Monthly Archives

May 2007

2007, مقالات, نشرة رعيتي

العنصرة/ الأحد في 27 أيار 2007 / العدد 21

الكلام على الروح القدس في إنجيل اليوم ليس عن حادثة العنصرة مباشرة ولكنه يتعلّق بمفاعيل الروح عند المؤمن الذي «ستجري من بطنه أنهار ماء حي» أي الفضائل التي يغرسها الروح الإلهي فيه. كذلك أوضح يوحنا أن الروح القدس لم يكن بعد (أي انه لم ينزل بعد لأن يسوع لم يكن بعد قد مُجّد بمعنى أن نزول النعمة الإلهية لاحِقٌ لموت الرب وقيامته).

أما حادثة العنصرة فالكلام عليها وارد في أعمال الرسل بحيث عرفنا مفاعيله إذ ليس له وجه ولا يُعرف إلاَّ بعطاياه. سفر الأعمال يتكلّم على رمزين أوّلهما صوت من السماء كصوت ريح شديدة، وثانيهما ألسنة نار استقرّت على كل واحد من الرسل المجتمعين «في مكان واحد» مع والدة الإله. المعنى اذًا أن كل رسول تقبّل العطاء الإلهي الذي كانوا قد سمعوا عنه من السيد خلال ثلاث سنوات وفي كثرة من الأحوال كان غامضا عليهم.

وكان السيد قد وعدهم بعد العشاء السري في خطبة الوداع انه سيرسل لهم «معزيا آخر» يرشدهم إلى جميع الحق ليس انه يأتي بتعليم آخر ولكنه يؤيّده فيهم بالفهم ويجعل عندهم شجاعة وحماسة بعد أن تكون قلوبهم قد تحرّكت بهذا اللهب الإلهي الذي نزل عليهم بشكل ألسنة نارية.

وطفقوا يتكلّمون بألسنة لم يكونوا يعرفونها. وسفر الأعمال يذكر أسماء الشعوب التي كانت هناك وهي مجموعات يهودية جاءت لقضاء العنصرة اليهودية في أورشليم.

فهل نطق الرسل حقا بهذه اللغات ام انهم تكلموا بلغتهم الآرامية وفهم كل شعب؟ لا نعرف وليس هذا مهما. المهم ان هؤلاء تحولوا بوعظ التلاميذ واقتبلوا المعمودية.

من ناحية اعتقادنا بالروح القدس نقول «وبالروح القدس (أي أؤمن بالروح القدس) الرب المحيي المنبثق من الآب والمسجود له مع الآب والابن» أي إننا نقر بطبيعته الإلهية لكونه الأقنوم الثالث من الثالوث المقدس، وقد أضيفت على دستور الإيمان في المجمع المسكوني الثاني المنعقد في القسطنطينية ضد مقدونيوس الذي أنكر ألوهيَّة الروح.

وظيفة الروح القدس انه ينقل إلينا كل موهبة من الثالوث المقدس. هو أقنوم التقديس، والتقديس صادر عن كل الثالوث. يلهمك الخير والتوبة والمحبة وكل ما هو طاهر وجليل لسلوكك. ولا يمكنك أن تسمو روحيًا إلاَّ به. هذا من الناحية الشخصية. وأمَّا في حياة الجماعة فهو الذي يتمم الأسرار كلها بدءا من المعمودية ومرورا بالقداس الإلهي ووصولاً إلى الكهنوت والزواج وأي عمل تقديسيّ مثل تقديس الماء يوم الظهور الإلهي ومباركة بيت جديد مثلا، وضع الحجر الأساس لكنيسة جديدة وتكريس كنيسة جديدة كل هذا يأتي من الروح. بمعنى آخر نحن نعيش في عنصرة دائمة. هناك طبعا من لهم مواهب خاصة كالتعليم الديني أو الحماسة في العمل الخيري. الروح يوزع بمواهب كما يشاء و نتكامل جميعا في كنيسة الروح.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الاكليريكي / السبت ٢٦ أيار ٢٠٠٧

لما وزع فاتح فلسطين يشوع بن نون أراضيها على اسباط بني اسرائيل لم يعط بني لاوي المولجين خدمة الهيكل حصة قائلا ان الله نصيبهم. وفي الترجمة اليونانية للعهد القديم نصيب تقال كليرس التي جعلنا منها اكليروس لتعذر البدء بالساكن ومن كان يخدم الله تحديدا في أمة المؤمنين سميناه اكليريكيا وهي كلمة تشمل مختلف الرتب.

ويقال عنهم القسس او القسيسون كما وردت في القرآن او القساوسة وهي لفظة سريانية او سامية بعامة. اما لفظة رجل دين فهي لفظة شائعة ولا نعرفها في الكنيسة ولا يعرفها الاسلام لأن كل المؤمنين واحد والرجال كلهم رجال للدين.

صحّ ان القانون الكنسي منذ القرن الرابع يستخدم كلمة اكليروس مميزا اياه عن العوام وفي الاستعمال الحديث فقط نقول علمانيين وهذه لا معنى لها لاهوتيا اذ تعني الذين في العالم وكلنا في العالم. الاكليريكي، كاهنا كان ام أسقفا، يرئس صلاة الجماعة ومن رئسها هو إمامها. له ميزة او مكانة من حيث يتقدم الجماعة في اداء الشعائر ولكن ليست له قدسية خاصة وليس هناك تفريق بين مقامين امام الله اي انه ليس من هو فوق ومن هو تحت. هو بالمصطلح المسيحي خادم للأسرارفيقيم مثلا المعمودية والقداس ولكن في الجماعة. وليس من اساس اطلاقا لاحتسابه وسيطا بين الله والناس فما من قداس يقام بلا حضور الشعب ومشاركته ولننته اذًا من هذا. اعتزاز المسلمين بأن ليس عندهم رجال دين وان عند المسيحيين طبقة شفعاء او وسطاء بين الله والناس آمر غير مؤسس. ليس من بشر عندنا يستنزل عليك نعمة الله. القيام بالأسرار المقدسة إمامة لازمة لآداء الخدمة فكان التوقير اذًا بسبب من كون القس اداة لا سببا.

#       #

#

الاكليريكي بشر ويخطئ كبقية اليشر وقيامه بوظيفة من وظائف الكيان الكنسي لا يدل على طهارته الشخصية وكثيرا ما كان عامة الناس أرقى منه على معارج الطهر. انه رجل يحمل صليب الخدمة ومسؤوليته الرعائية تعرضه الى اغراء لا يتعرض له العامة. ومقاومته للإغراء تقتضي له صمودا كبيرا وقياما امام وجه الرب حسب كلام الياس النبي: «حي هو الله الذي انا واقف امامه». هذا الرجل يثبت فقط بالاله الذي يثبته فإنه به يحيا ويتحرك ويوجد.

