Monthly Archives

July 2006

2006, مقالات, نشرة رعيتي

هذه الحرب / الاحد 30 تموز 2006 / العدد 31

اذا كانت المحبة تجعلنا في حزن بسبب الذين سقطوا في الحرب، ومعزين للعائلات التي نعرفها، فإنما يدفعنا إيماننا الى التوبة وهذه هي وظيفة كل محنة في حياة الذين استبقاهم ربهم على الأرض. هذا وقت رجوع اليه حتى لا ننام نومة الموت كما يقول النبي المرنّم.

الى هذا قد نختلف في التحليل السياسي وانا لست هنا لأملي عليكم موقفًا سياسيًا. في الكنيسة كلكم أحرار. ولكن الموقف الذي سوف نتقيّد به بعد الحرب هو العمل على إعادة إعمار لبنان والحفاظ على وحدة بنيه الذين سيختلفون في الآراء السياسية وهذا يجب ان ننتظره في مجتمع حر. ما قد نختلف عليه الآن هو معرفتنا لأسباب الحرب. انا كمواطن بينكم لا يقنعني ان خطف جنديين إسرائليين يدفع دولتهما ان تشن علينا حربا بهذا الحجم وهذه الشراسة. هي أولا دولة خاطفة منذ تأسيسها وساجنة الآن لمئات من المناضلين العرب. وهذا أمر له تسوية معقولة. واذا كان الخطف مسؤولة عنه فئة حزبية في لبنان فأنت لا تعاقب كل لبنان بالموت والحريق والدمار وقطع كل اوصاله لجعله بلدا ضعيفا في المنطقة يحتاج الى عدة سنوات للنهوض. ان حملة ضخمة كهذه التي شُنّت علينا إنّما تحتاج الى أشهر من الاستعداد سبقت خطف الجنديين. هناك اذًا خطة لتدمير لبنان مرتبة دوليا وكُلّفت اسرائيل تنفيذها اعتقادًا من الدول ان الحرب قد تُنهي حزب الله. الحوادث الأخيرة دلّت ان هذه المنظّمة لا تنتهي بسهولة ولن يُقتل اعضاؤها واحدًا واحدًا ولن تضعف الى حد انها ستسلّم سلاحها طوعًا او كرهًا. موضوع سلاح حزب الله يُعالَج لبنانيًا او لا يُعالَج. لا لشيء، كلّفتنا الموآمرة الرهيبة هذه، دمار لبنان.

أنا لا ادخل الآن في مناقشة شرعية المقاومة في ظل وجود الدولة. فاذا اعتبرنا وجودها غير شرعي لا يبرر دولة اسرائيل في مشروعها القضاء على لبنان. وعند رجوع السلم سنناقش موضوع المقاومة والتسلّح خارج الجيش. نحن الارثوذكسيين لن نسهم في نقاش الا على اساس وطني اي على اساس يحفظ وحدتنا ولا يجعلنا قبائل متناحرة حتى التقاتل اذ لن يبقى، عند ذاك، منّا شيء.

هذا الوطن متّحد يجتمع فيه المسيحيون والمسلمون على السواء ولا ينبغي ان يميز فيه فئة على فئة. هذا سيكون بلد الكفاءة والعدالة والتكافل الاجتماعي والعلم والرقي ولا يحتمل خصومات حادة ذات طابع طائفي. ما دمرنا في الحرب الأهلية اذا تكرر سيدمّرنا بعد الحرب.

الآن نضمد الجراح. لذلك دخلتْ هذه الأبرشية في العمل مع النازحين في عدة أماكن. قد تكون إمكاناتنا ضعيفة، ولكن شعور الإخوّة والترحاب بهم شيء يطلبه الله الينا.

كفانا الرب شر القتال وأعاد إلينا سلامًا حقيقيًا في الواقع الوطني وفي القلوب وألهم أعداءنا أن ينكفئوا عنا ويهتموا بشؤونهم.

إن كنيستنا واسعة الصدر وتستوعب جميع المواطنين بمحبة واحدة ولا تنجرّ وراء الانفعالات الهـوجـاء وتسهم فـي إعادة تعمير الـبـلـد مـاديًا ومـعـنـويًا لنقوى على ضعفاتنا وتقوم عندنا دولة قوية مستقيمة ترى نفسها في خدمة الناس جميعا لنحيا بسلام.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

الحرب وما بعدها / 29/7/2006

لماذا لم تأمر الحكومة الجيش بصد العدو؟ أنا أفهم إن هذه هي وظيفته ما لم تعتبره الدولة حصراً قوة أمنية للداخل. أو قد يعني هذا إن الحكومة فوّضت إلى حزب الله وحده أن يدافع عن البلد. إذ ليس من تنسيق بين جيش غير فاعل ومقاومة فاعلة. هذا يطرح سؤالاً جوهرياً بعد وقف إطلاق النار عن مكان الجيش في بلدنا. هذا يعني أيضاً أن شعبنا معرّض للإبادة. ثم لم تقل الدولة إنها إذا انتزعت من المقاومة سلاحاً في أي ظرف تسلمه إلى جيش فاعل. إذ ذاك نتحول مجتمعاً أهلياً غير معسكر، جميلاً منسجما مع إسرائيل وعربها في هذه الكتلة الاميركو – شرق أوسطية.

هذا يعني ليس فقط نزع السلاح عن المقاومة ولكن نزعه الفعلي عن كل العرب لتبقى إسرائيل الدولة المعسكرة وحدها في هذا الشرق الجديد. بأي معنى هو جديد؟ ويكون لبنان ديموقراطية نموذجية بحيث تقدم للعرب صورة عن ديموقراطية وهمية إذ العرب غير مهتمين – كما عبّروا هم غير مرة – على أنهم لا يريدون ديموقراطية على النظام الغربي وتالياً غير راغبين في أن يقتدوا بديموقراطية لبنان الوهمية.

أرادت القيادة الإسرائيلية أن يرجع لبنان عشرين سنة إلى الوراء. لست أناقش هذا الرقم فقد يكون أعظم. بلدنا أمسى ذا مساحات كبرى مهدمة ومحروقة. فإلى أين يعود النازحون إذا قالت لهم المدارس التي لجأوا إليها إني احتاج إلى قاعات صفوفي لأستوعب فيها طلابي أواخر أيلول أو بداءة تشرين الأول؟ اذا كان عندك مليون نازح لا تستطيع أن ترميهم في الشارع. أو تبعثهم إلى ركام القرى المهدمة.

وعندما تشترط أميركا تعليق وقف النار على نزع الأسلحة من المقاومة فكأنها تقول فليمت مَن تريد إسرائيل قتله متى شاءت إذ لم يبقَ من يدافع عنه.

أين رأيتم بلداً ليس فيه من يدافع عنه؟ فإذا قرر مجلس الأمن أن إسرائيل لا يحق لها الاستمرار في العدوان فليس ما يضمن أنها مستعدة للانصياع لهذا القرار وهي لم تنصع لقرار واحد ونفّذت المقاومة وحدها – لا الجيش – القرار الـ425 فانسحبت إسرائيل من أراضينا. والعالم كله يغنج إسرائيل بذريعة أن ثمة قوة إرهابية تدافع عن لبنان. هل هيئة الأمم المتحدة راغبة أو قادرة على أن تردع إسرائيل؟ من قال إن هذه القوة فاعلة أو قادرة على أن تردع حزب الله إذا أطلق سلاحه من وراء القوة الدولية الرادعة؟ لم تقل أميركا حتى الآن أنها تربط نزع السلاح من حزب الله بتحرير مزارع شبعا. عند ذاك، وعند ذاك فقط، لن يبقى لحزب الله حجة لحفظ سلاحه. لأنه اكتفى بتحرير لبنان لا فلسطين. وليس معقولاً أن تتغير المعطيات إلى حد أن تجتمع قوى العرب والعجم جميعاً لضرب إسرائيل.

• • •

كل هذا يعني أن يفكّر اللبنانيون منذ الآن في شكل دولتهم وقوتها وإمكانها الدفاع عن نفسها إذا هوجمت مرة ثانية. لا شيء يضمن أن إسرائيل تنوي أن تصير دولة مسالمة ولم تبرهن عن هذا كلما سنحت لها الفرصة للانقضاض على العرب ولا سيما أن كل ايديولوجيتها تدعوها إلى أن تكون مهددة لهم كما تدعوها – إذا لم تعتد – ألا تكون راغبة في التعاون وإياهم تعاوناً أخوياً صادقاً. فإذا كانت حتى الآن لم تسلم بخريطة الطريق ولم تقبل بنشوء دولة فلسطينية لماذا تريدون أن تقبل باستقلال لبنان وسيادته؟ ومن قال إنها راضية حقاً عن هذا وهي ترى لبنان منافساً لها وهو الذي يوحّد بين أطيافه و”شعوبه” وهي لم تستطع حتى الآن أن تعتبر عرب إسرائيل مساوين لليهود ومئة حالة عندي تبين أنها تفرّق بين اليهودي والفلسطيني في أراضيها. وهي متمسّكة بهذا التفريق لعلمها الديموغرافي ان فلسطينييها يتكاثرون.

