Monthly Archives

December 2003

2003, مقالات, نشرة رعيتي

بدءًا من الميلاد/ الأحد 28 كانون الأول 2003 العدد 52

الابن الإلهي جعل نفسه صغيرًا حتى لا تبقى تتعامل أنت مع إلـه جبار، حتى يظلّ الرب عرضة لكفر البشر وظلمهم له وتعدياتهم عليه. وهكذا سمح لعسكر الرومان أن يلطموه ويكللـوه بشوك وسمح للانسانية كلها ان تصلبه. هذا الضعف الذي أراده يسوع لنفسه اذا قبلته يصير فيك قوة. هنا ينطرح السؤال كيف يقول بولس في رسالتـه الأولى الى اهل كورنثوس: “وضعف الله أقوى من الناس”. هو لم يقل ما بدا ضعفًا. هو قال: “ضعف الله”. ذلك ان المسيح تبنّى الضعف والضعفاء، وقَبِلَ الآية القديمة: “ملعون كل من عُلّـق على خشبة”. انه اقتبل ان يوحد نفسه مع الملعـونين، وفي المُصطلـح العبري الملعون هو من انقطع عن الحياة. مع ذلك يصرّ بولس على اننا “نكرز بالمسيح مصلوبًـا لليهود عثرة ولليونانيين جهالـة”.

         وحتى يمهّد لضعف الصليب الذي استحال قوة أراد أن يولد برفقة أحطّ المخلوقات اي البقرة والحمار. ورفاقه الآخرون كانوا رعاة بيت ساحور قرب بيت لحم اي ناس أميّون وفقراء لا يفتخر أحد بصحبتهم.

         ثم جاء المجوس الذين “فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا ذهبًا ولبانًا ومرّا”. وهذا كلّه رمز تكلّمت عنه المزامير. لم يبقَ من هذه الهدايا في حياته الا المرّ. هذا صورة عن الخلّ الذي قدّموه له على الصليب ولم يشربه.

         اللافت في سجود المجوس له انهم كانوا من عظماء القوم، ملوكًا او علماء. ان احتسبوك أنت كبيرًا في قومك او كنتَ مثقّفًا عميقًا فلستَ على شيء ان لم تكتسب تواضع المسيح، ان لم تقتنع انك به تتكوّن، ان لم تحاول أن تبلغ “فكر المسيح”. ما عداه غواية ولو كانت مجدًا ساطعًا او علمًا غزيرا او جمال جسد. كل شيء يفنى أمام هذا الطفل الصغير المرمي في مذود. انه صنع مجده بدءا من هذا الوضع الحقير. وقد شرح ذلك الملائكة للرعاة: “المجد لله في العلى”. ما عدا ذلك أمجاد يصطنعها الناس ليعظموا في عيون الذين يشبهونهم او من كانوا أدنى منهم.

         بهذه الروحية تقتحم السنة الجديدة. أنتَ إن ملأتها بمجد يسوع الذي فيك تصبح هي جديدة. ليس من عام مكتوب جديدا. الأزمنة كلها فارغة إن لم تمتلئ بكلمة الله. العام أحداث معظمها عنف وشر وخطايا. أنتَ وحدك تفتدي العام الجديد. ما تزرعه حولك من وداعة وطيب وإخلاص وخدمة للفقراء، “جدّة الحياة” التي فيك تجعل السنة الـ 2004 جديدة. الناس هم جدد او عتاق. واذكر ان اول يوم من السنة نعيّد فيه لختانة الرب يسوع. وهي تعني لنا اننا نختن حواسنا كلها عن الشر: عن رؤية الشر او سماعه او لمسه وما الى ذلك، وبهذا تتجدد فينا المعمودية.

         وإذا مرّت عليك الأيام في السنة المقبلة فخذ من أعيادها ما فيها من مجد الله وحلاوته وسلامه وغفرانه. وكانت الأعياد لتتجدد انتَ بها وتصبح هدية للمسيح. انت قربان اي معطى له، ولست ملِكا على أحد ولا مالكًا لشيء. أنت دائمًا فقير الى يسوع الفقير. عند ذاك تصبح حاضنًا له ويصير هو غناك ومعنى وجودك.

         ولن تدخل سرّ المسيح ما لم تنزل عليك مزاياه. فإذا تمسحَن قلبك تدرك ما في قلبه، وعند ذاك يصير فكرك مسيحيا اي انك تصير في حدود بشريتك مستضيفا المسيح. بهذا تعرف انك وُلدتَ من السماء. فإذا ظهر عليك بمجده ورأى الناس وجهك مضاء بنعمته يحسّون وكأنهم رأوا وجه المسيح. ان أردت ذلك كان لك ميلاده ميلادا لك كل يوم، وكانت كل سنة لك سنة جديدة.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

2004 / السبت في 27 كانون الأول 2003

اذ نحيا على الرجاء نستقبل العام الجديد فالأيام متشابهة في حسنها وقبحها ما لم ينقض علينا نيزك بهاء او رضاء ويجعل لك في الأرض قطعة من فردوس. عام ينقضي وعام يطل ما هو الا مصطلح في التقويم ورجال الإعلام يذكرون بالأحداث وقلة منا تراجع النفس علها ترى خيرا حل فيها او سوءا انتهك براءتها.

لا يستطيع احد ان يغفل الأحداث والرهيب منها دموي. السنة التي تنقضي سنة العراق والدم فيه كما الدم الفلسطيني سكيب وليس ما يبشر بخير قريب ولبنان تصغر احلام بنيه اذ يرى الصغارة والاستهتار في كل مكان ولا اريد ان أحزن احدا فقد اكل الحزن من نفوسنا وشرب وكأن احدا ليس قابضا على زمام الأمور اذ شلت يده او تعطل عنده الفهم او يئس وظل متربعا على آرائك مجد تبدد والأمة في إحباط يكسر الهمم ويبطل الأشواق.

