جلجلة أثيناغوراس[1] / الأحد 25 نيسان 1965
[1] لمناسبة التضييق على البطريرك أثيناغوراس.
«وكان قومٌ في اليونانيِّين منَ الذين صعدوا ليسجدوا في يومِ العيد، فأقبلَ هؤلاء إلى فيلبسَ الذي من بيت صيدا الجليل، وسألوه: يا سيدُ، نريدُ أن نرى يسوعَ. فجاء فيلبّس، وقال لأندراوسَ، وأندراوسُ وفيلبس قالا ليسوع. فأجابهما يسوع، وقال: قد أتَتِ الساعةُ التي يُمجَّدُ فيها ابنُ البشر» (إنجيل يوحنّا). ومنْ سياقِ الكتاب كلِّه يتَّضحُ أنَّ مجدَ المسيح كان في آلامِهِ. وإذا عَيَّدَ المسيحيُّون للقيامة، فإنّهم غيرُ ناسِين أنَّ يسوعَ القائمَ منْ بين الأموات كان موسومًا، في جسدِهِ المجيد، بطعنةِ الحربة وآثارِ المسامير. ذلك لأنَّه الشهيدُ إلى الأبد. وله ذريَّةٌ منَ الشهداء، على كلٍّ منهم ينطبق ما قِيل عنه: «كشاةٍ سِيقَ إلى الذبحِ، وكحمَلٍ صامتٍ أمامَ الذين يجزُّونَه ولم يفتحْ فاه» (أشعياء).
بمثل هذا الصفاء، استقبلَ أثيناغوراس العظيمُ الفصحَ العام الفائت. وكانت حكومةُ بلادِه أخذتْ بالتضييقِ عليه. أجل، أسقفُ القسطنطينيَّة يحملُ الجنسيَّةَ التركيَّة، وكذلك الإكليروسُ الذي يعاونُه. لقد أرادَ أنْ يمحوَ الأحقادَ بين المنحدرِين من أصلٍ يونانيٍّ والأتراك محوًا نهائيًّا لـمَّا دان بالوفاء الكاملِ لدولةِ بلادِهِ، وذهبَ به الوفاءُ أنَّه أمرَ بتزيين المؤسَّساتِ «اليونانيَّة» في استانبول السنة الـ1953 لـمَّا عيَّدتْ تركيا لمرورِ خمسةِ قرونٍ على فتحِ القسطنطينيَّة. شاءَ الحبرُ الكبيرُ بذلك الانقطاعِ الكلّيِّ عنْ كلِّ ذكرى لدولة الروم. وقد كافأهُ، بعد هذا بسنتَين، مندريس بإحراقِ الكنائسِ، وقد ثبتَ ذلك من محاكمتِهِ.
يريدونَه، إذًا، كبشَ محرقةٍ للوصول إلى مكسبٍ سياسيٍّ أو لإرضاءِ الجماهير الساخطة على حكمٍ متهرِّل. «اصلبوه اصلبوه». دائمًا، يستطيعُ أيُّ مفتِّشٍ ماليّ أنْ يجدَ خطأً في الحسابات. دومًا، يقدرُ شرطيٌّ بليدُ الذهن أنْ يفسِّرَ عظةً أو مقالاً لاهوتيًّا بصورةٍ تستوجب مذكَّرةَ جلبٍ أو حكمَ إبعاد. وبالطبعِ، لا خطرَ على الأمَّة التركيَّة إلاَّ هذا الشَّيخ الفائض وجهه بغمراتِ الفرح، والذي يجسِّم الجلال على أبهى طلعة. مَن عرفَ براءةَ الأطفالِ عند البطريركِ المسكونيّ ومهابةَ البساطة، فكيف يفهم أقوال إحدى صحفِهم أنَّه «يشكِّلُ خطرًا على تركيا أكثر من قبرص».
تهمة الخطر على أُمَّةِ اليهود أرسَلَها محفلُهم العاتي على المسيح. ومات السيّد، في الأساس، لذريعةٍ سياسيَّة. ألعلَّ تركيا، العضو في هيئةِ الأمم، تقول بالعنصريَّة كما تقولُ بها إسرائيلُ وحكومة أفريقيا الجنوبيَّة؟ مملكة اليونان ترفضُ العنصريَّةَ، لأنَّ المنحدرِين فيها منْ أصلٍ تركيّ يتمتَّعون بحرّيَّتِهم الدينيَّة والثقافيَّة كاملة. وبلاد اليونان لم تعترفْ بإسرائيل.
جريمةُ أثيناغوراس أنَّه وجهٌ مطِلٌّ على العالم، غدا اسمُهُ قرينَ السلام. فهل هو مسؤولٌ إذا كان سليلَ هوميروس وسقراط وأفلاطون ووريثَ شعبٍ أَعطى الدنيا العقل والجمال. ذوو أثيناغوراس عاشوا، في الأناضول، قبل الميلاد وقبل غزو القبائل المغوليَّة لآسيا الصغرى. هل خطيئةُ هذا الإنسان، الذي جعلَ اللهَ في قلبِهِ «رأفة ورحمة ورهبانيَّة»، أنّه وريثُ بيزنطية التي أضاءتِ العالمَ ألف عام؟ وهل يسوءُ الترك أنَّ هذا الضياءَ قد تجمَّعَ، بعد سقوط القسطنطينيَّة، في حيٍّ شاءَتِ الأقدارُ أنْ يُسَمَّى حيّ الفنار! إنْ كان للترك شيءٌ منَ الكيان على مستوى التنظيم والإدارة قبل أتاتورك وبعده، فكلُّه وليد هذا الشرق وأوربا. وكلاهما، على صعيدِ الفكر الإنسانيّ، نابعٌ منَ الإغريق.
بعد ساعاتٍ، سيُنشِدُ المرنِّمون في كنائسِ استانبول: «المسيح قام»، وسيقيمُ أثيناغوراس الذبيحةَ الإلهيَّةَ وقلبُهُ مفعمٌ بالمحبَّةِ الكاملة لحكومةِ بلادِه. سيكونُ جليلاً كالأنبياءِ والتاجُ كإكليلِ شوك. سيأخذُ شمعةً مضاءةً ويهتف: «هلمُّوا خذوا نورًا منَ النور الذي لا يعتريهِ مساء». قد يكونُ هذا فصحه الأخير على ضفاف البوسفور. ولكنَّنا ما نزال نرجو، ونحن في غمرةِ العيد، ألاَّ يقضي الأتراكُ على آخرِ أملٍ لهم في أنْ يُعَدُّوا مواكبِين للحضارة.
Continue reading