وهل من سياسة أميركية واضحة لتحمل الدولة العبرية على ألا تكون جسماً هجيناً في هذا العالم العربي؟ هذا يفترض أن الدولة التي تسمي نفسها دولة يهودية راغبة في أن تعيش بالمساواة مع العنصر العربي وان تنزع عنها الصهيونية désionisation لتصير حقاً دولة يتساوى فيها اليهودي المتديّن والأصولي واليهودي غير الأصولي وكذلك اليهودي المشرقي الأصل واليهودي الغربي الأصل والسفرديم والاشكيناز. إسرائيل تفتش عن وجود لها يؤمن لها السيطرة الدائمة والمعسكرة على العرب جميعاً.

أما لهذا الليل من آخر؟ وهل يعقل أن يقبل المسلمون أنفسهم مغلوبين أبداً وهم لا يرتضون سيادة أحد عليهم إلى الأبد؟ وفي هذا الذل الذي يذوقونه أليس المعقول أن يستعدوا لتمرد لهم في المستقبل مهما طال الزمن؟ ماذا يهيئ اليهود لاحتمال انتفاضة إسلامية عليهم؟ هل يتكلون أبداً على الولايات المتحدة لتقمع المسلمين في عنفوانهم وهم لا يرضون أنفسهم أذلّة في الأرض؟ من قال أن الولايات المتحدة الأميركية دولة تحافظ على أحديتها في هذا العالم؟ من يمنع المسلمين من أن يرتموا في أحضان الصين وهي ناهضة بسرعة مذهلة؟ إسرائيل لا تقدر على أن تتكل على نفسها إلى الأبد وهي لا تستطيع أن تعيش على اقتصادياتها وحدها اليوم فكيف إذا ضعفت اقتصاديات أميركا في السنين المقبلة؟

ثم ليس من أمل في المستقبل القريب ان يصبح بلداً حيادياً لأن الحياد بالمعنى القانوني للكلمة يعني قبول سوريا وإسرائيل به معاً. إذا تعبت إسرائيل من حروبها على لبنان لا يبدو معقولاً أن تقبل سوريا العروبية بحياد لنا نحافظ فيه على ثقافتنا العربية وشعورنا العربي. غير أن الحياد لا يعني ألا نكون على قوة عسكرية معقولة. فسويسرا دولة حيادية لكن شعبها معسكر مستعد دائماً للحرب إذا هوجم. هل ذهنية اللبنانيين المتحمّسين قليلاً والنائمين كثيراً تؤهلهم لان يكونوا في بيوتهم جنوداً محافظين فيها على سلاحهم وغير قاتلين به أحدا أي أن يكونوا كلهم أمة جنود في الطاقة تستنفرهم دولتهم ويلبونها. وهذا يعني ان يكون لهم فهم واحد لدور لبنان ولقدرته على التصدي لأية دولة تدعوها شهوتها إلى الاعتداء عليه؟

بعد وقف النار لا بد لنا أن نفكّر معاً في ميثاق جديد نحفظ فيه أنفسنا وندافع عنها ونبني وطناً موحداً غير منقسم ولو اختلفنا في التفاصيل ضمن الحرية والديموقراطية الصحيحة؟ هل نعلن اليوم أمام الله والتاريخ أننا نريد بلداً وإننا لا نستجدي أحداً ويعزينا الكبار الآن بالممرات الآمنة ينقلون عليها طعاماً وشراباً ودواء وهم قادرون على منفعة لنا أكبر أي إيقاف النار. نحن ما اعتدينا ونستحق أكثر من الخبز الذي لا يحيا منه وحده الإنسان.

• • •

أجل نحتاج إلى كرم كبير لنسند المشردين وإعادتهم إلى بلداتهم وقراهم. فالدولة وحدها عاجزة عن ذلك. والدول الكبرى لن تشفق علينا بلا مراعاة مصالحها. شكراً لها على كل حال. نحن نحتاج إلى فلسفة جديدة لوجودنا كوطن ودولة وهذا يتضمن تجاوز الطائفية سياسية كانت أم فكرية. نحن أخذنا على أنفسنا أن نكون أمة مجتمعة واحدة. ولكنا لن نبيع لبنان بسبب من الخوف أو من قلة الموارد. أقنعتنا العهود المتتالية أننا بلد فقير وهذا حسب التنقيبات العلميّة غير صحيح. لكن هذا التجديد يتطلّب إعمال الفكر وتنقية لأخلاق لنا تدهورت في السنين الأخيرة تدهوراً مريعاً. “إنما الأمم الأخلاق” ولم نقتنع جميعا بذلك.

لا ينفع البكاء ولا التحسّر. العمل القائم على طبيعة جديدة حسنة قولاً وبناء وإبداعاً هو الذي يؤهلنا لدور كبير في مجتمع مشرقي جديد نحفظ فيه استقلالنا وميزاتنا فلا نكون فريسة لعولمة هوجاء شرسة ولو تبنينا عقلية تكنولوجية في صناعات كبرى أو صغرى نسد بمواردها ما نحتاج إليه لنحافظ على بلد نؤمن بفرادته وعطائه.

هذا يعني فور انتهاء العدوان أن نتجمع روحانيين ومثقفين، عمالا وتجاراً ومزارعين، لنفكر في مستقبل لنا مشرق في براغماتية مباركة من غير أن نهمل المبادئ الإنسانية التي أرسينا وجودنا عليها ولا نبقى فريسة سياسات ضيقة تافهة. ما عسى تكون سياسة البلد ككل مجتمع مؤمن بمواهب الله والعقل لأننا مللنا الموت والحريق والدمار لنرجو لأنفسنا وأولادنا قيامة مجيدة.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

رسالة اليوم (رومية 12: 6-14)/ الأحد 23 تموز 2006 / العدد 30

هي مأخوذة من الرسالة الى أهل رومية وتمثّل الجانب العملي، التطبيقي في تعليم بولس. ولعلّ فرادتها أن الرسول لم يشأ أن يكون المسيحيون مماثلين بعضهم بعضا الا بالتقوى ولكن لكل مؤمن موهبته فهذا قوي في العمل الاجتماعي وذاك قوي في اللاهوت والآخر في الإحسان او في العمل الإداري. وما يجمع كل هذه المواهب في بناء واحد هو المحبة اذ ماذا ينفعك ان تكون صالحا للإدارة او التعليم النظري وانت غير محب. وكان بولس قد كتب نشيد المحبة في رسالته الأولى الى أهل كورنثوس وهي مع ما كتبه يوحنا في رسالته الأولى الجامعة من أعظم ما قيل عن المحبة في تاريخ الناس.

غير ان الرسول يتميّز عما كتبه سابقا بقوله:”لتكن المحبة بلا رياء”. فليس المهم ان تظهر لطفا تجاه انسان تكرهه. يكفيك ان تكون مهذبا. والمجاملة والمصانعة من أجل ان تكسب عطف الآخرين دون أن تحاول محبتهم بالخدمة لأمرٌ مكروه. الإنسان ينطق من القلب او لا ينطق ابدا.

وحتى تصل المحـبـة الى الـذروة تابع بـولـس فكره بقوله:”كونوا ماقتين للشر وملتصقين بالخير”. انت لا تستطيع مثلا ان تكون صادقا ما لم تكره الكذب. قول الكتاب هو “حِدْ عن الشر وافعل الخير”. افعل الخير ترجمها الرسول بقوله:”ملتصقين بالخير”. هذا اكثر من فعل الخير. هذا عشق له بحيث تروض قلبك على طلب الفضيلة يوما فيوما وصاعدا على سُلّم الفضائل بحيث لا تدع واحدة منها تفوتك لأن الفضائل متماسكة، تُكمل بعضها بعضا.

ولئلا يظن مؤمنو رومية ان لك أن تحب هذا بعض المحبة والآخر أقل أو اكثر قال:”محبين بعضكم بعضا حبا اخويا” اي كأن الناس كلّهم إخوة لك فلا تغرق في عطاء روحك وانسكاب قلبك بين واحد وواحد حتى يصل الى قوله:”مبادرين بعضكم بعضا بالإكرام”. هنا ليس يطلب بولس فقط ان تكرّم جميع الناس ولكن ان تبادر بالإكرام فلا تدع الآخر يسبقك فيه. اعطِ الآخر ما لم يكن ينتظر ليرتاح ليس فقط اليك ولكن الى ربه.