ولكن على رغم الأسواء وربما بسبب منها أخذ المفكرون العرب ينتقدون الوضع العربي كله بصراحة وصدق وتحليل لم نعهدها من قبل وهذا جيد. غير ان إحساسي انهم كثيرا ما لزموا الوصف وآخذوا الأنظمة ولم يفحصوا الطبع العربي. أليست الأنظمة هذا نتيجة العقل العربي؟ هل الاستبداد والظلم والسلطوية في الأخلاق العربية في البيت، في الزعامة (وهذه كلمة عربية لا تقابلها مفردة في لغات الغرب) ملازمة لبنيتنا النفسية؟ ما الإنسان العربي، بقناعاته وقوامه الداخلي والمعتقد الذي يسيره؟ ما تاريخه، ما تاريخ الدم في الحياة العربية؟ هذه التعرية للإنسان العربي ان لم تحصل في صدق كامل وتفحص دقيق شجاع لا نصل الى شيء وتبقى ايامنا الآتية كالماضية غرقى فتنة دائمة وباطنية مريضة ونلقي الشعر ونغني ماضينا لنحجب فقرنا الإنساني العميم.

لم يدخل العرب بعد طور العقل النقدي لكل شيء وطريقة التعامل مع المقدس. ينقدون الأدب فقط اي الكلمة الحلوة ولكن هذا لا يهز اي ركن من أركان الوجود الأسطوري ولا يمس غطرسة الجمال ولا يحد من التباهي. انا لا اعرف ادبا تعاطى المدح والهجاء كنوعين ادبيين مثل ما عندنا نحن العرب. في حال المدح هذا يعني التزلف وفي حال الهجاء البغض. ولست متيقنا انهم تغزلوا بليلى ولم يتغزلوا بهند. وغالبا ما تغزلوا بالمرأة إطلاقا ولك ان تضع لها اي اسم شئت.

#   #

#

يقيني ان الأزمة الفلسطينية-الإسرائيليةاذا حلت وكذلك مأساة العراق سيبزغ نور للعرب جميعا او تبدأ مغامرة فكر جديد او هكذا طاب لي ان احلم. عندما اسمع بعض القياديين الفلسطينيين يحللون اوضاعهم احس بالنضج الكبير الذي ولده الألم الكبير. وشيء كهذا يجري على الساحة العراقية. ولكن علينا ان ندعو كثيرا ونرجو كثيرا لينتقل الإنسان العربي الى البنيان الحضاري الكبير الذي لا مهرب فيه من الغرب وان كانت لنا روحيتنا في التعامل مع الغرب وفرادتنا. ولكن الإقبال العصري على مدنية بناءة في ربوعنا لا يكتفي بالإشكالية التي طرحها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو. ان التطور المذهل للعلم والتقنية وظهور فلسفات جديدة يجعلنا امام تحديات لم يكن لها مثيل في زمن النهضة العربية الاولى. والإصرار على ان الوحي فيه إجابة عن كل المسائل او يتضمن كل العلوم العصرية ولو تلميحا يأسرك في إطار التفسير اي في إطار اللغة. والعربية قد تكون لغة اهل الجنة ولكنها ليست لغة الذين سبقونا اشواطا في العلوم والتقنيات.

الكلمة الإلهية تتوجه الى القلب وتجعلك انسانا ناجيا وتهذب قلبك ولكنها ليست موسوعة علمية وهذه تأتيك من ابحاث ومختبرات ومراصد وحفريات في الأرض والاقتصاد السياسي والحقوق الوضعية وما الى ذلك. ان لم يكف الإنسان العربي ان يكون ماضويا ومحض لغوي فالحياة العربية لغو كلها.

#   #

#

فلننظر اذًا الى المستقبل لنصنعه. انه اهم من الماضي يصنعنا. مسيرتنا هي في الرجاء ولكنها ايضا في العمل، في التنقيب. والشجاعة هنا تعني عدم الخوف من اي شيء والإيغال في كل شيء عقلي. ما علاقة المعقول بالمنقول مسألة هزت الفكر العربي طويلا. هذه مسألة انتهت لأنك لا تستطيع في هذا العصر مواجهتها الا بعد تحصيلك كل ما هو عقلي في العالم. ولست اوحي بهذا ان تضع الوجدان المحب خارج شخصيتك لأن العلم اليوم ولاسيما في الفيزياء اخذ يدل على الله وعلى الحرية. العرب لم يتعلموا الاستقراء لأنهم يستنتجون كل شيء من كلمات الأقدمين. ان العلم يتطلب ان تذهب من الوجود الراهن الى ما قد يفوقه. ولكن لا تقبع في الفوقيات لتنزل الى ما هو تحت. تلمس، ترى، تتحقق. تقيم بناية عقلية بعد هذا واذا كان الله هو الحقيقة يلتقي كل رقي ذهني حصلته اذ لا يستطيع انسان ان يغيب الله اذا شاهده في قلب طاهر. امة العرب تجتمع حول حقيقة الأرض اولا ثم تصعد الى السماء.

#   #

#

ماذا يبقى بعد تكويننا الحضاري من أنظمة العرب لست اعلم. ولكن لا يقنعني قول مفكرين كثيرين عندنا ان الاميركيين لا يستطيعون ان يفرضوا علينا الديموقراطية. لماذا لم تقمها انت قبل التحدي الاميركي؟ واذا ذهبت معك ان اميركا عدوة العرب فما لي ولما تدعيه؟ الرفض العربي المبرر لأساليب اميركا ورفضنا لجيوشها لا يزكي هذا القول غير المبرر ان لنا اسلوبنا نحن في الديموقراطية. اذا عنت هذه تداول السلطة بحرية الانتخاب وتكوين حكومات من الشعب واذا عنت حرية التعبير بما فيه حرية الأديان والفكر والصحافة فهل لهذا كله اسم غير الديموقراطية؟ اما القول ان الشورى في التراث العربي أصل للديموقراطية فهذا كلام مردود لأن العرب لم يمارسوا الشورى الحقيقية الصادقة في اية حقبة من تاريخهم. فيقيت الآيات الثلاث المتعلقة بالشورى لا تطبيق لها سياسيا. كفوا ايها العرب ان تكونوا أسرى اللغة. ففي البدء كان الفعل كما قال غوته. هاتونا فعلا شورويا حقيقيا نفهم انكم تبنيتم الأسلوب الديموقراطي.

