Monthly Archives

September 2003

2003, مقالات, نشرة رعيتي

صائد للناس/ الأحد 28 ايلول 2003 / العدد 39

بعد اعجوبة الصيد العجيب التي هي موضوع الإنجيل اليوم، اخذ سمعان بطرس يعترف امام المعجزة انه رجل خاطئ. اذ ذاك قال له السيد “لا تخف”، وربما اراد لا تخف خطاياك “فإنك من الآن تكون صائدًا للناس”. فذهب الرسول الى العالم حاملا هذا الكلام. كلام السيد لبطرس هو كلام الى كل مؤمن يشهد بالقول ويشهد بالفعل. ولكنه مسؤولية الكاهن الخاصة وهي لا تنحصر برعيته اذ يتكلم حيثما يشاء. ولكنها تتجلى في هذا القطيع من الخراف الذي أوكل اليه. وهذا ما نسميه الرعاية.

         الرعاية دائما بكلمة الله ولعل مكانها الاول الموعظة. هذه تسمى عند الشعب تفسيرا للإنجيل او توضيحا. انها ايصال الإنجيل الى رعية يدعوها الكاهن بأسمائها. الى هذا بعض من الافتقاد. وهنا لا بد من القول ان المجامع المسكونية فرضت العظة جزءا من القداس ومن كل خدمة إلهية. من هنا اني ارجو المؤمنين ان يستمعوا اليها ولو اعتبروها ضعيفة اذ لا بد لهم ان ينتفعوا روحيا من جملة واحدة.

         الشيء الأخير ان الخطابة، دينية كانت ام  غير دينية، من اصعب الفنون الأدبية لأنها موهبة، وفي الكنيسة هي موهبة من الله. وليس صحيحا ان الذي غاص في اللاهوت تأتي عظته اقوى من كاهن لم يدخل الجامعة. غير اني سأحاول ان انتبه الى تذمر بعض المؤمنين لأساعد الكهنة على وعظ أفضل. فاحتملوا بعضكم بعضا. لا تحل المشكلة بسكوت الكاهن ولكنها تحل بتحسين الأداء.

         الأمر الآخر انه ينقصنا عدد كبير من الكهنة. فاذا غاب احدهم عن المسرح فهذه مشكلة كبرى. وبكلام ابسط لا بد من ان تراعوا كاهنكم ان اردتم ان تبقى الكنيسة مفتوحة. عندنا طلاب لاهوت ولكنهم لم يتخرجوا بعد.

         ان تراعوا الكاهن هو ان تتوقعوا ان يخطئ بكلمة او بتصرف ربما ان يغضب احيانا او يمل او يتراخى. هو بشر فلا تعاملوه كأنه ملاك ولن يصير. واجبه هو ان يقترب من الحالة الملائكية، وواجبكم انتم ان تتصرفوا تجاهه كما يتصرف الابن مع ابيه الجسدي. فالوالد يخطئ وتراعون طبائعه او شيخوخته وتظلون ابناء.

         الكاهن مفروض ان يتذكر انه اب وان كل الرعية ابناؤه. له الحق ان يُسَرّ بكبار التقوى والأعظم طهارة فإنه يتعزى بهم، ولكن ليس له الحق ان يتحيز. انا اتمنى على الكاهن الا يكون صديقا حميما لعائلة. غير انه لا بد من التأكيد ان الرعية يقودها هذا الرجل الى الخلاص وان العلمانيين ابناء وبهذا المعنى ليسوا متساوين مع الكاهن. هناك قيادة روحية وإشراف على كل الأمور على الا يكون الكاهن متسلطا لأنه عند ذاك يخسر مكانة الأب.

         هناك كلمة تتردد احيانا على مسمعي: “لا نريد الخوري ان يتدخل بشؤون الضيعة”. السؤال ما شؤون الضيعة؟ اذا كان المراد بذلك تحيزه لهذا المرشح او ذاك لمنصب المختار او منصب رئيس البلدية، فهؤلاء على حق. ولكن اذا كان القصد الا يتدخل في شؤون البناء او الا يرتئي رأيا بشأن المال والفقراء والمرضى، فليسوا على حق.