ثم يلح على الا يتكاسلوا وهو كان قدوة في الاجتهاد يبشر في كل حين ويكدّ صانعا خياما في الليل ليعيش فيصل بعد هذا الى قوله:”حارين بالروح” فاقضوا على الفتور فإن الرب يريد كل القلب ولا يقبل تهاونا بمحبته وطاعته. الحماسة من أجل كلمة الله ونشرها وتوطيدها هي التي أَعطت الكنيسة عمالًا لا يستريحون. بهذه الحماسة نفسها نكون”عابدين للرب” بقلب نقي فلا نشرك به عشق المال او السلطة او اي ما يمكن اعتباره إلهًا يستأثر بمشاعر النفس.

هذه العبادة تمدنا بالفرح وفرحنا دائم لأن رجاءنا دائم. ولئلا يظن مؤمنو رومية ان الرسول يعدهم بالمسرات في كل أيامهم، يحثهم على أن يكونوا صابرين في الضيق، والعهد الجديد كلّمنا عن المضايقات التي كانت تحل في الكنيسة قبل أن يكتب بولس رسالته الى اهل رومية اي في منتصف الخمسينات من القرن الأول. ولا يكتفي بحضّهم على الصبر اذ يقول في آخر هذا الفصل “باركوا الذين يضطهدونكم”. لا تجعلوا الاضطهاد يأسركم بالبغض. اغلبوا القائمين به بالغفران ولو متم. ذلك ان موت الشهادة يحيي الكنيسة.

وقبل أن يصل الـى ذلك يطلب اليهم المواظبة على الصلاة. في كل أوقات شغورك صلِّ ومع العمل اليدوي يمكن ان تصلي واذا انشد قلبك الى فوق انت مصلّ ولو لم تنطق بكلمة. ويختم دعوته الى الفضائل والصلاة بحثه على الإحسان للقديسين اي لمؤمني اورشليم الذين كانوا فقراء بسبب اضطهاد اليهود لهم. ثم اغنياء كنتم ام فقراء استضيفوا الغرباء ولا سيما المسيحيين الفقراء الآتين من الشرق الى رومية.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

هذه الحرب الرهيبة / السبت في 22 تموز 2006

دعوتي الى الله منذ بدء المحنة أن يأخذ لبنان بعطفه وكرمه. ومن كرمه أن تقف هذه الحرب التي شنتها اسرائيل حاقدة. موت عبثي، شرير، رهيب يحل بنا مع ما يرافقه من تدمير وتمزيق وقطع أوصال البلد. استلذاذ العدو بموتنا ونحن شعب بريء بكل أطيافه مهما تعددت آراؤنا بحكمة هذه الفئة او تلك.

لا يذهلني ان تتصرف اسرائيل كما تصرفت فهذا في آداب آبائها الذين أمروا بإبادة الكنعانيين اي نحن. هذا قديم وسابق للنصوص التأسيسية للصهيونية التي تقيم دولة يهودية لا تختلط اساسا بالعناصر الأخرى. هذا موقف إقصائي في تأسيس الدول المعاصرة.

لا يذهلني هذا ولكن يذهلني اصطفاف الاميركيين والاوربيين بعامة وراء الدولة العبرية وقول الولايات المتحدة إن اسرائيل تدافع عن نفسها. من اعتدى عليها؟ اذا كان المعنى الذي اراده السيد بوش انه خُطف لها جنديان فهل هذا يقابله كل هذه المجازر والدمار والهلع والتجويع للشعب اللبناني؟هل إحراق لبنان ضروري لإعادة هذين الجنديين؟ ليس بين هذا الخطف والحرب الشاملة علاقة سبب ومسبب. ثم من يصدق ان عملية حربية بهذا الحجم لم تستلزم اشهرا من الاستعداد في إطار عملية تأديبية ضخمة جدا للبنان هي جزء من مشروع سياسي عالمي يحدث هزة كبيرة في المنطقة كلها؟ الأكذوبة الكبرى بعد إخفاق الأميركيين في العراق انهم يرون لبنان مهيأ ليصبح نموذجا للدولة الديمقراطية الحرة بين العرب ثم يباركون او لا يمنعون الاعتداء عليه. هل من ديمقراطية ممكنة في بلد لا قوة فيه؟ بعد سياسة الأرض المحروقة التي يمعن الإسرائليون في التماسها او تطبيقها من أين لأحد ان يقيم دولة ديمقراطية، راقية، توحي الحرية لكل العالم العربي؟

الذين يظنون ان خطف الجنديين الاسرائليين كان عمل غباء من حزب الله (وانا ما قلت اني ابرره) انما هو سبب مباشر لتعطيل الحوار الوطني الجاري مع هذا الحزب والذي كان من شأنه ان يحاول صيغة تفاهم بينه وبين الفئات الأخرى. ان سجالا مقولا او صامتا مع حزب الله في الوقت الحاضر من شأنه فقط أن يدعم اسرائيل والدول التي ساندتها. مهما يكن من أمر فسوف تقوي هذه الحرب لبنانية حزب الله من حيث ان حلفاءه في الخارج او الذين يمدونه بالمعونة المالية لن يقفوا على رأيه ليصلوا الى تفاهم مع الأميركيين. ان ربح المقاومة لهذه الحرب يقوي لبنان وستخرج من المحنة اكثر توحدا مع كل اللبنانيين بلا مساءلة عن لبنانيتها.

#        #

#

كتبت هذه السطور الإثنين الماضي وربما يكون قد تم قبل صدور هذه الأسطر قرار لوقف النار. ما ينبغي ان يفهمه اللبنانيون هو ان يفتشوا عن مصادر قوة وإصلاح للدولة وتعبئة كبرى لقواهم تخرجنا من هشاشتنا. عند السلام او الهدنة ينبغي ان نعرف ليس فقط عدونا هذا الذي يميتنا الآن ولكن ان نعرف الفاترين تجاهنا او اللامبالين بمصيرنا وويل، اذ ذاك، لمن لم يفهم ان وحدتنا الوطنية الحقيقية تقوم على الولاء المطلق وغير المشروط للوطن وحده. ان الدول التي قالت بعد خروج الجيوش السورية انها مع سيادتنا برهنت ان المطلق عندها اسرائيل. هل نحن قادرون ان نثبت لها ان لبنان هو ايضا مطلق وان احدا لا يحق له ان يتفرج على حرائقه كما تفرج نيرون على حريق روما واتهم المسيحيين بفعلة ارتكبها هو؟ في ظل هذا الموت الذي نذوقه يحق لنا ان نغضب والا نتكل حصرا لوجودنا على الآخرين. نحن لسنا شعبا حاقدا ولكن الا يحق لنا ان نغضب؟

نكون قد غرقنا انفسنا في الموت الكامل اذا استسلمنا بعد هدوء الحال الى نرفزات طائفية سخيفة. نبارك نحن لمن جاء النصر على كتفيه لأن هذا هو نصرنا جميعا. التاريخ هكذا يمضي، والويل للعرب كلهم اذا انتصرت اسرائيل علينا. ستجعلهم، اذ ذاك، كلهم عبيدا لها.

لم تفهم الدول الغربية ان السلام الذي يسود المنطقة لن يكون السلم الأميركي ولكن السلم الاسرائيلي. ولم تفهم اميركا ان اسرائيل هي التي تستخدمها وان اسرائيل في اعماقها السيكولوجية لا حليف لها على رغم الحلف الاستراتيجي الذي يربطها بالولايات المتحدة. هذا حلف حقوقي وليس حلفا  نفسيا. واتمنى لو أدرك المسيحيون في العالم ان التفوق اليهودي الذي يحمله النصر الاسرائيلي خطر عليهم بالدرجة الأولى لأن الصراع الحقيقي على مستوى العقيدة الدينية هو بين الكنيسة واليهودية واسترخاء مسيحيي الغرب ازاء اليهودية واليهود الساطع في اللاهوت الغربي منذ تسعين سنة وما كنا هنا ضحاياه في اية كنيسة شرقية ارثوذكسية كانت او غير ارثوذكسية قد يطالنا لنقع في بدعة المسيحية المتهودة. ان ما وراء الغطرسة الاسرائيلية غطرسة يهودية واضحة تكره المسيح شخصيا وتكره بخاصة بولس الرسول الذي نقض اليهودية. هذا كله موجود في الآداب اليهودية ولكن من يقرأ؟

قد لا يكون مسيحيو لبنان على وزن كبير في سياسة بلدهم اليوم. ولكني أٍقول لهم بكل وضوح ان اسرائيل لا تؤثر وجودهم على الوجود الاسلامي لأن المسيحيين اللبنانيين ليس عندهم ما يقدمونه ليعشقهم اليهود وان المسلمين عندهم النفط. ونحن تعايشنا  والمسلمين العرب في أزمنة أكثرها كانت سلامية ووجدنا هنا في لبنان صيغة عيش تمكننا من اعظم حرية ممكنة ولن نتمتع بحرية عظيمة في ظل السلم اليهودي.

