زكا العشار / السبت 30 كانون الثاني 1999
قبل ان يقرب يسوع من أورشليم في مطافه الاخير اليها داخل أريحا وأخذ يجتازها وحوله ألوف من الناس (لوقا 1: 12) فاذا رجل يدعى زكا وهو رئيس للعشارين غني قد جاء يحاول ان يرى من هو يسوع، فلم يستطع لكثرة الزحام، لانه كان قصير القامة. العشارون هم الجباة الذين يعملون في الادارة الرومانية. وكانوا في كل منطقة زمرًا ولكل زمرة رئيس يتعهد الضريبة المفروضة على المنطقة جميعا ويقسم المسؤوليات على معاونيه. والمبلغ المفروض يجبى من الافراد بحيث كان ممكنا ان يغبن مواطنون كثيرون او كل المواطنين. والفارق بين ما يجمعه العشار وما يتوجب عليه للدولة يذهب الى جيبه. هذه الحكمة في السرقة كانت أمرًا شائعًا في فلسطين حتى ان كلمة عشار كانت دائما مقترنة بابتزاز المكلفين. ولم يكن مقبولا من المكلف ان يثبت عجزه عن الدفع.
لماذا رغب زكا في رؤية النبي الجليلي؟ ربما كان هذا بدءًا من باب الفضول. ربما انجذب اليه لدافع آخر. لا يذكر الكتاب انه أراد حوارًا مع السيد. ولكن لكونه كان قصير القامة أسرع لصعود جميزة ليراه، لان يسوع أوشك ان يمر بها. أراد زكا ان يرفع الحاجز الذي كان يحول دون رؤيته المعلم. لا بد انه سمع ان يسوع انما كان يخالط العشارين والخطأة ما يعني انه كان يخالف توجيهات الحزب الديني الاصولي المعروف بالفريسيين. وكان هؤلاء يعيرون التلاميذ ان سيدهم يؤاكل الجباة الخطائين بحيث انه كان يخرج عن خط البر الذي رسمه الفريسيون واعتبروه برًا الهيا. اجتهادهم هم يساوي الكلمة الالهية وكان يسوع يقيم فارقًا كبيرًا بين الكلام الالهي وما كان من تقاليد الناس. لعل الانجيلي في ايراده الحادثة هنا في سياق الحديث عن آلام السيد أراد ان يوحي بأن الصدام بينه وبين قادة الفكر الديني قد بلغ أوجه.
# #
#
فلما وصل يسوع الى ذلك المكان، رفع طرفه وقال للرجل: “يا زكا انزل على عجل، فيجب علي ان اقيم اليوم في بيتك”. هذه هي المرة الوحيدة التي يتجاوز فيها يسوع الاختلاط في الشارع بالعشارين ليقيم مع هذا العشار بالذات صلة أوثق فيتخطى قوانين الدنس التي أقامها الفريسيون. “يجب ان أقيم في بيتك” في هذا تصميم على الخلاص، مبادرة في الخلاص. هذا عند لوقا صدى لتعليم بولس: “بالنعمة انتم مخلَّصون” وما دونه يوحنا في ما بعد: “الله أحبنا أولاً”. لوقا يبني عمارة لاهوتية تحت ما يبدو بسيطا.
السيد يقول: “انزل على عجل” فيعلق البشير: “نزل على عجل واضافه مسرورًا. لماذا لبى بلا تردد؟ هل هي الضيافة الشرقية؟ هل أحس بأن ثمة ما كان أعظم من مجرد كلام لانسان يدعو نفسه – اذا صح التعبير – عند رجل غريب؟ تذمر الفريسيون من كون يسوع ذهب ليبيت عند رجل خاطىء. يرفض يسوع ان يفهم البر على انه انفصال أو تمايز أو استعلاء. يعرف سببًا للاتصال حتى المعاشرة. الله كما فهمه يسوع الناصري في حال موصولية حتى الاحتضان والضم. في اقتبال يسوع معمودية يوحنا القائمة من أجل الخطأة يساوي المسيح نفسه بالخطأة اذ يصطبغ بما لم يكن في حاجة اليه. المخلص ينصهر بالمدعوين الى الخلاص. هذا هي كثافة الاندماج.