         اجل هناك امور مهنية تتعلق بالوقف يكون هو حكيما اذا استمع الى اهل الخبرة. مرفوض الكلام القائل ان مدى الكاهن هو الهيكل وانه خارج الهيكل لا حضور له.

         ينبغي ان يتربى المؤمنون على ان لهم أبا عيب إسكاته وعيب تعنيفه وعيب اعتباره موظفا. كذلك ينبغي ان يتربى الكاهن على ان له ابناء بعضهم لطيف وبعضهم قريب من القسوة. هكذا يكون اللقاء في المسيح.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

امتداد الصليب/ الأحد 21 ايلول 2003 / العدد 38

ليس من حدث خلاصي إلا وله صدى في مسلكنا. العيد ينزل فينا حياة ونهجا فبعد الفرح تطبيق. هذا يتحقق اليوم في هذا الأحد الذي بعد رفع الصليب. القراءة الإنجيلية من مرقس ونستهلها بقول المعلم: “من أراد ان يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. “من أراد ان يتبعني” لأن المسيحية دعوة، ولكن اذا ارتضيتها فهي تلزمك بأشياء قاسية لأن المسيحية جدية وتتطلب كل قلبك، كل وجودك. من هنا قوله: “فليكفر بنفسه” او ليزهد بنفسه متخليا عن أنانياته وشهواته كلها. هو لم يقل فليترك مالا او بيتا، فقد تتركهما وتبقى محور ذاتك. تضرب ميلا مؤذيا فيك الى ميل مؤذٍ آخر في حين ان المطلوب ان تضرب التمحور حول ذاتك لتتمحور حول المسيح، أن تتحرر من كل ما يعرقل سيرتك الى يسوع.

            “يحمل صليبه ويتبعني”. طبعا هنا ليس المقصود ان تتزين بصليب من خشب او ذهب او فضة في عنقك. النص اعمق من هذا. المبتغى ان تتحمل من يضايقك وتحسه نيرا عليك ويزعجك يوميا، وهذا قد يكون من الذين يعيشون في بيتك او هم زملاؤك في العمل وآخرون. حتى متى تتحملهم؟ يقول “يتبعني”. الى اين سار حتى تمشي وراءه. انه لقد سار حتى الصليب. انت تمشي وراءه حتى لو أحسست بأن هذا الخصم او ذاك (وقد يكون قريبا لك) انما يميتك معنويا او يريد ان يسحقك بمصالحك او يخل في حياتك العائلية. تصبر وتغفر حتى النهاية.

            ولهذا قال: “من اراد ان يخلص نفسه يهلكها” بمعنى انه يبذلها تضحيات وسهرا ويلقي على نفسه أثقالا كثيرة. خلاف ذلك فيه ربح للعالم، للعالم الخاطئ. لذا يتابع السيد: “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه”. المال ربح كبير. الوجاهة كذلك. الكيد ايضا. في نظر اهل الدنيا ان عملت هذا انت فهيم. ولكن في نظر الروحانيين هذا هلاك للنفس، للذات العميقة التي تلتقي فيها المسيح.

            هذا يعني بالتأكيد ان تكون مصلوبا (ولو كانت صحتك جيدة). وهذا يعني ان تكون مصبا لآلام يسوع فيك وتاليا مطرحا لمجده. عند ذاك فقط لا تكون مستحييا بيسوع وبكلامه اذ تكون مؤديا للشهادة. ليس مَن تلا دستور الايمان يكون شاهدا للمسيح. انه لضروري ان يكون ايمانك موافق الدستور. ولكن في الأهمية نفسها ان تتشبه بالمسيح، ان تصبح ايقونته. وايقونته الكاملة هي ايقونة الصلب لأنها تعبر لنا عن محبته لنا وتقول ان هذا الصليب هو المكان الذي تمجد فيه الآب.