#          #

#

وبعد الألم لا بد من الإبداع ولا بد من السماحة تهيمن على كل النسيج اللبناني ولكن هذا يتطلب الا نحمّل اية طائفة مسؤولية هذه الحرب والى هذا سنعمل معا لنهضة لبنان ولكن بتضحيات عظيمة تجعلنا نقيم دولة عظيمة.

سنتحمل الألم ولا سيما اذا امتدت المحنة لعلمنا ان تكاتفنا شرط دوامنا بلدا حرا قادرا ان يصير نموذجا للعرب يتعلمون منه الحرية الكاملة لبلادهم وربما غدونا نموذجا للعالم. ولا نخافنّ الموت لأن الموت حرية للأحياء، هذا اذا فهموا ان الفرد هو والجماعة يقويان بالطهارة وان هذه الطهارة هي التي تنشئ دولة قوية ومستقيمة.

يبقى أن قلوبنا مع النازحين الى كل مكان وهم في حاجة الينا جميعا والى ادعيتنا. ارجو ان يلهمنا الرب جميعا مساعدتهم مباشرة او بواسطة الجمعيات الخيرية وهيئة الإغاثة العليا ولا سيما الاهتمام بطعام الاولاد والأدوية للأمراض المزمنة. والأهم من كل ذلك ان يكون جيران المؤسسات التي لجأوا اليها في القرب منهم يحسون ان اللبنانيين في المحنة معا.

دعاؤنا الى الله ان ينتهي القتال ليعود كل منا الى دياره وينعم بلدنا بالراحة والسلام.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

الأطفال ويسوع/ الأحد 16 تموز 2006 / العدد 29

قبل ظهور المسيح لم يكن اليهود ولا الأمم الوثنيّة تعير أهميّة للطفل. كانت الشعوب تهتم فقط بالإنسان الراشد. والطفل رضيع أو يأكل ويشرب، ولكن لم يعتبر أحد أنّ له شخصيّة يجب أن تُراعى وأنّ له الحقّ بنمو غير قهّار. وحده يسوع لم يتجاهل الطفل.

عندما سأله تلاميذه: “من تراه الأكبر في ملكوت السموات” دعا طفلاً وجعله في الوسط قائلاً: “الحق أقول لكم: إن لم تعودوا مثل الأطفال لا تدخلوا ملكوت السموات” (متى 3:18). كيف يكون الإنسان مثل الأطفال؟ هو طبعًا لا يريد أن يكون الإنسان ساذجًا. يجيب السيد عن سؤالهم: “فمن وضع نفسه وصار مثل هذا الطفل، فذاك هو الأكبر في ملكوت السموات”.

ركّز يسوع على أنّ الطفل متواضع بمعنى أنّه لا يعرف نفسه عظيمًا. لا يريد عقلا كعقل الأطفال أو أن تتكلّم كالصغار بلا فهم كافٍ. هل أراد يسـوع البراءة؟ في الواقع الطفل يكذب (يقول مثلاً: لا، لم أكسر الصحن) ولكن هذا ليس بكذب حقيقي لكونه يعيش في عالم تصورات تحجب عنه الحقيقة. الطفل يحيك عالما مـن الحكايات يظنّها حقيقة. يحيا خارج الواقع. لا يعرف الفرق بين الصدق والكذب.

يسوع لا يريدنا أن نتشبّه بالأطفال من حيث أنهم بلا تمييز بين الخير والشر ولكنّه يدعونا الى بساطة الأطفال. أنت، بالغا، ينبغي أن تحارب السذاجة العقليّة لتكتسب الحكمة ولكنّك مدعوّ الى بساطة القلب ونقاوته ولا ترى نفسك شيئًا. أنت لا تصير طفلًا ولكنّك تصير مثل الطفل على تواضعه. وعند ذاك أنت الأكبر في ملكوت الله.

في هذا المنحى يقول السيّد: “من قبِل طفلاً مثله إكرامًا لاسمي فإياي يقبل”. أجل يريدنا السيّد أن نعلي شأن الطفل في مجتمع لا يزال أحيانًا يحتقره. أن نكتشف الطفل، أن نعمّده لأنّه كائن حبيب الله كما يريدنا أن نتعلّم عن الطفل. يريد الطفل أن ينمو، والمعلّم درس في مدرسة الناصرة بدليل أنّه قرأ الكتاب المقدس في مجمع الناصرة. لا يرضى أن يبقى الأطفال في الشوارع. لا يريد عمالة الأطفال وبذا يكونون قد تركوا المدرسة وعرّضوا صحتهم للخطر. لا يريد أن يستعملهم أهلهم لكسب المال وقد يكون الأهل أحيانا كسالى يستغلّون أولادهم. لا يريد أن يغيظ الأهل أبناءهم وبناتهم لئلا يفشلوا ويكرهوا أهلهم.

يريد أن يحبّوا أهلهم وليس فقط أن يكرّموهم إكرام خوف. يأبى السيّد الخوف الذي يضرّ كل انسان صغيرًا كان أم كبيرا. لا يريد قصاصًا جسديًّا مبرحا لأنّ الولد بهذا يكره أهله. وإذا فعل فغالبا ما يكره الله الذي يصوّرونه له أبًا. أمّا أنت اذا كنت أبًا عطوفًا أو أمّا حنونةً فغالبا ما يحس ولدك بأن الله عطوف حنون. وداعة الأهل هي التي تكشف وداعة الله.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

العائلة ومكوّناتها / السبت في 15 تموز 2006

اتخذ كلمة عائلة بمعنى الثنائي المؤلف من رجل وامرأة واحدة وفي معظم الأحوال يرزق الله هذا الثنائي اولادًا. اخترت هذه الإضاءة المسيحيّة ليس حصرًا، فمعظم الجماعات في العالم تعيش هذا النظام. منطقي يسير اذًا على هذا الإصطلاح. الصفة المعروفة للقاء بين المرأة والرجل في هذه الكتلة لقاء شرعي أو قانوني. ولكن عندي أو عند الروحانيين ليس هو الجوهر ولكن بسبب الطابع الأصلي أو المدني لا بد من تنظيم. غير ان حميم هذا الكيان في ما أفهمه من الأصول المسيحية انه رباط قائم بالله ومشيئته وقائم بالمحبّة التي هي، الى بشريّتها، نعمة الله.

في إطار هذا التعريف المسألة المطروحة هي لماذا تنهار العائلة أو تتشقّق. هناك جواب عالم الإجتماع. الدراسات المجتمعيّة والسيكولوجيّة كثيرة ولكنا نرى في الخبرة ولا سيما في ما نسمعه في المحاكم الروحيّة او جلسات الارشاد أن الشكاوى القائمة بين الأزواج ترتكز على عناصر مختلفة لا حاجة الى بسطها الآن والكثير منها متعلّق بالمال، بالبخل، بتفاهة المعيشة اليوميّة ولا حاجة الآن الى استعراضها، ولكن ما من شك في ان العائلة اذا لم ينته الخلاف فيها الى طلاق تكون بصورة وجود شخصين مطلّقين روحيّا ومتساكنين لادراك الأزواج أن الانفعال مؤذ للطرفين وللأولاد فتراكم الناس بعضهم الى بعض تحت سقف واحد بلا اتصال حقيقي ويحكمهم الضجر والتأفّف والتذمّر والمشادات وكأنّ العائلة في كثرة الأحيان تصير كأنها مجرد مساكنة.

أنا مدرك في الفحص العقلي أنك انت تخطب فتاة لا تعرفها ويتعذّر عليك معرفتها الحقيقيّة في مدة الخطبة، فقد يكون عند الفريق الآخر أساس من الفضائل وقد لا يكون وتكتشف العيوب مرّة واحدة أو لفترة تلو الفترة وعليك ان تقيم بيتًا واحدًا مؤسّسًا على الرمل. والعيوب متجذّرة عند معظمنا والتوبة غير واردة أو واردة قليلاً ويموت المرء على ما شبّ عليه وعليك ان تنتظر ان رفيقك في الحياة يكفن في الرذائل التي تراه عليها. العائلات متشققة في حالات كثيرة ان لم أقل في كثرة الاحوال ويتعزّى كل فريق وانسباؤه بقوله: هذا نصيبي وكأنّ ثمّة حتمًا مكتوبًا عليك أو كأنّ لعنة حلّت بك ولا دواء لها. هذا ما كان كثيرًا في كل حقبات التاريخ وهذا لم ينته. ولكن عندنا اليوم، بعد عصرنة العقل، مسألة جديدة في العالم كلّه بعدما بنى الشعراء الزواج على الحب فيزول بزواله.