التقى الرجلان عند أسفل الجميزة فقال زكا للرب: “يا رب، ها اني اعطي الفقراء نصف اموالي، واذا كنت قد ظلمت أحدا شيئًا، أرد اليه أربعة اضعاف”. لقاء معجز لا يفهم بمألوف السيكولوجية للوهلة الاولى. حدث زلزال في نفس الجابي. اهتزت نفس زكا من المقابلة الصداعة بين البر الكامل والخطيئة المستفحلة. انتهى فجأة زمان السقوط وامحت السقطة زكا يصير خليقة جديدة يجعلها الله بضيائه. الرجعة رجعة الى وجه الله نفسه من خلال المعلم. عندنا تخطئة للماضي كله، شجاعة اعتراف. الرجل يبذل نصف امواله وكان قد عاش في البذخ. موقف لا يقيم حسابا للمستقبل، لمستوى انفاق كان قد اعتاده وموقف اعتراف بأنه قد ظلم. يرد على كل مظلوم ظلمه اربعة اضعاف. ماذا يبقى من هذه الثروة؟ ماذا يضمن لزكا وعائلة زكا سنوات قد تكون طويلة.
لقد انتقل الرجل الى وجود آخر، الى حياة جديدة بالكلية لا تقيم حسابا لشيء من دنيانا، حياة مطبوعة بجنون الحب. اذذاك قال يسوع فيه: “اليوم حصل الخلاص لهذا البيت”. فالنجاة ليس فيها مراحل ولا تحتاج دائما الى تربية. تنقض على التائب كالصاعقة لكونها عملية خلق جديد الخالق هو فيها كل شيء. بعد هذا بأيام لما عُلِّق السيد على الخشبة يقول للص: “اليوم تكون معي في الفردوس”. الحب يمحو لصوصيتك كلها ويرفعك الى الدرجات العلى من الرؤية واللصوق.
وبعدما قيل هذا في الرجل قال المخلص عنه: “هو ايضًا ابن ابرهيم” بمعنى انه صار الآن بالايمان المستعاد ابنا لابي المؤمنين. هذا أيضًا يلتحق بفكر بولس: “آمن ابرهيم بالله فحسب له ايمانه برًا”. المسيح ينكر على اليهود في انجيل يوحنا كونهم ابناء ابرهيم. انهم قد نقضوا الخط الايماني لكونهم جحدوا المسيح. “ابن ابرهيم” عبارة جعلت زكا من المزكين فان الذين لم يكونوا مرحومين صاروا مرحومين كما يقول هوشع والذين كانوا تحت اللعنة باتوا مباركين لكونهم غدوا اخوة لهذا الذي قيل عنه: “ملعون كل من عُلِّق على خشبة”. كل منبوذي الدنيا يصيرون بالحب اخوة ليسوع” لان ابن الانسان جاء ليبحث عن الهالك فيخلصه”.
# #
#
أيضًا وأيضًا نحن مع لاهوت المبادرة الالهية في انقاذ البشر. يسوع يأمر الاذن ان تنفتح ليسمع الاصم والعين ان تبصر ليتكون فينا بعد ذلك الانسان الداخلي. “ليبحث عن الهالك”. في الصيغة اللغوية التي وردت فيها الهالك في اليونانية تعني الكلمة من هلك نهائيا كأنه يقول على رغم كل معرفتنا بالاصرار على الخطيئة وما يبدو هلاكا ليس في الانسان ما يحول دون الرحمة والتغيير الذي تحدثه في القلب البشري.
لعل أجمل ما في الانجيل ان من أهمله الدهر أو أهملته نفسه أو أعيق أو كان فيه مسّ أو حل فيه فقر أو مزقته الخطيئة وأفسدته حتى ضياع الرشد والتمييز أو ظلمه عاتٍ أو استغله نافذ، ان كل هؤلاء اصدقاء يسوع الناصري يشفي اجسادهم أو يشفي قلوبهم. هذا الذي عيره به نيتشه الباحث عن الانسان المتفوق انما كان عظمته في تاريخ الناس على ما قاله الشاعر: “ولد الرفق يوم مولد عيسى”.
الضعفاء الذين لمسهم حنان المسيح وباتوا في حنان والصابرون من أجل صليبه هؤلاء أعظم بكثير من أولئك الذين تمجدوا بحسن ابدانهم وذكاء عقولهم واحتقروا مهمشي الارض وذوي الاسقام.
ولعل الاخطر من هذا ان يستعلي الطاهرون فيدينوا من عصى. كل من استكبر انما يحطه الله. طوبى لمن استطاع ان يتواضع من خطيئة وعزف عنها ابتغاء الفرح الذي تعطيه النقاوة. “طوبى لمن غفرت ذنوبهم وسترت خطاياهم” بسبب من رقة الغافرين.
Continue reading