            لماذا الإصرار على الصليب؟ ذلك ان بعضا من الناس يريدون ان يتوبوا عن خطيئة واحدة فيهم وليس عن كل خطيئة، او يريدون ان يغفروا لبعض الناس لا لكلهم. المسيحية لا يمكن ان تتجزأ. انها عمارة كاملة. وانت تعتنقها كاملة. تضم اليك جميع الناس كما امتدت ذراعا المخلص الى أقاصي الأرض ليجمع الى نفسه كل المعذبين ويصعد بهم الى الآب. انت اذا تجردت عن اشتهاء هذه الدنيا تكون قد تسمرت على صليب المخلص وقدرت ان تحب البشر جميعا وتصعد بهم الى الآب.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

الله أم أنا / السبت 20 أيلول 2003

في المصطلح المسيحي ليس من فرق بين الدعاء (الفردي) وصلاة الجماعة (القداس وما يقام مما نسميه خِدما إلهية) التي تقوم بها “الأمة المقدسة” معاً. في الكنائس التي لم يعبرها الإصلاح البروتستنتي هي متشابهة مثل صلاة السحر وصلاة الغروب وهي سبع في الكنيسة البيزنطية وكثيراً ما جمعت الواحدة إلى الأخرى عندما تكون متقاربة في الزمن. صلاة الجماعة تسمى خِدما وفي اليونانية ليتورجية وكانت تطلق في اللغة اليونانية القديمة على خدمة الضرائب أو العمل الرياضي المشترك. ففي الليتورجية يكون الإنسان في خدمة الله. ولكن في الفلسفة المسيحية ليس من فرد منعزل عن الأمة بسبب من المشاركة الروحية بيننا وكون هذا الشعب المنتمي إلى الله هو ما نسميه جسد المسيح. فسواء أدعوت ربك في بيتك وفي الشارع أم في قيادتك سيارتك أنت مع الإخوة. أنت من الكنيسة أي من هذه المعية التي يؤلفها المسيح وأحباؤه.

فإذا انتصبت مصليا وجهك هو إلى الله وكلماته فيك هي التي تنشيء وجهك الروحي، هذا الذي ينتقل من مجد إلى مجد بقدر ما يتنزل عليك النور الإلهي.

فلسفة ذلك أولاً إدراكك انك تجيء من الله ومعرفة الشعب الإلهي إن الله جمعه وأعطاه كيانا، كيان الذي ينظر إلى الله إذ يتكون برؤية الله إياه. من هذه الزاوية تكون الكنيسة لا طائفة مجتمعية ولكنها حركة الذين قال الله لهم: “سأكون لكم إلها وستكونون لي شعبا” (ارميا 23:7 وحزقيال 28:36). لم يقل الرب للنبي: أنا إلهكم ولكن سأكون لكم إلها فاني أنا هكذا لكوني راحمكم كل حين. الله لم يحدد نفسه بطبيعته في كلامه لموسى في العليقة ولكنه حدد حركته. مقابل ذلك انتم لستم شعبي ولكنكم ستصيرون كذلك إن عرفتم أني أراكم وإنكم تطلعون من رؤيتي. لذلك عندما تكلم الله على بني إسرائيل في كتاب هوشع إنهم شعب زانٍ (أي عابد للأوثان) قال “إنكم لستم شعبي وأنا لا أكون لكم إلها” ثم بعد هذا يقول: وسيكون في المكان الذي قيل فيه “لستم شعبي” انه يقال لهم فيه “أبناء الله الحي”.

العلاقة علاقة حركة تأتي من نعمته علينا ومن إيماننا به فإذا نظرنا إليه نكون عائدين إليه وان لم ننظر إليه لا نكون شيئا. هو يتحرك فنتحرك.