الى هذا ومع ان الكاهن هو المسؤول الأول في رعيته يذكر المؤمنين تذكيرا بما هم يعلمون ويجتنب حدة الطباع وعندي انه يجتنب التوبيخ ما مكنه من ذلك كلام الله فاللوم المقرون بحزم ولين معا افضل من التوبيخ الشديد ليقيني ان التوبيخ طالما رافقه الغضب والغضب يـؤذي دائما ويجعل الواعظ غير رقيب على لسانه. كيف تكون خادما ورئيسا معا. تلك هي المسألة وقد قال المسيح عن نفسه انه خادم وهذا يتطلب وداعة كبيرةوتواضعا لا حد له. وترعى الرعية بمزايا راعيها ووهجه الروحي ولا ترعى بتفرد الراعي برأيه ولا بتحيزه لفريق دون آخر. والانقسام يتأجج بانحياز المسؤول وتحوله، اذ ذاك، الى مسيطر.

واذا بقي غير فاهم واستفحلت أخطاؤه فهناك تدابير إدارية لكبح جماح أهوائه. اما اذا ارتكب معاصي انكشفت للملأ وأحدثت خللا ومعاثر فهو خاضع للمحاكمة الكنسية بما فيها الايقاف عن الخدمة والتجريد من الكهنوت. كذلك الأسقف خاضع للتأديب في مجلس المطارنة حتى درجة التجريد من الكهنوت ايضا.

#           #

#

في بعض الاوساط الضعيفة اذا حزن انسان من كاهن يقاطع الكنيسة واحيانا يترك المذهب نفسه. هنا يجب ان نذكر ان المسؤول عابر وان عليه مسؤولا له قدرة الحل والربط. اما ما ينبغي ان نلتفت اليه فهو اننا اعضاء في كنيسة المسيح القائمة الى الابد فيه وقد يكون الراعي فيها من اية درجة كان تافها. نحن نأتي من حضنها والكاهن لا يكوننا . يكوننا الصالحون وقد يكون منهم او لا يكون. اجل «ويل لمن تأتي عن يده العثرات». ان حصلت نتجاوزها ونصلي كيف يمحو الله خطايا من أخطأ ونتابع الطريق ومعنا وفوقنا خاطئون. اذا نظرت الى كنائس كثيرة ولمست الضعف فيها لا ينتابني شك في ان من قادها منذ ألفي سنة هو المسيح نفسه. ولكن المسيح يحتاج الى فعلة له على الأرض وتظهر الخبرة احيانا كثيرة انهم غير اكفياء.

في المبدأ تعرف ان الراعي يحمل اليك الله كلمة الله لكونه درسها واحبها واحبك. ولكن قد يكون اميا او شبه امي في هذه الطائفة او تلك. احيانا هذا الأمي يرعاك بقلبه والذي قرأ لاهوتا كبيرا قد لا يكون على شيء من محبة الرب وانسانا بلا قلب.

المشكلة الكبرى انك لا تعرف الرجل الا بعد تسلمه مسؤوليته. نظريا وفي الكنائس الراقي تعليمها اللاهوتي تأتي بحامل شهادة يدل اساتذته على كفاءته. ولكن هل يعرف معلم اية مادة ان كانت الجمالات الإنجيلية متوفرة في الرجل. في المبدأ فقط اذا تقدم احد الى الدراسة يحسب انه محب للرب ولكنه فتى ويعسر عليك ان تمتحن محبته الحقيقية لله وقوة شخصيته وبراعة كلامه ونزاهته عن عشق المال ولطفه وما الى ذلك.

على رغم كل المؤسسات التعليمية وتنوعها وعلى رغم كل تفحصك للشباب المتخرج لا تستطيع ان تعرف اهلية احد العميقة لخدمة اسرار الله. ماذا تفعل ان بان لك تقصيره فيما بعد؟ يحكى اليوم على التربية المستمرة. هذا حسن ولكن هذا جزئي وانت لا تقدر ان تخلق الانسان خلقا جديدا. لذلك كانت الكنيسة في رئاستها دائما مكان التقصير والجهل وكانت ابدا هوة بين المتكلم والكلام الالهي الذي انسكب علينا.

لعلم الله بذلك يفتقد هو كنيسته بمواهب الروح، بالقداسة، والفهم، والغيرة عند الناس العاديين ويرممون ما كان في حاجة الى ترميم في كنيسة الله. واذا حركهم الروح يحركون الآخرين والنار تنشئ النار فترى محطات للروح هنا وهناك على رغم التدهور الذي يكون عليه الرعاة. يبعث الرب برعاة كبار ويبعث بناس ظاهرهم انهم عاديون وكثيرا ما كانوا اعظم من الرعاة. يصلح الله احدنا بالآخر بالكلمة او بالإشعاع الشخصي، في البهاء الذي يبدو من المسلك.

هذا لا يعني انه علينا ان نتكل على هذه البعثات الطارئة اذ نحن مسؤولون جماعيا عن إصلاح الرعاة. كلنا معا نبني جسد المسيح بسلامة الحياة الروحية وقوتها وكل ما فيها من حلاوات.

التاريخ دائما محزن على رغم وجود الشهداء والقديسين والذي يعرف كثيرا يتمزق كثيرا. ولكن قيل عن الكنيسة في الكتاب العزيز: «الله في وسطها فلن تتزعزع». هي حفظت أعضاءها ولم يحفظها الرعاة الفاسدون. لقد ارتضى المسيح ان يجعلها مسكنا له وهو بانيها يوما فيوما فلا ييأس أحد ويشددنا عظماء الروح ونبقى بهذه الأعجوبة الدائمة التي هي الكنيسة.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

المجمع المسكوني الأول/ الأحد في 20 أيار 2007/ العدد 20

المجمع المسكوني الأول الذي عُقد السنة الـ325 يدعى ايضا المجمع النيقاوي نسبة الى مدينة نيقية الواقعة قرب القسطنطينية ودعا اليه الملك القديس قسطنطين للرد على بدعة آريوس وكان كاهنا في الإسكندرية وأنكر ألوهية المسيح بقوله ان الله خلق الابن وبه خلق العالم.

اجتمع الآباء وكانوا 318 وسنّوا دستور الإيمان الذي نتلوه في المعمودية والقداس وهو يبدأ بتحديد ألوهية الآب ثم يقول عن الابن انه مولود من الآب قبل كل الدهور، مولود، غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر.