#   #

#

واذا انتقلنا الى مستوى آخر فالعرب طلاب لذة بالدرجة الاولى ويستمتعون بالبرامج المثيرة التي تصدرها الفضائيات اللبنانية. واذا جاؤوا لبنان فلكي يترفهوا بهذا اللون من الحرية ويجترؤون على اتهام الغرب بالإباحية. وهم لا يكرهون لبنان خمارة ومرقصا وارتضى لبنان نفسه كذلك. من اية سياحة يعيش؟ لست اعلم ان كثيرين من الأجانب يقصدوننا للتبصر في هياكل بعلبك وجبيل وسواهما.

ماذا يفعل اللبنانيون لترويض اولادهم على الخلق الكريم؟ كيف تربي الناشئة وتهوى فئة ليالي رافهة في رغد الفنادق الكبرى وتخشى العائلات «تعقيد» اطفالها وتدعهم يشاهدون ما طاب لهم ان يشاهدوا من برامج الليل المتأخر.

اللبنانيون المترفون يعيشون حضارة النهم. والفقراء يزداد فقرهم حتى حدود الجوع. وليس للجائع كلمة في جوعه. انه لا يشترك في السلطة ولم يترك له ان يفيد من الطبابة ولا من مدرسة راقية.

تريدون سنة جديدة بحق جددوا قلوبكم بالرحمة والمشاركة الانسانية السمحاء ولكن هذا يقتضي احساسا والحس عندنا آخذ بالجفاف والكفر قريب نتيجة للعوز. اي إله هذا الذي يسمح بفروق كهذه بين الطبقات، هذا لسان حال المحتاج عندنا. اذا جاءت السنة الـ2004 حاملة الشح تصبح القلوب كلها فارغة عتيقة.

اما اذا حلت الأعجوبة وانتقلنا الى ملكوت الحب وصارت الدولة كفيلة الناس جميعا فقد نبدأ مسيرة الرجاء. لا تبتسم شفاهكم قبل ذلك لأنكم لا تكونون من أنصار الحياة.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

من احد النسبة الى الميلاد/ الأحد 21 كانون الأول 2003 العدد 51

تتهيأ الكنيسة في هذا الأحد لاستقبال المخلص المولود وتقرأ لنا فيه الأصحاح الاول من متى كاملا. وقبل ان تذكر ولادته تتلو أسماء الذين سبقوا السيد من إبراهيم الى يوسف ليس لأن هذا والد يسوع ولكن لأن الإنسان ينتسب الى المعتبر أباه حسب الشريعة. غير ان بولس يقول عن ربنا انه “صار من نسل داود من جهة الجسد” (رومية 1: 2). والأناجيل في مواضع عديدة تعتبر المسيح ابن داود. فهذا هو نسَبه من جهة مريم. والأمر الرئيسي الذي أراد متى ان يبيّنه ان يسوع ابن داود وانه تاليا هو الملك الحقيقي، هو الملك حسبما كتب بيلاطس على الصليب: “يسوع الناصري ملك اليهود”.

         عدة اسئلة تدور حول هذا الفصل الإنجيلي وفيها هذا السؤال: ما علاقة يوسف ومريم؟ النص يقول انها علاقة خطبة، ولكن يجب التوضيح ان الخطبة عند اليهود هي زواج قانوني ـ اي في وثيقة ـ ولكنه بلا مساكنة ولا تنتهي الخطبة الا بطلاق شرعي. وكلمة الملاك ليوسف: “لا تخف ان تأخذ امرأتك مريم” في هذا الوضع الشرعي تعني لا تخف ان تأخذها الى بيتك، وهذا ما يسمى عند بعض الشعوب حفلة الزفاف.

         السؤال الثاني نابع من قول الكتاب: “ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر”. وكلمة بكر لم ترد في معظم المخطوطات وبينها احيانا اختلافات جزئية لا تغير المعنى الأساسي. ولكن حتى لو صح ان كلمة “بكر” هي أصلية فلا تحتم ولادة ابناء آخرين. فقد جاء في سفر الخروج 13: 1 “قَدِّسْ لي كل بكر، كل فاتح رحم من بين اسرائيل”. بكر تسمية للولد الاول تبعه ام لم يتبعه اخوة. لماذا أهمل الكتاب الحديث عن نوعية العلاقة بين يوسف ومريم بعد الميلاد؟  ذلك ان متى لم يكن غرضه سرد سيرة مريم. وغرضه الحصري ان يكشف ان مولد يسوع كان بتوليا. اما بتولية مريم الدائمة فقال بها المجمع المسكوني الخامس وقالت بها الطقوس منذ القديم والمجمع والطقوس مصدر لإيماننا.

         لماذا اراد الله ان يكون مولد ابنه بطريقة عجائبية؟ الآباء الذين تحدثوا عن هذا قالوا “ان ابنا واحدا لا يولد من أبوين” اي انهم اعتبروا ان بنوة المسيح للآب تنفي تحدرا من رجل. كان ينبغي الا يكون المسيح مدينا لرغبة رجل.

