Monthly Archives

June 2022

2007, آحاد, عظات

قزما ودميانوس – الأحد الخامس بعد العنصرة / عظة للمطران جورج في كنيسة القديس جاورجيوس برمانا – الأحد في 1 تموز 2007

باسم الآب والابن والرّوح القدّس، آمين.

يا أحبّة سوف أكلّمكم اليوم عن رسالة بولس التي اقتبسناها ممّا كتبه إلى أهل كورنثوس، بمناسبة عيد القدّيسَيْن قزما ودميانوس. مَن هما هذان الرجلان؟ هما كانا في أواخر القرن الثالث في مدينة روما. لماذا خصّصنا لهما عيدًا؟ لأنّهما كانا طبيبين يمارسان الطبّ مجانًا. عندنا في الكنيسة مجموعة أطبّاء قدّيسين طوبناهم لأنّهم كانوا يطبّبون مجانًا، ويشفون. لو كانوا يطبّبون فقط ما كان هذا بكافٍ بل كانوا يطبّبون ويشفون. ولذلك رفعناهم إلى مراتب القدّيسين.

لمناسبة هذا العيد، اقتطعنا مقطعًا من رسالة بولس إلى أهل كورنثوس. وتكلّم فيها عن مواهب كانت تعطى لبعض المؤمنين. تكلّم عن مواهب الشفاء ومواهب أُخرى، فالبعض رسل والبعض أنبياء في الكنيسة والله هو الذي يوزّع هذه المواهب.

ما أودّ أن ألفتكم إليه حيث يقول بولس «جدّوا لأعظم موهبة التي تحتوي الكلّ».

وكتب لنا هذا النشيد التعظيم في العهد الجديد والذي لم يكتب أحد في العالم مثله وهو نشيد المحبّة. كان هو عارفًا ما قاله السيِّد «أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم»، وأشياء مماثلة.

ولكن بولس خطفه الرّوح القدس حتّى يكتب هذه القصيدة العظيمة التي هي أروع ما قيل في العالم عن المحبّة.

قال «إن كنت أنطق بألسنة الملائكة»، أي إذا كنت أفهم كلّ شيء ولم تكن فيّ المحبّة فإنّما أنا نحاس يطنّ أو صنج يرنّ». فإذا لم تكن فيّ محبّة فإنّما أنا مثل هذا الدفّ يعني أنّه ليس فيّ محبّة، أنا ضجيج.

ثم يتحدّث عن النبوءة التي كان يقف فيها قديمًا في الكنيسة ويقول إنّ الربّ يُلهمني أن تعملوا كذا وتتحسّنوا وتصيروا قدّيسين. يقدر أن يكون كاهنًا أو غير كاهن، يحضّ النّاس على التوبة.

فبحسب بولس «إنّ الذي عنده النبوءة يعرف جميع الأسرار والعلم كلّه، وإن كان هذا الإيمان كلّه حتّى أنقل الجبال ولم تكن فيّ المحبّة فلست بشيء». فالذي يقدر أن ينقل الجبال يكون يملك المحبّة.

ثم يقول شيئًا آخر: «إن أعطيت جميع أموالي، وأسلمت جسدي ليُحرق حتّى ولو صرت شهيدًا ولم تكن فيّ المحبّة فلا أنتفع شيئًا».

أتى من خلال هذه الكتابة وحصر الدين المسيحيّ كلّه بالمحبّة.

ثم ينتقل بالكلام إلى فوائد المحبّة أي ثمار المحبّة. فيقول «المحبّة تتأنَّى وتَرْفُقُ».

عندك إمرأة تنقّ عليك من الباكر إلى عشيّة، عليك أن تتحمّلها سبعين سنة على هذه الطريقة. لا تقدر أن تقول للمحكمة الروحيّة إنّ امرأتي تنقّ عليّ. عليك بالسكوت، وتوجيه ملاحظات إليها.

المحبّة تتأنَّى لا تضجر وتَرْفُقُ وتَلطف. والمحبّة لا تحسد. هذا كان عنده 16 مليار ليرة لا تحسده، لا تشتهي ماله.

امرأة في غاية الجمال، وأُخرى وسط في الجمال هل تحسدها؟ لماذا تحسدها؟ إنّها ذاهبة للتراب هي والأُخرى. ما الفرق بين المرأة البشعة والمرأة الجميلة؟

ليس من فرق إذا كان يوجد رأس أو قلب أو أعصاب. وهذا يربح أكثر مني. المحبّة لا تحسد. وإذا كنت أنت تحبّ لا تتباهَ.

عندك شهادات عليا. ما الشهادات؟ لا تتباهَ ولا تتكبّر ولا تنتفخ.

المحبّة لا تحتدّ، ولا تغضب. كلّ إنسان تغضب أنت عليه يُجرح وينصدم. هذه قاعدة عامّة. أنت في حالة الغضب غير مُحبّ.

النّاس نوعان: ناس يأتيهم أحدهم بأول لحظة يظنّون به السوء ولا يؤمنون به. يقولون إنّه ربما يخبئ قصّة ما. عنده قطبة مخفيّة. دائمًا يظنّون السوء. هم لا يحبّون.