لهذا نقيم هذه الذكرى اليوم فنقرأ من انجيل يوحنا، والفصل مأخوذ من الخطاب الوداعي للسيد الذي خاطب فيه التلاميذ بعد العشاء السري. وفيه تتضح ألوهية الابن بصورة كاملة.

يقول يسوع: «والآن مجّدني انت يا ابت من عندك (اي بموتي على الصليب) بالمجد الذي كان لي عندك من قبل كون العالم». اي ان مجدي هذا كان عندك قبل ان يظهر الزمان منذ كنتُ في احضانك.

القول الثاني: «ان كل ما أعطيته لي هو منك» ثم قوله: «اني منك خرجت» قبل ان اخرج من بطن مريم. هناك ولادة أزلية من الآب، وبعد هذا كانت ولادة من العذراء.

وفي بدء المقطع قال: «هذه هي الحياة الأبدية ان يعرفوك انت الإله الحقيقي وحدك والذي أرسلته يسوع المسيح». والمعنى انك لا ترث الحياة الأبدية الا بمعرفتك للمسيح، كما لا ترثها الا اذا عرفت الله الآب. فلو كان المسيح مخلوقا كما اراد آريوس لما استطاع ان يعطي الحياة الابدية.

بعد هذا يتكلم على تلاميذه وقال انهم «علموا اني منك خرجتُ». فمن خرج من الله الآب ذاته لا يخرج من جسد ولا يكون زمان عند خروجه. ثم يصلي من اجل تلاميذه ويطلب من الآب ان يحفظهم باسمه اي تكون فيهم قوة الله وبها يعلّمون ويبشّرون ويستشهدون ثم يستشهد بعدهم المسيحيون.

ويوضح السيد انهم لما كان معهم في العالم كان يحفظهم بقوة الآب ويوضح انه حفظهم، وثمرة حفظه لهم ان فرحه يكون كاملا فيهم، ونتيجة ذلك انهم يبقون هم ايضا بالفرح، هذا لا يعطيه العالم.

هذا الفصل من الخطاب الوداعي يبيّن ان وحدة المسيح مع الآب تنعكس في وحدته مع التلاميذ. وبهذا المعنى يقول بولس «لستُ أنا حيا بل المسيح يحيا فيّ».

وفي الفصل يشير الى صعوده الى السماء. وكان قد تكلم في موضع سابق من الخطاب انه سيرسل اليهم الروح القدس المعزي. فالمسيح ينعشنا بالروح القدس الذي يصوّر المسيح فينا ويجعلنا كنيسته. المسيح لم يتركنا لما صعد الى الآب، ويبقى معنا بروحه ويجدّدنا به ويطهّر ضميرنا كلما التفتنا اليه ويقدسنا بالأسرار: بالمعمودية والميرون والقربان وما اليها.

لا ينتهي الخطاب الوداعي بهذا الكلام اذ يطلب يسوع لنا ما طلبه من اجل تلاميذه اذ يقول انه واحد معنا كما انه هو والآب واحد. ويطلب ان نرى مجده في السماء وينتهي بهذا: «عَرّفتُهم اسمَك وسأُعرّفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون انا فيهم». الحياة التي هي في الثالوث ستكون فينا.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الشبيبة المارونية المؤمنة / السبت 19 ايار ٢٠٠٧

منذ بضع من سنين اكتشفت البهاء الروحي في الشبيبة المارونية. هذا لم يكن يلفتني كثيرا في الماضي بسبب الغليان السياسي الذي كان مستحوذا على هذا البلد. ولست اوحي بهذا الكلام ان المسيحيين ما كانوا روحانيين بمقدار. ولكن عشت الأحد الماضي في كنف سيدة النجاة في بكفيا خبرة رائعة. كان هذا لقاء مع لجنة مسكونية للشباب المسيحي منه بعض الأرثوذكسيين من ابرشيتي.

                      فترة تأمل في البدء وصلاة الغروب الأرثوذكسية في المنتهى مع شغف في اكتشاف الآخر وضمه الى الصدر وقناعة اننا جميعا للمسيح مع بقاء كل واحد في كنيسته. هذا الشباب كان هاجسه في ذاك الاجتماع التقارب في الصميم ابتغاء وحدة يهبها الرب احباءه. واذا وصفت غير لقاء لي في السنوات الأخيرة بكهنة موارنة شبان يهيئون اطروحات ويلتمسون مشورة من اسقف ارثوذكسي رأيت ان مناخ العلاقات بيننا تغير تغيرا كبيرا معزيا بحيث ترى ان المخلص يشق طريقه في القلوب بلا هذا الانغلاق الذي كنت أعانيه قبل اربعين او خمسين سنة من اليوم.

                      طبعا شبان ابرشيتي الذين هم جزء من هذه اللجنة نالوا بركتي للانضمام الى رفقائهم الموارنة وهم على صلابة معروفة في الاوساط الارثوذكسية وفي الوقت نفسه على طراوة نمت عند احتكاكهم بالآخرين. انت لك ان تكون شديدا ولينا بآن. وأظن ان هذه ظاهرة آخذة بالنمو الآن ولا تفسير عندي لذلك الا ان محبتك ليسوع تدفعك الى كل من أحبه. فاذا كان الحبيب واحدا فماذا يفصلك عن المسيح حبيبا؟ وان يدعى اسقف ارثوذكسي كان يوصف بالتمسك الشديد بعقيدته في جو كان يقال فيه «نحن واحد» والقول على عمقه لمن يفهم الاعماق كان في حقيقته ميوعة لا تحل المسائل الخلافيةولا تقرب كما المسيح يريد.

                      ما لفتني في التأمل في بكفيا انه كان قائما على ثلاثة فصول انجيلية كان من اراد يعلق على جزء منها. والتركيز على النصوص التأسيسة عنى لي ان هؤلاء الشبان والشابات ارادوا انفسهم آتين من كلمة الله ومجمعين عليها ومجتمعين في ما توحي اليهم اي ان الانجيلية لم تبق محصورة بتلك الكنائس التي تنعت نفسها كذلك. فالانجيلية هي اولا ارادة الانجيل. طبعا النقاش بيّن اننا لا نفهم النصوص دائما فهما واحدا. ولكن هذه حالة كل قراءة لأي نص في العالم وفي الاديان.