         ما روحية العيد؟ هذه يعبّر عنها بولس بالرسالة الى اهل غلاطية بقوله: “لما حان ملء الزمان ارسل الله ابنه مولودا من امرأة، مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني” (4: 4و5). المعنى الذي تكلم عليه الآباء ان المسيح هيأ له كلام الأنبياء ثم الفكر اليهودي الذي بعد الأنبياء. واعتقد بعض الآباء ان الفلسفة اليونانية اذ قالت بالإله الواحد هيأت ايضا لظهور المخلص. يضاف الى هذا ان المسيح هو الذي حقق امنية القلوب الطيبة في كل الشعوب وكأن تاريخها الفكري لم يصل الى نهايته الا بالمسيح. انه حقق كل الانتظارات ولا تنتظر الانسانية بعده شيئا روحانيا آخر.

         بعد هذا يقول الرسول في الرسالة نفسها “الدليل على كونكم ابناء ان الله أرسل روح ابنه الى قلوبنا، الروح الذي ينادي: “أبّا” اي يا أبيّ “وهي مثل بيّ في اللهجة اللبنانية”. أبّا هي الكلمة التي كان يقولها الطفل الفلسطيني لأبيه تدللا وهي بمعنى “بابا”. الفكرة ان المسيح الذي يسمي نفسه ابنا لله جعل كل واحد منا يسمي ايضا نفسه ابنا. ولكن المسيح هو ابن ازلي ووحيد وهو الذي جعلنا ابناء بالتبني.

         نحن نتوخى في هذا العيد عمق علاقتنا بالآب من خلال المخلص. الله يظهر مخلصا للناس ويظهرهم هم ابناء وذلك عن طريق تواضع يسوع وعن طريق سلوكنا بالوداعة والتواضع. العيد ان لم نصل به الى هذا يكون مجرد تذكار والحقيقة انه تجديد لنا بالروح القدس.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

الميلاد وما اليه / السبت في 20 كانون الاول 2003

يستهل متى إنجيله بقوله: «كتاب ميلاد يسوع المسيح» حسب الترجمة الأميركية المتداولة، واليسوعية تستهل بـ«نسب يسوع المسيح» اما في الأصل اليوناني فالعبارة هي «كتاب تكوين يسوع المسيح» وكأن متى اراد تكوينا جديدا للعالم مقابل سفر التكوين القديم لأن يسوع هو آدم الجديد الذي ينشئ عالما روحيا غير الذي انشئ بجسد آدم.

ما المسائل التي تحوم حول مولد هذا الرجل؟ وفق متى ولوقا امه مخطوبة لرجل اسمه يوسف عندما حبلت بابنها. السؤال المنطلق هو ما علاقة يوسف ومريم؟ هي علاقة خطبة بمثابة زواج غير انه بلا مساكنة ولا تنتهي الخطبة الا بطلاق شرعي موثق. قول الملاك ليوسف: «لا تحف ان تأخذ مريم امرأتك» توضحها ترجمة الآباء اليسوعيين الجديدة: «لا تخف ان تأتي بامرأتك مريم (وهي زوجته قانونيا) الى بيتك».

الموضوع الآخر متعلق بما نسميه المولد البتولي اي الذي لا رجل فيه وهنا يبدو السؤال: هل ظهر قبل ذلك نموذج في الديانات الوثنية، في الحضارة اليونانية-الرومانية او المصرية او عند الفلاسفة او في الشرق الأقصى؟ نجد فقط عند الكاتب اليوناني بلوتارك المتوفى حول السنة الـ521 هذا: «لا يستحيل على روح الله ان يقرب من امرأة وينبت فيها بقوته مبادئ مولد». غير ان بلوتارك كتب بعد الأناجيل ما يبطل إثبات تحدر متى ولوقا منه. اما في باقي الوثنية فنرى الإله مخصبا ومولدا بشكل فيه نوع من الجنس وهو اذًا جسديًا والد الولد المخلص. في المسيحية الحبل بيسوع خلق جديد وليس فيه مساهمة منشئ جسدي كما في الوثنية.

التساؤل حول النص: «ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر» وفي معظم فصائل المخطوطات لم ترد لفظة بكر. وحتى لو صحت «بكر» فلا تحتم ولادة ابناء آخرين. تكون تسمية موافقة لما جاء في سفر الخروج 1: 13 «قدس لي كل بكر، كل فاتح رحم من بني اسرائيل». ما معنى اذًا لم يعرفها اذا استبان معنى جنسي للمعرفة وهذا غير محتم اذ قد يكون المعنى لم يعرف سرها كمالا. ولكن اذا تبنينا المعنى الجنسي فالنص ينفي العلاقة قبل الزواة ويصمت عما بعده لأنه مهتم بعذرية المولد وليس مهتما لسيرة مريم. مثال على ذلك لو سألت هل لازمت بيتك حتى الظهر فقلت نعم لا تكون قد أجبت بشيء عما بعد الظهر اذ لا يهمني الأمر. فاذا اخذنا حرفية النصوص لا نجد ذكر بتولية مريم بعد ولادتها يسوع. الإنجيل كتاب عن يسوع. البتولية يؤكدها التراث والذكر الواضح لها في المجمع الخامس.

#   #

#

ما حمكة الله في كون المولد كان عذريا؟ لقد اعطى بعض الآباء مبررا لهذا ان «ابنا واحدا لا يلد من أبوين» اي انهم اعتبروا ان بنوة المسيح للآب تنفي تحدرا من رجل، ورأوا في هذا في الا تلد من امرأة فقط إشارة على ان المسيح كان قبل ان يظهر على الأرض فلم يتكون في بشريته من زرع رجل ولا من رغبة رجل.

سؤال آخر يتعلق بتاريخ مولد يسوع. لا نستطيع ان نستنتج بدقة من العهد الجديد سنة الميلاد او شهره بسبب من تقاطع معطيات من النصوص والنقود والفلك ولكن قام إجماع على ان تاريخ المولد كان في السنة الرابعة قبل الميلاد قليلا قبل موت هيرودس اي يكون -حسب افتراضات العلماء- ان السيد ولد منذ 2007 من السنين. مجموعة إشارات تدل على انه ولد في الشتاء وفي الليل. اما تحديد العيد في الـ25 من كانون الاول فهو فقط من قبيل ان الكنيسة ارادت ان تكافح عيد ميلاد الشمس التي لا تقهر عند الوثنيين وتقيم مقامه عيد «شمس البر» الذي هو المسيح.

