية جديدة بالكلية بالنسبة الى ما تسلمناه من الاوائل وان انت بنيت عليه ما يوافق احساس اهل العصر وهمومهم وهذا مبتغى.
انت لست مركزا على ما فيك اليوم او ما عندك في حضارة اليوم لان هذا قد يقود الى تمجيد الذات والى ما هو اقرب الى البشري. والتراث الذي انتقل الينا انما هو الهي وهذا ما ينبغي المحافظة عليه ولو البسته حلة جديدة. المهم ان تؤمن بما ورثت ثم ان تشذبه مما علق به من زوائد موغلة في بشريتها او لحميتها وان تذهب بما اوتيت الى حضرة المسيح الآتي اليوم وغدا والذي ينتظرك في اليوم الاخير. انت تعبد الله الذي كشف حضرته وجه يسوع وانت سائر اليه. العبادات على قدمها تذهب بك الى الاله الآتي اليك كل يوم. اليوم تعبر عنه في الطلبات التي ليست العابد مضطرا على كلماتها الثابتة. يمكن ان يغيرها لتوافق هواجسه اليومية. الثابت هو سر القربان النازل الينا بالروح القدس ويأخذنا الى يوم ربنا يسوع المسيح في تجليه الاخير.
نعبد الله في الآن ولكنه آن الله. التاريخ المنا. نحمله ولكنا نملأه بالابدية والا كان زمانا مكرورا وفارغا. نحمل العابر لنقدسه ولكنه لا يأسرنا لان ما نطلبه اولا هو ملكوت الله وبره اي هذا المديد والعميق معا. ومن ادرك سر الملكوت يكون قد استوعب معنى الصلاة.
ماذا يعني ان الصلاة جميلة؟ اسمع الارثوذكسيين يقولون: كان القداس جميلا. ما معنى ذلك عندهم؟ على ما اتصور ان الاصوات كانت جميلة وان اداء الكاهن كان كذلك. عندما اسمع هذا الكلام اقول لهم: كل قداس جميل وانا اعني ما قاله افلوطين: “الجمال للنفس ان تجعل نفسها باطراد شبيهة بالله”. ذلك ان خبرة الجمال هي دائما خبرة الحق. وفي هذا كان غوغول يقول: “اذا الفن لا يأتي بأعجوبة تحويل نفس المشاهد لا يكون الا هوى عابرا”. الجمال هو الجمال الفصحي اي رؤية الحق وسط آلام المسيح ومشاركتنا هذه الآلام ان نحن اصبحنا نورا. المسيح تنازل اليك لترتفع انت به. وفي هذا يقول الرسول: “ونحن جميعا نعكس صورة مجد الرب بوجوه مكشوفة كما في مرآة، فنتحول الى تلك الصورة، ونزداد مجدا على مجد” (2 كورنثوس 18:3).
الصلاة عن الفرد وفي الجماعة هي تلك المسيرة القيامية. هي انحناء الله عليك في محبته الثالوثية وتصاعدك اليه. هنا ندرك رحمانيته وحنانه. بهذا انت مؤن اي بهذا يصبح الله مأمنا لك وتصير انت محضونه واذ ذاك ترتفع على صدر المعلم لتسمع نبضات قلبه فتصير هي فهمك الكياني اي عقلك الحقيقي.
Continue reading