بين الدين والدنيا / السبت 31 تشرين الأول 2009
كلّ شعوب الأرض تعرف بَونًا وتوتُّرًا بين ما أسمّيه الدهر الحاضر والدهر الآتي او ما يسمّيه المسلمون الدنيا والآخرة. ومع تأكيد الأهميّة الكبرى للدنيا في الإسلام (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) يقول القرآن: «ولَلآخرة خير لكم من الأولى» (سورة الضحى، 4).
في المسيحية هذه الإشكالية من الدقة في مكان لأن ما تسمّيه الحياة الأبدية تبدأ هنا والجسد لا يفنى عند اندراجه في السماويات عند اليوم الأخير، واذا صحّ ما يقوله علماء الإسلام انه دين ودنيا فلا أساس لما يُقال عن المسيحية انها دين لا دنيا فيه اذ الصحيح انها دين في الدنيا ليس في المسيحيةمن روحانيات تسبح في السماء ولا علاقة لها بأهل الأرض.
حتى في النظام الشيوعي كان هناك ما يشبه الآخرة اي مسافة بين الوجود السياسي والمثال الأعلى في السياسة اي كان هناك نوع من الآخرة او من المرجوّ وقيل انه الفردوس المفقود. واختزالا ساغ القول التبسيطي إن قيامنا على الأرض أرضيّ فقط او أرضيّ يطمح الى السماء. السؤال هو هل اذا كنت على الأرض انت منها أَم انت فيها ولست منها لأنك ربوبيّ؟
هذا في البلدان «الراقية» التي تميّز بين ما هو للدولة وما هو للدين الذي تعتبره قناعة شخصيّة. المسألة تزداد تعقّدًا في بلد كلبنان حيث المجموعات الدينيّة اي الأخروية أصلا وامتيازا هي التي تفعل السياسة. السؤال فيها هو ما هو لله وما هو لقيصر، وهل التفريق ممكن بينهما في نظام كهذا؟ هل الجماعة الدينية لها أن تقف كدويلة إزاء البناء الوطني الجامع الذي هو الدولة الحالمة باستقلالها عن الدويلات. هل هذه الجماعة هاجسها أساسا وأولا أن تطلب الله وتسعى اليه أَم ان إلهامها آخر. ان تثبّت قدميها في الأرض بنوع من التواصل او الاتحاد بين ما هو أخروي وخلاصي من جهة وبين ما هو من واقع الوجود السياسي من جهة.
# #
#
لفتني مؤخرا فيما كنت ادرس بعض الحركات السلفية غير الجهادية أنها تأخذ على بعض المراجع اهتمامها بالسياسة كأن النزعة الأخروية فيها تقوى على نزعة المسيرة السياسيّة. ولكن من الواضح في العالم المسيحي، مأخوذًا بجملته، أن ليس فيه اعتزال العالم. هذا جهل عميم في العالم العربي لطبيعة الرهبانيّة وجهل يبدو الآن في الأوساط المسيحية التي لم تذق نكهة الرهبانية. يقول القرآن في سورة الحديد ان الرهبانية ابتغاء رضوان الله. واذا كانت المسيحية أصلا وكُلاً ديانة التجسّد، معنى ذلك انها شاهدة في العالم وإن ابتعد حاملوها جغرافيًا عن المدن.
غير ان هذا البعد لم يبقَ ممكنا في العالم الحديث حيث يلحق بك الإسمنت الحديد الى كل مكان. لم يبقَ دير واحد في الصحراء اذ لم يبقَ الا الصحراء الكبرى في افريقيا. الرهبانية ليست عزلة بل تركيز على التطهّر الذاتي ابتغاء طهارة الجميع وقداسة العالم.
ليس المجال هنا لأذكر بأن الرهبانية الغربية لها الفضل الكبير في تعمير اوربا، وبأن الرهبانية الروسية بنت كل روسيا القديمة مدينة مدينة انطلاقا من كييف. والمسيحي المتزوّج عندنا راهب في القلب اي يعفّ عن شهوات الدنيا كالراهب. الناس كلهم، رهبانًا كانوا أَم غير رهبان، ليس عندهم عصمة، وأعلى سور لأي دير، يقول كيركيغور، تقفزه الخطيئة.
