Monthly Archives

June 2012

2012, جريدة النهار, مقالات

هل من عائلة؟ / السبت 30 حزيران 2012

بعد ان قلت كلمات مؤخرًا عن الأب والأم والطفل لاحظت في الرؤية اللاهوتية ان كتابنا لا يجمع هؤلاء الثلاثة في متحد يسمى العائلة. ليس عندنا تاليًا كلام إلهي عنها ولو ورد كلام مستفيض نسبيا عن كل فريق من هؤلاء الثلاثة يتعلّق بخاصة في العلاقة الرعائية أو السلوكية ضمن هذا الثالوث.

العائلة، قائمة متحدا واحدا، ليست في الرؤية الإلهية ذاتا ولكنها اجتماع والعلاقات فيها بين شخص وشخص ككل علاقة بين الناس فينفتح الواحد على الآخر بالمحبة والقربى تقررها وصية المحبة القائلة ببساطة «أحبوا بعضكم بعضا كما انا أحببتكم» اي تفانوا حتى الموت. النسب لا يزيد مواهبك شيئا ولكنك تعظم ان مارست فيه عطاء النفس فتنمو نفسك اذا انسكبت في النفوس الأخرى.

انت تعطي الآخر ما استلمته من ربّك أكان لك نسيبا ام لم يكن. ليس عند امرئ شعور مخزون. هناك للعاطفة استعداد مكنون بسبب هذا الجسد كشفناه في مقالاتنا الثلاث الأخيرة. ولكن العاطفة تعطيها انت ان كنت ابا او اما ولا تعود اليك بالضرورة من اولادك ولا تدور بين الإخوة والأخوات بالضرورة. احيانا تدور بينهم شراسة او عداء. اما الشعور الأخوي فتؤتاه انت من مدى المعاشرة وامتداده وقد يغذي الله العشرة بنعمته.

لذلك كانت العلاقات  في العيلة ثنائية وتصبح ثالوثية فقط اذا اختار الرب هدفا لها. لذلك لا يقنعني من قال ان العائلة خلية للكنيسة. انها تحيا على الصعيد الطبيعي واذا دخلت الكنيسة اليها تقدسها واذا بقيت العائلة تعيش على صعيد الطبيعة ولم تستلهم ربها لا تكون عنده شيئا.

ختاما لهذا الجزء من حديثي أقول ان العائلة ليست في الكنيسة ولكن الكنيسة في العائلة.

#   #   #

من هنا يتضح لك ان العائلة قادرة على الفساد ان ابتعدت عن ربها واذ ذاك، تصبح خطرا فتضطر انت ان تؤدبها بأدب الرب. انت مدعو ان تبشر اباك وامك والإخوة والأخوات فتنشأ عائلة روحية بين المؤمنين منكم هذه العائلات الجديدة غير القائمة على رباط الدم حبيبة الى الله. محبو الرب نسميهم رعية واما الذين نأوا عن الرب فيصيرون من عائلته اذا التقطته قلوبهم.

#   #   #

تبقى العائلة على كونها طبيعية، مجتمعية هيكليا، مكانا من أماكن المحبة. لك ان تجعل نسيبك قريبك بالمعنى الانجيلي اي حبيبا واذا لم تحب ذويك حسب قلب الرب تفسد العلاقة وتصبح ضحية العائلية اي فريسة العصبيّة التي هي من مشاعر هذا العالم الشرير لكونها عداء للمتحدات العائلية الأخرى. العصبيّة تشديد للعواطف المنكمشة حتى الاختناق. الطبيعة مجرّدة من الانعطاف الإلهي عليها تقتل فينا الكيان الطيب. ولكن اذا احببت الأقربين تتروض بهم على محبة الناس جميعا. ليس الدم يجعل أنسباءك أقربين. الله وحده يقيم بالنعمة لحمة بين من تقاربوا. النسب ييسر القربى ولكنها حاصلة فقط بالرضاء الإلهي.

يقول الرسول ان المحبة لا تتباهى. انها نازلة عليك. لذلك كان الافتخار بعضوية لك في عائلة تحسبها انت مجيدة كان لها في العظمة مكانة من أتفه المشاعر البشرية. انت، عند ذاك، صريع المجد وهو طبيعيا باطل لأنه يأتيك من العالم الباطل. القلب الخاشع، المتواضع  هو وحده المجد. وانت وحدك تأتي من النور او تأتي من الظلمة. لذلك كان التفاخر بالآخرين او بالأنا من صميم التفه.

كل افتخار بالعائلة تحقير للعوائل التي لم تحفظ لها مجدا من هذه الدنيا الزائلة. ان تنأى بنفسك عن كل مجد شرط لإقرارك بالمجد الإلهي. ان لم تولد من هذا تكون مقرًا بأن دنياك تعطيك جمالات وانك تاليا آت من تراب هذه الدنيا.

العائلية تنشئ القبلية التي هي اليوم تحالف عائلات هي بقبولها الحلف هذا تقبل نفسها من لحم ودم واللحم والدم لا يرثان ملكوت الله اذ لا تدخله اسرة بل يدخله أفراد. انت تأخذ هويتك من النعمة وليس لك خارجها من هوية. كل تكوينك الباطني معطى لك من فوق ويبقى لك التراب. ويعرف التراب انك مغادره في اليوم الأخير وانك عائد الى الوجه الذي احبك وكونك بحبه.

