Monthly Archives

October 2009

2009, جريدة النهار, مقالات

بين الدين والدنيا / السبت 31 تشرين الأول 2009

كلّ شعوب الأرض تعرف بَونًا وتوتُّرًا بين ما أسمّيه الدهر الحاضر والدهر الآتي او ما يسمّيه المسلمون الدنيا والآخرة. ومع تأكيد الأهميّة الكبرى للدنيا في الإسلام (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) يقول القرآن: «ولَلآخرة خير لكم من الأولى» (سورة الضحى، 4).


في المسيحية هذه الإشكالية من الدقة في مكان لأن ما تسمّيه الحياة الأبدية تبدأ هنا والجسد لا يفنى عند اندراجه في السماويات عند اليوم الأخير، واذا صحّ ما يقوله علماء الإسلام انه دين ودنيا فلا أساس لما يُقال عن المسيحية انها دين لا دنيا فيه اذ الصحيح انها دين في الدنيا ليس في المسيحيةمن روحانيات تسبح في السماء ولا علاقة لها بأهل الأرض.

حتى في النظام الشيوعي كان هناك ما يشبه الآخرة اي مسافة بين الوجود السياسي والمثال الأعلى في السياسة اي كان هناك نوع من الآخرة او من المرجوّ وقيل انه الفردوس المفقود. واختزالا ساغ القول التبسيطي إن قيامنا على الأرض أرضيّ فقط او أرضيّ يطمح الى السماء. السؤال هو هل اذا كنت على الأرض انت منها أَم انت فيها ولست منها لأنك ربوبيّ؟

هذا في البلدان «الراقية» التي تميّز بين ما هو للدولة وما هو للدين الذي تعتبره قناعة شخصيّة. المسألة تزداد تعقّدًا في بلد كلبنان حيث المجموعات الدينيّة اي الأخروية أصلا وامتيازا هي التي تفعل السياسة. السؤال فيها هو ما هو لله وما هو لقيصر، وهل التفريق ممكن بينهما في نظام كهذا؟ هل الجماعة الدينية لها أن تقف كدويلة إزاء البناء الوطني الجامع الذي هو الدولة الحالمة باستقلالها عن الدويلات. هل هذه الجماعة هاجسها أساسا وأولا أن تطلب الله وتسعى اليه أَم ان إلهامها آخر. ان تثبّت قدميها في الأرض بنوع من التواصل او الاتحاد بين ما هو أخروي وخلاصي من جهة وبين ما هو من واقع الوجود السياسي من جهة.
# #
#
لفتني مؤخرا فيما كنت ادرس بعض الحركات السلفية غير الجهادية أنها تأخذ على بعض المراجع اهتمامها بالسياسة كأن النزعة الأخروية فيها تقوى على نزعة المسيرة السياسيّة. ولكن من الواضح في العالم المسيحي، مأخوذًا بجملته، أن ليس فيه اعتزال العالم. هذا جهل عميم في العالم العربي لطبيعة الرهبانيّة وجهل يبدو الآن في الأوساط المسيحية التي لم تذق نكهة الرهبانية. يقول القرآن في سورة الحديد ان الرهبانية ابتغاء رضوان الله. واذا كانت المسيحية أصلا وكُلاً ديانة التجسّد، معنى ذلك انها شاهدة في العالم وإن ابتعد حاملوها جغرافيًا عن المدن.

غير ان هذا البعد لم يبقَ ممكنا في العالم الحديث حيث يلحق بك الإسمنت الحديد الى كل مكان. لم يبقَ دير واحد في الصحراء اذ لم يبقَ الا الصحراء الكبرى في افريقيا. الرهبانية ليست عزلة بل تركيز على التطهّر الذاتي ابتغاء طهارة الجميع وقداسة العالم.

ليس المجال هنا لأذكر بأن الرهبانية الغربية لها الفضل الكبير في تعمير اوربا، وبأن الرهبانية الروسية بنت كل روسيا القديمة مدينة مدينة انطلاقا من كييف. والمسيحي المتزوّج عندنا راهب في القلب اي يعفّ عن شهوات الدنيا كالراهب. الناس كلهم، رهبانًا كانوا أَم غير رهبان، ليس عندهم عصمة، وأعلى سور لأي دير، يقول كيركيغور، تقفزه الخطيئة.

واذا بقينا في المجال السياسي أذكر بأن تنظيم سويسرا الذي أنهى فيها حروبا طويلة هو وضعُ راهبٍ عظيم وفكر المتقدسين او المتألهين أفعل في فضاء السياسة من فكر سياسي متحذلق، مصلحي، دنس احيانا. دائما ألحظ أن وراء انتقاد الرهبنة كفكر او مؤسسة نكران لفاعلية الصلاة والفضائل المفروض أنها تشعّ وراء أسوار الدير وخارجها.

# #
#
من الوصف الذي ورد لا يسعني الا أن أقول ان الطائفة -وهذه رؤية مسيحيّة- دينية اولاً وان دنياها تأتي من دينها اي من أخرويتها، ولا تكون دنيوية اولاً وتصطبغ بدين ما. الدين ليس قشرة اولية دينها طابعها الأول ويتبعها الطابع المدني، وإن لم يكن هذا الطابع الأول تعيش في نوع من التشويش بين روحانيتها وانتمائها الى العالم، وبتشوُّش صفة رئيسها الروحي. انت لا تستطيع ان تكون موجّها روحيا ورئيس قبيلة في آن، اذ لا يصحّ فيك، عند ذاك، اعتقادك ان «الآخرة خير لك من الدنيا» او لا يصح فيك قول يسوع الناصري: «مملكتي ليست من هذا العالم».
ان هذه القولة للمسيح لا تعني رفضا للوجود السياسي، هذا الذي اعترف به المسيح اذ قال لبيلاطس: «لم يكن لك عليّ من سلطان لو لم يُعطَ لك من فوق». هذا تأكيد لاعترافه بسلطان الوالي الروماني، ولو تضمّن انقياد الوالي الى قتل يسوع. في الزمن تشابكات لا بدّ منها وليس في اللاهوت الشرقي ما يدلّ على وجود سلطان روحيّ يأتمر به السلطان الزمني.

الجماعة الدينيّة تعيش في مجالين: مجال الحياة الروحية (الإيمان، العبادات) والحياة الوطنية التي تنبع من المواطنين جميعا الذين تمثّلهم الدولة. وليس من اختلاط في نفس المؤمن بين المجالين. ولكن المؤمن الحق يأتي من ايمانه الى الدنيا ويُشرق إيمانه عليها. غير ان الكنيسة العارفة بوجودها في الأرض عارفة ايضا بوجودها في الملكوت وتقيم فيه فيما تتعاطى الشأن الوطني.

هنا يوضح الاختبار الأرثوذكسي والفكر الكاثوليكي معا أن المسؤول الروحي حتى لا يطوّع مجالا لمجال يتعاطى الشأن الروحي اولا وأساسا والعلمانيين مولجون بالشأن الزمني. اجل هناك جوانب أرضيّة في الحياة الكنسية (مال، عقارات وما الى ذلك). هنا يقول القانون الكنسي القديم عند الأرثوذكس ان الأسقف فور تسلّمه كنيسته يعيّن «مدبرًا» للشؤون الزمنية ولو أشرف هو عليه كما يشرف على كل شيء. والمدبر له حياته الروحية ويستلهمها لإدارة الجوانب الدنيوية، ولا يقول القانون انه يدير الشأن السياسي ولا ذكر في تراثنا ان الكنيسة من حيث هي تتعاطى السياسة بصفتها كنيسة وان كان أهلها يستلهمون ايمانهم ومحبّتهم وإخلاصهم ليرعوا شؤون الدنيا بمنطق الإنجيل من جهة وفي حكمة هذا العالم من جهة.

