في الإيمان والعقل / الأحد 21 نيسان 1963
عرّف كاتب مسيحيّ من القرن الأوّل الإيمان المسيحيّ بأنّه «ثقة بما يُرجى كأنّه حاضر وإيقان بأمور لا تُرى». بهذا المعنى عينه، قال الإمام البيضاويّ إنّ الإيمان «ثقة بالله مع طمأنينة قلب». فإذا ابتدأ فكرنا من الإنسان، يبدو لنا الإيمان قفزة من هذا الإنسان إلى ما فوقه. وإذا كان الإنسان في الحاضر، فالإطمئنان إلى الآخرة خروج إلى ما ليس بعد، إلى ما يتجاوز حدّنا. ولكنّ المؤمن لا يرى أنّ إنسانيّته بُخس حقّها إذا قفز من حيث هو قائم إلى حيث لم يصل. وبالحريّ، ليس الله فوقه، لكنّه فيه. وليست الآخرة بعده، لأنّ المرجوّ يقوم في الراجي. وبالنسبة إليه، التحدّث عن غيبيّة الإيمان هو، بالضبط، نكران لكونه أعمق حقيقة وأفعل وجود. فما عنده من قفزة، لأنّ الله هو المبتدأ.
يبدو لي أنّ الحوار بين المؤمن والجاحد وضع في غير محلّه، لأنّ انطلاق هذا الحوار كان انطلاقًا جحوديًّا. كانت مقدّمته أنّ الإيمان نذهب إليه في حين أنّنا نذهب منه. وقيل إنّ موضوعه أبعد من الإنسان، فأخرج الإنسان عن نطاقه. وكان السؤال الصحيح ليس لماذا لا نأتي نحن إليه، لكن لماذا يذهب هو عنّا. وكانت المعضلة الحقّ لماذا لا نعرف إعطاءه، لا لماذا يعرفون أخذه.
وإذا عرّفنا الإيمان بالثقة، بات واضحًا أنّه لا ينطلق منّا ما لم يلمس الناس ثقتنا بموضوعه. فإذا اختبروا ركوننا إلى الله وعلموا بأنّ هذا الإيمان إنّما يحيينا، عرفوه، عندئذٍ، في أنفسهم كامنًا، فأيقظوه، واكتشفوا ما كان الجهل يغطيّه وما كان الإثم يحجزه. وجملة القول، إنّ الإيمان خبرة داخليّة لحقيقة الله فينا. فإن كانت الخبرة على درجة من الجدّة، عمّت الأرجاء، وأتت المعجزات. فإنّ المعجزة الكبرى أن يعرف الإنسان نفسه قادرًا على اكتناه الله المستقرّ فيه وعلى إحلال الآخرة في حياته لقيامها فيه كالحاضرات.
وإذا عرّفنا الإيمان كذلك، جاز القول بأنّه حسّ. أجل، حسّ إنسانيّ شبيه بحسّ الجمال، إلاّ أنّ موضوعه أخفى من موضوع الجمال. ولكن، كما أنّ الجمال، في هذا وذاك من الفنون، لا يتحسّسه الكثيرون، كذلك الحسّ الدينيّ يمكن أن يكون مفقودًا عند بعضهم. المشكلة الكبرى هي نقل هذا الحسّ، أن تزول العوائق التي تحول دون هذا النقل. القلب الممتدّ إلى الآفاق، العقل المتّضع الذي يعرف حدوده وحدود العلم، من القوى التي تفتح عقل الإنسان إلى تفتّق الإيمان فيه. أجل، الإيمان لا يدركه العقل وحده، لكنّ الإنسان ليس عقلاً محضًا، ليس عقلاً مغلقًا. يمكنه أن يكون عقلاً محبًّا منفتحًا ليس فقط عاى أطراف الدنيا، بل على النفس البشريّة وهي، في سرّها، مكمن الله.
Continue reading