يستهل متى إنجيله بقوله: «كتاب ميلاد يسوع المسيح» حسب الترجمة الأميركية المتداولة، واليسوعية تستهل بـ«نسب يسوع المسيح» اما في الأصل اليوناني فالعبارة هي «كتاب تكوين يسوع المسيح» وكأن متى اراد تكوينا جديدا للعالم مقابل سفر التكوين القديم لأن يسوع هو آدم الجديد الذي ينشئ عالما روحيا غير الذي انشئ بجسد آدم.
ما المسائل التي تحوم حول مولد هذا الرجل؟ وفق متى ولوقا امه مخطوبة لرجل اسمه يوسف عندما حبلت بابنها. السؤال المنطلق هو ما علاقة يوسف ومريم؟ هي علاقة خطبة بمثابة زواج غير انه بلا مساكنة ولا تنتهي الخطبة الا بطلاق شرعي موثق. قول الملاك ليوسف: «لا تحف ان تأخذ مريم امرأتك» توضحها ترجمة الآباء اليسوعيين الجديدة: «لا تخف ان تأتي بامرأتك مريم (وهي زوجته قانونيا) الى بيتك».
الموضوع الآخر متعلق بما نسميه المولد البتولي اي الذي لا رجل فيه وهنا يبدو السؤال: هل ظهر قبل ذلك نموذج في الديانات الوثنية، في الحضارة اليونانية-الرومانية او المصرية او عند الفلاسفة او في الشرق الأقصى؟ نجد فقط عند الكاتب اليوناني بلوتارك المتوفى حول السنة الـ521 هذا: «لا يستحيل على روح الله ان يقرب من امرأة وينبت فيها بقوته مبادئ مولد». غير ان بلوتارك كتب بعد الأناجيل ما يبطل إثبات تحدر متى ولوقا منه. اما في باقي الوثنية فنرى الإله مخصبا ومولدا بشكل فيه نوع من الجنس وهو اذًا جسديًا والد الولد المخلص. في المسيحية الحبل بيسوع خلق جديد وليس فيه مساهمة منشئ جسدي كما في الوثنية.
التساؤل حول النص: «ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر» وفي معظم فصائل المخطوطات لم ترد لفظة بكر. وحتى لو صحت «بكر» فلا تحتم ولادة ابناء آخرين. تكون تسمية موافقة لما جاء في سفر الخروج 1: 13 «قدس لي كل بكر، كل فاتح رحم من بني اسرائيل». ما معنى اذًا لم يعرفها اذا استبان معنى جنسي للمعرفة وهذا غير محتم اذ قد يكون المعنى لم يعرف سرها كمالا. ولكن اذا تبنينا المعنى الجنسي فالنص ينفي العلاقة قبل الزواة ويصمت عما بعده لأنه مهتم بعذرية المولد وليس مهتما لسيرة مريم. مثال على ذلك لو سألت هل لازمت بيتك حتى الظهر فقلت نعم لا تكون قد أجبت بشيء عما بعد الظهر اذ لا يهمني الأمر. فاذا اخذنا حرفية النصوص لا نجد ذكر بتولية مريم بعد ولادتها يسوع. الإنجيل كتاب عن يسوع. البتولية يؤكدها التراث والذكر الواضح لها في المجمع الخامس.
# #
#
ما حمكة الله في كون المولد كان عذريا؟ لقد اعطى بعض الآباء مبررا لهذا ان «ابنا واحدا لا يلد من أبوين» اي انهم اعتبروا ان بنوة المسيح للآب تنفي تحدرا من رجل، ورأوا في هذا في الا تلد من امرأة فقط إشارة على ان المسيح كان قبل ان يظهر على الأرض فلم يتكون في بشريته من زرع رجل ولا من رغبة رجل.
سؤال آخر يتعلق بتاريخ مولد يسوع. لا نستطيع ان نستنتج بدقة من العهد الجديد سنة الميلاد او شهره بسبب من تقاطع معطيات من النصوص والنقود والفلك ولكن قام إجماع على ان تاريخ المولد كان في السنة الرابعة قبل الميلاد قليلا قبل موت هيرودس اي يكون -حسب افتراضات العلماء- ان السيد ولد منذ 2007 من السنين. مجموعة إشارات تدل على انه ولد في الشتاء وفي الليل. اما تحديد العيد في الـ25 من كانون الاول فهو فقط من قبيل ان الكنيسة ارادت ان تكافح عيد ميلاد الشمس التي لا تقهر عند الوثنيين وتقيم مقامه عيد «شمس البر» الذي هو المسيح.