#  #  #

يقول الكاتب السويسري الكبير دني دو روجمون Denis de Rougemont إن الحب لم يكن منذ الأزل وانه صناعة عربية نشرها المطربون العرب من الأندلس في أوروبا ولم يقولوا انه يهيىء للزواج بالضرورة ولكنهم قالوا انه كثيرًا ما يعاش الحب خارج البيت الزوجي. هذه مسألة فيها نظر. إلا أن العبرانيين عرف كتابهم الحب ولكنا لا نرى في العهد القديم بالضرورة الحب سابقًا للزواج. انه حر كما في نشيد الأناشيد.

والحب الذي تكلم عنه الإغريق وسموه إروس انما هو هذا الانجذاب التلقائي وأظن ان الكلمة العربية التي تقابله هي العشق وما همّ الإغريق ان يكون بين الجنسين أو الجنس الواحد وأفلاطون مليء بهذه الأفهومة. ثم نرى أن النصوص التأسيسية في المسيحية (الأناجيل وبولس) لم تتكلم على الحب إطلاقًا وفي كل حال لم يجعله بدءًا أو شرطًا للزواج.

ثم جاءت الرومنسيّة في أوروبا وتحدثت للمرة الاولى في الأدب الغربي عن الحب وما يرافقه طبيعيًا من شهوة. يتضح من هذا العرض الموجز أن العلاقة بين الجنسين في كل الحضارات ابتدأت برغبة الجنس وأن الحب جاء تغذية له حتى استقر الفكر الغربي على انك تبدأ الزواج بالحب وما يقارنه من شهوة حتى انفجرت الثورة الجنسية في اوروبا في منتصف القرن العشرين وارتكز الزواج عندهم على الحب. ثم انتقلت القناعة بالحب الى بلادنا شرطًا للزواج وصرت تسمع في النزاعات الزوجيّة تبريرًا للطلاق: انا لا أحب زوجي أو لا أحب زوجتي. فاذا ذهبت العاطفة التي ابتدأت بها العلاقة الزوجيّة ذهب الزواج كله.

كلنا يعرف أن العشق يذهب ويجيء وانه اذا بقي وحده أساسًا للعائلة تنهار العائلة اذا ما انهار. لذلك ترى في كثير من البلدان الأوروبية ان عائلة من ثلاث تنتهي الى الطلاق. لا أعرف دراسة في بلدنا بحثت في هذا الأمر ولا يبدو عندي اننا قمنا بإحصاء أسباب الطلاق أو الإبطال عند المسيحيين لمعرفة ما اذا كنا لحقنا بالوضع الغربي ولكن ما من شك عندي في اننا سائرون على هذه الطريق.

ذهنيًا، هنا تكمن المسألة ولو غطي هذا الموقف بالاسباب التي يدلى بها أمام المحاكم الروحيّة.

#  #  #

الفكرة التي تعاش ضعيفة في الأوساط المترفة والواقعة تحت التأثير الغربي هي فكرة العهد. كل سر الزواج عند المسيحيين قائم على فكرة العهد عشقت خطيبتك أم لم تعشقها وبقيت عاشقًا لزوجتك ام لم تبقً. اللهب لا نعرفه على زخم واحد طوال الزوجية إلاّ قليلاً وآباؤنا يقولون ان من حكمة الحياة الزوجية انها تطفىء الشهوة وان الزوجية تاليا طريق الى العفة.

وفي العفة حديث طويل كثير التعقيد. لكن الإكتفاء بزوجة واحدة بعض من العفة وتقييد للشهوة اللاهبة. آخر الكلام في هذا انك بالعشق وحده لا تكون متزوجًا فإن هذه القوة الرهيبة فينا تحتاج الى إشراف الله عليك بالنعمة التي تنزل عليك ونسميها المحبة.

لذلك لما تحدّث بولس في الرسالة الى أهل أفسس عن الزواج قال انه مرتكز على المحبّة لا على العشق اذ قال: «ايها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح الكنيسة» والمسيح أحب كنيسته حتى الموت. انت اذًا تبذل نفسك عن زوجتك بإمانة شهوة الإنفصال وكل الرغبات المؤذية المؤدية الى الإنفصال العقلي والقلبي عنها. والقلب الذي أقصده هنا هو القلب الذي يسكنه المسيح فيجعلك للآخر كليًا لأن لك معه مشروعًا الهيًا واحدًا وهو مشروع المحبة.

بكلام آخر بلا إله لك ليس فيك محبة ولا فيك زواج. بلا إله تعيش جسدك وحده. مع الله تعيش جسدك أيضًا والمرافقة وتنشئة الأولاد والنمو المشترك بين هؤلاء جميعًا لتشكلوا كنيسة صغيرة أي مسكن الله مع الناس. والحب في تركيبتنا النفسيّة والبيولوجية يتجسّم في الجنس أيضًا ولكنه يتجلّى أيضًا بكل أطياف الحياة العائلية والقوة التي تبعثها فيك من أجل العمل والفكر والإبداع.

واذا هذا لم يوجد تكون فصلت الجنس عن الحب وتكون فصلت الحب البشري وهو مكان نطق عظيم عن المحبة الإلهية النازلة في العائلة. أنا لست أقول إن الحب زائد جنسًا هو مجال وان المحبة الروحية مجال آخر والتربية مجال ثالث. أقول إن هذه كلّها متلاقية في حضرة الرب وأزيد أن الرب في الجسد كما هو في القلب والعقل.

غير أن هذا التلاحم مستحيل ان لم تؤمن بأن هبوب الروح الإلهي فيك وفي امرأتك هو في الدرجة الأولى الزواج. الجسد على ضعفاته وهبوطه وارتفاعه اذا انسكب عليه الإيمان مقر لله. والتلاقي الجنسي عبادة لله اذا كان الله أكرم ونزل الى هذا الثنائي الطيّب الكريم والى عائلة تقوم على تمجيد اسمه.

كان لي نكتة ظاهرها مزاح وهي ان القديسين وحدهم لهم الحق في الزواج. زواجهم كامل بكل مركباته. الزواج دعوة عظيمة تعني بالأقل اننا بلا مسعى الى القداسة نكون في طريق التهلكة وطريق العبث بحياتنا العائليّة. العائلة لك ان تجعلها ان كنت مؤمنًا بيتًا من بيوت الملكوت على الأرض تصل به الى الصفاء الكبير والحرية المذهلة.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

الحاكم / الأحد 9 تموز 2006 / العدد 28

الحاكم رئيسًا كان للجمهورية أو وزيرًا او قاضيًا فضيلته الأساسية أنه يحبّ العدل اي ينصف الناس جميعا وعلى السواء ولا يميل الى ابن طائفته او منطقته ولا يؤْثر الغني على الفقير ولا ينتظر شيئا من الأغنياء لأن التقرب اليهم او الى ابناء ملّته او ضيعته يجعل عقله يطيش وفكره ينحرف.

هو دائما في حالة الخروج من شهواته وموداته وأصدقائه ليكون فمًا للحق او يدًا. وهو على مثال الله لا يحابي الوجوه اذ لا بد ان يطمئن الناس اليه ويحسّوا ان الوطن للجميع وان الوطن يحميهم من المجرمين والظالمين. ومن المعروف عند الجميع ان القاضي يتنحّى من نفسه ان كان المتقاضي نسيبه او كان صديقًا مقرّبا لئلا ينجرّ وراء عاطفة فيضيع العدل الذي هو خادمه.

قد يخطئ الحاكم او القاضي. لذلك يجب عليه ان يدرس القضية التي يعالجها درسا دقيقا خوفا من ان يزلّ. ولن يزلّ اذا عشق الحق وعرف انه يشفي المواطنين به وان كان هـذا ضد ما يشتـهـون. من هنا ان الحاكم يحتاج دوما الى الاتصال بالله اي ان يتطهر باستمرار بالكلمة الإلهية ليأتي حكمه او قراره وفق قلب الله فيفهم، اذ ذاك، ان الله يسوس الشعب بحكمه او قراره.