أعترف أن هذه الثنائيّة صعبة ولكن نواجهها بحكمتين: حكمة الله وحكمة الدهر الحاضر. نحن نعيش في دهرين عالمين ان الحكمة الإلهية فينا تسيطر على حكمة الدنيا التي هي ايضا فينا. ما هو فوق في نفوسنا يوجه ما هو تحت فينا، ويبقى الله أعظم من نفوسنا في ما يبثّه الى فوقياتنا والى تحتياتنا والحياة مسعى الى الرؤية.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

بولس والرسل الأوائل / الأحد 25 تشرين الأول 2009 / العدد 43

خصوم بولس الرسول كانوا يذيعون أن “إنجيله” اي بشارته غير مؤسس على شيء لأنه لم يعرف يسوع شخصيا، لم يره وأنه مدين لمسيحيين سبقوه مثل حنانيا الذي عمّده. هو لم ينكر اتصاله بالأوائل ولا ينكر أنه أخذ عنهم وقائع تتعلق بحياة الرب وموته وقيامته. انما هو يعطي فهمه لهذه الأشياء.

لم يتسلّم إنجيله من إنسان او يتعلّمه من إنسان ولو كان تعليمه حسب إنسان محدد وفق حكمة هذا العالم. إنجيله مؤسس على ظهور الرب له على الطريق المستقيم المنتهي في دمشق (عند باب شرقي اليوم حيث تقوم بطريركيتنا). وكان له رؤى أخرى. من هذه الزاوية أمكن القول ان رؤىته للمسيح القائم لا تقلّ قيمة عن ظهورات الرب القائم لتلاميذه. الرؤى التي شاهدوها أقنعته بأن يسوع هو المسيح ابن الله.

هنا يذكر سيرته السابقة لاهتدائه. كان مدمّرًا للكنيسة وأكثر غيرة من اليهود على تراثهم. فجأة على الطريـق المستـقيـم أحسّ أن الله أفرزه من جوف أمه اي خـصّصـه له ودعاه ليُعلن ابنـه فيه ليبشّر به بين الأمـم الوثنيّة وقد فوّضه الرسل بذلك. “لساعتي لم أُصغِ الى لحم ودم”، لم أستشرْ أحدًا “ولا صعدتُ الى أورشليم الى الرسل الذين قبلي بل انطلقتُ الى ديار العرب” التي كانت قريبة من دمشق، ولفظة “ديار العرب” تترجم كلمة “العربية” التي كانت اقليمًا رومانيّا بـقرب دمشق، ولعلّ هذا يـدلّ على حوران او انه ذهب الى مديـنة من تـلك المنطقـة لعـّلها البـتـراء القـائـمة اليـوم في المملكة الأردنية الهاشميّة.

كان لا بـد له ان يـغادر دمشق لئلا يُعرّض مسيحييها ومنهم حنانيا الى الخطر اليهودي والى السلطة الحاكمة الخاضعة للأنـبـاط. كان ملك الأنباط الحـارث المـذكـور في الرسـالـة الثانية الى أهل كورنثوس.

بعد هدايته او بعد مكوثه في دمشق، مرّت عليه ثلاث سنين قرر بعدها ان يزور أورشليم ليتعرّف بصفا، وفي الترجمة التي ننشرها هنا لأتعرف ببطرس. لماذا بطرس؟ لأنه كان في مقام قياديّ بين الاثني عشر. لماذا أراد ان يرى يعقوب أخا الرب؟ لأنه كان كبيرا في اورشليم، والتقليد الكنسي قال لنا انه صار فيما بعد أسقفًا على أورشليم.

خمسة عشر يومًا كانت كافية ليطّلع من بطرس على وقائع تتعلق بحياة السيد، وكافية ايضا ليعرض “إنجيله” على بطرس، ليس انه كان يشكّ بإنجيله ولكن ليعبّر بولس في هذه المقابلة انه واحد من الرسل وحيّ بالجماعة الكنسية وواحد منها.

الانتماء الواضح الى الكنيسة، الارتباط بها كان شيئا هامّا عنده. ما ذهب الى أورشليم ليأخذ “رسامة” من بطرس لأن دعوته على طريق دمشق كانت رسامته. ولكن حبّه للاثني دعاه الى هذا التلاقي المحيي مع الأوائل.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الكاهن المقبول / السبت 24 تشرين الأول 2009

الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية لم تنشئ كليات لاهوت إلا في القرن السابع عشر عندما لاحظت أن القسس الإنجيليين يعرفون الكتاب. قبلاً كان المدعوّ الى القسوسية يتدرب عند كاهن الرعية فيعلّمه العبادات وما كان يعطيه فكرا. فهمنا بفضل البروتستنتية أن القس عندنا حامل لاهوت اذ تقول الرسامات انه «خادم الكلمة». فظهرت، اذ ذاك، مدارس تنقل الكلمة موزّعة على مواد مختلفة: العقائد، الآباء ، العبادات، تاريخ الكنيسة، الرعاية وما إلى ذلك. غير أن الكنائس ما كانت كلها مهيّأة للقيام بهذا التعليم اذ كان يعوزها من يعرف هذه العلوم و/او كانت فقيرة. وسرعان ما فهمنا أن التقوى أساس هذه العلوم وأن شخص المدعو الى الخدمة ينبغي ان يكون ورِعًا ورساليًا.

قبل بلوغ عتبات اللاهوت يكون هذا الشاب قد أنهى دراسته الثانوية على الأقلّ، والأعظم فائدة أن يكون قد أكمل دراسة جامعية وقد يعرف فيه شيء من سلوكه. واذا أكمل كلية اللاهوت على مختلف درجاتها (الإجازة الحد الأدنى) يعطى شهادة تفيد عن مستواه النظريّ وذكائه ويرفق بها تقدير الأب الروحيّ الذي يفيد عن قابليّته للكهنوت فإذا لم يُعطَ هذه الإفادة يكون باب الكهنوت مغلقًا دونه.

هذا لا يعني حتما أن الأسقف يقبله في مصفّ القساوسة. حكم المطران في أهلية هذا المجاز للكهنوت هو الأخير. والمطران له أن يستبقي عنده هذا المجاز في اللاهوت او يرسله الي دير يتروّض فيه لفترة او حسب عرف الكنائس الشرقية او حقّها القانوني يطلقه الى الزواج اذا قرّره الفتى ويحكم بعد زواجه بفترة إن كان مستعدا لاقتبال الكهنوت.

قبل هذا التنظيم العلميّ والتأهل الروحيّ كانت الرعية في بعض الكنائس تقدّم للأسقف من ترى فيه خصالا حميدة. يبقى حسب القوانين القديمة أننا لا نستطيع أن نفرضه على رعية تعرفه وتأباه. ولكن بعد إنشاء المعاهد اللاهوتية العليا أخذ الأسقف يعرض على الرعية من رآه مستحقًا فتقبله فعليا.

على رغم كل هذه الشروط قد يخطئ الأسقف الخيار. عند ذاك، يرعى الكاهن بمحبته ورقابته والقانون الكنسيّ بعد أن تمّ الخيار.