#         #

#

                      المناخ السائد ان هذه الكثلكة الشبابية كانت ترى نفسها واحدة ولو متقابلة العناصر. لعلي فهمت اكثر مما كنت افهم في اجتماع لاهوتيين ان ثمة وحدة في العمق لا تأتي من العقل الفاحص المدقق ولكن من القلب المكسور. ادركت هذا بتحسس كبير لما قالت فتاة مارونية: ماذا نفعل بيسوع المصلوب؟ فهمت انها تعني انه بانقساماتنا لا يزال مصلوبا وان هذا الامر مسألة المسائل.

                      انا دعيت لأطرح المشكلة اللاهوتية التي تعيق وحدتنا كما دعيت الى الحديث في التطلعات التي ارنو اليها لنكسر الجليد.

                      قلت لهؤلاء الاخوة: «ليس من وقت لاستعراض كل المسائل الخلافية بيننا. سأحصر كلامي بما ورد في الرسالة الجامعة: «ليكونوا واحدا» للبابا الراحل وفيها مقظع صغير قال فيه ما مفاده: لنفحص ما المكانة التي كانت لاسقف روما في الالفية الاولى. سرّ الارثوذكس وغيرهم لهذه الفكرة الجريئة للبابا يوحنا بولس الثاني واخذ العلماء يعملون على هذه القضية. ،انها لقضية تاريخية بحتة لا تداخلها المذهبية. واذا كان المقام البابوي مستعدا ان ينتهج مسلكية الالف سنة الاولى يكون هذا هو الحل. غير ان بعض المرجعيات الكاثوليكية اوضحت ان معوفتنا التاريخية لا تلغي العقيدة التي حددها مجمع الفاتيكان الا،ل السنة الـ ١٨٧٠ وقد نصت على «الولاية العامة والمباشرة للبابا على الكنيسة جمعاء كما نصت على عصمته اذا تكلّم عقيديا   ex cathedra اي على المنبر الرسولي». لا نكون والحالة هذه قد قمنا بشيء. نكون قمنا بدراسة اكاديمية قد تؤثر على بعض الاداريات ولا توحد بين الكنيستين.

                      ثم قلت لهم: ما اجمع عليه العلماء هو ان اسقف روما في الالفية الالولى لم يصدر قرارا واحدا ليأخذ به الشرق. كان هو يرعى الغرب حصرا – ارادته في الرئاسة – وهذا قديم جدا- لم تحمله على اتخاذ قرارات نافذة في الشرق على اي صعيد.

                      ثم الشيء الاخير الذي كان لا بد من ايضاحه وهو من المسلمات عند العالمين ان الشرقيين لم يناموا ليلة مؤمنين بالرئاسة البابوية وأفاقوا في الضحى ليتمردوا عليها كلهم معا. اضظررت ان اقول هذا لان التعليم الذي اتخذته في طفولتي ان الشرقيين امة تمردت فجأة وتنكرت لعقيدة راسخة. ،من المعروف عند العلماء الكاثوليك ما اكده ايف كونغار رحمه الله ان كل المؤرخين  الكاثوليك قالوا بوضوح ان الشرق المسيحي لم يكن يتكلم على الاولية البابوية كما كان الغرب يراها. نحن اذا في مأزق حقيقي سوف تفحصه لجنة الحوار الكاثوليكي- الارثوذكسي المشتركة العائدة الى اجتماعاتها.

#               #

#

                      الاسئلة التي ظرحها الشباب الماروني كانت مرتكزة على موقع دفاعي يمكن ان تتوقعه من غير محترفين. مثال على ذلك ما اعتبروه ترجمة صحيحة: انت الصخرة وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي (او في الترجمة اليسوعية القديمة انت الصفاة وعلى هذه الصفاة سأبني كنيستي). كنت مصمما الا أساجل احدا ولا سيما ان مناقشة النصوص في الاصل اليوناني غير متوفرة. وفي اليونانية لا يستعمل السيد لفظة الصخرة مرتين ولكنه يقول: انت بيتروس Petros  وعلى هذه الصخرة يقول petra. والاسم بطرس نحته السيد من الصخرة ولكنه لا يعني الا ذاته ولا يعني الصخرة.

                      ما احببت ان اوضحه ان آباءنا في الالفية الاولى لم يؤسسوا كرامة الاسقف الروماني او مكانته على اولية بطرس في المصف الرسولي. وقال بعضهم ان كل اسقف خليفة بطرس وقال آخرون ان كل علماني له ايمان بطرس هو خليفته. اي ان اولية بطرس في المصف الرسولي لا تنتقل الى بابا رومية. هذا قبل الكل بمكانته الاولى على اساس تاريخي لا كتابي.

                      طرح علي ما تلقاه هؤلاء الشبان في مدارسهم. والواضح كان اننا امام تفسيرين مختلفين لا لقاء بينهما.

                      سألوا ما الحل. الحل هو في اللاهوت الكاثوليكي الحديث الذي يميز بين المجامع المسكونية السبعة التي تقبلها الكنيستان لما كانتا مجتمعتين والمجامع العامة. فقد انفرد الغرب بمجامع سماها هو عامة. ووجود كلمتين يدل بوضوح على انه يستحيل ان يكون لهاتين الفئتين الالزامية نفسها. الشرق كانت له ايضا مجامعه الخاصة ولا يستطيع ان يفرضها على الكنائس الغربية فرضا. كل فريق يتبنى ما يسمح له تراثه بأن يتبناه وهذه هي الطريقة التي كانت متبعة بالقديم اعني طريقة القبول اللاحق. واذا لم يحصل هذا يكون ما سميته عقيدة انت رأيا لاهوتيا حرا. فاذا كان مجمع الفاتيكان معتبرا على انه حدد العقيدة البابوية (الرئاسة والعصمة) مجمعا عاما لا مسكونيا تكون هذه العقيدة غير ملزمة للشرقيين الذين لم يقولوا بها. وتبقى في الكنيسة الجامعة خلافا شرعيا. فلا تكفرني اذا لم اقل بالعصمة البابوية ولا اكفرك اذا قلت بها ونتناظر اخويا في المحبة.

                      هناك مقاربات جديدة وشجاعة عند بعض اللاهوتيين الغربيين الذين يقزمون المواقف القديمة في الفاتيكان الاول. اما ان ينتظر الفاتيكان «عودة» الارثوذكس فهذا امر لا شيء مهيأ عندهم له.

