نحن على خلاف لاهوتي مع جورج بوش قبل ان ننتقد مسلكه. والخلاف، اذا شئتم لباسًا نظريًا له، هو على استمرار الوعد الإلهي بالأرض أو على زواله. خلاف على أي وعد إلهي بالأرض لشعب مختار عبريا كان أم أميركيًا. فالآباء المؤسسون لمار صار الولايات المتحدة كانوا مشبعين من العهد القديم على ان مدلوله كما فهمه اليهود باقٍ الى الأبد. لم تكن الحركة الصهيونية قد بدأت عند هجرة الآباء الى العالم الجديد. لماذا سميت تلك البلاد هكذا بتسمية توراتية نقلاً عن الارض الجديدة التي يتكلم عليها سفر الرؤيا في اواخره وقد دلت فيه رمزيا على الملكوت المرتجى؟ الآباء هؤلاء من بعد اضطهادهم في انكلترا رأوا الى دنيا يسكن فيها العدل كما العالم عند المجيء الثاني للمسيح. وقد اعتقد المؤسسون انهم مدعوون الى ان يعيشوا الطهارة الإنجيلية هناك ومع التعلمن سميت هذه الطهارة ديموقراطية وحرية وخلطوا بين هاتين وبين الله بدليل كتابة ابنائهم على عملتهم in God We trust (نحن نثق بالله). وانت فيما تتداول الدولار وتكسبه قليلاً أو كثيرًا تقيم صلة بينه وبين ربك بمعنى انك تؤمن انه يهبك هذه العملة.
وقد رأى ماكس فيبر Weber، وربما كان على وجه من الحق، ان الرأسمالية ازدهرت في البيئات الكلفينية أولاً. وهذا صدى للبركات التي نزلت على ابرهيم واسحق ويعقوب عندما يذكر العهد العتيق عدد الأغنام التي كانت لهم تعبيرًا عن رضاه عن تقواهم حتى جاء الفقير الناصري وقال ان هذه كلها ليست بشيء وان المساكين يرثون ملكوت الله. لا شيء يجمع الهرولة الى الدولار في هذه البلاد الى التيار الفقري الذي انتشر ولا يزال في التراث المسيحي القديم أو الى حركة الزهد في الإسلام.
وظل الاميركيون على هذه الروحية حتى ظهور الحركة الصهيونية كائنة ما كانت مصادرها. هناك وجه منها يتابع البركات القديمة والوعد بأرض لنسل ابرهيم ولو كان انتساب يهود اليوم الى ابرهيم ضعيفًا أو قليلاً من حيث العدد بسبب من انحدار الكثيرين منهم من الخزر الذين تهودوا ولا علاقة لهم بابرهيم جسديا.
مهما يكن من أمر فقد رأى بعض أهل الغرب عند نشوء دولة اسرائيل ان هذه هي أرض الوعد في ازدهارها الزراعي وغيرها. وأخذ بعض القادة الروحيين يأتون بابناء رعاياهم الى فلسطين المحتلة ليقولوا لهم ان بركة الله على ابرهيم انما تتحقق الآن من جديد.
# #
#
وكان لي وبعض رفقائي المسيحيين العرب ان اجتمع الى لاهوتيين ومفسرين للكتاب في هذا البلد ولا سيما الهولنديين منهم الذين كانوا مقتنعين بأن دولة اسرائيل واسرائيل القديم واحد وبأن العهد القديم صحيح لانه يتحقق الآن على مرأى منا حتى انحسرت هذه الموجة. ففهموا ان عليهم ان يفرقوا بين المؤسسة الصهيونية والأرض التي وعد الله بها ابرهيم. غير ان هذا التيار استفاق اليوم في الولايات المتحدة فاعتقد معتنقوه انه لا بد من تجمع اليهود في فلسطين توطئة لاعتناقهم المسيحية ومجيء المخلص. طبعا هذا موقف لا يروق المؤمنين من اليهود وهم مع يسوع الناصري على عداء ولكنه تيار في شقه الاول أي تجمع اليهود يدعم مصلحة هؤلاء السياسية.
عندنا اذًا تحول من طرح الآباء المؤسسين للدولة الاميركية الى القول بأن الأرض الموعود بها هي فلسطين ولكن هذا لم يقطع القول ان أميركا هي أيضًا الأرض المباركة. هذا القول الأخير صهيونية على أرض اخرى. فسواء تأمركت معك الصهيونية بتركيزك اياها في العالم الجديد أم تهودت معك بتركيزها في فلسطين فالجامع بينهما الطرح الصهيوني الذي يسمر وعود الله على أرض بعدما حررنا المسيح من الأرض والتراب وكل ما يتعلق بالملك فكان هو المليك والمملكة ومطرح المواعيد وغاية المواعيد.