هذا هو الإطار وهذا هو التدبير لشعبنا.

# #
#
أمام هذه الآفاق بقي المسيحيون يصرّون على نقاوة الكاهن وطهارة سلوكه عند مجيئه. هذا أمر قد يتضح كثيرا عند اقتبال الرجل واندراجه في مصف أترابه. وهذا لا مزاح فيه على الإطلاق لأن الكاهن يقول لرعيته قول بولس: «تَشبّهوا بي كما أتشبّه انا بالمسيح» ( 1كورنثوس 11: 1). هذا هو الراهن أن الكاهن السيء يُفسد الرعية او بعضا من الرعية لأن المتألهة نفوسهم وعقولهم لا يؤذيهم احد. ولكن المغامرة لا تجوز إن أحسسنا على صعيد أخلاق الرجل أن ثمة مغامرة.

إن وجب على كنيسة الأرض أن تكون على صورة كنيسة السماء اي مغذّاة بالحياة الأبدية فرفض المرشح السيء أبسط هدية يقدّمها للرعية راعيها. فالكثيرون يحكمون على الكنيسة من رؤيتهم لرعاتها والبعض يتركون الصلاة بسبب من القيّمين عليها. تَشدّد الأسقف عند الرسامة هو الضمان الوحيد لاختيار انسان وقور والوقوف امام الضغوط التي تمارسها فئات عديدة وأهمها السياسيون.

هذا لا يعفي الرئيس الروحي من تقوية الكاهن عند ضعفاته. كل منا في حاجة الى من يشدّده في الإيمان وفي حياة الصلاة، في النضال من اجل اكتساب الفضائل الإنجيلية. ويبقى كلّ منا في جهاده حتى يقبضه الله في رحمته.

غير أن حياة الصلاة في الكاهن لا تُغنيه عن المعرفة. هنا لا أتكلم على الذوق الإلهي الذي ينسكب علينا من أداء العبادات. فنصوصها لمن مارسها سنين طولى ينبوع حياة ولكن لا شيء يحرّرك من دراسة الكتاب الإلهي والتراث دراسة جديّة. «اعكف على القراءة حتى مجيئي» (1تيموثاوس 4: 13). واذا كانت المعرفة الكبرى وزنة سلّمها الله الينا لننير بها الناس فنُسأل عنها في يوم الدين.

القول انه يكفينا كاهن «طيّوب»، مفتقد للعائلات وقائم بالخدمة الإلهية قول يُبطن أننا لسنا في حاجة أن نعلم كل ما يمكن علمه. آن الأوان ليفهم شعبنا أن الإيمان يحتاج الى توضيح والى أن نعقله لندافع عنه بالفم كما نشهد له بالحياة الطاهرة.

اجل ليس من انسان في العالم قرأ كل كتب آبائنا، وليس من كاهن رعية عديلا لأي كاهن آخر في المعرفة، ولكن ثمّة معلومات أساسيّة يطلبها المؤمن حسب قول بطرس: «كونوا مستعدّين لمجاوبة كل واحد على رجاء الثقة التي فينا» (1بطرس 3: 15). غير أن كل مطّلع من القسس يعرف زميلا له أكثر اطّلاعا على بعض المواد.

لذا لا بد من المشاركة بين العارفين. غير أن من تغاضى عن الأساسيات لا يقدر ان يواجه العلمانيين بما يطلبونه من هذه الأساسيات.

وهنا لا فرق بين كاهن المدينة وكاهن قرية صغيرة اذ صارت القرى عندنا مدنًا مصغّرة فيها مثقفون. تأسيسا على هذا عندنا اليوم في الكنائس كهنة حملة دكتوراه في كل مكان. ولا نرى احدًا منهم يستعلي بسببٍ من علمه.

والثقافة الدينيّة عند المسؤولين تتطلّب من الكاهن مطالعة دائمة. الكاهن انسانٌ قَرّاء على مدى الحياة ليس فقط ليفرح ولكن ليعطي.

وما يوجب ذلك بنوع خاص أن الكاهن واعظ احترافا. والموعظة حتى لا تكون رتيبة تتكرر هي اياها في الموسم ذاته تضطرّك الى أن تغذّي فحواها بما تُطالع في كل مجالات الإلهيات مع التأكيد أن كتب التفسير الكتابي هي السلاح الدائم للخطيب. اجل هذا يقتضي ان تقوم بالتفسير بما يقتضيه الموقع والعصر.

الكاهن الوقور المُحب لشعبه يطمح الى القداسة والمعرفة معا حتى يبقى ينبوعا زاخرًا لهؤلاء الذين أُوكلوا اليه ليصيروا على صورة المعلّم الإلهي.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الى أهل كولوسي / الأحد 18 تشرين الأول 2009 / العدد 42

هذه المدينة كان تقع جنوب غرب آسيا الصغرى (تركيا الحالية) قرب اللاذقية التي هي غير اللاذقية المعروفة في شمالي سوريا. روحيّا تكوّنت من تأثير أفسس عليها أثناء إقامة بولس الطويلة في هذه المدينة.

رسالة لاهوتية بامتياز لدحض هرطقة انتشرت هناك، كتبها الرسول في أحد سجونه في قيصرية او في روما. لا مجال هنا لمناقشة هذا.

نحن اليوم مع مقطع يحتوي التحيات الختامية للرسالة.

يبدأ بولس بتوصية نافعة دائما لنا أن نسلك بحكمة مع الذين هم في الخارج اي غير المسيحيين والمعنى الا نصدم الوثنيين بالعداء وأن نتقبل اسئلتهم وانتقاداتهم بلطف وكياسة. لا ينبغي ان تنظروا الى أنفسكم على أنكم أقليّة منعزلة عن المجتمع. جاوبوا كل وثنيّ. الاهتمام بغير المؤمنين فردا فردا بحكمة بافتداء الوقت اي باستعمال كل الوقت للشهادة. ولكن الغيرة لا ينبغي ان تكون ضاجّة او حادّة في الظاهر ولو كانت حارّة.

الكلام يجب ان يكون مُصَلحا بملح اي ان يكون ذا نكهة لا سطحيا، لا تافها. هنا تأتي التحيات: بولس يذكر اولًا تيخيكوس وهو مساعد كبير للرسول اختاره ليرافقه في زيارته الأخيرة لأورشليم اذ كان حاملا احسانات كنائس مكدونيا وأخائيا الى فقراء اورشليم. عبارة الخادم الأمين التي يقولها عنه تعني انه منخرط في الخدمة جيدا. يسمّيه عبدا (للرب) كما يسمّي نفسه. يحمّله الرسالة. أنيسيموس يسمّيه الأخ الأمين الحبيب وهو العبد الهارب من فيلمون والذي أعاده اليه بولس.

اما التحيات من قِبل مساعدي بولس فصادرة عن مسيحيين من أصل يهوديّ. أرسترخس كان مقدونيّا من تسالونيكي رافق لوقا في إرساليته الى أفسس وفي سفره الى روما وربما كان رفيقه في السجن هناك. هناك ذكْر لمرقس ابن اخت برنابا. هذا ليس مرقس الإنجيلي. ثم يسوع المسمّى يسطس. يسوع هو الترجمة العربية ليشوع العبرية وكان اسمًا شائعا.