العودة إلى الله جزء أساسي من خطبة الوداع، هذه التي ألقاها المسيح على تلاميذه بعد العشاء السري عشية الآلام. جوهر الكلام أني ذاهب إلى الأب. وعلى الصليب “يا أبتاه في يديك استودع روحي”. وفي الرؤية الأخيرة للتاريخ يقول: “ثم يكون المنتهى حين يسلم (أي المسيح) الملك إلى الله الآب” (1 كورنثوس 24:15). الآب هو نقطة المنتهى وقلوبنا إليه.

***

          وإذا كان الزمان ينتهي عند الآب فالبدء أيضاً منه. ولذلك هو يرسل إلينا روحه في بدء كل صلاة وبلا هذا الروح لا نستطيع أن ندعو. “فالروح هو الذي يشفع فينا بأنات لا توصف”. فحياتنا الجسدية وحياتنا الروحية كلتاهما مجيء منه وعودة إليه. أما ماذا نفعل نحن بهذا؟ الجواب عن هذا السؤال نابع من تمييزنا بين صلاة طلب أو سؤال وصلاة شكر وصلاة تسبيح. المشكلة في صلاة السؤال فالشكر لله واتجاهنا إليه والتسبيح هو الاتجاه المطلق. أما المشكلة فتأتينا من الطلب. عندما يلح يسوع على أن نطلب أولاً ملكوت الله وبره فلمعرفته أننا نغرى بالتماس شؤون الدنيا كالطعام والمال والصحة وما إليها. هو لم ينهنا عن طلبها ولكنه أصر على طلب الملكوت أي سيادة الله علينا بالفضائل ثم قال: “والباقي يزاد لكم”. ماذا يفعل، إزاء هذه الوصية، معظم الناس؟ هنا في لبنان “صحتك بالدني”. وكان المسيح تهمه عافية المرضى وشفاهم من حنانه. ولكن قد يشفيك الرب أو لا يشفيك إذ قد تكون في الأوجاع أقرب إليه. هو وحده العارف بذلك. التمس أنت العافية ولكن لا تعتبرها كل شيء ولا أغلى شيء. ولكن بالله عليك إن لم تكن واقعا في فقر مدقع وما كان أولادك جياعا فلا تطلب ان تزيد ثروتك لأن زيادتها قد تؤذيك. لا تطلب أجمل عروس في بلدك لأن جمالها قد يؤذيك. كن فقيراً إلى الله في كل شيء لأن الغنى على أي صعيد قد يسمرك على نفسه. قد يسكرك الجمال وتسكرك الثروة ما في ذلك ريب. وحتى تصحح صلاة السؤال لا تنس الشكر بعدها إذ به تعترف أن ما نلته إنما كان برضاء الله عليك وعلى رغباتك الصالحة. واعبر من السؤال والشكر إلى التسبيح لأن الله يتخذك فيه ويسحرك بوجهه.

          خشيتي من الطلبات وهي في الكنيسة كثيرة أن تقف عندها بحيث تعتبر أن الله مسخر لك ولما تشتهي. أنا لست أقول: لا تطلب. ولكني أقول أن تطلب الصالحات وما ينفع خلاص نفسك. وإذا طلبت فتيقظ دائما حتى لا يصير شأن دنياك بما فيه شأن صحتك مشتهاك الأول. أخشى أن تحيد عن الله إلى هذا العالم، أن تصير أنت المرتكز وكأنك جعلت الله في حالة سخرة. أهل عهد القديم كانوا يحسون بأن الله راضٍ عنهم إذا اقتنوا بقراً وغنماً وما إلى ذلك أو أرضاً. نحن كل هذه لا نسميها بركات في العهد الجديد. ولذلك تجرحني إذا تكلمنا على غني هذه العبارة: “الله أنعم على فلان”. ما الدليل على ذلك؟ وإذا قال السيد إن دخول الغني ملكوت السموات عسير فهل يزيدك ربك من رزق الأرض ليجعل دخولك إلى السماء عسيراً؟