وحتى يحصل هذا فالمسؤول يكتفي بمعاشه ولا يرتشي. فهو أشبه بالراهب الذي لا يبتغي مالا ولا سلطة. ويقول مع الياس النبي: “حي هو الله الذي انا واقف امامه”. وأراد النبي انه ليس واقفا امام الملك ولا ينصاع لأوامره ولكنه ينفّذ الكلمة التي يوحي اليه الله بها. واذا عدلت الدولة فلا نحس بوطأتها او أذاها. واما اذا ظلم الرعية مسؤول فيها فيقع المواطن في إحباط وتتشتت الرعيّة.

هذا يتطلّب ان تكون الدولة غنيّة اي ان نجعلها نحن غنية بدفع الضرائب وألا نخرب شيئًا في البلد. أنت لا يحق لك أن تنتظر رعاية الدولة اياك ما لم تقم بواجبك تجاهها، الأمر العائد بالنفع على أبناء البلد جميعا. هناك آليات لمحاسبة الدولة اساسا. مجلس النواب اداة من ادوات هذه المحاسبة. فلا تنتخب الا نائبا شجاعا، حرا دأبه ان يحاسب الحكومة لكي تهتم هي بك.

هذا يعني ان كل المسؤولين ينبغي ان يكونوا مثل الرهبان مع احتفاظهم بأموالهم واولادهم وأثوابهم والا يعاشروا كثيرا المجتمع الثري لئلا يتأثروا به وان يرتبطوا بعهد مع الله حتى لا يشتهوا هذه الدنيا وينكبّوا على ما يغري بها فإن الإغراء يلهيهم عن العدل.

وإن انت تمنيت ان تصبح موظفا في الدولة كبيرا او وزيرا فلك ذلك على ان يكون محركك هو الخدمة. لا مانع ان ترى في نفسك هذه المواهب ثم ان تقتنع ان هذه المواهب هي للخدمة حتى تشارك في تحسين البلد وتقويمه.

الحكم جميل فقط لتصنع به اعمالا جميلة. فاذا تهيأت بالدراسة والفكر السياسي لتصير وزيرا فهذا جيد، وأن تهيأ بعلم الحقوق والقضاء لتصبح قاضيا فـهـذا جـمـيـل أيـضا. أمـا اذا طـمـحـت الـى منصـب حبا بالسلطة فأنت مفسد لضميرك ومدمّر للأمّة. العدل جميل والإدارة جميلة. وتخدم فيها ككاهن يخدم المذبح. حَسَنٌ ان تشتهي وظيفة تليق بك وانت مهيّأ لها على الا تعتبرها معبرا الى المال لأن “محبة المال أصل كل الشرور” كما يقول الرسول. ادخل طاهرا وابقَ طاهرًا واخرج طاهرا ليرضى الله عنك ويتعلّم الناس منك الطهارة.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

الطفل / السبت 8 تموز 2007

لم يتكلم يسوع عن الطفل باعتباره في العائلة. أصلاً لم يقل السيد كلمة عن العائلة ولا بولس قال ما تعدّى عناية الأهل بأولادهم. على انه وضع رؤية صوفية عن الزوج البشري وعن علاقة الزوجين الى ان تكون صورة عن محبة المسيح للكنيسة الا انه حذّر من الإنتماء القبلي الى العائلة ووحّدنا بما سماه بولس في ما بعد عائلة الله. لكن المعلّم خصص شخصًا واحدًا في فكره وهو الطفل.

غير أن السيد لم يبد اهتمامًا للحياة المجتمعية للطفل في الحديث المباشر عن تربيته ليس لأن المسيحية ديانة «روحانية» كما يتهمها بعض ويلمحون بذا الى انها ناقصة ولكن لأن الأسس تهمّ المسيح فاذا وضعها فكأنه يضع العمارة كلّها.

الواضح لمن يتتبع النصوص التأسيسية ان الطفل في قيمته يأتي من يسوع وإن تجاهلته أجيال كثيرة في بلدان كثيرة لماذا كان يجب أن يؤدب الطفل بصورة عنيفة على توالي القرون لنصل منذ سنوات معدودات فقط الى حقوق الطفل؟ بماذا كان ينبغي ان نكافح عمالة الأطفال وأمية الأطفال ولم يدخل هذا في عقول البشر منذ أقدم العصور؟ لماذا لم يفهم الأهل أن للطفل لغة ومعاملة الا حديثًا؟ لماذا كان لا بد أن يعيش الأطفال في عزلة وان يتعامل معهم الكبار في المراهقة فقط؟ هذا هو سر البلادة العقلية الذي لازم القسم الراقي من البشرية طويلا ويلازم حتى اليوم الجزء الفقير والمقهور منها.

الطفل عالم بحد نفسه ويجب أن تفهمه انت في مرحلية سيره الى بلوغه ورشده. وأظن أن الفضل في عالم التربية الحديثة القائم على علم النفس كشف لنا فرادة الطفل وشخصيته وسره وكيف نسطيع ان نتنازل ليظهر على مواهبه فتعطيه ما وهبت ويعطيك ما وهُب. ولعل هذا اكتشاف لنا جديد بالنسبة الى أجيال قريبة منا كانت تعتقد ان الكمال هو في الكهولة. فأهمل الطفل اذ ظن انه فقط مشروع رجل أو امرأة وانه عندنموّه نعامله عقليًا. فمن المؤكد طبعًا ان أجيالاً كثيرة عبرت ولا تعرف شيئًا عن هذا الوجود الضخم الذي يسبق العقل العاقل الواضح. كان ينظر الى الطفل كأنه حي ينمو جسديًا بانتظار تفتق العقل فيه. كانوا ينظرون الى الطفل على انه يتلقّى واذا خاطبوه فمن عليائهم الى ان يصل الى هذه العلياء بالعقل. كان عالم الطفولة مجهولاً الا من حيث حاجته الى طعام وشراب وكساء ونظافة. كيان بيولوجي غامض التركيب يستخدم الطب لإنمائه وشيء من الغنج لمسرة البالغين.

#  #  #

الذين هم للناصري سلكوا وكأنهم لم يفهموا شيئًا عن قيمة الطفل في عينيه. انها، في الحقيقة، لا تقدّر بثمن. الطفل كان محتقرًا في اسرائيل القديم. لا يتعاطى غير التعليم من لم يبلغ الثلاثين. العمر، قبل هذه السن، يكتنفه الغموض. عند سؤال التلاميذ المعلّم: «من تراه الأكبر في ملكوت السموات» يدعو طفلاً على طريقته التربوية ويقيمه في الوسط قائلا: «الحق أقول لكم: ان لم تعودوا مثل الأطفال لا تدخلوا ملكوت السموات» (متى 18: 3) وكيف يعود الانسان مثل الأطفال. يجيب هو عن السؤال الذي طرحه: «فمن وضع نفسه وصار مثل هذا الطفل، فذاك هو الأكبر في ملكوت السموات». هو طبعا لم يقل من صار طفلاً ولكن قال: مثل هذا الطفل لأنه لا يريد قصرًا عقليًا أو قلة نمو سيكولوجي اذ النضج من شروط من يستمع الى الكلمة جيدًا. ان كلام المعلم مركز بوضوح على قوله: «من وضع نفسه». ذلك لأن الطفل لا يعرف نفسه عظيمًا. لا يريد المعلم منا عفوية دائمًا وكلامًا غير معقول أو غير متزن ككلمات الصغار ولكنه يريد نفسًا كنفس الأطفال أي ما كان يظن، عند ذاك، أنه براءة. ما من شك في أن الطفل يكذب. الطفل بريء لأنه لا يعرف انه يكذب لكونه يعيش في عالم تصورات تحجب عنه الحقيقة. الطفل غير ساذج ويحوك عالمًا من الحكايات يظنها حقيقة. فلكونه لا يفرّق بين الصدق والكذب يحيا خارج الواقع. لكونه لا يعرف يحسب على انه خارج الهوة القائمة بين الصدق والكذب.

يسوع لا يريدنا ان نتشبّه بالأطفال من حيث انهم لا تمييز عندهم بين الخير والشر ولكنه يدعونا الى ان نصير مثل الأطفال من حيث انهم في بساطة لهم حقيقية لا يعتبرون أنفسهم شيئًا (فمن وضع نفسه وصار مثل هذا الطفل). اذًا، انت بالغًا مدعو لا الى ان تصير ساذجا كالطفل لأن الحكمة هبة الهيّة ولكنك مدعو الى بساطة القلب ونقاوته وبهما تتجاوز رؤية نفسك شيئا. قول السيد هو «فمن وضع نفسه وصار مثل هذا الطفل» –ولم يقل وصار طفلاً- فذاك هو الأكبر في ملكوت السموات.