أنت تظنّ بالشيء الحسن عند الإنسان الذي يأتي إليك. لاحقًا تأخذ الصورة عنه ولكن في البدء تعطي الثقة للإنسان الذي يتعامل معك.

ويكمل بولس الرسالة حيث يقول «المحبّة تفرح بالحقّ وتحتمل كلّ شيء وتصدّق كلّ شيء وترجو كلّ شيء وتصبر على كلّ شيء». فالإنسان المحبّ يفعل هذه الأشياء.

وينتهي بهذا الكلام العظيم «المحبّة لا تسقط أبدًا». أنت رابح دائمًا بالربّ. يجوز أن تربح صيتًا حسنًا وتربح مودّات وصداقات. المحبّة تكلِّف وهي صعبة.

سأعطيكم مثلاً كيف يقدر إنسان أن يحبّ. جارك يحسدك وهو فقير وينتقدك، ويصل إليك النقد. ترى أنّ هذا يجب أن يدخل إلى المستشفى وليس معه مال. ماذا تعمل؟ تذهب وتدفع عنه المال. عنده ابن لامع جدًّا جدًّا لا يدرس إلّا بالجامعة الأميركية. هو بحاجة إلى 11 ألف دولار أميركي بالسنة. إذا كان معك هذا تدفع عنه. وتعرف أنّه ضدّك ويحكي عليك. هذا إذا أراد أن يحبّ على طريقة المسيح وإلّا تكون مثل الوثنّيين، مثل كلّ الأمم وكلّ الشعوب الأُخرى.

أنت لا تكره أحدًا من النّاس ولا تشترط شيئًا. أخلاقه سيّئة، تخدمه. صديقك تخدمه. عدوّك تخدمه بنفس القوّة وبنفس العطاء.

هذا ما علّمنا القدّيسون وما أراد بولس الرسول أن يدخله إلى عقولنا وقلوبنا لنصبح قدّيسين بدورنا، آمين.

Continue reading
1992, مقالات, نشرة رعيتي

نشوء الزواج / كلمة الراعي “رعيتي”، الأحد 9 آب 1992، العدد 32

الزواج عهد مؤسس على الطبيعة. ينشأ بالحب الذي يجمع رجلًا وامرأة. ولكن هناك مجتمعات قديمة لا تطلب الحب شرطًا ولكن لا بدّ له ان يتكوّن قبل الزواج أو بعده. هناك جاذب يكشفه القول الإلهي منذ التكوين: «ليس جيدًا أن يكون الإنسان وحده على الأرض. فلنصنعنَّ له مُعينًا على شبهه». فاللقاء بين شخصين من الجنسين يضع مبدئيًّا حدًّا لهذه الوحدة.

أجل الحب قائم في الطبيعة، يختلط بما لهذا الجسد من نزعات. يلتقيها وتلتقيه. فالشاب يحسّ بضرورة المرأة إلى جانبه. ميل عام غير محدّد حتّى يجد في مرحلة من مراحل نموّه ووعيه ان نزعته إلى وجهٍ معيّن يلغي الوجوه الأخرى. إذ ذاك يتوحّد بهذا الوجه أي يرى نفسه واحدًا معه. ولا يرى نفسه وطاقاته محقّقة إلَّا مع هذا الشخص. الزوجة الواحدة والزوج الواحد شيء من الطبيعة البشريّة لأنّ الإنسان الناضج عاطفيًّا لا يرى نفسه إلَّا مع إنسان واحد من الجنس الآخر. ما عدا ذلك مراهقة. ان تعدُّد الزوجات تنقُّل وعدم استقرار وعدم رضا. فأنت تتعهّد من تحب وتبقى معه وحده. لا يمكنك احترامه إلَّا إذا كان وحده معك. ولا تتركه أصلًا لأنك معه في صباه وشيخوخته. ولك في كل أطوار عمرك فرح واكتمال.

نحن نتّخذ الطبيعة كما هي. نبدأ بها. لا نحتقرها لأنّ «الزواج مكرَّم ومضجعه غير دَنِسٍ». نحن المسيحيين لا نكره الجنس. نعرف ان الله خلقه وانّه جزء من الكيان البشري، ولكنّه يحتاج إلى ضابط لأنّ الإنسان لا يتّزن بلا ضوابط. والقناة الطبيعيّة للجنس هي الارتباط الدائم بامرأة. الجنس لا يكون نزوة ولا يتغيّر بحسب المزاج. يكون في حراسة الشريعة الإلهيّة.

ذلك ان الإنسان معرّض لتقلّبات النزوة والإغراء، ومحبّة المسيح تنقذه من ذلك. بالزواج يطفئ لهيب الشهوة ويجعلها خاضعة للحب.

الجسد يذهب إلى حيث يشاء. فإذا نزل الحب عليه يجعله إنسانيًّا لأنه يقيمه في علاقة إنسانيّة. الحب شخصي، يجعلك شخصًا بعد أن كان جسدك شيئًا من الطبيعة. كنتَ تلقى أجسادًا. تصير الآن في لقاء وجه. الحبّ والجسد يتواصلان. كلّ منهما يمكث في الآخر ولا يفترقان.