هؤلاء يقول عنهم بولس بحنان هم وحدهم معاونيّ في ملكوت الله. وهو يقصد انهم الوحيدون من اليهود المتنصرين الذين كانوا يساعدونه. أبفراس مؤسس كنيسة كولوسي ذهب الى روما ليأخذ تعليمه لمواجهة الهرطقة التي كانت منتشرة في كولوسي. يسمّيه عبدًا للمسيح.

اخيرا يبعث بتحياته الى أهل اللاذقية وإيرابوليس. هنا يذكر لوقا الطبيب وهو الانجيليّ الثالث.

بولس يطلب من اهل كولوسي أن يتلوا الرسالة الموجّهة اليهم على كنيسة اللاذقية. بولس كتب رسالة الى تلك الكنيسة ولكنها لم تبقَ عندما جُمعت رسائل بولس. غالبا ما دلّ هذا على ان الذين تلقّوا رسائل من بولس كانوا يبعثون بنسخ عنها الى كنائس الجوار. هذه كانت ربما تُقرأ في الكنائس قبل ان تُدْرج رسائل بولس في قانون العهد الجديد كمن يتلو كتابا من صديق الى صديق آخر.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

أن يكون الأسقف بلا لوم / السبت 17 تشرين الأول 2009

من رأى نفسه عدما يصير وجودًا اذا قال له ذلك الروحانيون. لا أحد يأتي الى البهاء الإلهي بقوة نفسه. البهاء يشدّ الى نفسه الإنسان واذا الانسان اقترب منه يحس بأنه لا شيء ويبقى ممحوًا في عيني نفسه حتى يوم الحساب. اجل يجب ان يعرف كلّ منا مواهبه لأن في هذا اعترافا بعطاء الله. ويفنى هذا الإنسان لو ظنّ ان مواهبه ملكه. هي قائمة فقط بالرضاء الإلهي الذي ينتزعها متى شاء.

هكذا نقبل في كنيسة الله كل مسؤولية تفويضًا. وهذا هو معنى الخدمة والخدمة تنزل عليك من فوق. فاذا أُوكلتْ اليك لا تعطيك شعورا بأنك تستحقها. هذا هو معنى الخلق الإلهي أن ربك يوجدك كل يوم «خليقة جديدة». واذا ظننت انك بتّ وعاء لله فلا تنسَ ان «لنا هذا الكنز في آنية خزفية». انت مغبوط اذا وعيت الكنز الذي استودعته وويل لك إن حسبت انك بذاتك اكثر من خزف.
على ضوء هذا أقرأ كلام بولس: «من طمح الى الأسقفيّة تمنى عملا كريما فعلى الأسقف ان يكون منزهًا عن اللوم» (1تيموثاوس 3: 1 و2). لست أبحث الآن عن وظيفة من نسمّيه اليوم أسقفًا. فالتفريق عند كتابة الرسالة بين الأسقف والقس لم يكن واردًا او لم يكن تنظيم الرتب واحدا في كل الكنائس. مع هذا في قراءتنا لكلمة الأسقفية اليوم لنا ان نفهم انها تعني ايضا وظيفة من نسمّيه المطران بالعامية العربية نقلا عن اليونانية ميتروبوليت وهي تعني أسقف العاصمة.

مهما يكن من امر هذا ليس ما يدل ان بولس كان يمدح الطَموح الى الأسقفيّة ويحث الناس على اشتهائها فإنها عطاء الله والشهوة ضد العطاء الإلهي. المعنى كما يبدو انك اذا اشتهيت فاعلم أنك تشتهي شيئا عظيما. لذلك يجب ان تكون بلا لوم. والروحانيون -لا أنت- يكشفون ان كنت بلا لوم.

لا يسوغ لأحد أن يدّعي أهليته لأي منصب لأنه يكون قد حسب نفسه شيئا وتاليا صار لا شيء. واما من كان «يلبس الشمس والقمر تحت قدميه» (رؤيا 12: 1) فهذا يعاينه أكابر الروح كما يعاينون الشمس. الذين يتعاطون شؤون الترشيح لمنصب عالٍ في جماعة الله او في الدنيا هم يشهدون إن كان الرجل بلا لوم.

# #
#
واما من شوهد فيه رجس من عمل الشيطان فلا يجوز التوقف عند اسمه لحظة واحدة اذ من توقف هذه اللحظة يكون قد دخل الرجس. ان من لطمته الأرجاس يقود بالأرجاس لأن الفاسد مفسد بالضرورة. من أتى بالفاسد له مصلحة مع الفاسد أقلها التشابه بين المنادي والمنادى.

من نماذج عدم اللوم يذكر بولس أن المرشح للرئاسة الروحية ينبغي ان يكون »يقظًا رصينًا محتشمًا مضيافًا، صالحًا للتعليم، غير سكير ولا عنيف، بل لطيفًا يكره الخصام«. من لم تتوفر فيه هذه الحسنات يطاله اللوم، ما من مجال لأستفيض بتأمل كل فضيلة. ان يكون يقظًا، ساهرًا على نفسه، ضابطها. هذا شرط لإيقاظ الآخرين ليتخذوا طريق الرب. ليس في الكنيسة نائمون فاليقظة بالصلاة ووعيها والمحبة لكل الناس وتوحيد الأمة المقدسة بالتوبة والبذل الدائم في سبيل الإخوة. اما من غطّ فالكنيسة ليست سريرا لأحد.

أعبر الى كون الرجل صالحا للتعليم فالمسيحية عِلْم وتعليم اذ «في البدء كان الكلمة». الكنيسة التي تكتفي بالطقوس ولا يفهم فيها احد شيئا هي ليست بشيء. ومن لم يوهب التعليم والوعظ لا يحق لأحد ان يحفظه في ذاكرة لمنصب كاهن او أسقف. هذا يُكتفى به مرتلا او راهبا صامتا او خادما في الهيكل وهذه هي مسؤوليات مباركة نكتفي بها عند من سَمّيت. المسيحية شرح للكتاب الإلهي وللعبادات والتراث ومدرسة فيها كل الصفوف وذلك على مدى الحياة. واذا كان المؤمن العادي يُطلب اليه ان يعترف بلسانه كما يقول الرسول، فمن باب أَولى أن يأتي خادم الكلمة كما نسمّيه في رسامته شاهدا لهذه الكلمة. لذلك اشترطت كنيستنا الأنطاكية ان يؤتى الى الأسقفيّة بمن أتمّ علومه اللاهوتية وجالس العلماء. الأخرس لا تُسند اليه في الكنيسة رسالة. قد يكون أعلى من كل منصب بقداسته. عندما أتى بعض المؤمنين الى يوحنا الذهبي الفم بواحد ليجعله كاهنا سألهم عما يعرفون عنه. قالوا انه تقي. اجاب هذا لا يكفيني اذ ينبغي على كل المسيحيين ان يكونوا أتقياء. يجب ان يعرف.
# #
#
»غير عنيف، لطيفا، يكره الخصام» يكون اذ قال الرب: «تعلّموا مني اني وديع ومتواضع القلب». لماذا انتقى السيد المبارك هاتين الفضيلتين ليصف بهما نفسه؟ لأنهما الأعليان. فقط ان كنت متواضعًا يرفعك الله وترفع بتواضعك الآخرين. فقط ان ابتغيت الوداعة وعشتها تذهب الى المذبوحية التي ذهب اليها المخلّص.
لا أعرف الفرق المدلولي بين اللطف والوداعة. في الرسالة الى أهل غلاطية يذكر الرسول اللطف والوداعة معا ويجعلهما من ثمار الروح القدس فينا. واذا عطفنا ذلك على كلام سابق له نفهم ان الروح الإلهي هذا ينتج فينا سلوكا روحيا.