                      اما بعد فقد سعرت بفرح لا يوصف عندما لمست الغيرة الملتهبة عند هذا الشباب الماروني على كنيسة المسيح- غير ان التوجيه المسكوني يبقى «شاعريا» في كل كنائس هذا المشرق وليس لي اطلاع كبير في صفوف الشباب على الموقف الآخر. الطهارة التي لمستها فيهم لا تكفي. ان من مسؤولية القيادات طرح الإشكالية القائمة وتبيان مواقف الاخرين لأن النور لا يكتمل الا بالمعرفة.  المعرفة نوع من الصلاة.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الأعمى/ الأحد في 13 أيار 2007 / العدد 19

من أهم ما في إنجيل يوحنا ذكر النور. منذ مطلع الإنجيل نقرأ عن السيد: «فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس» (1: 4). ثم يقول: «كان النور الحقيقي». وكذلك تأكيده: «انا نور العالم» (8: 12) وهكذا في مواضع أخرى.

اما أعجوبة الأعمى التي يتحدّث عنها إنجيل اليوم فتشير الى ان نور المسيح يعطى للأعمى ولتدل من وراء الحادثة ان العبرة الحقيقية من هذه الأعجوبة ان كل من فقد الحقيقة لا يعود إليها الا اذا اقتبل يسوع في حياته نورا.

يخصص يوحنا الإنجيلي اصحاحًا كاملا ليكلّمنا على أعمى منذ مولده فأخذ اليهود يسألون السيد: «من أخطأ أهذا ام أبواه حتى وُلد أعمى؟». فأراد السيد ان يقول لهم ان الانسان لا يرث خطيئة أبويه، وكأنهم لم يقرأوا ما جاء عند أنبيائهم اذ يقول حزقيال: «ما لكم تضربون هذا المثل على ارض اسرائيل قائلين: الآباء اكلوا الحصرم واسنان الابناء ضرست…ها كل النفوس هي لي. نفس الأب كنفس الابن. كلاهما لي. النفس التي تخطئ هي تموت» (18: 3 و4). ما يحزنني كثيرا اني اسمع في اوساطنا: «هذا طلع مثل أبو». هذا امر لا اساس له في معتقدنا.

ما يلفت في هذه المعجزة ان اليهود اخذوا على المعلم انه شفى في السبت. عندهم ان هذا عمل، والعمل ممنوع. هكذا شفاء يابس اليد يوم السبت عند متى. لم يفهموا ان غاية الشريعة هي الرحمة. كل الانجيل يوضح انهم عادَوا يسوع لأنه كان يرحم المرضى والخطأة. ونحن لسوء فهمنا للإنجيل قساة مع الخطأة، ونظن ان الصحة وحدها مكافأة من عند الرب. «شو عمل هذا؟ ما بيستاهل!» كأن حادثة مرضيّة عقاب إلهي. الذين يقولون مثل هذا القول لا يزالون يهودا.

سجال طويل بين الأعمى واليهود. يقولون له عن المسيح: انه رجل خاطئ واستنتجوا من هذه التهمة: «كيف فتح عينيك؟». الحادثة حصلت والاستنتاج المنطقي الوحيد منها ان يسوع هو من الله وان هذا الشفاء عمل الله. وبدل ان يعترفوا انهم امام اعجوبة وقد رأوها، اخرجوا الأعمى من طائفة اليهود.

نحن مع صدام رهيب بين السيد واليهود. هم قرروا ان يسوع الناصري لا يجوز ان يعترف به احد ولا يمكن تاليا ان يكون قد صنع معجزة.

غير ان الأعمى أبصر وبطلت اليهودية في نكرانها للمخلص. وآمن الأعمى وسجد للمسيح. وفي الديانة اليهودية ليس السجود لإنسان جائزًا. يسوع عند الأعمى اذًا اعظم من مجرد انسان.

هل نحن نسجد له في كل مواضع سيادته كما يقول قداس يوحنا؟ هل انت تعترف ان على عينيك غشاوة اذا اخطأت وانك في حاجة الى نور المسيح؟

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

عشق المال أو عطاؤه / السبت ١٢ أيار ٢٠٠٧

كتب العبادة في كنيستنا مليئة بعبارة «عشق الفضة» معتبرة (بفتح الباء) على أنها شهوة مركزية من حيث انها تؤدي الى طلب السلطة واشتهاء هذه اشتهاء فاتك لأنه استعباد للآخر وكل استبعاد الغاء. وكلما احتدمت رغبتك في متاع الدنيا وتوسعت هذه الرغبة لا يبقى حد لمطمع شرعي وترى نفسك مخطوفا ويعطل عندك نظام العقل اذ لا يبقى انتظام بين نفسك وبين ما ترغب فيه فاذا الذي بين يديك مالك عليك وانت تاليا مأخوذ اليه.

كل قصتنا مع الشهوة انها تنقل مركزك من حيث يجب ان يبقى اي من الاعتدال الى حيث يريدك الهوى. معنى ذلك انك تخرج من السلامة التي جعلك الله فيها لتسكن الخلل.

ليس في هذا الكلام مغالاة لأن استيحاذ المال استيحاذًا على كل الشخصية يجعلك تصير ما انت تحبه وعند اقصى سلطان الشهوة عليك تخسر محبتك للإخوة وفي منتهى هذا العشق تنغلق نفسك فتعجز عن العطاء اي عن الانتباه والخدمة. قال لي صديق ثري كلما ربحت مبلغا من المال كبيرا اوزع منه قدرا كبيرا خشية تعلقي بما ملكت. كان يخشى ان يصير عبدا.

بهذا المعنى جاء في العظة على الجبل: «لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك» (متى ١٩:٦-٢١). هل المعنى انه لا يسوغ لك ان تفتح حسابا في المصرف؟ الوضع الاقتصادي الذي كان المسيح يتكلم فيه كان وضع فقر شديد وكان يتطلّب اذًا ان تشارك الآخرين ما عندك. كان يسوع يريد ان تجعل محبة الله كنزنا حتى نتعلق بها فلا نشتهي ما بين ايدينا في اي وضع اقتصادي يكون البلد فيه. لذلك تابع كلامه هكذا: «لا يقدر احد ان يخدم سيدين. لأنه اما ان يبغض الواحد ويحب الآخر او يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون ان تخدموا الله والمال» (متى ٢٤:١٦).