          الله ينعم فقط على الذين يحسنون كثيراً لأن قلبهم مفعم بحب الفقراء. والباقي كله حذق في الأرض وفي تملكها. السؤال إذًا هو هذا: هل أنا مركز الصلاة أم إن الله مركزها. الرب يقودك إليه فلا تتصرف وكأنه ينقاد إليك. هو يستمتع بك ويفرح ولا مانع أن تفرح باستجابته أي سؤال منك على أن تذكر رحمته ولا تسر إلا لكون استجابته قد قربتك إليه. في حالة واحدة لك أن تفرح بكسب المال وهو انك تعده للفقراء أو لأولادك الجائعين أو بسبب من عوز شديد. لا تفرح باستعادة صحتك إلاّ لكونك رأيتها عطاء من فوق يمكنك من خدمة أوفر لمجتمعك. هذا ما يؤهلك ألا تبقى مركزاً لصلاتك. فإذا وقعت بمركزية الأنا تفسد صلاتك وتصبح معبوداً في عينيك.

          فليكن رجاؤك إذًا أن يصبح الرب إلهك بالمعنى الذي شرحنا في البدء أي أن يكون دائما في حركة إليك إذ الخوف أن يغض طرفه عنك إن أنت أهملته فلا تستحق نظره. لذلك نصرخ مع داود النبي المرنم: “لا تصرف وجهك عني لئلا أشابه الهابطين في الجب”. أنت في الجب إن صرت منسي الله. أما إذا رفعت إليه عينيك ففي عينيك المصليتين سحر له. أنت قادر على أن تجلب الله، أن تستسلم إلى خطفه إياك. ولكن إن حولت وجهك إلى ذاتك وأهملت وجهه تصير عمود ملح كامرأة لوط. هي التفتت إلى الوراء أي إلى عدم السير. انه لانقطاع سير أن تنظر إلى جوفك (المال والصحة وما اليهما). ليس سيئاً أن تحلو لك الاستجابة ولو في أمور دنياك ولكن ما هو أحلى بكثير بعد الاستجابة أن تنساها وتشكر وتتهلل وان تبارك الله وتسجد. والسجود يعني شيئا واحداً انك اعترفت انك لست بشيء وانك راغب في أن تصير شيئا فقط في عينيه.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

استعدادًا لعيد الصليب/ الأحد 7 أيلول 2003 / العدد 36

اليوم الذي نحن فيه هو الأحد الذي قبل عيد رفع الصليب. الرسالة والانجيل مليئان بمعنى العيد وبأعماقه. القول البارز في الرسالة الى اهل غلاطية هو: “اما انا فحاشى لي ان افتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالم لي وانا صُلبتُ للعالم”. اننا اذا قبلنا خلاص المسيح يكون العالم بما فيه من شر مصلوبًا عندي، ملغى، ميتًا ولا شركة لي معه. كذلك أصير انا مصلوبًا عند العالم، اي يعتبرني أهل هذه الدنيا الأشرار والمرتكبون الشر على اني ميت، لا فهم لي ولا إحساس. الذين هم للمسيح قد يكونون يهودًا وقد يكونون من الأمم. لا فرق لأنهم بالمسيح يصبحون على انتماء جديد، يصيرون خليقة جديدة.

            ثم ينهي بولس رسالته الى اهل غلاطية بقوله: “اني حامل في جسدي سمات الرب يسوع”، والسمات او العلامات التي يشير اليها الرسول هي الآلام التي تكبدها ويصفها في رسالة اخرى ولعله يتكلم عن مكافحته للخطيئة.

            اما القراءة الثانية فاقطفنا لها فصلاً من إنجيل يوحنا، ويوحنا أفصح من تكلّم عن معنى موت السيد. يبدأ المقطع بالكلام على الآتي: صعود المسيح الى السماء (من بعد موت وقيامة) انما كان من بعد نزوله اي التجسد. وهو، مع كونه تجسد، بقي في أحضان الآب. الذي سكن أحشاء مريم كان في الوقت نفسه مالئًا الكون. ثم يتحدث عن رفع ابن البشر اي عن موته. ثم شبه الإنجيلي رفع المسيح على الخشبة الى رفع موسى الحية النحاسية على سارية في البرية “فكان اي انسان لدغته حية ونظر الى الحية النحاسية يحيا” (عدد 3: 9). الفكرة ان من ضربه الشيطان بالخطيئة انما يُشفى اذا نظر الى المصلوب، “لكي لا يهلك كل من يؤمن به” (اي لكي لا يهلك اي من يؤمن به بل تكون له الحياة الدائمة).