في هذا المنحى يقول السيد: «من قبل طفلاً مثله إكرامًا لاسمي، فإياي يقبل». أجل يريدنا الرب أن نعلي شأن الطفل في حضارة تحتقره أو في مجتمع قد يحتقره. يريدنا أن نكتشف الطفل ومعمودية الاطفال كانت من هذا القبيل. ويريدنا ان نتعلّم من الطفل بساطته لأن كذبه ليس كذبًا.

في تلك الحضارة اليهودية والعالمية آنذاك حيث كان الطفل محتقرًا قال يسوع: «ومن قبل طفلاً مثله إكرامًا لاسمي فاياي يقبل». يسوع يجعل نفسه مثل الأصغرين الذين لم يبلغوا النضج العقلي. ان تقبلهم على انهم أحبة الله، أن ترفع شأنهم كالكبار. أن تحترم طفولتهم هو ان تقبل المسيح بالذات.الى هذا «من عرّض أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي للخطيئة، فأولى به أن تُعلّق الرحى في عنقه ويلقى في لجّة البحر» بعد قليل يعمم يسوع حكمه ويندد بكل من عرّض غيره للخطيئة أي بكل من أعثر الآخر. ويهم يسوع أولا الاّ تعثر هؤلاء الصغار لأنك قد تدفعهم الى المعصية باكرًا ويقعون في أعماقها لأنهم تعلموها وهم صغار.

ذروة الكلام ألاّ تخطىء أمام الأطفال والاولاد ولا مع أحد أو امام أحد لأنك قادر بسوء تصرّفك على أن تزج ناسًا في جهنّم. طبعًا قد تؤثر خطيئة «صغيرة» تأثيرًا كبيرًا. هذا يدعونا الى مراقبة شديدة لسلوكنا. في الحقيقة لست مسؤولاً الا اذا كان عملك سيئًا أو مؤذيًا بحدّ نفسه.

هذا كلّه يدعو الأهل الى رقابة شديدة على كلامهم وسلوكهم وما يشاهدون على الشاشة في حضور أولادهم. المزاح الثقيل وحديث النميمة وسبّ الآخرين وشتمهم، كل هذا يخرّب ضمائر الصغار تخريبًا. الذين تعرف أنهم ليسوا خفيفي الروح ولا يميزون بين الجد والمزح جديًا يصطدمون عند المزاح.

التقوى تقوم على الارتباط بينك وبين الآخرين. لذلك ينبغي أن يأتي كلامك ذهبًا تصلح به القلوب. أي سلوك تسلكه بقسوة، بجفاف يمكن أن يؤذي من يراك. أنت مسؤول عن أخيك لئلا يموت روحيّا وقد يموت. أخوك من قلبك ومن روحك. احفظه بطهارتك.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

العائلة مهددة/ الأحد 2 تموز 2006 / العدد 27

العائلة قائمة إنْ أنت آمنت أن الله يريدها أن تصمد وإن دعمتها بسلوك مسيحي طاهر -إذا كنت أبا ومحبا لزوجتك- وسلوك رعاية دؤوب لأولادك. العائلة كيان تدعمه باستمرار او يتعرض لخطر الانهيار او التشقق. لا يكفي أن تتكلل لتنشئ العائلة. هذا سهر يومي وتجميل لأخلاقك حتى يقوم البيت على أسس المحبة والحكمة. وإلا كانت في ظاهرها قائمة وفي حقيقتها متصدعة، وقد تنتهي بما يكرهه الله والقديسون اعني الطلاق.

ينبغي أن تكون متعقّلا عندما تقدم على الزواج. واسمحوا لي ان اكون صريحًا جدًا لغيرتي عليكم. هناك نوعان من الرجال ممنوع الزواج عليهم. الانحراف (الذي يسمّى اليوم المثليّة الجنسيّة) والعجز الجنسي مانعان أساسيان للزواج. إذا كنت مصابا بأحد هذين الأمرين فضميرك ينبغي ان يمنعك. المرأة ليست شخصًا ندخل معه في اختبار. اذا دلك اختبارك على عدم الأهلية فتحمّل مسؤوليتك وكن شجاعا وامتنع في هاتين الحالتين.

الشيء الثاني لا تقم بزواج عقلي محض قائم على الحسابات. هناك حد أدنى من المودة والانجذاب ان لم تشعر بهما لا يحق لك ان تطلب يد صبية دلك واحد عليها ولا تحس تجاهها بأية عاطفة.

الشيء الثالث أنك تدخل في المشروع على أساس انه رحلة العمر وليس مؤقتا وانك قد تكتشف في الآخر أخطاء أو عيوبا. قد ترى الفتاة ان الشاب بخيل. هذا لا يبطل الزواج. قد يلحظ أحدهما مرضا لم يصرح الآخر به. لا شيء يضطره على ذلك. هذا لا يبطل الزواج. انت تتحمّل كل الأوضاع الصحية عند رفيق حياتك المجهولة منها او الطارئة. ليس الزواج مشروطا بصحة كاملة او عقل عظيم. وقد لا تجد الرفيق كثير الذكاء او عظيمًا في القداسة. تكمل مع ذلك المشوار.
مهما كانت الأوضاع- الا ما يذكره القانون على أنه سبب للانفصال- المبدأ في الحياة الزوجية الإخلاص. انت، عند اكليلك، تعاهد الله على أن تعف عن الجنس الآخر كليا وان ترافق الزوج او الزوجة. ذلك ان الإخلاص يعني انك اخترت رفيقًا واحدًا لحياتك العائلية ولا تسعى الى آخر. وهذا ليس سهلًا عند كل الناس. ولكنك تصلي لحفظ طهارتك وتهرب من الأشخاص الذين تحس انهم يريدون إغراءك وأن يكسروا لك بيتك.

الحياة الزوجية جهاد مستمر تخصبه النعمة الإلهية. هو ترهُّب لأنه ارتباط بوجه واحد مهما تعب او مرض أو شاخ. ففي الكهولة والشيخوخة جمالات ليست أقل فرحًا من عهد الصبا.

في كل مراحل حياتك الزوجية افهم ان المشاركة بركة من الله وانك لا تكتمل الا بالآخر. ان ترعاه ويرعاك . وافهم كذلك ان كل تشقق في العائلة مؤذٍ للأطفال وان الطلاق مؤذٍ كليا. وافهم أيضا ان الأولاد لا ينمون الا برعاية الوالد والوالدة معا وليس في ان يقضي الولد وقتًا عند أبيه ووقتًا عند أمه المفصولين. وابنك اساسي لنضجك كما انت أساسي لنموه.
اذا اكتملت عناصر محبتك للآخر وحفظت نفسك والآخر من الدنس وحنوت على بنيك وبناتك ورافـقـتـهم حتى بـعـد سن الرشـد وتابعتـهم ولـو تـزوجـوا وضممتَ أحفادك إليك فهذا سر سعادتك على الأرض التي أعْطاها الله اياك. وهذا قد يكون مدخلك الى الملكوت.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

العائلة / السبت في 1 تموز 2006

العائلة ليست مؤسسة فقط، هي روح، واذا كنا نشاهد اليوم ضعفنا في التماسك العائلي يذهب في كثرة من البلدان الى حد انفراطها فهذا ناتج من ابتعاد الناس عن القيم التي كانت تجعل العائلة صامدة، ما يفسر لنا جزئيًا تلاشي العائلة هو ذلك التعظيم الرهيب لاستقلالية الحب عن تعبيره في الاسرة. ما يفسر ان عائلة من ثلاث عائلات في فرنسا تنتهي بالطلاق هو اعتقاد هؤلاء المطلقين ان ارتباطهم بعضهم ببعض مبني على الحب حصرًا. انهم معًا، يقولون، ما دام الحب قائمًا فاذا انتهى في احساسهم فإنهم ينهون ارتباطهم.

أنا لست عالم اجتماع لأحلل الاسباب الاخرى التي تضع حدًا للأسرة. اذا كان عندك تقديريًا عشرة بالمئة من المثليين في كثير من بلدان الغرب (لا اعرف النسبة عندنا) فمن الطبيعي ألا يقبل هؤلاء الزواج. لا أعرف اذا كان العامل الاقتصادي يساهم في انهاء الزوجية. سمعت في المحاكم الروحية عند المسيحيين ان البخل سبب من أسباب نفور المرأة من الزوج. ولكن ما من شك في ان ظاهرة المثلية من العناصر المؤثرة في تهديم العائلة وفي المثل العليا التي تقوم عليها.

غير أن الفلسفة السائدة في الغرب ان الحب مفهومًا هوى او غرامًا او هيامًا هو الذي تقوم عليه علاقة الجنس. فالجنس اذًا حر كالهوى فاذا بلغ المتزوجون مرحلة الفتور العاطفي او العلاقة الرتيبة فلماذا تبقى العلاقة؟ فتحويل الحب الى مؤسسة، يقول هؤلاء، يجعل المؤسسة بلا نفع.