احفظ نفسك من صنميّة العائلة ومن صنميّة القبيلة لكي تصير من عائلة الآب. انت بتحررك من كل صلة بشرية آسرة تدخل عائلة الآب وتبقى فيها ما دامت طاعتك. وفي مفهومنا هي الكنيسة التي بلا حدود، المكونة ممن يعترف الله ببنوتهم له اذا تابوا اليه وتاب اليهم. الأبوة الإلهية لا تقوم على خط تجميع ولكن على انتقاء الرب لمختاريه. الله ليس رئيس قبيلة او حلف قبائل او حضور قومي. هذا كله من طبيعة الدم. الله سالت دماء ابنه ليبطل الدم وشرعية الدم. الرب يؤلف ذريته من روحه ويضع فيها كلمته ونفحاته. ويكتب مجده بروحه واذا انت أسهمت بكتابة هذا المجد تصبح ايقونة المسيح الذي عندما تخلى عن مجده بالموت سر الله الى الأبد.

واذا انت أمتّ مجدك الموروث يجعل الله لك مجدا آخر لك ان تكفر به ان عدت الى عالميتك ولك ان تثبّته بانتهاجك القداسة اي باعتزالك هيكليات هذا العالم وبناء هيكل الله في جسدك ونفسك لأن الله يبغي ان يضع مجده فيك.

كل هذا لن يحصل لك الا بعد ان تفهم انك على الدوام صنع الله بعطائه المجاني وتكون، اذ ذاك، معمدا بالروح والنار. الكائن الناري فقط يدخل عائلة الآب.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

مولد يوحنا المعمدان/ الأحد في 24 حزيران 2012 / العدد 26

معظم الإصحاح الأول من لوقا مخصص لمولد يوحنا المعمدان. الإصحاح الثالث عند متى مخصص لرسالة المعمدان. كذلك أول السطور في مرقس. ويرد ذكره مع الآية السادسة من الإصحاح الأول من يوحنا. لماذا كل هذا الاهتمام بالصابغ والسابق؟ الى هذا كل سيرة المعمدان من مولده الى موته واردة في الأناجيل وتستغرق منها كمًّا كبيرًا من السرد.

ماذا كل هذا الاهتمام بيوحنا المعمدان؟ وبالأخص لماذا الاهتمام الكبير بمولده عند لوقا؟ لماذا عيد لمولده، وعيد لقطع رأسه، وأعياد القديسين هي أعياد استشهادهم او موتهم الطبيعي. لا أعرف عيد مولد آخر الا لوالدة الإله. الموت هو مولدنا في الملكوت. ما من شك أن في الأناجيل حديثًا مكثفًا عن المعمدان لا بدّ من تفسيره.

هنا لا بد من افتراضٍ أوّل هو أن المعمدان هو الشخصية المتوسطة بين العهد القديم والعهد الجديد. يمتّ بصلة للعهد الجديد لأنه رأى المسيح، ولكنه من فئة الأنبياء القدامى.

الافتراض الثاني لوفرة السرد عن المعمدان هو أن يوحنا بعد استشهاده بقي له تلاميذ كانوا تاليًا خطرًا على الرسالة الجديدة. كان ينبغي إذًا أن يُظهر الإنجيل أن يوحنا نفسه شهد أن المسيح أعظم منه. وبالرغم من انتشار المسيحية، بقي للمعمدان تلاميذ يُسَمّون المندَئيين ولهم دينُهم الى هذا اليوم في العراق ويمارسون معمودية تُميّزهم.

التأكيد على مولد يوحنا في المسيحية القديمة في الطقوس أن المولد له كنيسة في عين كرم في فلسطين مبنيّة على آثارٍ بيزنطية من القرن الخامس. نظر لوقا الى هذا المولد على أنه حدثٌ عظيم باعتباره عجائبيًا مثل مولد عدة أشخاص في العهد القديم صورة عن ميلاد يسوع الذي كان فيه تدخّل إلهيّ مباشر.

كل السرد المتعلّق بالمعمدان شبيه بالسرد المتعلّق بميلاد المخلّص ولكنه أكثر اتصالا بالعهد القديم. بشارة زكريا تمّت في الهيكل لأن العائلة كانت كهنوتية. الشخصية الروحية التي سيكون عليها المعمدان هي شخصية نذير (لا يشرب خمرًا ولا مُسكرًا) من العهد القديم، ولكنه يتّجه الى العمل فيما كان يسوع يعمل، ويتم الاتصال بينهما بمعمودية السيد، ويصير كلام المعمدان قريبا جدا من تعابير الإنجيل حيث يجري حديثه عن المسيح الرافع خطايا العالم، وهذا ليس مذكورًا في التراث اليهوديّ. لم تكن هذه وظيفة المسيح.

المبشّر هو جبرائيل الواقف أمام وجه الله والذي بشّر العذراء. واضح أن لوقا أراد أن تقوم قربى بين الرب يسوع والمعمدان إذ البشارتان كانتا متقاربتين يحملهما رئيس الملائكة. الى هذا قربى أساسية بين اسم «يسوع» واسم «يوحنا». «يو» هو مختصر «يهوى» أي الله، و«حنّا» هو فعل حنَّ بالعربية. حنوّ الله على البشر قائم باسم يسوع ومعناه «الله يُخلّص».

غير أن الفرق كبير منذ بداءة لوقا بين المسيح والمعمدان. هذا يهيء طريق ذاك اذ يقول: «تتقدّم أمام وجه الرب» (أي المسيح).