الفضة كانت عنده ان تملأ قلبك من الله او ان تملأه من المال. هو لم يثر مسألة نظام اقتصادي. مجال يسوع الناصري مجال القلب. السؤال هو ماذا انت عامل بقلبك؟

#              #

#

علمنا المغفور له رفيق الحريري كلمة هدر وما كنت اعرف استعمالها بالمعنى الذي استعمله بها. ثم ادركت انه لجأ الى هذه اللفظة لكونه كان حريصا على تهذيب اللسان وكان يريد بها السرقة. وكنت افهم انك اذا بددت مالك الخاص تبديدا فهذه خطيئة اقل شدة من تبديد المال العام حتى علمني العالمون ان الفرنسيين عندهم عبارة ان «الذي يسرق الدولة ليس بسارق». والدولة افهمها انها الناس اي ذلك الترتيب الذي يسهر فيه المسؤولون على سلامة الوطن وازدهاره وعافيته ورعاية الفقير والمريض والشيوخ وحماية البلد بالجيش وكنت قد قرأت عن سعد زغلول انه اذا كان في مكتبه وأراد ارسال كتاب الى احد انسبائه يرسل الحاجب ليشتري له ورقة وغلافا لأن الورق الذي كان على مكتبه يخص الدولة المصرية ويستعمل لخدمتها فقط. كذلك فهمت ان الموظف العالي في سويسرا اذا اراد نزهة مع عائلته يستعمل سيارته الخاصة لا سيارة الدولة لأن المكلّف لا يدفع لك ثمن المحروقات لانبساطك الشخصي.

كذلك علمت ولم ادقق ان هناك اسماء موظفين مسجلة على جدول وزارات عندنا وهم لا يعرفون باب الوزارة. واشياء مماثلة لو تحققناها لما وسعت مقالتي ذكرها. ثم فهمت ان الهدر شائع ايضا، ربما بمقدار اقل، في بلدن »راقية« ولكن هنا من يحاسب ويقاضي عظاما فيها بما في ذلك رئيس الجمهورية اذا حان وقت رفع الحصانة عنه. انهم يدركون ان مخالفة الشريعة قائمة في العالم ولكنهم يفهمون ايضا ان قضاة الدولة يسألون المرتكب عنها ولا ينتظرون محاسبة الله لنا في اليوم الأخير بعد ان أخذوا عن القدامى ان العدل اساس الملك. وقد فرقت الكنيسة عندنا في القرن الرابع بين مال الكنيسة ومال الأسقف فإن هذا له ان يستعمل المال الذي ورثه من ذويه وان يستعمل مال الأمة لحاجاتها.

في ايام شبابي اي منذ ستين سنة عرفت قضاة يعيشون من راتبهم فقط اي بشيء من التقشف كما عرفت من كان منزها عن الرشوة وكنت اقرأ لهؤلاء احكاما رائعة. وما كان علمهم دون الاحكام الفرنسية التي كنت اقرأها في المجموعات الحقوقية الكبيرة اذ كنت في هذا الحقل. اي ان هؤلاء الأساتذة كانوا على بعض من الحرمان ومع ذلك يقضون ساعات طولى بالتنقيب فإنهم كانوا موقنين بأن القضاء رهبانية وان مكافأتهم كانت بمجرد الأحكام العادلة وإرضاء ربهم وسلامة ضمائرهم.

وعرفت كهنة يرتضون بصداقات المؤمنين ولا يتذمّرون من الضائقة التي كانت تحل بهم وما كان لهم سبيل لشراء عقار وكانوا مؤمنين بأن غناهم هو في الفقر وكانوا يبيتون في ملكوت الله وهم على الأرض. عرفوا ان موطنهم هو في السماد. وكان بعض الفنانين في اوربا يبيعون لوحاتهم بسعر بخس. واليوم ترى مطربين ومطربات كما هم يسمون انفسهم وليس لبعضهم صوت ولا معرفة بالألحان ويجنى المال بالقد المياس.

#              #

#

قلت مرة لأحد أصدقائي ان المخلّص لم يتكلم ضد الأغنياء بحد ذاتهم ولكنه تكلم على خطر دخولهم ملكوت السموات. قال لي ان الخطر ليس في الثراء ولكن باختزانه اي بعدم توزيع بعض منه. وفحصت كل ما قاله الانجيل في هذا الموضوع وتبيّن لي حقيقة ما تقوله كنيستي في هذا الباب وهو ان الخطيئة هي عدم الإحساس في اي مجال انت تخطئ فيه. وفي مجال المال المعصية هي في عدم شعورك بالآخر. فأنت قائم في هذه الدنيا لتحب الآخر.وهذه المحبة توجدك وليس لها حد. نحن لم نحدد نسبة عطائك المالي ولكن الكلمة قالت في المزامير عن الكريم: «بدد، أعطى المساكين فيدوم بره الى الأبد» (٩:١١٣).

ثم جاء آباؤنا الكبار امثال باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم  وأغسطينوس وأوجدوا نظرية الائتمان فقالوا: بيدك مال جاءك من إرث او عمل. هذا ليس لك. هو ملك الله وانت مؤتمن عليه غاذا ذهبت الى المسرح وكنت أول الواصلين لا تقدر ان تقول ان هذه الكراسي لي. وقالوا ان ألبستك وأحذيتك هي لك وللآخرين ولهم حق فيها. فأنكروا قدسية الملكية الفردية. هذه هي عندك وليست لك. هي للمحتاجين اليها. ليس لك ان تحفظ ما عندك الا بقدر حاجتك اليه. واذا كان الآخر في حاجة تصبح له وكأنهم قالوا انت لست متصدقا (ولو استعمل الكتاب اللفظة). انت تفرق ما عندك ليعيش الآخر وتعيش انت ايضا.

انهم لم يأتوا بنظام اقتصادي. هذا شأن الدولة. والدولة لم تكن تعنى  بنظام. وانت لا تبغي شيئا مما تعطيه. انت تطلب لنفسك برا وطهرا وقداسة. وهذه لا تقوم فقط بأنك تحفظ الوصايا فإن الوصايا تختصر بالمحبة كما علّم بولس. لك ان تملك كشخص اودعه الله الملك لتدبره وتحس بالأخوة.

وجمع بعض آبائنا مالا لا يقدر وأقاموا به مطاعم شعبية ومستوصفات وما الى ذلك. وما كانوا في مواعظهم على رفق مع الأغنياء ومع ذلك كانوا يجعلونهم كرماء حتى قال يوحنا الذهبي الفم ما مفاده ان مدينة روما لم يبقَ فيها فقير مسيحي او وثني لأن المسيحيين كانوا يبددون أموالهم على الجميع.

المال شيء عظيم اذا استعملته وفق هذه القاعدة فالمحبة ليست كلاما معسولا او اشتياقا او تحببا كلاميا. من لا يترجمها في العطاء – ان لم يكن شديد الفقر- تبقى عنده حكيا يحكى. واما من اخرج المال من جيبه او حسابه المصرفي فهي قلب مسكوب. والقلب المسكوب هو كل الوجود في هذه الدنيا.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

المرأة السامرية/ الأحد في 6 أيار 2007/ العدد 18

من أجمل ما في العهد الجديد إنجيل السامرية الذي رواه يوحنا. يقول ان يسوع اتى الى مدينة في السامرة تدعى سوخار. وهي قائمة حتى اليوم قرب نابلس. ولا يزال فيها تلك البئر المذكورة في الإنجيل وبجوارها كنيسة أرثوذكسية، وقد رأيت بنفسي هذا المكان قبل ان تنشأ دولة إسرائيل.