واذا قال بولس عن الأسقف انه يكره الخصام فتأملي في هذا عدة عقود كشف لي أن أشد توبيخ لمؤمن هو الذي لا يرافقه الغضب وان الأفضل منه التذكير اذ الغضب فيه تسلط والتذكير فيه عودة نفسك ومن تلوم الى الله.
عندما يقول الكتاب ان الأسقف ينبغي ان يكون بلا لوم يريد ان مثل هذا الإنسان موجود وان ثمة امورا لا مزاح فيها. المسؤولون الكبار ينبغي ان يفتشوا عنه بمصباح عظيم وان يدققوا في سيرة من يرشحون ومن ينتخبون. وان يضعوا سدودا دون الوصول الى مقامات عليا. والسد يعني ان الملوم لا تجعله شماسا واذا اخطأت في رسامته لا يرتقي الى القسوسية واذا أخطأت لا يرتقي الى الأسقفية فالأسقف التافه يُعرّض الكنيسة التي يرعى الى التفاهة والمحب للمال يجعل الرشاة يتقربون الى الرئيس، وكذلك السارقون ويصبح الهيكل مغارة لصوص.

ولكون القانون الكنسي رأى ان هذه الأخطاء ممكن أن تقع ذكر محاكمة الكهنة والمطارنة وينتج عن ذلك التجريد احيانا اي الطرد. وعندي ان الكنيسة التي لا محاكمة فيها لا حكم فيها للفضيلة. الكنيسة هي المكان الذي نطهر فيه. وقد أراد يسوع ان نطهر بالرسل وبخلفاء الرسل. والفاسد خليفة لخطاياه وليس للقديسين.

الإصلاح في الكنيسة يبدأ من رؤوسها. الكنيسة لا تنتظر ان يتوب الكهنة والأساقفة طويلا. انها لا تقبل ان يستفحل شر من كان ساقطا سقوطا عظيما. هذا عاقبته الطرد.
مرة جرد القديس باسيلوس الكبير كاهنا عن كهنوته بسبب من زنى. بعد سنين عديدة وُجد هذا الكاهن في مأتم فتقدم الى التابوت ولمس الميت فقام الميت. فجاء الى باسيليوس وقال له: هل تريد دليلا أعظم من هذا على اكتسابي قداسة عظيمة لتعيدني الى رعيتي. اجابه القديس: قداستك شأنك مع الله ولكني لا أستطيع ان اعيدك الى رعيتك لأنك أعثرتها فلا يحق لك ان تصبح راعيها من جديد.

من يعطينا أمثال باسيليوس الكبير لنحسّ في ان هذه الجماعة التي نحن منها هي كنيسة المسيح حقا؟


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

تيطس/ الأحد 11 تشرين الأول 2009 / العدد 41

الفصل المنشور اليوم مقتطع من الرسالة الى تيطس، وهي مثل الرسالتين الى ثيموثاوس مدعوّة رسالة رعائية لأنها تتعلق بأمور عملية في الكنيسة. تيطس الآتي من الوثنية صار مرافقا لبولس امتدّ به الرسول في مهمة الى كورنثوس أثناء رحلته التبشيرية الثالثة وجعله معاونا له في كريت.

“صادقة هي الكلمة” اي التي سبقت، وهي أننا نتبرّر بنعمة المسيح. “وإياها أريد أن تقرّر” أي أن تعلّم بحزم. ومن أهمية هذا التعليم أن المؤمنين انطلاقًا منه يقومون بالأعمال الصالحة.

الكلمة التي بشّر بها بولس تُناقضها المجادلات الهذيانية او السخيفة وذكْر الأنساب. بكلمة أنساب يريد بولس التعليم العرفانيّ القائل بتراتب ملائكة او وسطاء او كائنات فائضة من الله الى المادّة السيئة لكون الله في هذا التعليم الخاطئ لا يستطيع أن يخلق عالما فاسدا فيستعمل ملائكة او وسطاء منسوب بعضها الى بعض.

بولس لا يريد أن يدخل تلميذه مع رعيته بمناقشات مع الأخصام ولا أن يدخل بمماحكات ناموسيّة اي تخصّ الشرع الموسويّ (ما يؤكل من الحيوان وما لا يؤكل) بعد أن قرر مجمع اورشليم الرسوليّ أن كل طعام حلال.

يريد أن نُنذر مرة او اخرى رجلَ البدعة، وهو يريد بها رجل الانشقاق في الكنيسة ورجل التحزّب. في خبرة الكنيسة أن البدعة او الهرطقة سبب للتحزّب، وان التحزّب سبب للهرطقة. غالبا ما كانت الهرطقة ناتجة عن روح انقسام، وعندئذ يقضي الإنسان على نفسه. غير أننا في تاريخنا قاومنا الهرطقات بالحجة وما تجاهلنا الخطأ العقائديّ. بالمقابل يزرع بعض الناس الشقاق لأنهم ضد الكاهن او المطران او مجلس الرعية.

بعض الذين كانوا على عقيدة أخرى كانوا يستغلّون الخلاف مع الإكليروس عندنا لينتُشوا منا خرافا. الحمد لله أن هذا صار قليلا جدا أو غاب.

بولس كان يهتم كثيرا بالنواحي العمليّة في الكنيسة مع كونه لاهوتيا كبيرا. بولس يرسل الى تيطس أرتيماس او تيخيكوس ليُعاونه في كنيسة كريت التي كان اول أسقف عليها، ويطلب منه أن يأتي اليه فترة الى نيكوبولس في اليونان لأنه أزمع أن يُشتّي فيها. كانت هذه المدينة مشتى وذات تراث ثقافيّ وسياسيّ. معنى اسمها مدينة النصر. ربما رأى الرسول أن للإنجيل مستقبلا هناك.

يَذكر زيناسَ معلّمَ الناموس. هل إنه إذا كان يهوديّا يعرف ناموس موسى، أم إنه إذا كان رومانيّا يعرف الشرع الروماني. المهم أنه كان من حلقة بولس. أبُلّس غالبا ما هو ذاك المذكور في غير موضع في الأعمال والرسائل، وكان لاهوتيا كبيرا في ذلك الزمن. كان الرسول يـريد تـيـطس أن يـهتمّ بهما أنّى كان البلد الذي يقصدانه.

وأخيرا يُذكّر بضرورة الأعمال الصالحة، ولا يـنسى أن يـرسل الى تـيـطس سـلام الإخـوة الذيـن كانـوا  يعيشون معه في اليونان. ويختم بقوله: “النعمة معكم جميعا، آمين”.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

المجد الباطل / السبت 10 تشرين الأول 2009

من استكبر فرأى نفسه ذا شأن، من أحس نفسه ذا مقام في السياسة، في الأكاديميّة، في رئاسة كنيسة او إمامة مسجد فهذا وقع في المجد الباطل. من افتخر بعائلته واستعظمها وفاضل بينها وبين سواها يكتسب بذا تفاهة تخرجه في العمق عن اي بهاء ولا يُكسبه علوا. الذي يعرف انما يعرف من اجل الحقيقة وخدمة الناس وليس ليتباهى بما يعرف. الصالح تسحره الحقيقة وتشدّه اليها لأنها بذاتها تهذبنا فما تصير ملكا لأحد. من سكر بما اقتناه وقال انه صاحب ما بين يديه أليس يعلم اننا لسنا مالكين لشيء واننا فقط مؤتمَنون (بفتح الميم الثانية)؟ مَن رأى انه قريب الى الله يرميه الله في الجحيم منذ الآن اذ رأى نفسه أهلا لسكنى الفردوس. وهذه الأهلية ليست عند أحد. من طلب الولاية تهرب منه الولاية اذ حسب نفسه يستحقها فرفع نفسه الى مقاماتها فتأذى بخياله.