ما نصّه الكتاب عن مولد يوحنا إن هو إلا تقدمة لما يتعلّق بمولد المسيح عند لوقا نفسه.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الطفل / السبت 23 حزيران 2012

حرّكتني الجملة الأخيرة من مقال أنسي الحاج الرائع في عدد السبت الماضي في جريدة الأخبار اذ يقول «سلام على الأطفال يوم ولدوا ويوم يموتون ويوم يبعثون أحياء في عالم لا يقتل الأطفال». لماذا يهتز كل كياننا عند قمع الأطفال؟ أظن ان الجواب العميق هو لكونهم لا يملكون أدنى مقاومة للبالغين وان هؤلاء في حال تعذيبهم الصغار او قتلهم انما يخلون من كل انسانية. اذا فعلوا هذا يكونون قد صاروا اسوأ من الوحش لأن الوحش لا يفترس وحشا من جنسه. هم في ذلك خارج المعقولية.

في الكنيسة عيد الأطفال الذين أبادهم هيرودس اذ كان سيقتل المسيح مع الجمهور. كل صغير آنذاك، حمل الطفولة التي كان عليها يسوع الناصري. كل صغير يحمل فجر الوجود. والفجر تمتمة النور لنفسه. جمال الفجر ان فيه طيب الانتظار.

دائما سألني الغربيون لماذا شعبكم يأكل الثمار على فجاجتها. نوع من الشراهة قد يعني اننا نحب الاشياء قبل نضجها. عند الأجانب بلوغ الفواكه نضجها هو أعلى مستوى فيها. هذا كسب وليس بالضرورة المعيار.

ألف الإنسان فكرة النمو اذ يولد وينمو وكأن الولادة بدء الوجود والموت آخره. هل حقيقة الانسان الجسدي اطوار ام هي حالات مختلفة تلعب فيها النفس دورا كبيرا. واذا كانت رؤيتنا صحيحة تكون الطفولة نعمة وجود لها كمالها بذاتها ولو كان فيها تهيؤ بحيث ساغ القول ان الطفل ليس رجلا (أو امرأة) صغيرا كتبت عليه قفزات تبلغ به الكمال. انه في الحقيقة كامل وليست الكهولة او الشيخوخة كماله. كل سن تحمل اكتمالها في ذاتها. لذلك كان للولد لغته وللراشد لغته. وللصغير منطق وللكبير منطق وعليك ان تقرأ اذا استطعت والنفس تدخل النفس وان كانت ذات مقاييس مختلفة. الحب وحده العمق. لذلك امكن الولد ان يكون قديسا في اواخر الطفولة وهي تنتهي في تصنيف العلماء عند الثانية عشرة.

#   #

#

ذاتية الطفولة لا تعني انها منقطعة عما ورثته. فالكثير فينا ميراث فتجد طفلا اسمر وأخاه اشقر لأن احدهما ورث عن والد من والديه والاخر عن جده او جد جدّه. هذه مسائل لا قاعدة لها اذ ليس في الطبيعة منطق صارم. نحن نتقبل الأسلاف ونبني على ما اتخذناه منهم. التربية امر ضخم وحركتها فينا سر ولا تعرف شيئا عن مستقبل الاولاد اي لا تعرف كيف سيتصرفون او دوافع النفس عندهم وبخاصة لا تعرف النعمة التي تنزل عليهم وكيف يتقبلونها او كيف يرفضونها. نحن في رعاية الله الذي يعرف وحده سر عمله في العقول والأمزجة. انت، طفلا، مسيرتك كلها في استجابتك لعطاء الله او تمنعك عن افتقاده. هناك من يقرأ محبته وهناك من لا يقرأ الى ان يكسر هو الحواجز ويقر في الروح كما يشاء ويكمل القداسة في من شاء.

#   #

#

الله معطى للجنين في مقدار. هذا امر خفي ومستور عنّا. وعند تشكّل الجنين في لحظة تشكّله يحمل اساس كل عمره وتلتصق به التغييرات فيما بعد. تبقى المواهب او لا تبقى فاعلة اذا مرت الأيام. هذا ايضا تحجبه الأسرار. ولكن الهيكلية العقلية والعاطفية تتكوّن في حشا الأم فيصح القول ان أفلاطون تصورت شخصيته منذ البدء كما آلت اليه من بعد والذين يسبرون غور النفوس في ايامها او اشهرها الأولى يعرفون كيف تتفتق المواهب وتنشئ البالغين.

حدسي – هو مجرد حدس – ان الشعراء لما كانوا أجنة انما اعدهم تكوين ما للشعر وان العلماء مدعوون عند خلقهم ان يصيروا كذلك. لذلك كان عليك ان ترافق طفلك وفق عطاياه ليعطي من حوله فيما بعد ما أعدّه الله له.

هناك أطفال ادهشوني جدا. جيء اليّ بطفلة عمرها ثماني سنين مع أبيها ودهشت دهشا كبيرا لما سمعتها تجيب عن أصعب أسئلتي في شتى حقول المعرفة. يزيّن لي ان اباها رباها على معارف دقيقة جدا ولكن هذا لا يفسّر كل العمق التي كانت عليه.

في مثل هذه القوة كان موزار لما اخذ في الخامسة من عمره ليقدم حفلة موسيقية (Concert) في باريس في حضرة الملك والبلاط. والموسيقى الكلاسيكية من اصعب الفنون. في ايماني اقول ان الله كان دخيل هذه الموهبة.