سكان هذه المنطقة السامريون انشقّوا عن اليهود بعد احتلال بخذنصر لفلسطين، ويختلفون عنهم بأن التوراة السامرية تحوي فقط اسفار موسى الخمسة وليس فيها كتب الأنبياء. لذلك قال يوحنا الانجيلي: «اليهود لا يخالطون السامريين». مع هذا تحدّث الانجيل بإيجابية كبيرة عنهم. فهناك مَثَلُ السامري الشفوق، والأبرص السامري الذي شفاه يسوع مع اليهود ووحده عاد يشكر الرب.

عند الساعة السادسة اي ظهرا ادرك يسوع هذا المكان في طريقه من اورشليم الى الجليل. فجاءت امرأة لتستقي ماءً فدخل معها يسوع في حوار. طلب منها ان تعطيه ماء ليشرب فتعجبت ان يطلب هذا وهو غريب عنها في الجنس والمعتقد. فقال لها السيد: «لو عرفتِ عطيةَ الله ومَن الذي قال لكِ اعطيني لأشرب لطلبتِ انت منه فأعطاك ماء حيا». فقالت له: «من أين لك الماء الحي» (اي ليس عندك دلو ولا ينبوع هنا غير هذه البئر). عندئذ قال لها: «من يشرب من الماء الذي انا أعطيه لن يعطش ابدا». ولما قالت له: «اعطني من هذا الماء» غيّر حديثه عن الماء وقال لها: «اذهبي وادعي رجلك»، وقصد ان يقول «رجلك» لا «زوجك» لكونها لم تكن متزوّجة وكانت تعاشر رجلا. اكد لها انه يعرف هذا الأمر فقالت له «يا سيد أرى انك نبي».

ثم دخلا، بعد اعترافها، في جدل لاهوتي فقالت له «آباؤنا سجدوا في هذا الجبل (اي الذي كان هناك) وانتم تقولون إن المكان الذي ينبغي ان يُسجد فيه هو في اورشليم». اذ ذاك قال لها: «انها تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في اورشليم تسجدون فيها للآب… تأتي ساعة وهي الآن حاضرة (اي لكوني انا ظهرت) اذ الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق» (اي لا بالذبائح التي تقدمونها او يقدمها اليهود، ولكن بالقلب الذي ينقيه الله فيصبح كل من المؤمنين الجدد منكم ومنا مملوئين من الروح القدس). وكان يشير طبعا الى المسيحيين الذين سيظهرون كنيسة موحدة للشعوب كلها بعد العنصرة.

عند ذاك آمنت به هذه المرأة، وتعيّد لها الكنيسة مسمّية اياها «فوتين» اي المستنيرة. وذهبت لتبشّر ذويها، وقال الانجيل انهم آمنوا بأن المسيح مخلص العالم. وهذا ما جعل السيد يقول: «وتكونون لي شهودا في اورشليم وفي كل اليهودية والسامرة والى أقصى الأرض» (اعمال 1: 8). وهذا بلا شك مما سهل تبشير الرسل للسامرة.

ما تركت فيّ المرأة السامرية من زمن طويل ان الانسان يمكن ان يتكلّم بكلمات إلهية ولا يكون في قلبه ولسانه انسانا إلهيّ السلوك.

الشيء الثاني الذي تركته ان يسوع بديلُ ايِّ ما نعتقد انه عظيم وليس بعظيم (الجبل في السامرة، اورشليم). هو وحده المساحة الإلهية ومرجع قلوبنا اذا تأزمت وحول وجهه تدور كل عبادة وتحرك فينا وهو وحده يكشف لنا المبتدأ والمنتهى وما بينهما.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الفصح أيضا وأيضا / السبت ٥ أيار ٢٠٠٧

لا يزال ابناء كنيستي يتغنون بالفصح. لماذا هم سكارى الى هذا الحد؟ لماذا لا نقول شيئا آخر؟ لماذا لا نستطيع؟ في سفر الرؤيا ٨:١٣ يرد الكلام عن “سفر الحمل (بفتح الحاء والميم) الذبيح قبل انشاء العالم” وبالرجوع الى رسالة بطرس الاولى “المسيح هذا كان قد اصطفي قبل انشاء العالم” (1: 20) وبالمقارنة يتبيّن انه قد اصطفي للصلب قبل كون الخلق، أكان في علم الله السابق بخطيئة الإنسان ام لا. القديس مكسيموس المعترف علم ان السيد كان لينزل الى الأرض أاخطأ الانسان ام لم يخطئ وفي الحالتين هذا موت حب. خلقنا وخلاصنا واستمرارنا واشتراكنا بقيامة المسيح، كل هذا ثمرة المحبة الإلهية. وهذا هو العيد بكامل جوانبه.

                      لذلك عندما قال المعلم: “الآن تمجّد ابن الانسان وتمجد الله فيه”(يوحنا 13: 32) كان واضحا من حرف الجر في ان مجد الله كان قائما في جسد المسيح ودمه المراق. اي ان سمو الله وجلاله وقدرته وانعطافه علينا باتت في ذبح البشرية للابن لأن شيئا من الله لا يبدو حقيقة وفي العمق، الا اذا أبان هو نفسه في الحب المسكوب للبشرية.

                      عندما يسألنا الذين لا يؤمنون بهذا: لماذا هذه الذبيحة؟ أما كان الله قادرا ان يتكلم على محبته تكلما دون ان يجسدها بهذه الطريقة. أجل كان هذا ممكنا ولكنه اختار ان يفعل هذا. وبعد معرفتنا بالتجسد بتنا قادرين على فهم هذا الاختيار الإلهي. لقد آثر الله ان يكشف قرباه بهذا الأسلوب. هذا كان خياره الأزلي كما يقول العهد الجديد. ماذا لك على الله اذا أنسَ ابنه لنراه في أفعال ظاهرة فيأكل ويشرب ويشاركنا الموت فلا يكون غريبا عن حال من أحوالنا ما خلا الخطيئة.