وإذا احتدم الحب يصبح هوى. الإنسان تحت وطأة الهوى يخسر حريته. الهوى جارف يستولي على الآخر حتى الاستعباد. الشخص الآخر يصير الكون كلّه، معبودًا كالإله أو كأنّه الإله. هذا هو الدمار لكل اتّزان.

أمَّا المسيح إذا حلّ فيعيدنا إلى التوازن. يلغي الهوى الجارف ولا يلغي الحب. يزيل الأنانية، الاستبداد الذي يحكم العاشقين. يعيدهم إلى الحريّة الداخليّة. تخمد النار. يبقى الحب نورًا. ينتظم الجسد.

عند ذاك نحب الحبيب كما المسيح أحبّ الكنيسة. المحب يبذل نفسه عن شريكه، يعلّيه. يتطهّر به ويطهّره. يموت من أجل الآخر. العاشق يميت الآخر. الـمُحب يعاهد حبيبه كما عاهد المسيح الكنيسة أن يبقى لها حتّى نهلية الأزمان. المحبّة إذا انسكبت في القلب فالروح القدس فيه. يحب الناس بالصّداقة، بالخدمة، بتضحيات لا تُحَدّ. الحب بين الذكر والأنثى، إذا صفا حتّى يصير انعكاسًا لمحبّة المسيح لأتباعه، هذا الحب ليس شيئًا آخر عن المحبّة التي نادى بها يسوع يُضاف إليها احتضان وحميميّة وعلاقة تعاش على صعيد الجسد حتّى الموت. وهذا ما نسمّيه الزواج.

فإذا عاهدنا بالمحبّة الدائمة شخصًا من الجنس الآخر وساكناه بلا أن نملي شرطًا عليه ما عدا المبادلة يُسمّى هذا زواجًا. الزواج هو المحبًة التي تعمل في اتّجاهين ويذوقها الكائن البشري من حيث هو مركّب من نفس وجسد. ينشأ الحب لأنّه قوّة. تشرف عليه المحبّة الإلهيّة. عند ذاك يقيم المحب والمحبوب معًا في مشروع عطاء دائم يزول مع الموت أو لا يزول حتّى يجيء المسيح ثانية ويتزوّج الكنيسة العروس في ملكوت أبيه.

Continue reading
1991, جريدة النهار, مقالات

المهجّرون أيضًا وأيضًا / جريدة النهار / السبت 16 تشرين الثاني 1991

هناك أنواع وجود هي ذلّ وقمع. منها ظاهرة التهجير التي ما من مسوّغ لاستمرارها. وقد يوفّق الله الحاكمين إلى ما فيه التنفيذ وبدؤه قرار العودة. لماذا لا تحسم الحكومة الأمر؟ فإن قالت إنها عاجزة الآن لأمر يتعلّق بالجهوزيّة العسكريّة فلتقلها لنفهم. فالعجز مرفوض ومن الصمت ما يعذّب.

يريدونها مناقشة وطنيّة واسعة بها تفتدي الحكومة نفسها. إذ ذاك نحن أمام رجاء قابل للتحقيق لئلاّ تتحوّل الهجرة إلى توطين خارج المناطق التي اضطررنا إلى النزوح عنها فيصبح الإنسان غريبًا في وطنه، مخلاً بالبنية السكانيّة ومجروح الكرامة.

ولست أظنّ أن أحدًا يحلم بالفرز السكانيّ ولو تعالت أصوات تزكّيه في ما مضى من هذه الحرب التعسة التي شنّتها علينا الجحيم. لماذا يتغنّون بالعيش المشترك الذي أقمناه في الجبل منذ ألف سنة ونحن عليه في الساحل منذ ألف وأربعمئة سنة. والطبائع اللبنانية سمحاء برغم جروح تحلّ وينساها أهل الغفران وطلاّب الحياة الجديدة.

وعندنا لا تسنّ فئة من فئاتنا القانون ولكن الدولة تشترع بعدما وضع السلاح ذووه فهذا أمر لا تحكمه النزوة ويعود على الجميع بالنفع العميم وما قال أحد إنه يسعى إلى إعادة أهل منطقة واحدة والصلح يقوم على استرجاع الجميع أرزاقهم وهي حقّ قالت به شرعة حقوق الإنسان وتقول به أدياننا قبل الشرعة. والصلح يقوم على العمل وعلى عمق روحي نتمنّى أن يكون هو المعيّة وقد نشأنا على أن قدر الكلّ أن يعيشوا مع الكلّ يشاطرونهم قسوة العيش والمصير الواحد. وإذا كذّبتْ الوقائع هذه القناعة فما أمامنا سوى البحر. هل هذا ما يرضاه دعاة الوطنيّة؟ فلنبدأ بإقرار الحقّ القائل إن اللبناني له أن يسكن حيثما يحلو له وإن عودة المهجّرين ما هي سوى وجه من حقّ الإنسان أن يلازم الأرض التي يشاء وهي في السجلّ العقاريّ تخصّ من تخصّ وكان مأخذ الإنسانيّة المتحضّرة على ستالين وهتلر أنهما نقلا سكان بعض الأراضي إلى أراض أخرى ابتغاء سياسة حزبيّة أو تفريق عنصريّ.