كل الأطفال في كل بلدان العالم تأتيك بنماذج كهذه. كلمة «ولد استثنائي» لا تكفي تفسيرا. طرحي ان الطفولة عالم كامل يتمتع بمواهب خاصة محجوبة على كثيرين منهم ولكنها مكشوفة لبعض.

هنا يحضرني ما جاء في انجيل لوقا عن حادثة فقدان يسوع في اورشليم لما بلغ الثانية عشرة من عمره. لما وجده يوسف ومريم في الهيكل شاهداه في وسط المعلّمين يسمعهم ويسألهم وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته».

هذا طبعا فيه لاهوت كثير. وهذا قادر عليه بعض الأطفال الذين بلغوا نهاية الطفولة او قبلها.

واذا انت علمت بهذا ينبغي ان تفهم مسؤوليتك الكبرى تجاه اولادك الصغار حتى تكون بلا عيب أمامهم اذ ويل لك ان اعثرتهم أو ضربتهم أو شتمتهم أو جعلت بيتك مليئا بالصراخ وبذاءة الكلام.

اعلم ان اولادك يصلون الى الله بك. هذا هو الذي يرثونه وهذا هو الذي يبقى فيهم. كيف تجمع بين اللطف والحزم والحب الزوجي النقي هذه معرفة ينبغي ان تجهد لاقتنائها. اعلم تاليا ان الطفل مقدس وجمال وجهه ليس هاما عند الله.

طلع الفجر. لك فيه طيب قبل سطوع النهار. افهم انك مؤتمن على طهارة اولادك واتساع ادراكهم ليكون لك في عطائك هذا بنيان روحي لك لتهيئ لنفسك شيخوخة يلقاها الله فيك عافية حلوة.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

دعوة أوّل التلاميذ/ الأحد في 17 حزيران 2012 / العدد 25

هذه دعوة التلاميذ الأوائل كما رواها متى، وهي إيّاها في مرقس. انها تصف البيئة التي كان يعيش فيها يسوع التي تحيط ببحر الجليل وهو بحيرة طبريا. بيئة صيادين. رأى أَخوين وهما سمعان الذي سمّاه هو بطرس في ما بعد وأخوه أندراوس وهو اسم يونانيّ لأن الجليل كان فيه الكثير ممّن كانوا يتكلّمون اليونانيّة وممّن تأثروا بالثقافة اليونانية ما يجعلنا نظنّ أن بعض الرسل كانوا يتكلمون شيئا من اليونانية العامية.

هذان الأَخَوان كانا يُلقيان شبكة في البحر. كل تلاميذ يسوع كانوا صيادين ما عدا متى الذي كان رئيس جباة. دَعاهُما يسوع قائلا: هلمّ ورائي فأَجعلكُما صيادي الناس أي حمَلة للإنجيل (فهِما هذا في ما بعد). لا بدّ أنهما فهما أن هذا صاحب رسالة روحية، رئيس تجمّع صغير يهتم بكلمة الله والدعوة اليها. هذه الجمعيات الروحية الصغيرة كانت معروفة في شعب إسرائيل. توّا «تركا كل شيء وتبعاه». هذا يعني أنهما تركا الصيد المنتظم، ولا يعني بالضرورة أنهما تركا على شاطئ البحر السفينة ليأخذها اي عابر، بدليل أننا نقرأ أن الرسل لم يقطعوا علاقتهم بالبحر.

«جاز من هناك» تدلّ على انه كان يتمشّى على ضفاف بحيرة طبرية. قام بمسافة قصيرة «ورأى أَخوين آخرين وهما يعقوب بن زبدى ويوحنا أخوه (الذي صار يوحنا الإنجيليّ) في سفينة مع أبيهما زبدى يُصلحان شباكهما فدعاهما» على الطريقة نفسها. لعلّ الأربعة كانوا من بيت صيدا. «وللوقت تركا السفينة وأباهما وتبعاه». هذان الأخيران تركا ليس فقط عملهما ولكن أباهما أيضا وهذا انسلاخ أعظم.

أربعة تبعوه ورافقوه في تجواله في الجليل. الى أين ذهبوا؟ الى المجامع، والمجمع قاعة كبيرة يجتمع فيها اليهود يوم السبت خصوصا لقراءة العهد القديم والوعظ المؤسَّس على النص الذي قُرئ. من هذا النص يتبيّن أن مَن يعرف الكتاب المقدّس يُعلّم وهو ليس مُعيّنا مسبقًا.

«يكرز ببشارة الملكوت». ماذا كان يقول؟ صميم بشارته: «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات» (متى 4: 17). الى هذا كان «يشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب».

