1964, لسان الحال, مقالات

خطايا الراشدين / الأحد 13 أيلول 1964

كنت مرّة أكلّم فئة من الأحداث في فضيلة التواضع. بعد ربع ساعة شعرت بأنّهم لم يفهموا من الحديث شيئًا فأدركت أنّهم لم يعرفوا الكبرياء ولعلّها لم تمسّهم وكأنّ نوعًا من الزلاّت يظهر في سنّ معيّنة. بل هناك أكثر من ذلك. بدون الحياة الإجتماعيّة ومسؤوليّاتها لا ينكشف للإنسان شقاؤه. ليس أن الجماعة سبب المعاصي ولكن هذا السيل من الآثام منسكب من داخلنا عندما تمتحن الحياة اخلاصنا. مسكين هذا الإنسان الذي يعف بسبب قصر الطفولة وعجز الشيخوخة. ومن هذا القبيل كانت الشيخوخة رحمة لأنّها تفضح ثقل الماضي وتفاهته. هي تضجك في حكمتها من جهل غرقت فيه ولعلّ الحكمة، على العموم، نضوج ناتج من تراكم الأخطاء.

ومع هذا كلّه ليس الشيوخ كلّهم من أهل الفطنة. ليس كذلك بالضرورة لأنّ شرّ الإنسان راسخ فيه حتى الموت. فالنفس كثيرًا ما تبقى على ضلالها حتّى النهاية ولا ترتوي حتى إذا دنا اللامق الأخير. لا يرتدع الإنسان بقوّة الموت إذا اقترب بشيئ أقوى من الموت نفسه هو العاصم. قل هو الإيمان أو هو المحبّة. إنّه أمر ربك تطلّ عليه الطفولة ويعرفه الشباب بنوع خاص كلّما ساقته خطيئة إلى اليأس. اليأس من الإنسان الذي لا خير فيه ولا متوكّل عليه.

اليأس مرحلة أساسيّة من مراحل الرجاء. ذلك لأنّ الرجاء رجاء بالله. الثقة ليست بالنفس بل برب النفس. يبتدئ اليأس عندما ندرك ضعفنا اللامحدود. إنّه شرط الإنطلاقات الروحيّة لأنّه الوضوح. يأس من الشباب ويأس من الشيخوخة قال لي أحدهم وأنا أتكلّم مثل هذا الكلام. إنّك تثبط العزيمة. ولكن إذا كانت العزيمة دائمًا تنتهي بالإخفاق. إن كان الإنسان يتبيّن فشل مساعيه باستمرار، كيف يجوز أن نتحدّث عن مكاسب الإنسان، اليوم أو غدًا، في المجال الروحيّ؟ أليست الفائدة من بلوغ الشيخوخة أن نتبيّن فساد الحياة كلّها، أن نعتبر الإنسان، طيلة حياته، بطلانًا ومدعاة إلى رجاء ينبع فقط من دفقات السماء.

قيمة الحياة كلّها في هذا: أن تكشف عراءنا الكامل أمام الله إذ انتهينا إلى عتبة ملكوته. العمر، ولا سيّما إذا كان، فرصة لهذا الإكتشاف. مدرسة يمكن أن نتعلّم فيها فقرنا. خطيئات الراشدين فائدتها- إذا صحّ التعبير- تبيان هذا الفقر كاملاً. أجل، الخطيئة جزء من ترويض الله لنا على محبّته فحيث كثرت تغمرها النعمة وفي مقابلتها تتجلّى الرحمة الواسعة. تراكم الحطايا، استفحال يأس نت الإنسان، ازدياد في الرجاء إلى أن تصفو النفس به فتطمئنّ إلى ما يأتيها من فوق اطمئنانًا هو السعادة عينها.

Continue reading