ومن خاف على زعامته فهذا شأنه. غير أننا نذكّره أن خير سياسة تؤول إلى المعايشة الكريمة وأن الديموقراطيّة آن أوانها وأنها مراس يوميّ يقوم به الكلّ ومع الكلّ ذلك لأننا معًا في رعاية الله الواحد ولا رقيّ لجماعة منّا بلا الجماعة الأخرى. وما أعطيت فئة منفردة وحدها الانتاج اقتصاديًّا كان أم ثقافيًّا. ولنا الدهر حتى يأنس القلب للقلب وأداء الشهادة.

⃰   ⃰   ⃰

وقبل أن تتوطّد القلوب على الإيمان بالوحدة كان علينا أن نبدأ بالتصميم وبالتصميم الملحاح تنفتح القلوب وتعود الوجوه إلى الوجوه في الصفاء ونتقابس وأنا موقن بأن كلاّ منّا يستحق الترحاب بالآخر لأن «المحبّة أقوى من الموت» ولنا أن نتوق التحاب وهو ذروة العدالة. والحبّ قبل كلّ شيء السماحة وأن ننسى الماضي لئلاّ نبقى سجناء التاريخ. ذلك أن الكبير يرجو للإنسان الآخر كل فلاح ويؤنسه في وحشته. وإذا سلكنا معًا سبل حضارة عظيمة وأبدعنا معًا وسائل الرقيّ فهذا يحجب عنّا ذرائع الخصام وننشئ الإنسان الجديد على الحرّيّة. فإذا جلسنا معًا إلى موائد الأرض نرى أن الأرض لنا جميعًا وأن الله يرزقنا ما نشتهيه وأن للجميع مأكلاً ومشربًا.

وإذا ساغ الكلام عن أهل الجبل فليس لأنهم الأفضلون ولكن لكونهم العدد الأكبر ونحن مستعدّون للتأمّل في عودة كل جماعة إلى الأمكنة التي كانت فيها بحيث نراعي التوازن في الرجوع وجدولة الرجوع وليس لأهل الجبل رغبة في منافسة أحد زعامته وما نافسوا فعلام يخشون؟ وهل من منطق لجعل الجبل قليل العدد وألا يثمره أبناؤه جميعًا؟ وأيّ عقل يقول في هدأته إن الجبل إذا حكمته الدولة يقوم على طائفة واحدة مهما عظمت مواهبها وإن الكثرة ينبغي أن تتشتّت بلا عمل ولا دخل وأن تزيد كثافة المناطق الأخرى ونحن نؤمن بأن في تلاقي الجماعات سرّ نجاحها وأن اللقاء السمح هو ما يجعلنا نزيل عن جبين لبنان عار نفور نعرف من غذاه.

ولعل أهل العار الأعظم أن نجعل من آلام المهجرين بعضًا من صفقة شاملة. من هم أطراف هذه الصفقة؟ فعندنا من جهة بؤس شديد وخطر متفاقم ويأس من الوطن. ويقابل ذلك منافع في الأرض ومجد في الأرض. أي نحن أمام تواز بين إنسانيّة مهيضة الجناح يعذبّها تقاعس الأمّة كلّها ومطمح سياسي. نحن نعرف أن ليس من تاريخ أبدي لطائفة على حساب طائفة. فليسكر كل بماضيه على ألاّ نموت بسببه أو نفرح جميعنا في عيش واحد يسوده من استطاع.

وإن كان لا بدّ من ميثاق فها هو مضمون في وثيقة الوفاق الوطني. إنها ترعى بنية البلد وتلاقي أبنائه بحيث لا يقوم لبنان على التمييز بين وطنيّة هذا ووطنيّة ذاك وبحيث نتسابق في العطاء. فإن كان من ميثاق فإنه يبدأ بالسلام الاجتماعي، هذا الذي فهمته دول أوروبّا بعد تناحرها. فالأوروبّي سيحل حيثما يحلو له ويعمل حيث يستطيع العمل. أما نحن فنخطّط بين قضيّة روحيّة كبرى هي قضيّة المستضعفين في الأرض وقضيّة تجاوزها الزمان أعني قضية التوازن بين الطوائف.

⃰   ⃰   ⃰

وإن كان من حوار بيننا فهو في أمر الإعمار. هذا شأن الدولة أكان هذا بالتسليف أم بطريقة أخرى. ولكننا لا نتوقّع أن تعوّض الحكومة من خسر. لا أعرف سابقة لهذا في العرف الدوليّ. نحن نقول إن الأمن أسبق من الإعمار وإننا نستطيع في ظلّه أن نعود لئلاّ يتعرّض البلد لنكسات. وإعمار القرى المهدّمة لا يسبق العودة لأن تمامه يقتضي سنوات عدّة نكون قد عرّضنا فيها الـمُهجّر لهجرة ثانية عن البلد أو أن يصبح أداة خلل وتخلّف. وهل يسلم الجبل الدرزي إذا سقط السلام الاجتماعي في كل أرجاء الوطن؟ الحديث في الإعمار شرطًا للعودة إلهاء وألهية. الإعمار عندنا فيه الحدّ الأدنى والحدّ الأقصى. نحن قادرون وحدنا على الحد الأدنى الذي يسمح لكل مواطن بغرفة على رزقه ينطلق منها. أعيدوا إلينا الرزق نعطكم عمرانًا بأيدينا وكفانا الله شرّ التسويف وشرّ تسييس لا حوار فيه ولا حنان.