لما كنت في السادسة عشرة من عمري وكنت قد تخرجت عرفت ان في احدى الشركات الكبرى وظيفة دنيا تساعدني على العيش. وذهلت اني ما نلت ذلك المنصب الا بعد مروري بمسابقة. تعجبت لأن هذا العمل لم يكن ليتطلّب كل ما كنت حصلته ولكني فرحت بأن القيّمين على هذه الشركة كانوا يسعون الى كفاءة من يعيّنون.

جاءني واحد منذ ايام يطلب مني انتخاب احد القسس أسقفًا على إحدى المدن. طبعا انا أليف لهؤلاء الذين يحسبون انفسهم مؤهَلين لمقام عظيم كهذا. كيف يحسّ هذا الأخ ان روحانيّة المسيح نازلة عليه او انه حصّل علمًا يُدرجه في مصف العارفين وانه محبّ حتى سكب نفسه في سبيل الإخوة وغسل أرجلهم وتاليا محو نفسه في الوجود المشترك؟

من يدفع مواطنين الى التماس مسؤولية نائب الا يعرف ان المتنطح هذا ليس عنده لسان يناقش فيه مشروع قانون؟ دائما أفكر بالمديرية العامة لوزارة النفط ان أنشأناها اذ المدير العام هو التقني. من من شبابنا يحمل دكتوراه في العلوم النفطية من هيوستن مثلا؟ هل كل طالب زواج يعرف نفسه مهيأ للحياة المشتركة ام انه عاجز ان يواجه وضعا اثنينيا؟ هل عرف ملتمس الرهبانية نفسه قادرا على الانعتاق من وطأة الجسد عليه؟ هل كل منا هو في المكان المناسب كما أراد ذلك أفلاطون؟

هذه دنيا مريضة بالمجد الباطل.

# #

#

كتب أحد أمراء مولدافيا لوليّ عهده في القرن الرابع عشر لمّا كانت مولدافيا مستقلة: يا ابني لا تشته ان تصبح أسقفًا ولا رئيس دير ولا أميرًا (هذه الوظيفة كان معدًا ان يشغلها عند وفاة أبيه) لأن كل هذا من مجد العالم. نظريا لك ان تصبح أميرا او ملكا وتبقى على تواضعك. على غرار هذا لا أفهم ان يتمنى بعض الكهنة ان يصبحوا أساقفة لاحتسابهم انهم يكسبون بذا نفوذا وسلطة وهم لم يختبروا مشقّة هذه الرسالة والمظلومية التي يكونون فيها احيانا كثيرا. لماذا هذا التنافس بينهم وبين رفاقهم؟ الا تخفي المنافسة أنهم أفضل من الآخرين؟ من قال لهم هذا؟ انت، راهبا، تبقى قابعا في زاوية من ديرك حتى يبرق لك البطريرك أن المجمع المقدس انتخبك وتلتحق بمكان عملك بنعمة الطاعة اذا نزلت عليك.

في الحياة الدنيا انت تدرس كثيرا وتتفوّق وتلتمع فيدفعك ذووك الى منصب مسؤولية او تناديك الدولة او يعيّنك حزب او كتلة سياسية، ولكنك في لبنان تبرز نفسك اذ ليس فيه من آلية ترشيح تقدّمك بسبب المعرفة. كل تنافس على هذا الصعيد كبرياء. انا أحب في الجمعيات الرهبانية الكاثوليكيةordres  أن يصل الراهب الى الرئاسة العليا وان يُعاد الى أدنى موقع في الترتيب الهيكلي. ذلك لأن الرئاسة عندهم خدمة والموقع الأدنى خدمة. لا تدع المجد يقرع باب قلبك. اذ ذاك، تصبح عبدًا للمجد. اما اذا أفرغت نفسك من هذا الشغف فيأتي الله الى نفسك ويسكنها. كل الموضوع هو هذا هل الله سيّد حياتك أَم الأنا الصلبة، المتقوقعة.

كل قصتنا مع الذات هي هل نحن ندرك ان شيئا لا يُزاد عليها لأنها إن تواضعت فهي كل الوجود. هذا ما أراده الناصري لما قال انك لا تستطيع ان تزيد على قامتك ذراعا واحدا. بهذا السياق لا تقدر ان تملأ نفسك من غير عطائها فإن أعطيتها قويت وجودا.

من هنا أن المال لا يضاف عليك فإن بددته على المساكين كما تقول المزامير: «يدوم برّك الى الأبد». وإن اعتبرته ضروريا فإنك لا تعتبر نفسك الضرورة الوحيدة. القول انك والعالم شيء واحد يعني انك جزء من العالم في حين ان ما هو خارج عنك عبد لك. والعبد لا يسودك، انت تسوده لأنّك حر منه. افهمْ ما قاله آباؤنا الكبار في الكنيسة: انت مؤتمن على المال لأنه ليس ملكك. انت تتصرف به لتجعله في خدمة المحتاجين اليه. هؤلاء بعطائك يصيرون إخوة لك. ليس لك الا الحب لتشعر أنك أخ للآخرين. تحرر اذًا من كل شهوة لأن كل شهوة تفتّتك او تبعثرك.

# #

#

أشد فتكا من اشتهائك المال شغفك بالسلطة، فقد جاء على لسان روحانيّ كبير: «كل سلطة تُفسد والسلطة المطلقة تُفسد مطلقًا». بعض الأحوال تجعلك في موقع السلطة. اقبض عليها وانت حر منها. «فذكّر انّما انت مذكّر. لست عليهم بمسيطر» (الغاشية، 21. 22) وحقيقة الآية ان أمرك ان شئت الأمر هو بالتذكير لأنه يعطى بالمحبة. وأما إن سيطرت عليهم تفصل نفسك عنهم فيبغضونك. اذكر انك لست بإله وانك باللطف وحده تجذب الناس الى إلههم.

لك أن تواجه وتناقش وأن تبرز للناس الحقيقة التي لا بد أن يحسّوا بها نافعة لهم ومنجّية. بكشف الحقيقة يأتي التوافق بل الوفاق والتداخل البشري الصافي. اعتبر ان كل انسان يستحق الحق. قدهُ اليه لا ليكون لك ولكن ليكون للحق. لا تطلب ان ينضمّ أحد اليك. حرّره من نفسك يصرْ من محبّي الله. لا تسأل عن ان تكون محبوبا بل اسعَ فقط أن تحب. غالبا ما يُردّ الودّ اليك بودّ أعظم. مع ذلك لا تطلب التبادل. ادفع الآخر الى ان يسعى الى ربه فيُنعم عليه ربه بالبذل. حسبك انت أن تكون حياتك في حياة الآخرين فيكون مجدك في قلب الله.