ما لنا وللتأريخ وهناك من كان اعظم من التاريخ. وفي هذا يقول بولس: «لما حان ملء الزمان ارسل الله ابنه مولودا من امرأة، مولودا تحت الناموس ليفتدي الذي تحت الناموس لننال التبني» (غلاطية 4: 4 و5). قيلت اشياء كثيرة عن «ملء الزمان» منذ ايريناوس في القرن الثاني الميلاد. قيل الكثير في الفكر اليهودي عن انتصار الله على الشر. ثم تحدث بعض عن السلم الروماني او الفكر اليوناني كتهيئة للمسيح. لست أنكر شيئا من ذلك في حقيقة التاريخ. ولكن المهم ليس ماهيأ لظهور السيد. الوعود الإلهية أطلقت ما في ذلك ريب والله يزرع كلمات له في ارض التاريخ. غير ان يسوع هو تحقيق كل شيء. كلمات فيها خير وحق وجلال. الا ان المخلص كان هو الخير والحق والجلال. الكمال هو جاء من الكلمة الذي ليس خلاصة الكلمات ولكن تجسيد الكلمات او مطلقها بالحقيقة الكاملة التي كان يسوع يحملها. ليس زمانه إضافة على الأزمنة ولكنه ذروة الأزمنة وبهذا المعنى ينهيها لكونه انقضاءها.

من هذه الزاوية لا يجيء بعده زمان او لا معنى لأي زمان هو غائب عنه. هناك احداث تذهب واحداث تجيء. ولكن الذي لا يعمل معه يبدد او يتبدد. ولم يبق الا ان ننال التبني اي لنصبح ابناء بالنعمة، بميراثه بعد ان كان هو ابنا قبل ان يكون الكون، ابنا في كيانه. ويؤكد بولس وجه بنوتنا المشتقة في قوله: «والدليل على كونكم ان الله أرسل روح ابنه الى قلوبنا، الروح الذي ينادي: «أبّا، يا أبيَّ» وأﭕا هي اللفظة الآرامية التي كان الأطفال ينادون بها والدهم من باب الدلال لذلك نقلتها الى العربية ليس بـ«أبتِ» ولكن يا أبيَّ على وجه التصغير كما وردت بالعامية اللبنانية بلا الهمزة.

هذه هي الرسالة التي نقرأها في كنيستي يوم العيد فيما تروي الأناجيل حدث الميلاد وبيئته (مذود البهائم، الرعاة، المجوس) والتي منها معنى روحي يتجاوز الوصف والسرد. رسالة بولس تدخل الأعماق لكونها -كالايقونة البيزنطية- تجعل الميلاد فصحا مصغرا. فمنذ الآن لنا موعد مع الخلاص، مع الذي نزل لكونه «الذبيح قبل انشاء العالم» وليس لنا فيه حديث غير حديث حبه بالموت. ولهذا جاء عيد الميلاد متأخرا عن الفصح بقرنين. اجل ولد يسوع طفلا من مريم في الجسد. ولكنه ولد في تاريخ البشرية وضميرها لما اعطاها حياة في موته ووعدا بقيامته.

وحمل الذل في مذود البهائم لكي يتكرر بليغا على الجلجلة ويصبح ظفرا اخيرا ووحيدا للإنسانية كلها عن طريق الحب. ففي التجسد الذي «كان في صورة الله أفرغ نفسه (من مجده) متخذا صورة عبد وصار على مثال البشر وظهر في هيئة انسان فوضع نفسه حتى الموت موت الصليب» (فيليبي 2: 6-8). وما عاشه دائما في البشرة انه مارس الامحاء الكامل من اجل البقاء على الملء الكامل. فالألوهة لا تبيت الا في الانسحاق الذي مارسه الناصري كليا حتى لا يبقى فيه أثر للتراب.

ضياء كامل مخفي ما عدا هنيهة التجلي على الجبل. وانت لا تدرك هذا الضياء الا بقبولك البنوة الموروثة منه اي بارتضائك محق الأنا المقيت وانبعاثك في روح القداسة التي لا تأتي الا من خروجك الدائم من الترابية. واذا سلكت هذه الطريق تصبح مسيحا بوصفك صورة له ومشاركا في عطاء المحبة فيتسع جسده لك وتساكنه بالنعمة التي يرتضي ان ينزلها عليك.

هذا المسيح الذي انحجب في بيت لحم ورفعه الله اليه ولا تنظره عيناك انما لا يبدو للبشر الا بك. ولك ان تبديه بإيمانك والعامل الصالح او ان تخفيه بخطيئتك. واذا أبديته فهذا ميلادك واذا اخفيته كان موتك ولكنه يطالبك ان تخرج مع الإخوة الى القيامة كل يوم لنتمجد به كما تمجد هو بالآب.

ما كان ميلاده الا تمتمة لميلادك الحقيقي ان شئت ان تصبح قامة من نور.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الأجداد/ الأحد 14 كانون الأول 2003 / العدد 50

الكل يعرف أحد النسبة الذي يسبق مباشرة عيد ميلاد الرب. غير ان هناك أحدًا يسبق أحد النسبة وهو المعروف بأحد الأجداد. ذلك ان أحد النسبة كما يروي إنجيله متى الرسول يبدأ بابراهيم ليدل على ان أصل السيد في الجسد هو من أبي المؤمنين الموحدين لله ومن داود، في حين ان أحد الأجداد يرجع السيد الى من سبق ابراهيم وصعودًا الى آدم، وهذه السلسلة نجدها في إنجيل لوقا.

