Monthly Archives

January 1963

1963, لسان الحال, مقالات

في حياة الأبد / الأحد 20 كانون الثاني 1963

إذا قابلنا، في هذه الزاوية، غير مرّة بين الفانيات والباقيات، فما كان ذلك احتقارًا للزائل، بل إعراض عمّا يذهب منه إلى الفناء. ذلك بأنّ في الزائل ما يبقى، ويخطفه إلى الأبد. إنّ كلّ ما يرفع إلى الدرجات العلى مستقرّ في هذه الدنيا، وهي تغلّفه. ولكنّ كلّ ما صنعه الإنسان من جلال وطهر، كلّ ما أقامه أمام الله في الخلق البشريّ، يمتحنه الله، ويستبقي منه ما كان قادرًا على أن يلج إلى الأبد. شيء من الوجه البشريّ، بعض من لحن وألوان طرحتها ريشة عبقريّة لا بدّ لها من أن تكون، في انطواء الكون، جزًا من السماء.

هذه الدنيا لم تكن لتذهب كلّها، وإلاّ فما معنى الخلق كلّه، ولأيّ سبب تحرّك الله وانعطف علينا، فأوجدنا من عدم؟ إنّ مصنوعات الإنسان التي صَنع بنفحة إلهه، في دنيا الحقّ والجمال والرشد، كيف تتلاشى؟ أثمّة مسوّغ أن يموت، بموت العالم، كلّ نغم ولون؟ أم أنّ جوهر هذا العالم ذاته وما يحمل التاريخ في طيّته من خير ينقل إلى الآخرة، ويخلد فيها؟

الجواب الحقّ أنّ الحياة الأبديّة لا تبتدئ بالموت، بل في الحياة الدنيا، وأنّ هذه الدنيا إنّما تحويها. ذلك بأنّ الأبد انفتاح وجدانيّ على الله منذ الآن وانسكاب المحبّة في قلب الإنسان. هي ليست شيئًا وليست من زمن إن كانت انصباب الأزل فينا. حياة الأبد تيّار من الله ينطلق، ويلفّ الكائنات لفًّا. فمن أحبّ أن يرتمي فيه، رمى فيه أيضًا كلّ حسن خلق وكلّ ما اجتناه من خيرات صالحة للخلود.

من أجل ذلك كانت حياة المؤمن لا إعراضًا عن الموجودات، بل إعراضٌ عن وجهها الزائل، وتمسّك بوجهها الباقي. لأنّ كلّ موجود خليقة الله حسنٌ اصلاً. والإعراض عن الموجود إعراضٌ عن النعمة التي فيه.

إذا كنّا نستطيع أن نُطلّ من المنظور على غير المنظور ومن نغم أرضيّ على أجواق الملائكة، نعي الحسّيّات هذه عينها عنصرًا كُتب له البقاء. وبكلمةٍ أخرى، صحيح من منظار واحد ما قاله أوغسطين في آخر اعترافاته: «كلّ شيء جميل أو ممتاز ينقضي حين يبلغ حدّه، وسيكون له مساء، كما كان له صباح». كلّ شيء جميل ينقضي ما عدا جماله وكلّ شيئ صالح ينقضي إلاّ صلاحه. كلّ هذا قد صعد منذ تكوّن إلى لحيظة من الخلود، لأنّه ليس في الزمن، ولو نشأ فيه. إنّ ما اتّخذه الله من ظلمة هذا العالم يبقى أمامه في نهار أبديّ.

Continue reading
1963, لسان الحال, مقالات

الإنسان الجديد / الأحد 13 كانون الثاني 1963

مرمى الله من إنسانه أن يكون جديدًا. أن يصبح كلّ يوم وكأنّه خلق اليوم، لا يكبّله ماضٍ، ولا يرهنه هوًى. جدّته في اختزان الرؤى الطاهرة وعزيمة الخروج على الفساد الكامن فيه. إنّه يتجدّد، دائمًا، بهذا التخطّي. وهذه الإرادة تجعل الفرق بين المُجدِّد والمتجدّد. فالأوّل يستحدث صورة وأسلوبًا ونظامًا يظنّ أنّ تجديد الحياة في ابتداع الأشكال. ولا ريب أنّ في الشكل الحديث رغبة انعتاق، ولكنّه ليس انعتاقًا جذريًّا. قد يكون تبديل الصيغة في الأدب والفنّ والسياسة والنظام الاحضاريّ مبعثه حلمنا بإنسان جديد. ولكن، هل يُحقَّق هذا الإنسان، لأنّنا انتهجنا نهجًا حديثًا؟ هل مسسنا داخل الإنسان، لأنّنا وضعناه في إطار غير مألوف؟ وبكلمة أخرى، هل الشعور بالجديد ينشئ جدّة حقيقيّة؟ إنّ الجواب كامن في السؤال. الإنسان الجديد هو آخر بالنسبة إلى مفاهيمه القديمة وذهنيّته، لكلّ ما كان عليه، فأمسى كلّ كيانه بكرًا؟ هذا ليس همّه الأوّل تبديل أوضاع، بل هداية نفسه وإنارتها وتحريرها من كلّ ما يحول دون تخطيّها الوجودَ وذاتَها. والأوضاع، أيّة كانت، تتبدّل بتبدّل ما في النفس. فإذا صفت، فالدنيا كلّها لا بدّ من أن تتخذ شكلاً يلائم النفس، هذه تخلق في المنظور ما يناسبها من إطارات.

ولهذا، ليس صحيحًا أنّ النفس المنشغلة بالقيم الروحيّة لا تكترث لما حولها، لتغيّره. إنّها ليست مصابة بحمّى التغيير لإيمانها بأن تطوير الأشكال ليس، بالضرورة، تطوير الحياة، وبأنّ الحديث ليس دائمًا أفضل. النفس المهتدية إلى أعماق الإنسان ولقاءات ربّها ليست على خطّ الصراع بين القديم والحديث، لأنّ مشكلتها أن ترتفع فوق الشرّ الداخليّ إلى فيض المحبّة والطهر الراحض كلّ أدناسنا. ولكنّ هذه النفس عالمة بتماسّنا مع الكون وبتأثيره فينا، ولذلك تحاول أن تجعل منه بيئة صالحة لنموّ الإنسان الخيّر بأقلّ ما يمكن من العوائق. إنّها لا ترى اصطدامًا ما بين محاولة إصلاح النفس. وقد طُرح الإنسان في هذه الدنيا، ليس فقط ليسودها، بل ليتأمّلها، ويحسّ ما يَرتقب اللهَ فيها.

ثورة جذريّة في أشكال الحضارة وعالم السياسة؟ لا مانع أصلاً إذا كانت في خدمة الإنسان العازم على أن يتجدّد كلّ يوم على صورة خالقه. ثورة جذريّة في داخل الإنسان، إشاعة هذه الثورة بالدعوة إلى التطهير الباطنيّ، من شأنها أن تلاقي كلّ حلم جميل تحلم به الإنسانيّة لخيرها. بهذه الثورة وتلك ولقائهما المنسجم، يتكوّن الإنسان الجديد، وينمو.

Continue reading