Continue reading
1991, جريدة النهار, مقالات

المهجرون / جريدة النهار / السبت 24 آب 1991

هناك خيارات صارت النفس اللبنانيّة تمجّها: التقسيم، التقاسم، الانغلاق المناطقي لقناعة أهلنا بالعيش المشترك. هذا هو الواقع الوحيد الذي نتعامل وإيّاه. يقين الوحدة – ظاهريّة كانت أم عميقة الجذور- بات مكسبنا الراهن ولم نبق أسرى لتنظير أفرزته تلك الحرب التي لا أعرف واحدًا يزكّيها اليوم. لسان حال الجميع أننا طرحناها من تاريخنا ولو كان لنا أن نتّخذ منها عبرة. إنها إذن وراءنا كالكابوس المزعج.

في هذا الإطار النفسي بات تبريرنا للعودة أعظم من الأمنية. إنه منطق تاريخ نتحسّر عليه وتاريخ مشرق نرجوه كأن الرجاء هذا مدخلنا إلى الراهن. نحن لا نجهل أن الأماني شبه الراهنات تدقّ باب اللعبة السياسيّة الدوليّة. واللعبة تجري ضدنّا إن ربطوا قضيّة العودة بقضية لبنان الشاملة وإذا ربطوا هذه أيضًا بقضيّة الشرق الأوسط. نحن رجاؤنا أنه لا يسوغ تسييس شأن المهجرين ولا يجوز إغراقها بالشأن اللبناني الكامل.

نرجو أن يعود الاتّحاد السوفياتي إلى ما كان من حوار مع العالم لئلا نُرمى في سلة المهملات إلى حين. لعلّه إذا خرج إلى الحرّية والتجدّد واستعاد «إعادة بنائه» و«الشفافيّة» يستطيع أن يعتبرنا بعضًا من شرقه فلا يبقى علينا سيف الإهمال مصلتًا.

الوضع المترجرج في أوروبّا الشرقيّة يؤذينا. ولكنّه لن يغيّر في الموقف السوري أو في التوقيت السوري ولن يبدّل في موقع إسرائيل شيئًا. ومن الواضح أن كلّ تباطؤ في تنفيذ القرار الـ 425 سيؤذي العودة والراغبين فيها.

أما نحن فعلى انهزاميّتنا المألوفة أمام الضغط الدوليّ لا نستطيع انتظار المنّ والسلوى من الخارج. وأما إذا آمنّا بأنفسنا أصحابًا للقضيّة فنجعل أنفسنا العنصر الحاسم فيها. لكن لهذا شرطًا واحدًا: أن نقبل الآخر الذي جعلناه آخر في تهجيره صاحب الحقّ الوحيد في العودة. الذي لم يغادر ليس هو المضيف وإذا حسب نفسه كذلك فهو من مرحلة الحلّ. وهذا يتطلّب تغييرًا كلّيًّا في القناعات وأولاها أن يخرج الإنسان من أي شعور له بضرورة سيادة طائفة معيّنة على بقعة من البلد أو على كلّ البلد.

⃰   ⃰   ⃰

لأن اللبناني قبل الحرب لم يستوعب ضرورة كلّ الجماعات في إلفتها اخترع لنفسه آحاديّة هنا وثنائيّات هناك. لا شكّ أن الديموغرافيّة تعذر هذا الإحساس وهذا التصرّف. ولن تتلاشى غدًا التراتبيّة التاريخيّة والسياسيّة التي جعلناها في النفوس والكتب. لكن الوحدة المرتجاة هي عينا هذا أن نسعى إلى أن طائفة واحدة لا تقرّر مصير أيّة بقعة كان لها تاريخيًّا عليها سيادة وأن هذا التاريخ الجزيء لا ينبغي أن يكون الأهمّ والحاسم في مصير لبنان. الطائفيّة التي نشكو منها ليست فقط طائفيّة الانتخابات وتوزيع المناصب. هذه يمكن نظريًّا أن يقلّل الإنسان من حدّتها إذا ذهبنا فيها حتى العبثيّة أو السخف.

الطائفيّة الفتّاكة هي التي نعيشها في الذاكرة التاريخيّة بصورة سلبيّة. من يحيا انتسابه الديني بلا استعلاء أو شعور مرضي بالمظلوميّة؟ من يحيا مع غيره لا ضدّ غيره؟ مثال على ذلك وحدة الجبل الذي إذا أدرك نفسه وحدة أقليّتين تتسالمان حينًا وتتقاتلان أحيانًا حسب ناموس إيقاع زمني لن يعيش طويلاً. فالآحاديّة الدرزيّة إذا استقرّت عند أصحابها قرار عيش أبدي تستدعي آحاديّة مارونيّة متمردّة في الجبل وحاكمة في كل الجمهوريّة. جسم الشوف نعالجه بمفاهيم أخرى أو يحمل سمات معطوبيّة دائمة. المحاورون في الشوف كما في مختلف الأنحاء إن لم ينطلقوا من التقاء الجميع على الحرّيّة والتنوّع والتعدّد لن يكون للعائدين مقرّ في السلام لأن السلام تحديدًا هو التعالي عن كل ما يهمّش الآخر ولا يجعل له إقامة هنيئة في الحياة الوطنيّة.