من هم المرضى الذين كان يشفيهم؟ يقول الكتاب: «أَحضروا اليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة»، يذكر المجانين والمصروعين (اي المصابين بداء الصرع (ومثلها بالإنكليزية (épileptiques) والمشلولين فشفاهم. بعد هذا المشهد نرى أنه كان يشفي كل الأمراض بالقوة الإلهية التي كانت فيه، وهذا لأنه كان متحننًا على الضعفاء جسديا كما كان متحننا على الخطأة. كان يريد أن تظهر رحمة الله على كل إنسان ولا سيما على المعذّبين.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الأم / السبت 16 حزيران 2012

المرأة ليست متسمة بالأنوثة فقط. انها متجهة الى الأمومة ايضا. الكيانية الأنثوية لا تبدو لي واردة في سفر التكوين الا اذا رأيناها مندرجة في الوحدة الزوجية التي عبر عنها آدم عند ظهور حواء بقوله: «هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي» (2: 23). اما الأمومة فواضحة في قول الله للمرأة: «بالوجع تلدين اولادًا» (3: 16). هذا قيل بعد السقوط. توا بعد هذا يقول: «والى رجلك يكون اشتياقك». هل هذا متعلق بطبيعة الأنثى؟ الفكر العبري لا يتحدث في جوهر الأشياء ولكن في حركيتها. يبقى ان سفر التكوين يتحدث عن الرجل والمرأة معا اي عن الزوجية كما يتحدث عن المرأة مع اولادها. اذ ذاك نحن في صميم الأمومة.

لن اغوص على التحليل النفسي. الغوص الذي ادخله فرويد على العلم لقلة معرفتي به ولكني أبسط للقارئ تأملات في بساطتها. سمعت غير مرة غسان تويني يستعمل للدلالة على اي انسان عبارة «ابن امرأة» فأخذت اتأملها. لماذا هذا الوصل بين كل منا وامه بإقصاء الوصل بأبيه؟

في الكتاب كلمة عن الأم مذهلة ليس ما يوازيها في الكلام عن الرجل وهي قول الرب انها «ستخلص بولادة الأولاد ان ان ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل» (1تيموثاوس 2: 25). هذا ليس «تقديسا» للولادة. انه تقديس للتربية. هذا غير الحديث عن الزوجية التي فيها كلام كثير ومرتبط بالقداسة. انه حديث ليس عن وضع الزوجية ولكن عن الأمومة المتصلة بالربوبية هدفا للأولاد.

يجري حديث العامة دائما عن عاطفة الوالدة. هنا ينبغي التدقيق وقول ان هذه العاطفة مرتبطة مباشرة بأن الولد كان طوال تسعة اشهر محضون امه. هناك وظائف كالتنفس بالرئتين ليست عنده وهو في حشا امه اي انه، بصورة ما، جزء منها لكونه لصيقا بها ولا يأخذ استقلاله الا اذا خرج منها او ادرك فطامه. تبعيته لها في الظاهر الجسدي تتحقق بقطع حبل السرة وبالفطام.

هنا يدخل العنصر السيكولوجي. بعد انفصاله عنها ماذا يبقى منها فيه على صعيد النفس؟ ما العقد التي ورثها؟ ما قرباه وما بُعده؟ هذه اشياء تصدى لها علماء النفس من بعد فرويد ولكن العامة في خبرة اجيال تعرف الكثير منها.

غير ان الأم ليست معقدة. تعاني من اخلاقها هي التي تؤثر في تربيتها. من الأمومة لا ترث الا الانعطاف الناتج من الحضن الرحمي. وفي الحديث الشريف -انقل من الذاكرة- أطلق الله اسم رحمته على رحم المرأة.

#   #

#

مهما يكن من امر الاشتقاق يبدو من الوجهة السيكولوجية ان الوالدة لا تقبل قطع حبل السرة ولا الفطام فتحس ان وليدها تابع لها او هي مسؤولة عن الاشراف عليه طوال حياته. تعنى به مهما بلغ من العمر كما كانت تعنى به لما كان طفلا.

ما وددت قوله ان الأم مندفعة بهذا الشعور تأسيسا على تركيبها الجسدي او تأثرا به ومما يقوي الشعور حملها الطفل على ذراعيها او في حضنها. القضية فيها شيء من اللصوق. شعور الأب مرتبط ايضا بكونه حمل ولده على ذراعيه. هي قضية لصوق هنا ايضا يختلط بها استقواء الوالد بارتباطه بالذرية. شعور الأم فرادته انه مدعوم بأساس جسدي.

ربما قويت عاطفة الأم بكونها راعية (تطعم الولد، تهتم بكسائه، بنومه). هي ربة البيت. في العربية يسكن الولد الى امه اي يجد عندها السكينة والدفء. بكلام آخر يجد الولد عندها الحضور.

تحمل الحياة بمعناها الشامل ومن هذا التقوى. هي مميزة بنقلها الإيمان الى اولادها وأحفادها وهذا لوحظ في القرن العشرين في الأنظمة الملحدة التي أغلقت الكنائس. كان الايمان ينقل من الجدات الى الأحفاد لأن الجدة كانت لا تخشى دوائر الاستخبارات. ولعل الجدين معا يقدمان عطفا للأحفاد لشعورهما باستمرار الحياة فيهم.

تقديس الانسان لأمه قوي في هذه البلاد بحيث لا يحتمل احد ان تشتم امه لإيمانه بطهارتها، هذه الهالة بادية بسبب ما أخذ الولد من والدته من عطف شديد يتسم بطابع القداسة.

على ذلك كله ما أردت ان أقول ان هذا الذي يبدو فضيلة في الأم ليس ناتجا حصرا من تركيبتها الجسدية فالأمهات لسن متساويات في العطاء الروحي يوزعنه مما نزل عليهن من فوق. فهناك نساء مهملات، غائبات، قليلات الحكمة، غير مؤهلات للتمييز بين اولادهن ما يؤثر على نمو الاولاد تأثيرا كبيرا. غير ان الولد الحكيم يرعى امه وما كان عندها رعاية قادرة. في الحقيقة ان العائلة دائرة كل منا فيها يستلم ويعطي في كل الجهات.