تعلّم قول الكتاب: «باطل الأباطيل، كل شيء باطل» (جامعة 2:1). كل شيء باطل ما عداك وما عدا الإخوة في أعماق نفوسهم. الوجود تلا في الذات، والذات لا تصادم مسيطرين. تلاقي الذوات في فقرهم الى الله وفقر الواحد الى الآخر اذ لا شيء خارج القلب. الوجود ملكوت الله في القلوب واذ ذاك، هي واحدة فيه ويصبح كل منها عرشه. اذ ذاك، ينزل عليها المجد الحقيقي. هذا هو وجه الله اليها.

Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

هيكل الله / الأحد 4 تشرين الأول 2009 / العدد 40

ينفرد بولس في كل الكتاب المقدس باستعمال عبارة “هيكل الله” او هيكل للروح القدس يدلّ به على الإنسان لكنه يشير الى ان المعنى قائم في العهد القديم عندما قال الله: “سأسكن فيهم وأسير في ما بينهم وأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا”. هذا كلام يأخذه الرسول من إرمياء وحزقيال. كذلك الكلام اللاحق الداعي الى اعتزال النجسين وهُم الأُمم. في إشعياء يكون الرب “أبًا أبديا” (6:9). كذلك سيكون أبًا لسكان أورشليم ولكل الشعب.

في العهد الجديد تنمو فكرة أُبوّة الله للمؤمنين ولاسيما انهم واحد بالابن الوحيد. في كلام بولس، بناءً على الأنبياء، وعلى الخلاص الذي تمّ في المسيح يسوع، عندنا شيئان: الله ساكن في الناس، والله يسير مع الناس، وهذه هي الكنيسة.

وعندما يقول “أكون لهم إلهًا”، يعني أنه اليوم وغدًا هو معنا، وهذا الكلام يجد صدى في القداس الإلهي اذا اجتمع كاهنـان او أكثـر فيقـول الواحد للآخر “المسيح معنـا وفـي ما بيننـا” فيجيـب الآخر “كان وكائـن وسيكون”. معية الله معنا هي الكنيسة.

ينتج من كونه معنا أننا نصير شعبه. ليس من شعب بالمعنى الاجتماعي او العنصري شعبًا لله. الله برحمته ومحبته يشكّل الشعب. فعندما نستعمل عبارة: “شعب الله” نقصد أنه الشعب الذي الله يشكّله بالايمان. لذلك كان المسيحيون اليوم شعب الله أي الأمّة التي يجعلها الله لمحبته “أمّة مقدسة” كما يقول بطرس ويردّد ذلك بعده باسيليوس الكبير في قدّاسه.

نتيجة كوننا شعب الله أننا مدعوّون أن “نُطهّر أنفسنا من كل أدناس الجسد والروح”. باستعمال الرسول كلمتي “الجسد والروح” يقصد كلية الإنسان. إيماننا بأننا شعب الله أي خاصّته يقودنا إلى سلوك نبيّن فيه أننا نخصّه ونسير بنوره. ليس في المسيحية من فاصل بين الإيمان والعمل إذ الإيمان عامل بالمحبة كما يقول الكتاب.

ليس الإيمان فقط تصديقًا بما أوحاه الله إلينا ولكنه تنفيذ للوصايا حسب منطوق السيد: “مَن أحبّني يحفظ وصاياي” عندئذ نكون مكمّلين القداسة. إنـها حيـاة الـله فينـا. “لستُ أنا أحيـا بـل المسيح يحيا فيّ”. القداسة في فلسفة العهد القديم هي الانقطاع الى الله بالسلوك. ويبقى هذا المفهوم في العهد الجديد، ولكنه يبلغ عمقه الكامل عندما نفهم قول الله لنا “كونوا قدّيسين كما أني أنا قدّوس”، عندما نُدرك أن الذي يمدّنا بالقداسة هو المسيح يسوع نفسه.

“بـمخافة الـله” التي تـُنـهي هذا المقـطع من الرسالة التـي صيـغت في العهـد القديـم تـبقى صحيـحة في النظام الإنـجيـلي. نـحن، مع عـلـمنا أنـنا أحبـاء الـله، لا نـلغي فـي موقـفنـا مخـافـة الـله بـمعنى أنـنا نعرف هيـبتـه وعظـمـته وجلاله وأننا إزاء ذلك في رهبة. المحبة لا تنافي موقف الإجلال وتوقير الله والرصانة في مواجهتنا الرب.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

النظام المجمعي في الكنيسة الشرقيّة / السبت 3 تشرين الأول 2009

النظام الإداري في الكنيسة الأرثوذكسيّة تجسيد لتعليم لاهوتيّ. فالعقيدة عندنا يحفظها الشعب كله اي ان الرؤية لكل الحياة الكنسية هي رؤية الجماعة المؤمنة بما فيها الأساقفة. مع أهميّة المكان الذي يجلس فيها المطران هو يستمع الى ما يقوله الروح للجماعة التي يرعاها. من زاوية هو يأتي منها كما تأتي منه. هذا لا يعني أن المطران يستند الى جمهور رعيته ولكنه يأتي من اتقياء رعيته والممارسين. هؤلاء هم في الحقيقة جسد المسيح بحيث إنهم يؤلّفون المسيح على الأرض.

غير ان الأسقف ليس فقط متصلا بالجماعة الموكلة اليه رعايتها. هو يتصل عضويا بالمطارنة الآخرين الذين يسوسون كنيسة نسمّيها محلّيّة او إقليميّة كما انه متحد بأساقفة العالم كلّه الذين هم على استقامة الرأي. غير أن التحرك الواقعي في اليوميات تحرّك الكنيسة المحليّة مثل الكنيسة الأنطاكية.

هذه يرأسها المجمع المقدس الجامع لكل أساقفة المنطقة والجالس برئاسة البطريرك الذي هو الأول بين متساوين. سر الكهنوت الواحد يجعلهم مجمعا واحدا، والمرجوّ تاليا أنهم على فكر واحد المفروض أنه فكر المسيح. هذه المعية التي يؤلّفون والتي نرجو ان يمدّها الروح القدس بنفحاته حتى تخدم بالروحانية الواحدة كل الشعب المؤمن عن طريق خدمتها للوحدات الروحية التي نسمّيها أبرشيّات. فالمجمع الواحد كالمجمع الأنطاكي المقدس يشرف بسبب اتحاد أعضائه على كل المناطق لكوننا نفترض ان الأساقفة الملتئمين بفكر المسيح لا ينطقون عن هوى وأنهم يسعون الى المسيح منطلقين من الإنجيل. لذلك يضعون في قاعة اجتماعهم كتاب الإنجيل ليذكّرهم بأنهم يقولون قوله وليس لهم قول من خارجه اذا أتوا بقرار او وضعوا منهج عمل او أوضحوا الإيمان او انتخبوا أسقفا جديدا او حاكموا اسقفًا خالف القانون الكنسي.

البطريرك عندنا ضمانة وحدتهم لأنه بلغ عدم الهوى. وبفضل هذا التطهر يعتبرونه الأول بينهم ويظلّون حريصين على احترام موقفه كما يكون هو حريصًا على تبنّي موقفهم اذا بدا عن إجماع. لذلك لا يجتمعون الا بحضوره واذا استدعاه الله اليه لا يجتمعون الا لانتخاب خلف. فليس من مجمع بغياب البطريرك وليس من بطريرك بلا مجمع. وفي حال الشقاق لا يؤلف الذاهبون من المجمع مجمعا مهما كان عددهم. والأقلية في حال الانقسام التي يجالسها البطريرك تكون هي المجمع.