في التعبير المسيحيّ، ليس من قيامة إلا من بعد موت ومعنى ذلك على الصعيد العامّ أن موت أنانيّات الطوائف شرط لانبعاثها معًا في لبنان الجديد.

وقد يعني موت الطوائف ألا ترى بالضرورة إلى تراصّ كل واحدة شرطًا للتراصّ العامّ. من زاوية الإنجيل كثيرًا ما يكون هذا على حساب الوحدة الروحيّة والوعيّ الروحيّ. التناثر الداخلي إذا عنى الغنى الثقافيّ والانتماءات العقليّة والحزبيّة المختلفة قد يكون دربًا إلى الانصهار الوطنيّ. انتشار طائفة في كل ولاء سياسيّ يعتبر في البلاد الراقية علامة نضج فيها. فإذا كانت الطائفة كالبنيان المرصوص فيعني ذلك غالبًا انقيادًا للزعامات القائمة بلا روح نقديّة. والحرّيّة من هذا القبيل ألاّ تفكّر بالضرورة مثل من انتميت إليه روحيًّا أو حضاريًّا. هي أن تنسلخ أمام أفق إنسانيّ جديد عن عشيرتك لتلقى فيه من كان قادرًا في نضجه في الخندق الأخير على أن ينفصل هو أيضًا عن عشيرته.

وقد يكون الانقسام الداخلي هذا، السليم والمسالم، شرطًا لنشوء وحدة جديدة في أعماق الحياة الروحيّة. البغض في البيوتات والزعامات لا التنّوع في الالتزام السياسي كان المصيبة في الطائفة – العشيرة. التبعثر، القلق كان المرض الروحي ولا أدعو إليه لكن التناثر الملتقي الآخرين دعوة تأتي من الإخلاص وتدلّ على أن ما يوحّدنا هو الإحساس اللبناني الشامل ومعه هذه المشرقيّة المنفتحة التي تحرّرنا من حكم القبائل.

المجموعات الثقافيّة – الاجتماعيّة في روح الحرّيّة هي شرط السياسة الوطنيّة التي لا تربط منطقة بحكم طائفة أو ثنائيّة طائفيّة.

⃰   ⃰   ⃰

هذا التوجّه وهذا الأفق هو الضمان الأخير لبقاء العائدين إذا عادوا لئلاّ يكون فرحنا منطلقًا من مجرّد تجربة تنهي مرحلة الضياع إلى حين. أيّة نفسيّة تنتظرنا عند الجوع وأيّة نفسيّة تبنا إليها عند الرجوع تلك هي المسألة. أيّة قناعة روحيّة سوف تجمعنا؟

في بركات هذا العهد إذا اتّخذناه كانت العودة واجبًا وكانت حقًّا، واجبًا على من أقام وحقًّا لمن نزح.

الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الموضوع هي حقوق الإنسان أن يسكن حيث يشاء. هذا حقّ طبيعيّ تخضع له السياسة وليس من تفاوض حول هذا الحقّ. وقبل الحديث عن الإعمار وإمكاناته لا بدّ لكل المراجع أن تعلن حرّيّة العودة لئلاّ تفقد هذه المراجع صدقيّتها.

هذا بلد الإنسان ولا قيمة له إلاّ في هذا لئلاّ نكتسب «طبائع الاستبداد» تلك التي يقرّر أصحابها نقل السكّان الاعتباطي. إن التركيز على الإعمار هرب من إعلان هذا الحقّ الطبيعيّ. اللبنانيّ يعرف أن يعمّر إن قلت له: هذه أرضك فاستلم وحميت له أمنه. أعطه حقه في أن ينصب خيمة عليها. هكذا فقط قد يقتنع أنه ليس في مهبّ الريح ولا يخضع لمزاجيّة أحد.

Continue reading
1992, جريدة النهار, مقالات

الدولة، الثقافة، الحرية / جريدة النهار / السبت 7 تشرين الثاني 1992

المؤسسة على خطرها قناعة. قناعة لأنها قبول فلسفي بأن العقل القانوني والهيكلية السياسية ينجيان الإنسان. انها الاعتقاد بأن «لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب» وكأن القرآن يوحي بأن هذه القوة التي نسمّيها اللب وهي جامعة بين القلب والعقل انما تتربى إذا خضعت لما يبدو مصطلحا مجتمعيا ولكنه في الأصل من رواسب القانون الطبيعي أو الشريعة الإلهية وما جاءت الأعراف أو السنن الا لتسكبه في قالب.