طوبى للتي تستطيع ان تصبح على صورة مريم عظيمة العطاء. هذا لا يعني انه ليس للأم الا وظيفة الأم. انها كائن بشري كامل »يعمل ويعلّم«، قادر على الإبداع في كل مجال من مجالات المعرفة والتضحية. وبهذا تعظم امومتها. هي انسان كامل الانسانية مبذول في كل محبة أفي البيت كانت ام خارج البيت. مثل الرجل تعطي الخيرات لمن كان فقيرا اليها. هذه الانسانية الكاملة متوفرة عند التي لم ترزق ولدا او عند التي تبتلت لله. هناك قوة عطاء عندنا جميعا. الوالدة ايقونة من ايقونات العطاء.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

تعزيز الكاهن / الأحد 10 حزيران 2012 / العدد 24

تعزيزك له ماليًا تعبير لإيمانك أنه رُكن أساسيّ في كنيسة الرب التي يخدم لأنه، حسب الكتاب، يعيش من الهيكل، وأنت عضو في هذا الهيكل. الى هذا قد تشعر بأنه قريب منك شخصيا بحُسن رعايته لك وعائلتك واهتمامه بأحوالك. المحب يهتمّ بمن يحبّ في معيشته.

يُحزنني جدا الكثير من أبنائنا عندما يصدمونك بكلام كهذا: «دع المسؤولين عن الأوقاف يزيدون للكاهن معاشه». يبدو عند ذاك اهتمامك بالمطالبة وانت لا تبذل شيئا. وكثيرًا ما يعرف هؤلاء القليل عن أوضاع الوقف. كثيرًا ما لا تجد وقفًا في القرى بحيث يقتصر الدخل على ما يدفعه الحاضرون في الكنيسة يوم الأحد وهم قلة لا تتجاوز العشرة بالمئة من أهل الرعية في معظم الأماكن.

لأن غيرك يغيب عن الكنيسة يبقى الواجب عليك أنت الذي تحمل الكنيسة على عاتقك. بهذه العبارة لا أُعفي من المسؤولية الغائبين. كلنا «جسد المسيح وأعضاؤه أفرادا».

لا تترك العطاء للمناسبات (معمودية، إكليل، جنازة). كل واحدة منها تحدث مرة واحدة في العمر. في مناسبة الأسرار أنت حُرّ أن تُعطي وحُرّ أن تُحجم عن العطاء. والوقاحة كل الوقاحة ان يرفض الكاهن عطاء قليلا. هو لا يخدم لقاء شيء. بادره في العطاء لئلا يحزن، والحزن يُعطّل الرسالة او يُضعفها.

لا تُرجئ عطاءك الى الغد. ومهما كان قليلا قم به لتربح الله. هذا الذي خصّص لك كل حياته وعمقه ألا تُخصّص له كل فترة زمنية تُحدّدها مبلغا من المال على قدر طاقتك وهو يذكُرك باسمك أمام الله ويكون قد علا في حضرة ربه بفضلك. اذا فتحت قلبك تهون عليك ملمّات الحياة. لا تعطِ نفسك ذريعة أننا في ضائقة. قد يبقى لك في الضيق فلسُ الأرملة وهو ينجّيك كما نجّاها. ما تبذله للمحتاجين من أهل الأرض يبقى لك ذخرا في طريقك الى الملكوت.

شجّع أصدقاءك على أن يتشبّهوا بك اذ يمكن أن تسدّوا عجز الرجل بذلك. أنا شاهد على أن تأفّف الكاهن يؤذيه ويؤذي الرعية. ارفعْ عنه ثقل الخطيئة حتى ينصرف الى خدمته بفرح ولا يشغله هاجس المال فينكبّ على قداسة الخدمة والقراءة. مَن كان الرب شاغله يرتاح من أعباء هذه الحياة. فإذا لم ينصرف الى النشاط الرعائيّ لك أن تلومه.

ليس لنا عتابٌ عليه اذا سعى أن يكسب معيشته بعمل إضافيّ، ولكن كل عمل إضافيّ يأخذ من الوقت المخصّص كله مبدئيا للخدمة. اذا بقي محتاجا يصبح إغراؤه أن يلوذ بأغنياء الرعية. لا ينبغي أن «يمون» بسبب ما له على الكاهن. كذلك لا ينبغي أن نُفضّل مشروع بناء او ترميم او أي عمل مادّي على تعزيز الكاهن لأن البناء ينتظر وأكل أولاد الكاهن لا ينتظر.

في حضارة اليونان القديمة كان الفلاسفة لا يملكون شيئا ويعيشون من المدينة. اذا أُتي بشاب من معهد اللاهوت ليصير كاهنا فهذا لا يملك شيئًا. يعيش اذًا من الكنيسة كما ينبغي لمثقّف أن يعيش (شراء كتب، سَفَر الى مؤتمرات، إحسان يقوم به). واذا لم نذكر شيئا من هذا تبقى المعيشة العادية لعائلة متوسطة الحال.

حرّكوا قلوبكم من اجل من يخدم المسيح.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

العنصرة / الأحد 3 حزيران 2012 / العدد 23

العنصرة هي تفعيل الخلاص الذي تم على الصليب مرة واحدة ولكن كان ينبغي ان ينتقل الى الناس وينتقل إذا قبلوه. «الرسل كانوا معًا في مكان واحد» معنى ذلك أن الكنيسة كانت مجتمعة والروح القدس نزل على الكنيسة وعلى كل واحد من الكنيسة.