         لذلك نقول في خدمة هذا الأحد: “إذ نقيم تذكار الأجداد فلنسبح، بإيمان، المسيح المنقذ الذي عظمهم في جميع الأمم”، ويريد بذلك الأمم الوثنية0 هم أيضًا كانوا مهيئين لاستقبال المسيح في الأمم0

         وفي مقطع آخر نقول: “لقد زكّيتَ بالإيمان الآباء القدماء وبهم سبقتَ فخطبتَ البيعة (اي الكنيسة) التي من الأمم”. تلك الأمم كانت -على رجاء بشارتها- متهيئة لقبول الخلاص. وهناك شخصية غريبة وثنية هي ملكيصادق. هذا كان كاهن الله تعالى كما يقول كاتب الرسالة الى العبرانيين: “وله أدّى ابراهيم العشر، وليس لأيامه بداية ولا لحياته نهاية، وهو على مثال ابن الله”.     بهذا المعنى لم يكن ليسوع أجداد في الشعب العبري فقط ولكن كان له أسلاف سبقوه معنويًا في الأمم الوثنية، ويكون السيد هكذا متصلا بالتاريخ السابق له ومكملا لهذا التاريخ.              الى جانب ذلك رأى آباؤنا القدماء ان الفلسفة اليونانية هيأت الفكر البشري لفهم المسيح. هذا ما سمّاه القديس يوستينوس الشهيد الفيلسوف المولود في نابلس في القرن الثاني “الكلمات المزروعة”، ويريد بذلك ان الكلمة الإلهي الذي هو يسوع قد كشف نفسه ليس فقط في العهد القديم ولكن بواسطة “كلمات” او أفكار هيأت المثقفين اليونانيين ان يتقبلوا الإنجيل.

         واذا ذكرنا الأقدمين فيجب ان تتبدد من فكرنا ان يسوع ذهب الى الهند. هذا ليس له أثر تاريخي اطلاقًا. ومن مقارنة الإنجيل بالهندوسية او البوذية، لا نرى ان يسوع في بشريته قد تقبّل اي تأثير هندوقي في ما علّمه. المسيح في بشريته كان يعرف التوراة كليًا وقرأ إشعياء باللغة العبرية في مجمع الناصرة، وعرف ما كان يقوله في عصره علماء اليهود، ولكنه لم يقرأ شيئًا عن الآخرين. الغرباء عن اسرائيل تركوا فكرًا هيأ لظهوره. يسوع، الى جانب كونه إلهًا، كان يعرف الأشياء بعقله البشري.

         غير انه لا يكفي ان نعرف من هيأ لمجيء المخلّص. كل منا مدعو بتوبته ان يتهيأ هو لاستقبال يسوع في العيد الآتي. هو لا يهمّه ان يكون قد نزل فقط في أحشاء البتول وفي مذود البهائم. همّه ان ينزل في قلب كل واحد منا. لا تهمّه مسراتنا الدنيوية من طعام وشراب ولباس. مملكته القلب. وهذا اذا تحوّل اليه يكون بمثابة حشا البتول. المسيح يريد ان يبقى معنا وفينا. الطريقة الوحيدة الى جانب نعمته هي ان نرضاه نحن ونعدّ له المكان، وليس من مكان له في هذا العالم الا قلوبكم.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

أجداد المسيح / السبت في 13 كانون الأول 2003

في الكنائس المسيحية ازمنة تهيئة لعيد الميلاد. من هذه الأزمنة -المراحل احد الأجداد الذي يحل في الكنيسة الارثوذكسية غدا- ويراد بالأجداد اولئك الذين سبقوا مجيء السيد منذ آدم أمن الشريعة الموسوية كانوا ام من حركة ابراهيم او كانوا من الوثنيين. فانحدار الناصري في بشريته من ابراهيم واضح عند متى ولوقا وتحدره من داود صريح عند بولس. اما تحدره من آدم فيوضحه لوقا ما يعني في قراءة فهيمة ان المسيح غاية الإنسانية منذ نشأتها وفي قراءة اعمق انه مرتبط بكل التراث البشري الذي سبقه وليس مرتبطا، حصرا، بالتراث العبري.

غير ان ما يهمنا في هذه الأسطر الوثنيون الذين لم تنظر اليهم المسيحية نظرة سلبية قطعية ولكنها رأت فيهم لمسات الكلمة الإلهية. فعند صباح العيد ننشد: «اذ نقيم تذكار الأجداد فلنسبح، بإيمان، المسيح المنقذ الذي عظمهم في جميع الأمم». ولفظة «أمم» مصطلح توراتي يراد به الأمم الوثنية. وتدعو الكنيسة الى تسبيحهم وهذا غير معقول ان لم يكونوا على شيء من معرفة الله.

وفي رؤية اكثر وضوحا قولنا في نشيد آخر: «لقد زكيتَ بالإيمان الآباء القدماء وبهم سبقت فخطبت البيعة التي من الأمم». جلي ان الآباء القدماء -ويعني بذلك اننا آتون منهم روحيا- هم آباء هذه الأمم الوثنية التي كانت بيعة (كنيسة) للمسيح على الرجاء اذ يستعمل كلمة خطبتَ ولم يقل تزوجت لأن الزواج قد تم على الصليب وبالبشارة.

في قطعة اخرى في صلاة السحر مدح لملكيصادق الذي لم يكن يسوع من صلبه وكان رجلا كنعانيا اي وثنيا صرفا حسب التصنيف الطبيعي للأديان. هذا جاء ذكره غير مرة في العهدين. غير ان المواضع الأهم لاهوتيا وردت في الرسالة الى العبرانيين حيث يقول الله لمسيحه: «انت كاهن للأبد على رتبة ملكيصادق» (5: 6و10 كذلك 6: 20). ثم يوضح الكاتب انه كاهن الله تعالى (على كونه من الأمم وهو الذي بارك إبراهيم «وله أدى ابراهيم العشر» ثم يقول: «وليس لأيامه بداية ولا لحياته نهاية، وهو على مثال ابن الله… ويبقى كاهنا أبد الدهور» (الإصحاح السابع).