                      لم يكن الله في حاجة إلى ان يقدم ابنه في كفارة دم. هذا تفسير سُمِع (بضم السين) عند مفسرين ما كانوا ينتمون إلى التراث. نحن ما همنا دم يسوع إلا سبيلا إلى الحياة الجديدة. همنا في هذه الذبيحة معنى الألوهة فقط تنسكب في نطاق الموت بجسد يسوع ليُعتَقَ (بفتح التاء) الإنسان بمحبته للمصلوب والقائم من الموت. في الجمعة العظيمة التي ندشن فيها الفصح لا نبرز الصليب فقط ولكن النزول عن الصليب. وعباداتنا يوم هذه الجمعة بالذات عبادات قيامية لا أثر فيها للحزن، نحن لا نتفجّع على المسيح ولا نهتم عاطفيا للظلم الذي لحق به. اننا مشدودون عبر آلامه الى هذا الذي سماه الكتاب فصحنا اي الى المسيح الظافر. يسوع هو نفسه الحياة قبل ان نعلن النصر في اليوم الثالت.

#             #

#

                      نتيجة لذلك نحن لسنا ديانة الألم ولسنا نستلذه مرضا او وجعا ولا يعني الشرق المسيحي شيئا ان يصاب انسان في بدنه. نحن لا نعزيه بأنه شريك سيده بالآلام. هذا لم يرد في قولة واحدة في العهد الجديد. اجل، تكلم بولس كثيرا عن مشاركة الآلام ولكنه عنى فقط شيئين اولهما اننا نموت معه في المعمودية وثانيهما اننا نغدو شركاءه اذا سعينا الى اماتة الشهوات فينا. هذا الاستلذاذ بالمرض واشتهاء الوجع او ان نبقى فيه هو من المازوشية ورغبة في شيء من الموت والمسيح معلم الحياة ومعطي الحياة ومن خدمته -لما كان في البشرة- ان يشفي مرض العقول والاجساد والخطيئة، الأمر الذي خصصت له الأناجيل صفحات كثيرة واعتبرته تبشيرا بملكوت السماوات.

                      انت ان مرضت تلجأ الى الله للإستشفاء لا لدوام المرض فيك. ان الملكوت نهاية الاوجاع وعليك ان تسعى الى الملكوت منذ الآن اي ان تصلي وتدعو الكهنة ليدهنوك بزيت وتدعو الطبيب للمعالجة.

                      نحن اذًا مع المسيح الحي. المهم الا نكون نحن من قاتليه. من العار ان نكون قوما فاتكًا بالله كما فعل اليهود والرومان قديما. يقبل المسيح جراحاتنا ويغفر ولكن نحن الذين اصطبغنا به كيف لنا ان نكون خائنين؟ الله يحتمل خياناتنا وينتشلنا منها ان صرنا من التائبين. واذا كان يهوذا صورة عن الخيانة المطلقة فهذا خنق نفسه قبل موت المسيح فنزل الى الجحيم ولما نزل اليها المسيح بموته اعتقه كما اعتق كل الجنس البشري الساقط والأبرار. ايقونة القيامة عندنا تمثل السيد بثياب بيض في مملكة الموت ينتشل منها آدم وحواء وكل ذريتهما حتى لا يبقى احد اسير الموت او اسير المعصية. واذا فهمنا قدرة المسيح على خلاصنا لا يضع احد على جبينه اكليل الشوك من جديد ولا يضربه بقصبة ولا يسمر يديه ورجليه بمسامير ولا يطعنه بحربة. من المسيحيين من يطعنون المسيح كأنهم لا يؤمنون بفدائه.

                      مع ذلك لملم منذ صلبه ويلملم اليوم كل شراذم البشر، الزواني والعشارين ومن اليهم. المصابون بالعمى الروحي يعيد اليهم البصيرة اذا قبلوه. قد تسمى باسمه وتحيد فعلا عنه فاذكر ولا تنسَ انك قد تصير مثل يهود ذلك اليوم والرومان. لا تقبّله بقبلة غاشة كما فعل يهوذا لأنه هو يقبلك بقبلات شفتيه للإيحاء اليك انك لا تزال حبيبه.

                      لا تتظاهر بالولاء له لأنك لا تستطيع ان تغشه وكما دخل على التلاميذ والأبواب مغلقة سيدخل اليك ولو رفضته يقرع باب قلبك ويتعشى معك وتتعشى انت معه فإنه ضمك اليه قبل ان تلدك امك. وسيأخذك على صدره كما فعل بالتلميذ الحبيب في العشاء السري ويسميك باسمك كما سمى مريم المجدلية في البستان بعد القيامة فعرفته.

                      فيك اشياء كثيرة تجعلك حاجبا عينيك عن رؤيته. هذه الرؤية اساسية لتحيا. لن تحيا بمالك وقوتك ونفوذك وجمالك وعقلك. لست أنكر سحر هذا كله. ولكن قدرة المسيح على ان يسحرك اعظم بكثير. لا تضيع وقتك بما هو دون ذلك فإن المسيح بات فصحك اي عبورك الى الآب. وان احببت ان تصعد معه اليه فهو يجلسك الى عرشه منذ الآن اي قبل ان تأتي قيامتك وتجالس بعد القيامة من كانوا طيبين في الأرض أعرفوا اسمه ام لم يعرفوا لأن البهاء الروحي الذي يكون فيهم هو مصدره.

                      واذا عيدنا نحن للفصح ولا نزال قائمين في بركاته فليس لنحتكر ذلك وليس لأننا افضل الناس. ونحن للناس جميعا في أخوّة واحدة. ولكل انسان في هذه الدنيا انبعاثه من خطاياه ان كان من التائبين. ونحن لسنا كتلة منفصلة عن البشر لأن المسيح جاء ليبشر ان الناس جميعا من عائلة أبيه ان هم ارادوا ذلك بالعمل الصالح.

                      اما نحن فنعرف انه هو “الطريق والحق والحياة” ولكنا نعرف ان الذين يحبون الله من اي صوب جاؤوا هم شركاؤنا في المجد وليس لنا باللحم والدم ميزة على آخر ولكنه اختارنا نحن اتباعه لنعرفه كما كشف لنا نفسه بالكتب وله طرائقه ليكشف نفسه للطاهرين في كل أمة. ولا يفرق بيننا وبين الآخرين في حبه.

                      في هذه الدنيا عقائد مختلفة ولكل منا اخوه في المعتقد. ولكن محبتنا واحدة لجميع الناس بما فيهم الذين يشكون. نحن والعابدون لله والعابدون لذواتهم، نحن جميعا ابناء الله الواحد الذي يصطفي من يصطفي ولا نحاسبه على اصطفائه. وربك يدين كل امرئ على ما في قلبه ويحيي القلوب الجافة ويقيم في كل قلب بشري صار طريئا.

                      هذا هو الفصح الأخير وإطلاله على فرح السماء.

Continue reading