في قراءة مستقيمة الرأي للعهد الجديد لا تبقى أسيرًا للقراءة اليهودية للعهد العتيق وتتجنح الى المخلص الجالس في السماويات والآتي اليك. نحن اذًا على خلاف شديد يخص جوهر الإيمان مع جورج بوش وصحبه والمهيمنين على الحزب الجمهوري.
# #
#
مسلكيًا، كبار الرؤساء الاميركيين حتى ايزنهاور (مضمونا) كانوا متمسكين بإرث الحرية ولو اعتقدوا ان المال يضمن الحرية. فسد هذا الموقف لما صارت الدولة تتعاون مع أنظمة الاستبداد والعسكر في أفريقيا وأميركا اللاتينية وبهذا علم هنري كيسينجر وكتب. وهنا بدت لنا ظاهرة جديدة. فبدل الدعوة الى الحرية صار القول بفرض الحرية والديموقراطية على الشعوب. وهذا هو عينه الامبراطورية. بدءًا انتقلت أميركا من مرحلة التبشير بالحرية التي فكرة زعزعة الدول الصغرى – وكلها صغرى الآن – حتى تعم حرية جديدة في الأقاليم ولكنها مرتبطة بأميركا.
ألاحظ فقط ان الدعوة الأميركية القديمة حلّت محلها دعوة جديدة ظاهرها ديموقراطية وباطنها انتداب جديد ليس من عصبة الأمم التي انشأت هذا النظام ولكنه تكليف من الله لكون أميركا مطمئنة الى الله كما تقول هي على دولارها.
في هذا الانحراف التاريخي عن دعوتها الاولى ستغزو الولايات المتحدة العراق على ما يبدو وفي هذا ابادة أو بعض إبادة لشعب بريء. ولن أدلو بدلوي في ما يتعلق بانتفاء الشرعية الكاملة عن هذه الحرب. فقد قرأت بتدقيق تقريري رئيسي المفتشين. غير ان قرار قتل العراق متخذ. ونحن أبناء الحرية الحقيقية والطهارة غير الزائفة مع المسوقين الى الذبح. وصلت الشعوب للسلام وسنصلي. واتحدنا على مختلف عقائدنا الدينية في محبة العراق وسوف نبقى متحدين ان أصاب الشرق زلزال كبير. قد تحدث الصدمة فينا وعيًا كبيرًا لن يكون منة من أحد. ولعل بعضًا من تعزيتنا مآله ان جماهير كثيرة في شعوب كثيرة أخذت تفهم ان دنيا العرب التي تحيط بالعراق مهانة، مظلومة. لعل هذا الإحساس الكبير يبلسم جروحنا ويشفينا من أي أثر لكراهية الأجانب. فقد ظهر جليًا ان الشعوب حسنة، طيبة وقد غدت مدركة ان التعاون في الكرامة هو الروحية التي يجب ان تجمع بينها.
وبعدما ادركنا ان العنف الدولي سيىء للغاية ندرك ان العنف على الأرض العربية يجب ان يزول وان العقل العربي الهادىء الصافي ينبغي ان يحكم سلوكيًا. ولست أريد بذلك علاقة دولنا فهذه تخضع للمنطق السياسي. ولكني أتمنى ان تصبح هذه الدول صورة عن شعوبنا التي تريد ان تحيا في سلام. ليس من أمم متعادية. هناك مصالح متنافرة أرجو ان تذللها الحكمة ومودة العربي العادي للعربي الآخر.
الى هذا نشهد الآن ضمن العروبة تقاربًا شديدًا بين المسلمين والمسيحيين. وهذا نحن قادرون على ان نرعاه ورعيناه، بعامة، على صورة رضية في سوريا ولبنان وفلسطين. وأملنا ان تصبح هذه الرقعة المشرقية مثالاً للتعايش في أية أرض عربية يتلاقى عليها المسلم والمسيحي وان يدخل التلاقي الوجدان الإسلامي حيث لا مسيحي لكون كل كلمة صالحة تقال عن المسيحيين في دار الاسلام هي كلمة إنقاذ لقائلها ولمن يسمعها.
هذا لا يكفيه القلب. يحتاج الى تأسيس عقلي وهو يؤصلنا في احترام الآخر من حيث هو آخر كما يدفع الباحثين الى الانفتاح والسالكين معا على طرق الحياة الى المودات.
أمام المحنة المتوقعة ينبغي ان نؤمن بالله وبنفحاته في قلوبنا. ذلك ان سر القيامة هو في نفوسنا. اذا حلت النكبات لن نضطرب ولكنا نصبر حتى يرحل الموت عن هذا الشرق.
بعد المحنة يجب ان نصير جديين كثيرًا أي ان ندخل في التحول الروحي والثقافي والسياسي الكبير. هذا لن يكون دون توبة كبيرة لشعوبنا أي دون ان يستقيم الفكر فينا ونغرف من الحقيقة اني وجدناها بعد سطوع الفجر الجديد.
Continue reading