فاللافت في هذا الكلام ان ملكيصادق ليس مثالا للمسيح ولكن المسيح مثال له بمعنى ان المسيح كان، بطريقة ما، في هذا الكهنوت الذي كان ملكيصادق يحمله، بصورة غريبة، في احد الشعوب التي كانت تعيش في فلسطين زمن ابراهيم.

#   #

#

استدلاننا حتى الآن ان رباط يسوع بالشعب العبري على وجوده ليس الرباط الوحيد فلوقا يمد الصلة الى ما قبل ابراهيم وكاتب الرسالة الى العبرانيين يهتم للنمطية الروحية القائمة بين المسيح وملكيصادق والكنيسة رأت لنا في الزمن الوثني آباء. النمطية توسع المسيح الى أبعد من جسده كذلك التسلسل الآدمي (وليس فقط الإبراهيمي) يجعل المسيح من البدء مصبا انسانيا وتاريخيا أشمل من اليهود. هذه الكونية تبطل اللاهوت الغربي المعاصر الذي يحصر المسيح في مركزية يهودية ويشدد على ذلك تشديدا عصبيا. وقد ظهر في هذه الحركة من يقول ان المسيحية فرقة من الفرق اليهودية في إصرار لتذويبنا في البوتقة اليهودية.

ازاء ذلك لا معنى لجعل المسيح آراميا. هذا يذهب ضد تأكيد العهد الجديد على ان يسوع متحدر من داود. لا ينبغي ان نشوش التاريخ بإسقاط صراعات حالية على الماضي. والأهم من ذلك ان الناصري واضح باستشهاده بالعهد القديم وفي تردده على مجامع اليهود (الكنس) في السبوت وتلاوته الأنبياء في مجمع الناصرة. معنى ذلك ان السيد كان يقرأ العبرية بسهولة وما كان يعرفها سوى الربانيين غير ان لسانه كان اللسان الآرامي وبه وعظ في مجمع الناصرة على نص من اشعياء. الى هذا ليس ما يشير الى انه كان يعرف اليونانية. فقط اليهود الذين عاشوا في الشتات اذا استوطنوا فلسطين كانوا عالمين باليونانية.

#   #

#

اما التواصل بين كتب العهد الجديد والثقافة اليونانية فأمر آخر. وهذه مناقشة كثيرة التعقيد وتتبدل فيها مواقف المفسرين. ربما امكننا ربط بعض الجمل القليلة لبولس بالفلسفة الإغريقية، بالرواقية مثلا. ولكن النَفَس العام في العهد الجديد ليس اغريقيا. هذا فكر شرقي، سامي. لذلك يحق القول اقله في زمن التأسيس ان المسيحية لا صلة لها باليونان.

غير ان المسيحين في القرنين الثاني والثالث قالوا ان اليونانيين كانت عندهم حقائق هيأتهم لاقتبال الإنجيل. وهذا ما سماه القديس الفيلسوف يوستينس الشهيد «الكلمات المزروعة» والكلمات جمع للفظة الكلمة (لوغوس) التي سمى بها الإنجيل الرابع المسيح. فالحقائق التي فيها خلاص كانت عنده حضورا للمسيح على طريق الاستباق وهي تاليا شبيهة بالنبؤة العبرية. غير ان اقليمس الاسكندري ذهب ابعد من ذلك وقال ان الفلسفة اليونانية عهد بين الله والأمة اليونانية اي انه استعمل اللفظة التي تطلق على التوراة والإنجيل. من هذا القبيل كان في الثقافة اليونانية ما هيأ لفكر المسيح بلا استمداد هذا من ذاك.

لا بد هنا من ان اؤكد ان يسوع الناصري لم يتأثر من اي باب بالفكر الهندوسي او الفكر البوذي. انه لخرافة القول ان السيد سافر الى الهند. الفكرة ظهرت فقط في القرن التاسع عشر عند كاتب انكليزي خالية من اي سند. الحجة الكبرى عندي انك لا تعثر على فكرة هندوقية واحدة في الأناجيل. هذا لا يمنع تلاقيا بشريا في الطاقة بين فكر وفكر. اما سؤال بعضهم اين كان المسيح قبل بلوغه الثلاثين فالجواب البسيط عنه انه كان يعمل نجارا في الناصرة ولا تسمح له التقاليد اليهودية بالتبشير قبل بلوغه هذه السن.

كل هذا الكلام سيق عن بشرية المسيح وهذه فيها تاريخ. وليس علينا حرج ان نقول ان يسوع الناصري يجيء في بشريته من فكر الأنبياء وقد يكون متصلا بالفكر العبري اللاحق لكتابة التوراة وهناك ما يدل على انه كان ملما بالمدارس التفسيرية القائمة في بلده مع ان شيئا لا يدل على انه كان مدينا لمذهب الرهبان الذين عاشوا في قمران. ولكنه كان يعرف المعمودية التي كان يجريها الفريسيون للدخلاء الوثنيين على الديانة اليهودية. يتخذ طقسا خارجيا ويملأه بمعنى جديد وهو موته وقيامته.