            بعد هذا تأتي الجملة المحورية: “هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد”. هذه قمة المحبة الإلهية. بعد ان كان الله يفتقدنا بالأنبياء، افتقدنا الآن بذاته اذ أرسل ابنه الحبيب لكي يكشف لنا سر محبته بالموت. الإله يأتي بكل قدرته ومحبته القائمتين في الابن ويدخل بهما نطاق الموت فيدمر الموت من داخله. اذ عندما دخلت الحياة الإلهية الى ما هو ضدها طردت البشاعة الروحية وحلّ محلّها الجمال الروحي واستأصلت الشر من قلب الانسان لما عرف انه حبيب الله. هذا هو سرّ التوبة انك لن تعود تتكئ على صدر يسوع الا اذا عرفت انك حبيبه. واذا دخل الحب العالم لا تبقى علاقة المسيح بنا علاقة ديان بل علاقة مخلّص.

            المخلص تعني انه الذي يعتقنا – إن آمنّا به وارتضيناه سيدًا علينا – يعتقنا من الخطيئة. الفداء في لاهوتنا هو التحرير. لست انت بعد تحت وطأة الخطيئة وتكبيلها وعبوديتها. انت انسان جديد وهبك الرب موهبة التجدد بنعمته من بعد كل سقطة.

            لهذا اليقين ينبغي ان نتهيأ للعيد المقبل علينا الأحد القادم.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

انحناء الله عليك / السبت 6 أيلول 2003

منذ خمسين سنة تقريبا كنت اتمشى مع والدتي ونسيبة لها امام الجامعة الاميركية في بيروت. وكانت هذه المرأة تنتمي الى هذا الرعيل الذي سبقنا، المولود جسديا في الكنيسة الارثوذكسية وتقلب على غير بيئة فكرية فسألتها: هل تؤمنين بالله. اجابت نعم اؤمن بأن هناك قوة فوق العالم. ثم سألتها: هل تصلين. قالت: لا. قلت لها: “انت لست بمؤمنة”. اذ  الايمان يبدأ باعتقادك ان هذا الاله الذي فوق الكون يتصل بك وانت تتصل به. وهذا ما يسمى الصلاة. لا ايمان بلا وصل.

اظن ان الملحدين بمعنى الكفر الكلي بالخالق قلة في لبنان. ويمكن كتابة تاريخ الجحود الكامل في هذا البلد من بعد نشوء المتصرفية ولاسيما عند جيل سبق الحرب العالمية الاولى. رغم ذلك يبدو لي ان معظم الناس متدينون (او كما كان ينقح لي المغفور له الشيخ صبحي الصالح دائنون) لا بمعنى انهم ملتهبون جميعا بالعشق الالهي ولكن من حيث ان لهم علاقة بالله عن طريق الصلاة او الدعاء. غير اني اود، وبلا محاكمة للنيات، ان افحص قليلا طبيعة هذه العلاقة في الوسط المسيحي لاني اعرفه واتفحصه بمقاييسه.