بعد صعود المسيح الممجّد بالقيامة والمنتصر على الموت، كان يمكن أن ينزل الروح القدس حسب قول يوحنا الرسول في إنجيل اليوم: «لم يكن الروح القدس بعد» -أي لم يكن في الناس وعلى الناس- «لأن يسوع لم يكن قد مُجّد» أي لم يكن قد مات وقام. الروح القدس منبثق من الآب ومستريح في الابن. يأتي منهما معًا ولكن لا يأتي إلا من المسيح الغالب الموت، ويحمل الى البشرية مفاعيل الموت الخلاصيّ ويُظهر التلاميذ أنهم حصلوا على الخلاص وصاروا قادرين أن يُعطوه للمؤمنين بالمسيح والمعمّدين باسمه.

وهذا يحصل دائمًا حتى نهاية الدهر. ما حدث في العلّيّة يحدث في كل معمّد اذا آمن واعترف وتناول جسد الرب ودمه. كل الأسرار المقدسة كانت طاقتها في المسيح المصلوب وتفعّل فينا في حياة الكنيسة.

نحن اذا كنا من الكنيسة بالمعمودية نقدر أن نستمدّ كل قوى الثالوث المترجمة فينا ميرونًا ومناولة قرابين وتوبة وزواجًا وكهنوتًا وجنازة وإشارة صليب ومسحة مرضى. الكنيسة كل هذه معًا لأنها في حالة استدعاء الروح القدس على الكون كله، واذا نزل الروح علينا تبدو الكنيسة فينا.

الذين صاروا للمسيح وحده يكون الروح القدس هابطًا عليهم في كل حين ولا يتركون في قلوبهم شيئًا لغير المسيح. هؤلاء هم هياكل الروح القدس ومسحاء بالنعمة، وهؤلاء يتكلمون بعظائم الله لكونهم في حالة اقتراب من الله على الدوام.

كلّ يتكلّم بلغته اي بمقدار القداسة التي فيه وبمقدار الفهم اذا استلم موهبة الفهم. هذا ينقل الروح القدس بالبشارة ويفهمها كل حسب عقله ويأخذ كل واحد منا البشارة حسب قدرة قلبه ولا فرق بين نزول الروح يوم الخمسين ونزوله اليوم في الأسرار المقدسة وكلمة الإنجيل اذا قرأناه بانفتاحِ كل حواسّنا وطاعة.

لا يستطيع إنسان أن يأخذ كل المواهب التي هي في الروح القدس. هذا يعطي ما يشاء حسب قدرة الإنسان على التفعيل. فهذا واعظ او معلّم او خادم في إدارة الكنيسة او كاهن او علمانيّ ناشط. كل هؤلاء معًا يشهدون للروح وعمله. من هذا المنظار كانت الكنيسة حركة او تيارا وليست مجرد ترتيب او نظام او تجمّع.

هي تنمو بالمواهب التي نزلت على أعضائها. فإذا استجاب الكثيرون للروح الإلهي وأسلموا أنفسهم له، بدت الكنيسة حيّة وفاعلة في المجتمع البشريّ وتُغيّر أحوالنا ونكتسب بالروح بعضُنا من بعض لأن المواهب تتكامل وتتفاعل، واذا انطفأت مواهب كثيرة تكون حاجتنا الى أن نطلبها من الله ليظهر الله حيّا وفاعلا ويتمجّد المسيح القائم من بين الأموات.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الأب / السبت 2 حزيران 2012

الوالد تدل على لحظة الحبل عند المرأة والأبوة استمرار وبهاؤها في انها على صورة الأبوّة الإلهيّة. اجل لا يخفى عني ان الخبرة في هذا الموضوع أصل الكلام ولكني سأحاوله بسبب من حاجتنا اليه.

ما أودّ قوله بدءًا على الصعيد السيكولوجي ان الزوجية شيء والأبوة شيء آخر فقد يكون ربّ البيت ضعيفا مع امرأته ويقول العامة، عند ذاك، انه ليس برجل لأن هذه الكلمة مرادفة للسلطان المعترف به للرجل وكثيرا ما كان هذا الزوج متسلطا وهو ضعف آخر.

الولد في حاجة الى سلطان والسلطان عنده يمثله والده. ولعلّ هذا ميزة الرجولة علما بأن الوالدة قد تكون شرسة حتى العنف. كيف يكون الانسان ذا سلطة بلا تسلط اي كيف يكون حازما للتربية ورقيقا بآن؟ هذه موهبة هذا الجنس البشري الذي يسمى الرجال ولكن الموهبة في حاجة الى تنمية.

تقويم السلطة الأبوية بالوداعة يعاش مع الأم بمواهبها الطبيعية ما لا يعني ان عاطفتها اقوى من عاطفة الزوج. انها لون آخر من الشعور يقوم بخاصة على رعاية الطفل ثم الحدث باستمرار وانتباه اي خدمة. هذا يختلف عن قيادة الأب. واذا جاء الأب كثير الحنان وقويا بآن لا يعوّض عن المرأة التي جعلتها الطبيعة دفوقة العطاء. الأب والأم معا في توافق المواهب وتمايزها هما مصدر التربية العظيمة والعافية النفسية عند الولد.