واذا بقينا في المجال السياسي أذكر بأن تنظيم سويسرا الذي أنهى فيها حروبا طويلة هو وضعُ راهبٍ عظيم وفكر المتقدسين او المتألهين أفعل في فضاء السياسة من فكر سياسي متحذلق، مصلحي، دنس احيانا. دائما ألحظ أن وراء انتقاد الرهبنة كفكر او مؤسسة نكران لفاعلية الصلاة والفضائل المفروض أنها تشعّ وراء أسوار الدير وخارجها.
# #
#
من الوصف الذي ورد لا يسعني الا أن أقول ان الطائفة -وهذه رؤية مسيحيّة- دينية اولاً وان دنياها تأتي من دينها اي من أخرويتها، ولا تكون دنيوية اولاً وتصطبغ بدين ما. الدين ليس قشرة اولية دينها طابعها الأول ويتبعها الطابع المدني، وإن لم يكن هذا الطابع الأول تعيش في نوع من التشويش بين روحانيتها وانتمائها الى العالم، وبتشوُّش صفة رئيسها الروحي. انت لا تستطيع ان تكون موجّها روحيا ورئيس قبيلة في آن، اذ لا يصحّ فيك، عند ذاك، اعتقادك ان «الآخرة خير لك من الدنيا» او لا يصح فيك قول يسوع الناصري: «مملكتي ليست من هذا العالم».
ان هذه القولة للمسيح لا تعني رفضا للوجود السياسي، هذا الذي اعترف به المسيح اذ قال لبيلاطس: «لم يكن لك عليّ من سلطان لو لم يُعطَ لك من فوق». هذا تأكيد لاعترافه بسلطان الوالي الروماني، ولو تضمّن انقياد الوالي الى قتل يسوع. في الزمن تشابكات لا بدّ منها وليس في اللاهوت الشرقي ما يدلّ على وجود سلطان روحيّ يأتمر به السلطان الزمني.
الجماعة الدينيّة تعيش في مجالين: مجال الحياة الروحية (الإيمان، العبادات) والحياة الوطنية التي تنبع من المواطنين جميعا الذين تمثّلهم الدولة. وليس من اختلاط في نفس المؤمن بين المجالين. ولكن المؤمن الحق يأتي من ايمانه الى الدنيا ويُشرق إيمانه عليها. غير ان الكنيسة العارفة بوجودها في الأرض عارفة ايضا بوجودها في الملكوت وتقيم فيه فيما تتعاطى الشأن الوطني.
هنا يوضح الاختبار الأرثوذكسي والفكر الكاثوليكي معا أن المسؤول الروحي حتى لا يطوّع مجالا لمجال يتعاطى الشأن الروحي اولا وأساسا والعلمانيين مولجون بالشأن الزمني. اجل هناك جوانب أرضيّة في الحياة الكنسية (مال، عقارات وما الى ذلك). هنا يقول القانون الكنسي القديم عند الأرثوذكس ان الأسقف فور تسلّمه كنيسته يعيّن «مدبرًا» للشؤون الزمنية ولو أشرف هو عليه كما يشرف على كل شيء. والمدبر له حياته الروحية ويستلهمها لإدارة الجوانب الدنيوية، ولا يقول القانون انه يدير الشأن السياسي ولا ذكر في تراثنا ان الكنيسة من حيث هي تتعاطى السياسة بصفتها كنيسة وان كان أهلها يستلهمون ايمانهم ومحبّتهم وإخلاصهم ليرعوا شؤون الدنيا بمنطق الإنجيل من جهة وفي حكمة هذا العالم من جهة.
أعترف أن هذه الثنائيّة صعبة ولكن نواجهها بحكمتين: حكمة الله وحكمة الدهر الحاضر. نحن نعيش في دهرين عالمين ان الحكمة الإلهية فينا تسيطر على حكمة الدنيا التي هي ايضا فينا. ما هو فوق في نفوسنا يوجه ما هو تحت فينا، ويبقى الله أعظم من نفوسنا في ما يبثّه الى فوقياتنا والى تحتياتنا والحياة مسعى الى الرؤية.