في الواقع تبقى الألوف المؤلفة من الازواج مرتبطة بقانون لا تملأه عاطفة. وتتحول العلاقة الانسانية، الوجدانية، الشعورية التي بدأ بها الزواج الى علاقة شبق وتكرار فعل لا يتحرك فيه الشعور او قلما يتحرك وكأن الانسان مقهور بعلاقة كثيرًا ما ضعفت فيها اللذة نفسها اذ تكون قد فرغت من الفرح. والزوجية فرح او ليست بشيء. لذلك عند اخفاق هذه الوحدة الانسانية التي تقوم عليها الزوجية يرتفع السؤال من نفسه: لماذا كل هذا النظام؟ في الحقيقة ان الاحساس بالنظام يتكون من فقدان الحياة العاطفية أما اذا كنت لا تزال على علاقة حب فلا يخطر النظام على ذهنك.

مثل هذا التساؤل يخطر على عقل الانسان في اي وضع كان فيه. على سبيل المثال تشك احيانًا في الوطن اذا كانت دولته تقمعك أو لا تقدم لك شيئًا. من هنا انك تهاجر فإنك ما كنت قادرًا على ان تحب بلدك والقائمون عليه لا يحبونك. مثال آخر عشناه كثيرًا في هذه البلاد: اذا احسست ان الرئيس الروحي في كنيستك لا يسهر عليك ولا يرعاك تفتش عن كنيسة تظن انك تجد فيها انتعاشًا لنفسك او حرارة لقلبك. لا تفهم ان وجود الوطن حياة لك ولو أهمله أولو الأمر. لا تفهم ان كنيستك عظيمة في تعليمها وتغذيتها لك كائنًا ما كان سلوك الكاهن او الاسقف. في المثل الاول تكون حولت الاول الى وجود مشروط وفي المثل الثاني تكون حولت الكنيسة الى البشر القيمين عليها في حين ان الوطن روح والكنيسة روح وانت لا تعلم او لا تريد ان تعلم.

#  #  #

قلت: العائلة روح وانت تقتل الروح بالفتور او تحييه اذا ايقنت ان العائلة لا تلغى بخطايا الزوج او الزوجة واذا ادركت ان الحب يتجدد كلما ازددت اخلاصًا وقويت في العطاء، ولست في حاجة الى علم كبير لتعرف ان هذا الجسد يهدأ في آخر الكهولة وان المحبة لا تهدأ لأنها تأتي من الله. ولست في حاجة الى علم كبير لتعلم ان «المحبة اقوى من الموت» واثبت من الجنس. الزواج ليس كله مضجعًا ولكن كله اخلاص.

لماذا الاخلاص؟ لأنك عاهدت كائنًا آخر عليه، ان كنت لا تؤمن بالعهد الزوجي وتؤمن فقط بالعاطفة الجياشة وما يرافقها من شهوة كان الافضل ألا تتزوج. اذا كنت تحسب ان الزواج مؤسسة او قانون ومجرد مكان للحقوق والواجبات فكان الاحرى بك ألا ترتبط. مرة جاءني رجل وامرأته وقالا لي: «اننا اتفقنا على الطلاق». قلت لهما انتما تتكلمان وكأن الزواج عقد ثنائي قائم مقام التراضي وتجهلان انه ليس عقدًا ثنائيًا ولكنه عقد ثلاثي… قالا: من الثالث؟ قلت بل الاول هو الله. اذا كنت لا تؤمن بالله في الحقيقة اي في اعماق نفسك وكنت لا تؤمن ان الرب هو الجامع فما كان عليك ان تقترن بامرأة.

أنا أمضيت اثنتي عشرة سنة قاضيًا في الاستئناف في كنيستي في لبنان وجلست سنتين قاضي محكمة البداية في ابرشيتي وعرفت شقاء عائلات كثيرة جاءت الي للمحاكمة كما عرفت تعس عائلات اخرى جاءتني مسترشدة وفهمت صعوبة الاوضاع كما عرفت ان مواجهتها غير ممكنة ان لم يعد الله الى قلوب متنافرة وكثيرا ما تنافرت لاسباب غير جدية وادركت ان الناس لا يعرفون الصبر الذي لا يحل على انسان الا من ايمانه، والصبر ان تعيش مع الله ورفيقك في الصعوبة، الحياة العائلية فيها عسر كثير لاسباب عديدة اهمها في متابعتي لاحوال النفس ان الرجل لا يعرف امرأته في مرحلة الخطبة واذ به يفاجأ بعيوب تصدمه وتتكشف له عيوب الفترة بعد الفترة ولم يقرأ كلمة الكتاب: «احملوا بعضكم اثقال بعض وهكذا تمموا شريعة المسيح». ولم يعلم هذا الانسان ان التراحم والتواد بين اثنين أفي الزوجة عاشا أم في الحياة الاجتماعية انما لا يحصلان بلا تعب.

#  #  #

لماذا المعية؟ لانك لا تكتمل الا بالآخر الذي ارتبطت بخدمته والانتباه اليه ورعايته بالحب الالهي وليس فقط بعفوية القلب البشري الذي قد يقف او اقله يفتر. ليس من اخلاص فينا للوطن او الكنيسة يقوم فقط على ما نكسبه منهما، ليس من كتابة عظيمة تستقيم للأديب بلا دوام دراسة اذا ما زال الارتعاش، ما من مؤمن كبير لم يعرف انقطاع النعمة الالهية حينا بعد حين وما من قديس لم يخطئ، انت، مؤمنا، لا تنتقل من مجد الى مجد على الدوام. انت تنكسر وتجبر النعمة كسرك وتعيدك الى رؤية محبة الله اياك.

#  #  #

ثم هناك الاولاد الذين هم فرحة لا تفوقها الا فرحة الروحانيين بالصلاة الدائمة التي بها يحسون انهم ابناء الله المدللون، كلنا اختبر في العيلة او عند اصدقائه ان الولد يكلف سهرا طويلا وعناء كثيرا ووقتا غير محدود وقد يطول وقت العناية الى سن متقدمة.

هذا الولد لا يمكن ان تعنى به مربية غريبة تستحيل عندها عاطفة الاهل. اظن ان العائلة تثبت بالاولاد وهم يثبتون بالعناية التي يتلقون والكثيرون منهم يثبتون على الايمان والرجاء والمحبة لكونهم رأوا هذا في ذويهم، يقول معلمي كوستي بندلي في هذا المجال انك لن تعرف الله «أبًا لك الا اذا احسست بأبوة ابيك الجسدي، الانسانية هكذا قائمة على انك تلد ابنك وتربيه وكذلك هو يربيك، ولذلك قالت احدى العالمات الفرنسيات في دراستها حول الجنس ان العائلة على رغم السقوط الاخلاقي العميم – باقية الى الابد. ويقول كل العلماء الذين تتبعوا حالة اولاد المطلقين ان هؤلاء في حالات كثيرة تؤثر فيهم صدمات الانفصال. فالولد ليس فقط ابن ابيه وامه ولكنهما ابنهما مجتمعين فان كلا منا، نفسيا رجل وامراة معًا ولا تتكون شخصيتنا اذا امضينا اياما من الاسبوع مع الوالد واياما مع الوالدة ولكنها تتكون اذا انصبّ فينا الراقدان متعاملين، متلاقيين.

هنا استحضر الفيلسوف العظيم هنري برغسون القائل ان من قطف لذة الزرع يجب ان يحتمل عناء الحصاد، لا تقول كنيستي ان الزواج غايته الانجاب ولكن الانجاب ثمرته المباركة. «المرأة وهي تلد تحزن لان ساعتها قد جاءت. ولكن متى ولدت الطفل لا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح لانه قد ولد انسان في العالم» (يوحنا 21: 16).

الفرح لا يقتصر على ايلادك ولدك ولكن على ايلاد الرجل زوجته او المرأة زوجها. هو فرح العطاء المستمر المضني ولكنه الفرح، انا لا استطيع ان اعرف مقاصد الله في تكاثر الجنس البشري، ولكني احس بأن الله اله الفرح وان ما يهمه من كل قصتنا في الزواج ان نبدع ذاك الذي يرافقنا بدوام المحبة وهي غير مشروطة بما قدمه الرفيق او بما يعطينا الاولاد، انا اعلم ان الانسانية في الحياة العائلية عرفت جمالات روحية لا توصف وحققت قداسة مذهلة. وهذا لن يظهر في انسانية اليوم ما لم تعرف ربها من جديد.

Continue reading