صورة الأب في ذهن ولده حاسمة في مشاعر الولد. هي تنشأ من المعاملة وردة الفعل عليها. فإن كانت المعاملة سليمة، محبة، دائمة السلامة، هادئة يشدّ الأب ابنه اليه ويصبح كائنا حاضنا في أعمق معاني الكلمة فيرى الطفل او الشاب ان الله أب وانه هو من عائلة الآب. هذا ما تعلّمته من اطروحة الدكتوراة التي قدّمها كوستي بندلي الى جامعة ليون. لقد أثبت ان ثمّة علاقة حميميّة بين الأبوة العظيمة والايمان.

الأمومة تحضن والأبوّة تحضن. لم يبقَ من شكّ عند العلماء ان ثمّة سيكولوجية ذكورية وسيكولوجية انثوية وهما في وضع مشاركة في الحياة الزوجية. لذلك كان اليتم صعبا على الصغار غير ان الله يتمم في كل جنس ما كان في حاجة اليه بحيث يغدق احيانا كثيرة نعمته على التي توحّدت بوفاة قرينها.

#   #   #

ماذا نعني بقولنا ان السلطان يكمن اولا اوكليا في الأب؟ قبل الاشراف على تربية الأولاد التي هي مسؤولية يبدو لي ان ماهيّة الأبوّة قائمة في رغبة الرجل في الاستمرار. في تأكيد  ذاته. يولد ذكر يتماهى معه لأن الذكر حامل الاسم والاسم هو الشخصية في عقل الساميين وانتشر هذا الموقف في كل مكان. لما أراد موسى ان يعرف اسم الله كان يلتمس معرفة طبيعته. والله كشف لبني اسرائيل لا اسمه ولكن عمله اي استمراره فيما بينهم بقوله: «سأكون لكم الها وتكونون لي شعبا» اي عندما تعرفون اني راعيكم ومبدئ حياتكم من كل جوانبها. قال: سأكون ما سأكون اي تعرفون هويتي بالنسبة الى عملي في وسطكم. واذا رأيتم حركتي فيكم تعلنون أنفسكم شعبي. انتم اذًا ذرية الله. «به نحيا ونتحرك ونوجد كما قال بعض شعرائكم ايضا لأننا ايضا ذريته. فاذ نحن ذرية الله…» (أعمال الرسل 28: 17 و29). هذا هو معنى العبارة المسيحية التي تقول اننا ابناء الله.

من هذا المنظار ساغ القول ان بين الرجل واولاده وحدة. من هنا كان اهتمام جميع الشعوب باسم العائلة وصحة النسب. ما عدا بعض الشعوب في حضارة اليوم الإنسان منسوب الى أبيه وهذا ما يفسّر امتياز الذكر في الإرث عند الكثير من الأمم. هذه صورة من صور الخلود على هذه الأرض.

هذا ما يفسّر ايضا انكباب الوالد على الانتاج. الذين سيرثون اسمه ينبغي ان يتمتعوا بالحياة التي يتمتع هو بها. العاطفة الأبوية تجعل الوالد يساوي شعوريا بين كل اولاده او يفضل احيانا الإناث ولكن الإناث محفوظات معاشيا في الزواج واولادهنّ من رجل آخر ومن هويته في حين ان الأحفاد الذكور يلبثون في العائلة. ذرية الرجل التي يؤلفها الصبيان هي هو.

#   #   #

الأبوّة تمرّ بامتحان صعب احيانا. السلطوية تغريها واذ ذاك، يصبح الاولاد أدوات بيد الوالد. يستبدّ هذا بذريته فتقتله انانيته. انسان لا يخرج من نفسه كان لا ينبغي ان يتزوج ويبقى في الواقع الشعوري منبوذ ذريته وتنفك العائلة عاطفيا.

لذلك كان على الوالد ان يعتبر نفسه خادما لأولاده، ساهرا عليهم لكي ينموا في ما عندهم من مواهب. عليه ان يفهم انه كان وسيلة حياة لآخرين وانه ليس رب واحد ولكن الله وحده هو الرب وشخصيّة الأولاد تبنى على الحرية وعلى الفضيلة والعائلة ليست ذاتا انما هي مشاركة احرار والمشاركة هي التواضع من حيث انك به ترفع الآخرين الى أعلى درجات الرقي اذا أحبّ الانسان ان يترقى.

الأبوة تعززها زوجية صالحة فلا يستأثر احد من الرجل والمرأة بكل شيء ولا يعطل فاعلية الآخر او دوره في التربية او استقلال شخصيته. بالتعاون الوثيق الصادق تسير الأبوة في منحاها والأمومة في منحاها. اي الغاء فريق للآخر يعطل أثر الوالد او الوالدة. الزوجية المعطاء عند الرجل تساعده على ان يبقى ابا صالحًا ودودًا. وبخاصة في تربية رائدة يقوي حبه الزوجي.

الأبوّة تفويض إلهي من اجل حراسة العيلة. والتفويض يفرض عناية الرجل بفضائله وحسناته فلا يبدد الموهبة التي نزلت عليه. لذلك لا يخرج عن الإخلاص الزوجي ولا يبدّد أمواله في طريق الرذائل ويسلك على الدوام طريق العفة وملازمة اولاده خارج ساعات عمله وبهذا يقدس بيته ويتقدس اذا فهم ان عليه ان يتشبّه بأبوّة الله لنا.

Continue reading