كل هذا لا يعطل كون المسيح بدءا مطلقا من حيث المعنى. وهنا أضيف البعد الإيماني في ما هو بدء فيه اذ يقول بولس: «ففيه خُلق كل شيء (بمعنى انه مكان روحي لبدء الخلق) كل شيء خلق به وله (بمعنى انه غاية الخليقة السائرة اليه في حركتها التاريخية). هو قبل كل شيء وبه قوام كل شيء (ذلك لأنه الكلمة المبدع). واذا أكمل بولس الرسول فكره ليتكلم على الخلاص يقول عنه: «هو البدء والبكر من بين الأموات لتكون له الاولية في كل شيء. فقد حسن لدى الله ان يحل به الكمال كله» (كولوسي 1: 16-19). وفي هذا يتخطى اجداده والآباء ويصير هو المنطلق لكل نبضة روحية في قلب العالم. ذلك انك لا تقدر ان تزيد شيئا على الحب. اجل هو أتى فكريا من الانبياء القدامى وفيه انصبت المعاني التي انبثقت في التراثات القديمة بما في ذلك حضارات الشرق القديم. غير ان طهّر كل ما سبقه واعطاه حياة صبت اليها البشرية التائقة الى الحقيقة ولكنها ما ادركتها الا به، ذلك ان البشرية كان يعوزها الحب الذي كشفه هو وحده كاملا مطلقا. وهذا الحب كان سر كل خير يتم وكل كلمة تخلص.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

الحشمة امام الموت/ الأحد 7 كانون الاول 2003 / العدد 49

نحن نرافق المؤمن اذا مات ولسنا متفرجين عليه او متفرجين على انفسنا. فاذا انتقل احدنا، يوضع في غرفة، والذين حوله يتلو احدهم المزامير بصوت عالٍ او يرتل احدهم، ويستحسن ان يأتي الكاهن قبل الدفن اكثر من مرة ويقوم بصلاته او يتعاقب كهنة الجوار. هذه تقاليدنا.

         اما ان تتحلق النساء حول النعش لتبكي او تنظر الى المتوفى وتلامسه فهذا من بقايا البكاء على الإله تموز في فينيقية. الذي لا يريد ان يستمع الى الصلوات فليجلس في الصالة او حيث يشاء. النوح ليس من آدابنا. فلتجلس النساء مع الرجال ليتقبلن التعازي، ولكن لماذا التفجع وإظهار التفجع؟ هذا عندهن ليس صلة بالبيت. هو صلة بانفسهن. ونفوسهن في حاجة الى هدوء وسلام. هذا النوح دليل رفضهن الموت. والموت بعد ان قام المسيح منه ليس عندنا فاجعة. حكم عادل على الإنسان وعبوره الى الحياة الأبدية.

         في الموت اللياقة واجبة، لياقة احترامنا لسرّ الموت والحياة. المطلوب ان نتغلب على الألم بالرجاء وطريقته الصلاة. التعلق بالميت شعور ضد ايماننا بالقيامة. اللون الاسود، الحداد كل هذا ضد الإيمان بالقيامة. المسيحيون الاولون لإيمانهم الحقيقي بها كانوا يرتدون في حالة كهذه البياض. السواد يعني اننا دخلنا رمزيا بالموت نحن ايضا. وهذا كله زي افرنجي استوردناه ولا علاقة له بإيماننا. يجب ان تقوم امرأة شجاعة وتتحدى هذه الأزياء. جواب بعض النساء انا ارتدي الأسود لأن نفسي حزينة مردود بسؤالي: لماذا تريدين ان تعبّري عن الحزن؟ انه في اعتداله في القلب. اما ان نجمع الكآبة الى تشييع الميت الى الكنيسة فهذا تناقض.

         الى هذا فاذا مات شاب يأتي اهله بتابوت ابيض ويزينون الكنيسة بشريط ابيض ليزداد الحزن على فراق شاب. وهذا ليس عندهم علامة قيامة. يوغل هكذا الجمهور بالحزن. “لا تحزنوا كما يحزن باقي الناس الذين لا رجاء لهم”.

         واذا اجتمع الرجال في البهو فإنهم يدخنون. هل في هذا حشمة؟ اما الطعام والشراب والماء والقهوة فهي من الحياة ولا مانع منها. انها استراحة من التفجع. غير ان ابتعاد الرجال عن الجثة فلا يعطيهم الحق في كل الأحاديث المعقولة وغير المعقولة. الصمت وحده حشمة كاملة ومعه التراتيل الكنسية بوجود مرتلين او مسجلة. هكذا تكون آداب الجنازة.

         ولا تنتهي المخالفات عند هذا الحد وبخاصة اذا كان المتوفى شابا. ما هذه الرقصة بالتابوت، وما معنى رفع التابوت على الأكف عاليا؟ هذا ايضا من باب التشدد بالحزن. وما هذا الطواف من مكان الى مكان، ومعروفة الطريق من البيت الى الكنيسة. وأقصر طريق يدل على الاحتشام وعلى الا نتظاهر.

         لقد وضعت الكنيسة اياما لإقامة الصلاة: الثالث والتاسع والأربعون والسنة، ويجوز غيرها حتى يرتاح المؤمنون بهذا الإيقاع من الوقت وتقل احزانهم وليستمطروا الرحمة على من يحبون فيرتفع مقامه في الملكوت ويُقبل المؤمنون عليها او على بعضها. اي انهم يدخلون في السلوك الذي تريده الكنيسة. أليس في هذا تناقض مع الذي يجري يوم الدفن؟

         لم يقل الرسول بولس: لا تحزنوا، ولكنه قال لا تحزنوا كما يحزن باقي الناس الذين لا رجاء لهم. أي هناك حزن معتدل مرتبط برجاء القيامة، والمطلوب تخفيف المظاهر التي كان يقيمها الوثنيون في بعض بلدانهم ولاسيما في الشرق القديم الذي لم يكن يعرف شيئا عن القيامة. هذا كله يحتاج الى تربية جديدة.

         اما في الكنيسة فأهل الميت وأصدقاؤه والناس مدعوون الى الانتباه الى كل كلمة لأنها كلمة الحياة. لا تذهب النساء عندنا الى القبر. لا مانع. ولكن اذا عدن الى البيت، فهذه العودة مصحوبة ايضا بالإيمان والانصراف الى الحياة الطبيعية. وبعض منهن يقاطعن القداس الإلهي فترة من الزمن، والقداس مكان التعزيات الكبرى. لا ينبغي للحي ان يموت مع الميت ليظهر تعلقه به. هذه اشياء مؤذية للنفس. بعد الدفن تنتقل انت الى شؤون بيتك وعملك والى الصلاة، وهي وحدها تنفع الأموات والأحياء.

Continue reading