ما لنا وللتأريخ وهناك من كان اعظم من التاريخ. وفي هذا يقول بولس: «لما حان ملء الزمان ارسل الله ابنه مولودا من امرأة، مولودا تحت الناموس ليفتدي الذي تحت الناموس لننال التبني» (غلاطية 4: 4 و5). قيلت اشياء كثيرة عن «ملء الزمان» منذ ايريناوس في القرن الثاني الميلاد. قيل الكثير في الفكر اليهودي عن انتصار الله على الشر. ثم تحدث بعض عن السلم الروماني او الفكر اليوناني كتهيئة للمسيح. لست أنكر شيئا من ذلك في حقيقة التاريخ. ولكن المهم ليس ماهيأ لظهور السيد. الوعود الإلهية أطلقت ما في ذلك ريب والله يزرع كلمات له في ارض التاريخ. غير ان يسوع هو تحقيق كل شيء. كلمات فيها خير وحق وجلال. الا ان المخلص كان هو الخير والحق والجلال. الكمال هو جاء من الكلمة الذي ليس خلاصة الكلمات ولكن تجسيد الكلمات او مطلقها بالحقيقة الكاملة التي كان يسوع يحملها. ليس زمانه إضافة على الأزمنة ولكنه ذروة الأزمنة وبهذا المعنى ينهيها لكونه انقضاءها.
من هذه الزاوية لا يجيء بعده زمان او لا معنى لأي زمان هو غائب عنه. هناك احداث تذهب واحداث تجيء. ولكن الذي لا يعمل معه يبدد او يتبدد. ولم يبق الا ان ننال التبني اي لنصبح ابناء بالنعمة، بميراثه بعد ان كان هو ابنا قبل ان يكون الكون، ابنا في كيانه. ويؤكد بولس وجه بنوتنا المشتقة في قوله: «والدليل على كونكم ان الله أرسل روح ابنه الى قلوبنا، الروح الذي ينادي: «أبّا، يا أبيَّ» وأﭕا هي اللفظة الآرامية التي كان الأطفال ينادون بها والدهم من باب الدلال لذلك نقلتها الى العربية ليس بـ«أبتِ» ولكن يا أبيَّ على وجه التصغير كما وردت بالعامية اللبنانية بلا الهمزة.
هذه هي الرسالة التي نقرأها في كنيستي يوم العيد فيما تروي الأناجيل حدث الميلاد وبيئته (مذود البهائم، الرعاة، المجوس) والتي منها معنى روحي يتجاوز الوصف والسرد. رسالة بولس تدخل الأعماق لكونها -كالايقونة البيزنطية- تجعل الميلاد فصحا مصغرا. فمنذ الآن لنا موعد مع الخلاص، مع الذي نزل لكونه «الذبيح قبل انشاء العالم» وليس لنا فيه حديث غير حديث حبه بالموت. ولهذا جاء عيد الميلاد متأخرا عن الفصح بقرنين. اجل ولد يسوع طفلا من مريم في الجسد. ولكنه ولد في تاريخ البشرية وضميرها لما اعطاها حياة في موته ووعدا بقيامته.
وحمل الذل في مذود البهائم لكي يتكرر بليغا على الجلجلة ويصبح ظفرا اخيرا ووحيدا للإنسانية كلها عن طريق الحب. ففي التجسد الذي «كان في صورة الله أفرغ نفسه (من مجده) متخذا صورة عبد وصار على مثال البشر وظهر في هيئة انسان فوضع نفسه حتى الموت موت الصليب» (فيليبي 2: 6-8). وما عاشه دائما في البشرة انه مارس الامحاء الكامل من اجل البقاء على الملء الكامل. فالألوهة لا تبيت الا في الانسحاق الذي مارسه الناصري كليا حتى لا يبقى فيه أثر للتراب.
ضياء كامل مخفي ما عدا هنيهة التجلي على الجبل. وانت لا تدرك هذا الضياء الا بقبولك البنوة الموروثة منه اي بارتضائك محق الأنا المقيت وانبعاثك في روح القداسة التي لا تأتي الا من خروجك الدائم من الترابية. واذا سلكت هذه الطريق تصبح مسيحا بوصفك صورة له ومشاركا في عطاء المحبة فيتسع جسده لك وتساكنه بالنعمة التي يرتضي ان ينزلها عليك.
هذا المسيح الذي انحجب في بيت لحم ورفعه الله اليه ولا تنظره عيناك انما لا يبدو للبشر الا بك. ولك ان تبديه بإيمانك والعامل الصالح او ان تخفيه بخطيئتك. واذا أبديته فهذا ميلادك واذا اخفيته كان موتك ولكنه يطالبك ان تخرج مع الإخوة الى القيامة كل يوم لنتمجد به كما تمجد هو بالآب.
ما كان ميلاده الا تمتمة لميلادك الحقيقي ان شئت ان تصبح قامة من نور.
Continue reading