اعتقادي الجازم ان الوثنية ما ماتت بدخول الانجيل هذه البقاع. هذا يذكرني بجملة رائعة قالها لنا، طلابا في باريس، قرب السوربون، الاب جان دانييلو رحمه الله: “انا وثني فرنسي احاول ان اتنصر”. نحن ايضا وثنيون كنعانيون تلقى بعضنا الانجيل بعمق وتلقاه آخرون بحيث حفظوا في قلوبهم عبادة عشتروت (الجنس) وبعل (القوة) ولم يلتقوا اله المحبة المصلوبة، الغافرة، الحية ابدا والمحيية. واقاموا الصلاة مغلفة بالبهاء الامبراطوري البيزنطي عند بعض وبأشياء اخرى عند بعض. ولكن ما رأوا الرب المدمّى ولو حكت عباداتهم عن الدم المهراق. لعل هذا يمسهم عاطفيا مرة في السنة ولكن الاحتفالية المفرطة في الجمال من شأنها ان تغطي سر الحب الالهي وجرحه القلب البشري. وما اريد به استنزال الله (ولا يعني الدعاء اقل من ذلك) تسطح في مجتمعية العبادة. ما من شك ان صلاة الجماعة في كنائس التراث لا بد لها ان تؤدى افقيا فالاخوة مرصوفون اليك وهناك لغة لتنزل اليها موحدين وموسيقى محسوب لها ان ترافقهم. ولكن الجماعة يمكن ان تتسطح وتتفه في حين ان كل هذه العمارة الطقوسية يقصد بها ان يسمو قلب الفرد (وهو دائما منفرد) الى وجه الله المبارك.

غير ان القلب بما اصطلح عليه الساميون لا يعني مركز الشعور ولكن مركز الفهم. والخوف من الصلاة، أوحده كان المؤمن ام في الجماعة، ان ينتظر العواطف تحرك احشاءه، ان يحس بحضرة الله وما الى ذلك من مشاعر. وليس هذا هو المبتغى اذ المبتغى وحده ان تؤم بصلاتك كلمة كلمة وان تتعهد الطاعة وليس المطلوب ان تلتهب عشقا لله نتيجة صلاتك اذ قد يكون هذا وهما كبيرا يحجب وصلك الحقيقي بالله. في هذا السياق قال لي مرة كاهن ليس من كنيستي في حلقة مسكونية: انت في وعظك وفي ما تكتب لا تقصد ان تحرك العاطفة. قلت له اصبت وهذا مقصود لأن الكلمة الالهية فيها وحدها قوة التحريك الوجداني ولو حاولت ان احرك مشاعرك بكلمات من بلاغتي لكنت مضيفا شيئا على الكلمة الالهية.

اذا دققنا في اهم صلاة عند المسيحيين وهي القداس لوجدتم ان الاناشيد التكوينية لها  مثل قدوس الله وما بعدها عندنا وعند الموارنة وما يهيئ للتلاوين (الرسائل والانجيل) والقانون الشكري الذي تسميه العامة الكلام الجوهري لا تتوجه الى العواطف ولكن الى ما هو اعمق منها اعني الايمان اي الى هذا الالهي المنسكب علينا. فالنعمة تستجيب للنعمة كما اللجة للجة. ان ابتعاد الموارنة  عن اللوحات الدينية المتأثرة بالنهضة الايطالية والتماثيل للدليل الاكبر على ذلك وتبنيهم الايقونة السريانية او البيزنطية (والعودة لم تكتمل) انما هو الدليل الاكبر على اكتشافهم الفن الالهي المبني على جلال المسيح وتجليه. والحاح الارثوذكسيين على اللحن البيزنطي التراثي النسكي الملامح انما هو ايضا عندهم الاشارة على انهم يلتمسون الارتفاع الروحي الصرف الذي يأبى شهوانية الطرب.

ولكن في هذه الكنيسة او تلك تعبد جانبي لا تخلو منه الكنيسة البيزنطية وهو اقوى عند غيرها حيث تسومح بالهياج العاطفي ولاسيما ما يتعلق بمريم. واقل ما يقال فيه انه يجانب الاعتدال الطقوسي والاتزان العقائدي. ربما اتى هذا من ان الجمهور تعب من الوجه التعليمي في العبادات اذ يقوم على صحوة كبيرة وعلى علم والجماهير تريد ان تثار عواطفها ظنا منها ان الله هو المحرك. ويزين لي ان السلطة الكنسية الواعية خطر هذا التعبد الجانبي مدعوة الى مقاومته ولا  تطمئن الى ان هذا الجمهور العددي يعني ان هذه الحشود تقية. انها ليست تقية لكونها تعبد إلهة المشاعر عشتروت المغلفة باسماء القديسين.