صحّ ان كل شريعة إكراهية ولكن الإكراه ليس القهر. يصبح الإكراه كذلك ان أنت أحسست ان الشريعة متعسفة ولكن المعقول والمرتضى ان ليس في الشرائع عسف هذا قبل ان يلغي لينين «دولة القانون» ويدخل اعتباطية اللجنة المركزية للحزب أي حرية التفسير للأدلوجة – الآيديولوجية – كما عربها علي حرب. ائمة الأحزاب هم المرجعية في ما يؤول إلى انطباق الأدلوجة على الواقع البشري. ولكن سمو الدنيا القانونية في حرصها على ان القانون بعامة ينظر في مصالح الناس وانه حيز الإنصاف الطبيعي في ما خلا حالات استثنائية جدا. ذلك ان القانون ليس غريبا عن الحقيقة المطلقة وان كان أدنى إلى الفائدة المجتمعية التي هي فائدة الأكثرين.

ان طبيعة الإنسان العقلية واعتقاداته وتطوره التاريخي هي العناصر التي يستلهمها الشارع ليحدد حقًّا وضعيًّا في ما ترجمناه عن الفرنسية بما كان أجمل منها لأنه يناسب وضع الجماعة. الانطلاقة ان أهل التشريع يضعون أنفسهم أو يتواضعون ليروا إلى أحوال الرعية ويراعوها وتاليا يرعونها.

ان هذا الموقف يفترض عند المواطن ايمانه بالدولة من حيث انها ذلك الجسم المجتمعي المفوض اليه رعاية الناس وإكراههم على أمور عدة: دفع الضرائب، خدمة العلم، قبول الأحكام القضائية، التقيد بالقانون. ويفرض قبل ذلك اقتناعًا روحيًّا بأن للإنسان في ذلك تهذيبا ورقيا وحماية وتنمية وان في ذلك شيئًا إلهيا بسبب من مجرى التاريخ البشري من جهة وبسبب ما فينا من لب يتجاوب والمجرى التاريخي لما ينفعنا ليس فقط في دنيانا ولكن في الآخرة. كان بولس الرسول على هذا العمق لما كتب: «ليخضع كل أمرئ للسلطات التي بأيديها الأمر، فلا سلطة الا من عند الله، والسلطات القائمة هو الذي أقامها» (رومية 31: 1). ليس في هذا شرعنة لكل حكم قائم ولكنه التسويغ الأساسي لفلسفة الحكم وقهريته. من هذه الزاوية حياتنا في الدولة ليست مجرد اصطلاح توافقنا عليه من أجل ترتيب أمور دنيانا. انـه انتظام إلهي ولو كانت الوسيلـة البشريـة للتعبيـر عنـه الحقـوق الوضعيـة. الإلهـام الأخير إلهي أقلنا ان لله أحكامًا محددة في الجزئيات كما في الإسلام ام قلنا ان فكرة انضباطنا وتفعيله صادران من الله.

***

هذا ما نسميه المؤسسة في الحقل السياسي وان كان مدلول الكلمة اعم. المؤسسة تعني أننا بعد ان تبينا الحق الوضعي وموضوعيته نوقن أيضًا ان القضاء والإدارة القائمتين على الحقوق الموضوعية انما تكون علاقتهما مع الأهالي موضوعية أيضًا. أي ان ثمة إقصاء عوامل الانفعال في الصلة الرسمية ذلك لأن هذه العوامل تشوه موضوعية القضاء والإدارة بحيث يتجاوز الإنسان العقل ليتخبط بالغريزة والدوافع الآتية من الزعامات والعائلية والطائفية إذا أردنا تسميات نعرفها كثيرًا في وطننا.

من يتصرف غريزيا لا يؤمن بسيادة العقل على العلاقات البشرية ولا يعرف الفرق بين ما يوافق الشرع وما لا يوافقه ولا يرى ان خير ما نقدمه لمواطن ان نهذبه بتذكيره انه إذا أحس بأن له منفعة آنية من المخالفة فإن له منفعة دائمة بطاعة أهل التشريع والحكم في الأمة.

هذه الموضوعية هي في ان يرى المسؤول والمواطن نفسيهما في علاقة تتجاوزهما تفرضها مصلحة الجماعة، كل الجماعة في مراعاة الحرية والعدل معًا. خلاف ذلك الفردية الفاتكة في هذا البلد وخلاف ذلك رؤية الطائفة متحدًا كافيا نفسه. العدل بارد إلى حد بعيد لأنه يرى ان القيم تسوس الناس جميعًا ويرى العاطفة ضمن السياسة. ولكن ما يجعل المؤسسة ليست كلية البرودة هو الأبوة الحاضن للعلاقات. وهنا يأتي دور القوى الروحية الفاعلة الشاهدة لأن الحكم يصبح شيئيًا ان خلا من الشعور. فالإدارة يصلحها الملح كما يقول الإنجيل أي تلك النكهة الشخصية التي هي نفحة الإدارة الكبيرة والقضاء الكبير فالعدل في ذروته يصبح محبة والوطن يصير عائلة. هذا ما عرفه الملوك العظام والذي يمكن ان نذوقه في حكم الشعب الناضج. وهذا يمكن ذوقه في كل مراتب الإدارة. فالسياسة لهفة اي انها تدبر شؤون الناس كما الناس هم. والسياسة اختيار للأولويات والأولية للفقراء وما يعانون منه وذلك لا ينتهي بإطعامهم وتطبيبهم وإيوائهم وتدريس أولادهم ولكن السياسة تثقيف.