طبعا هذا النظام لا مثيل له في أية مؤسسة دنيوية أبرلمانًا كان أم غير ذلك. لذلك كان غير صحيح القول ان الأرثوذكسية ديموقراطية. هي الألفة او الائتلاف بالروح القدس. فكما تطيع أسقفك لأن الله أقامه رئيسا بوضع الأيدي (اي برسامته) كذلك تطيع المجمع المقدس ليس لأنه سلطة قائمة عليك بشكل تمثيليّ او حقوقيّ او جمعيّ ولكن لأنّ الأيدي وُضعت على رأس كل أسقف يوم رسامته. «الأسقف أيقونة المسيح» كما قال القديس إغناطيوس الأنطاكي. بطاعته تطيع المسيح.

# #

#

غير أن الأساقفة بشر تتسرب اليهم أخطاء. اذا أتى الخطأ إساءة الى العقيدة عليك ألا تطيع، وهنا تشكو المجمع الى المجامع الأرثوذكسية الأخرى، واذا أخطأ رئيسك المحليّ الى العقيدة وعلّم البدعة عليك ان تقاطع صلاته وان تعالج أمره مع زملائه ولا سيّما البطريرك. غير أن هذا يحصل قليلا جدا، وفي المئة سنة الأخيرة لم نلحظ شيئا من هذا لأن تحديد العقيدة من اختصاص المجمع المسكوني (العالمي) وليس من اختصاص المجمع الإقليمي.

وقد لا يكون المجمع حكيما في أمر رعائيّ او تدبيري. هذا يُناقَش في دورة لاحقة بشكوى او اعتراض معلّل وتسوّى الأمور إقليميا.

هنا يلعب الكهنة الورعون المثقفون كنسيا والعلمانيون المتديّنون الفاهمون دورا كبيرا. وروحية الأبوة المألوفة تُصلح الأمور ولا سيّما أن العقيدة تقول ان الإكليروس وعامّة الشعب المؤمن جسم واحد يتفاعل أعضاؤه بكلمة الخلاص التي يأتي الدفاع عنها مع حسن النية واستقامة القلوب.

ليس في الكنيسة قيمة للعدد. فأنت لا تطيع المجمع لهذا السبب. انت تقبله لأنه تعبير عن الكنيسة المتطهّرة اي الجماعة المصليّة. فقد رفضت الكنيسة في القرون الأولى مجامع مؤلفة من أكثر من أربعمئة مطران وسمّتها مجامع لصوصيّة. وما أقرّت الا تلك التي اعتبرتها ملهمة بالروح الإلهي. المجمع ليس سيد نفسه لمجرد اجتماعه ولكن ليقيننا أنه مرتبط بالرب. الله اذا ساد المجمع بالنعمة يكون هذا مجمعا إلهيًا وانت تلتزم بالألوهية فقط. الأساقفة وكلاء الأسرار المقدسة كما قال بولس، واذا تصرفوا بخلاف هذا التوكيل يصيرون لا شيء اذ ليس في الكنيسة من سلطة الا لله. في كنيسة المجامع المسكونية السبعة كان المجمع اللاحق يوكّد حقيقة المجمع السابق له، بهذا كنا نقترب من اليقين. ويتثبت اليقين عند قبول الجماعة كلها لما أتى به رؤساء الكهنة اذا اجتمعوا. ما كانت المجامع الكبرى تُعرف بالفهم او باللاهوت العظيم فقط ولذلك نقول في التقويم الآباء القديسون الذين اجتمعوا في نيقية او في القسطنطينيّة. قداسة المجتمعين هي التي تضمن صحة الرأي اذ ليس من فاصل بين الرأي ونقاوة السيرة.

# #

#

هؤلاء الذين نتّكل على طهارتهم مدعوون الى انتخاب في الخدمة عند شغور إحدى الأبرشيات بالوفاة. في بعض الكنائس كما في روسيا مثلا يشترك الكهنة والعامّة في الانتخاب المباشر. في كنائس أخرى هيئات ترشيحيّة مؤلفة من كهنة وعلمانيين تقوم بعمل الترشيح اي انها تقدّم للمجمع المقدس لائحة من الأسماء يختار منها المجمع واحدا. في بلادنا الهيئة المرشحة هي مؤتمر الأبرشية، واذا كان لم يتشكل يقوم المجمع في مرحلة اولى هو نفسه بالترشيح ثم ينتخب متقيّدا بالترشيح. هناك طبعا شروط ينبغي أن تتوفر في المرشّح أهمها حياته الروحية وأخلاقه ثم تحصيله اللاهوتي العالي ثم شرط السن وتدرّج في الخدمة.

غير أن كل هذه الشروط اذا توفرت هي اقتراب من المثال وليست ضمانة. تختار مثلا شخصًا يبدو لك وديعا عفيفا، وممارسة السلطة قد تفسده ويأتيك متسلطا. واذا رأيت الى تحصيله اللاهوتي الجامعي قد تظن أنه يعرف، ويتبيّن بعد ذلك انه ضعيف في ممارسة العقل اللاهوتي. ان الصفات الحسنة المتوفرة في كاهن قد لا تكفي لمعرفة أهليته للأسقفيّة. وقد تظهر فيه حسنات جديدة بسبب من مراسه الجديد ولا بد ان يختلف أعضاء المجمع المقدس عند اختيارهم. فهذا يركز على القدرة اللاهوتية في المرشح، وذلك على مواهبه الرعائية ولو كان ذلك على حساب المعرفة. والآخر يشدد على الإداريات عنده. ما الإداريات؟

ينبغي الا نتعجب من اختلاف المعايير عند السادة الأجلاء. فهذا يجذبه ذكاء المرشح وعلمه، وذاك يهتم بخبرته. ولكون القضية تتوقف على تقدير الأفراد يتعذّر الإجماع المنشود أصلا. غير أن ما يحررك نسبيا من التردد أن تطلب في من تدعوه الى رئاسة الكهنوت محبة للرب متينة وعميقة ويضاف اليها العلم لكون ما يُطلب في الرجل معرفة شؤون الإيمان معرفة دقيقة التماسا للوعظ والتعليم. اما ما يسمّى عندنا التدبير بما للكنيسة من ملك ورزق ومال فقد رأت الكنيسة الأولى ان يعيّن الأسقف المنتخب مدبّرا مطلعا على هذه الأمور، فالإنسان المثقّف لاهوتيا ليس عنده بالضرورة إلمام بشؤون الدنيا. واما الملمّ بها بخاصة وليس عنده العلم بالله وبكلمته فلا يقدر أن يرتجل الكلمة ارتجالا. لذلك يمكن ان تتضافر النيات الحسنة والآراء الثاقبة حول اختيار رجل ممتلئ بحكمة الله ويعطى بقية الحكمة زيادة فيما يختبر الناس والزمان وفيما هو يتكل على الحكماء والأتقياء في رعيته.

المشكلة الكبرى ان إنجيل يسوع المسيح مسلّم الى أناس محاطين بالضعف بضرورة طبعهم البشري وكبار القامات الروحية قلة عزيزة. ولكن الكنيسة في الدنيا لم تبلغ الملكوت ونحن نعرف كما قال الرسول أن «لنا هذا الكنز في آنية خزفيّة». أن تحفظ الوديعة سالمة حتى مجيء الرب يتطلّب سهرا طويلا واحتمال مشقّات في التعزيات التي تنزل عليك من فوق.

Continue reading