***

الفن خطر والكلمة خطرة وانا لا ادعو فقط الى ان تنحصر عباداتنا بالمزامير وتلاوة الكتاب الالهي. ولكن لنا تراث الآباء الذين حتى في كتاباتهم الشعرية ما حادوا عما “دفع مرة للقديسين” وما سعوا الى طرب الذهن ولا القلب. انا لست ادعو الى تأليف خدم الهية جديدة بالكلية بالنسبة الى ما تسلمناه من الاوائل وان انت بنيت عليه ما يوافق احساس اهل العصر وهمومهم وهذا مبتغى.

انت لست مركزا على ما فيك اليوم او ما عندك في حضارة اليوم لان هذا قد يقود الى تمجيد الذات والى ما هو اقرب الى البشري. والتراث الذي انتقل الينا انما هو الهي وهذا ما ينبغي المحافظة عليه ولو البسته حلة جديدة. المهم ان تؤمن بما ورثت ثم ان تشذبه مما علق به من زوائد موغلة في بشريتها او لحميتها وان تذهب بما اوتيت الى حضرة المسيح الآتي اليوم وغدا والذي ينتظرك في اليوم الاخير. انت تعبد الله الذي كشف حضرته وجه يسوع وانت سائر اليه. العبادات على قدمها تذهب بك الى الاله الآتي اليك كل يوم. اليوم تعبر عنه في الطلبات التي ليست العابد مضطرا على كلماتها الثابتة. يمكن ان يغيرها لتوافق هواجسه اليومية. الثابت هو  سر القربان النازل الينا بالروح القدس ويأخذنا الى يوم ربنا يسوع المسيح في تجليه الاخير.

نعبد الله في الآن ولكنه آن الله. التاريخ المنا. نحمله ولكنا نملأه بالابدية والا كان زمانا مكرورا وفارغا. نحمل العابر لنقدسه ولكنه لا يأسرنا لان ما نطلبه اولا هو ملكوت الله وبره اي هذا المديد والعميق معا. ومن ادرك سر الملكوت يكون قد استوعب معنى الصلاة.

ماذا يعني ان الصلاة جميلة؟ اسمع الارثوذكسيين يقولون: كان القداس جميلا. ما معنى ذلك عندهم؟ على ما اتصور ان الاصوات كانت جميلة وان اداء الكاهن كان كذلك. عندما اسمع هذا الكلام اقول لهم: كل قداس جميل وانا اعني ما قاله افلوطين: “الجمال للنفس ان تجعل نفسها باطراد شبيهة بالله”. ذلك ان خبرة الجمال هي دائما خبرة الحق. وفي هذا كان غوغول يقول: “اذا الفن لا يأتي بأعجوبة تحويل نفس المشاهد لا يكون الا هوى عابرا”. الجمال هو الجمال الفصحي اي رؤية الحق وسط آلام المسيح ومشاركتنا هذه الآلام ان نحن اصبحنا نورا. المسيح تنازل اليك لترتفع انت به. وفي هذا يقول الرسول: “ونحن جميعا نعكس صورة مجد الرب بوجوه مكشوفة كما في مرآة، فنتحول الى تلك الصورة، ونزداد مجدا على مجد” (2 كورنثوس 18:3).

الصلاة عن الفرد وفي الجماعة هي تلك المسيرة القيامية. هي انحناء الله عليك في محبته الثالوثية وتصاعدك اليه. هنا ندرك رحمانيته وحنانه. بهذا انت مؤن اي بهذا يصبح الله مأمنا لك وتصير انت محضونه واذ ذاك ترتفع على صدر المعلم لتسمع نبضات قلبه فتصير هي فهمك الكياني اي عقلك الحقيقي.

Continue reading