***

هنا لا بد لي من الاغتباط بأن حكومة السيد رفيق الحريري انشأت في ما أنشأت وزارة للثقافة والفنون الجميلة طالمـا تمنينا ظهورها واسندتها لرجل يزداد إعجابي بـه ما سمعت اليه بسبب مـن المعرفـة الدقيقـة التـي يكشفها لنا. ميشـال إده رجل موسوعي يذكرني كلما اجتمعت اليه بهذه الآية النبراس في القرآن: «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون». ومن وراء المعارف له هذا اللب الذي يذكرني بكلمة السيد في إنجيل يوحنا: «تعرفون الحق والحق يحرركم». اعرف في آخر المطاف ان الثقافة يمكن ان تكون ترفا ولكن ان تواضعت لها أيضًا ان تصبح عتبتنا إلى الحقيقة التي تعوز شعبنا كثيرًا. المطلوب من وزير كهذا ليس أقل من ان يصبح أبا للبنانيين على صعيد العقل وعلى صعيد الذوق أي في مجال القلب ذلك ان كل شيء قلب كما علّمنا المتصوف النفري.

ومغامرة تثقيف هذا الشعب جعله شعبًا جديدًا على قدر نعمة الله عليه وعلى قدر اجتهاد لنا كبير. ويعني هذا أولاً تقويم أخلاقنا وشدنا إلى إيمان نتغلب به على عيوبنا التاريخية. بالمعرفة المنجية نخلص من المركنتيلية ومن الاستلذاذية لندخل في سر العطاء وسر الإبداع إذ ليس من فصام ممكن بين قبول الأشياء العظيمة والمناقبية. هل تكون سيدي الوزير رسولاً؟ هذا يستوجب الإحاطة بالرساليين والخلاقين في كل ميدان وتنقية لكل أساليب التعبير عندنا ولا سيما وسائل الإعلام وللوزير هيمنة كاملة أو ليس هو بشيء. رفع الذوق اللبناني ورفعنا من حضارة الأكل والاستهلاك حتى تمتصنا الحقيقة بالحب الذي لها ان تنشئنا عليه وتدخلنا في التراث العالمي منذ سقراط حتى يومنا هذا وذلك بلسان عربي مبين، ذلك كان التكليف.

المبتغى أن نعرف كل شيء بدقة كما يعرف ميشال إده، ان نصبح أحرارًا في دواخل النفس بلا ضغط السياسة وقهرها، ان نعمل كل ذلك معًا «لئلا يهلك منا أحد» ولا يصير في بلده نسيا منسيا. والثقافة روافد التراثات القائمة عندنا تنصب معا في ما نشتهيه ميراثا لهذا البلد واحدًا. لم يعتد اللبناني ان يكون مسجلة فهو في الخطاب العربي رائد وإذا لم تعِ العروبة ذلك فانها لا تكون واعية لنفسها ولا تكون ذات مضمون. فالثقافة حمسة ولو لم تستغرقها الإنشائية الحماسية. الثقافة طاعة للجمال والطهارة مقترنين. روحها الحرية التي تبدع وحدها مسؤولة أمام نفسها كما ذكرنا بذلك غسان تويني في جامعة البلمند الأسبوع الفائت.

ان السيد الحريري بتأسيسه هذه الوزارة للمرة الأولى في تاريخنا دل على اننا نجتمع حول الفكر ولا يجمعنا اللغو ولا المجاملة. الحالة اللبنانية ليست الآن إلى الوحدة إذ لا نستطيع ان نقيم الا في الثقافة الكبرى أي في التنوع والغزارة خارج طغيان الوحوش السياسية. ان ندرك مسؤولية الكلمة التي تخرج من فم الإنسان وتطهره وتنتج ما تقوله تلك هي المسيرة التي تأخذ في طريقها كل اللبنانيين. ذلك ان الوفاق الوطني وفاق على الكلمة الحلال وتلك المشاركة التي لا يهمَل منها أحد.

أرجو الا نكون قد دخلنا في وفاق – نفاق يقوم على قهر تاريخي بإلغاء هويـة جـزء مـن الأمـة كبيـر. والإذلال ممكـن تحـت التعـابيـر التـي ظاهـرهـا وحقيقتهـا طغيـان. ان «طبائع الاستبداد» فـي لبنان غـدت باديـة، صارخـة بالرغـم مـن خطب الرئيس الياس الهراوي. والناس يأكلون ويبيعون حريتهم. هذا هو الإغراء الذي يحذرنا منه دوستويفسكي في اسطورة المفتش الأعظم. لن ندفع ثمن الحرية طعامًا يعلفوننا به. شاؤوها دولة المطعم بعد أن أذاقونا الجوع. الموت أشرف حتى تحل أعجوبة الحرية في فجر اليوم الثالث.

Continue reading