Monthly Archives

September 2012

2012, مقالات, نشرة رعيتي

الرحمة / الأحد 30 أيلول 2012 / العدد 40

القاعدة الخُلُقية التي تنفّذ بها محبة القريب هي أن نُعامل الناس كما نريدهم أن يُعاملونا. المساواة بالمعاملة حدّ أدنى في التلاقي الوجداني والعملي. ويوضح السيد هذه القاعدة فيقول: «إن أحببتم الذين يُحبّونكم فأيّة منّة لكم». المطلوب منك فوق ذلك أن تعطي أكثر مما تُعطَى. المحبة هي أن تبذل الكثير مما عندك وأن تحبّ بلا حدود.

هذا ما عبّر عنه السيد بقوله: «أَحبّوا أعداءكم». أنت لا تسأل عن صفات حسنة في الآخر حتى تحبّه. أنت لا تحبّ حسنات فيه قد توجد وقد لا توجد. تحبّه كما هو في سُموّه وهبوطه، اذا ظهرت لك فيه مودّة أو لم تظهر. لا تحبّه لكونك استلمت منه شيئًا، وتحبّه اذا حرمك عاطفة منه كنت تنتظرها.

ثم يقول: «أَحسنوا» دون تحديد وجهة الإحسان أو شكل الإحسان. يبدأ الإحسان بالانتباه إلى الآخر، بالنظر الى حاجاته ولا سيما اذا كان قريبا. إن كنت لا تعرف حاجاته اسأله عنها وتدبّر أمورك حتى تجدها له. قد تكون حاجاته مادية وقد تكون معنوية.

إن لم تقدر أن تعطيه مالا لكونه غير متوفر لديك، فأنت دائما قادر أن تعطيه قوّة معنوية او تعزية إن كان حزينا او أن تزوره إن كان مريضا. أحيانا يفضّل أشياء كثيرة عن المال.

أحسن ليس فقط في الكلام ولكن في تبيان صداقتك. لا تبعد عن صديقك لئلا يظن أنك تباعدت عنه في عاطفتك. الكون كله يقوم على القربى. فمن نسيك أو تناساك بادر الى العودة اليه لكي يستعيد الدفء ولا يحسّ بالعزلة. العزلة شيء مرير ومحزن.

دائمًا أَعطِ الآخر فرحًا حتى لا ينتابه يأس ولا يقع في شدّة معنوية. داوِ كل شدة في كل إنسان تعرفه لكي يرى بفضلك وجه الله.

ويختم الإنجيل هذا المقطع بقوله: «كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم».

الرحمة سعي الى إنقاذ الآخر من كل شدّة ومن كل تجربة الخطايا. الرحمة هي السعة وضم الآخر إليك وبك إلى ربّه. من أَحسّ برحمة الله لا يبقى في الضيق. تتسع نفسه الى كل الخلائق. تقبل كل الناس. تغفر لمن أساء اليها.

الرحمة تجعلك واحدًا مع كثيرين، وتجعل الآخرين موحّدين بالله ومالكين الفرح.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الحملة على الاسلام / السبت 29 أيلول 2012

لماذا هذه الحملة المسعورة على الاسلام من قبل الغرب؟ اذا أردنا ان نعقل الأمور بلا تأويل نقول ان ثمّة شهوة لضرب الاسلام بسخرية وثأر واضح. لماذا التحرّش بالمسلمين اليوم وكأن هناك اوركسترا تنسق بين ناس من مختلف الآفاق كلمات عدائية.

ابتدأت القصة مع الصور الدانماركية حتى وصلت الى هذا الفيلم المسيء الذي شاهدت مقطعا منه أقل ما يقال فيه انه بذيء لطعنه بوضوح بالرسول العربي.

أذهلتني ايضا الطعون في الصحافة الفرنسية ولست أفهم هذا الإكثار من محاربة الإسلام ولا سيما ان الدنيا تبحث عن السلام وان الجو السجالي بين الأديان لم يبقَ له أثر منذ فترة من الزمن طويلة. هل هناك قوى سياسية معيّنة لمكافحة الإسلام؟ ما هو واضح عند المتابعين للشأن الديني في العالم ان الكنائس أخذت بالانفتاح على الديانات الأخرى ولها في هذا الأمر وثائق.

أنت ترى الآن كليات اللاهوت المسيحي في هذا البلد وغيره تعلم الإسلام بطريقة علميّة كاملة كما يعلّمه المسلمون ولا تناقش ولا تساجل. ويعلّم الحضارة العربية الإسلامية في الجامعة اللبنانية مسلمون او مسيحيون. خلال سنوات قمت في الجامعة بهذه المسؤولية ولم يعترض على ذلك احد بقوله انّى لرجل دين مسيحي ان يعلّم مادة الاسلاميّات باعتبارها قسمًا من الحضارة العربية.

ماذا في عقليّة منتجي الأفلام السينمائية او مقالات الصحف ليهاجموا الإسلام؟ كيف بدت هذه الظاهرة؟ جلّ ما أقوله ان المذاهب المسيحية وانا أتابع نشاطها الفكري والعملي ليست مجندة إطلاقا ضد العقيدة الإسلامية. استنتج من هذا ان الرئاسات الروحية المسيحية ليست هي التي أوحت هذا التحرّك الجنوني الذي رأينا بعض مظاهره في الصحافة او السينما. والقيادات الروحية او الفكرية في الإسلام العربي تعرف ذلك.

#  #

#

نحن شاكرون لله ان علماء المسلمين العرب واجهوا هذه الحملات على دينهم بهدوء. بعض من هذا يعود الى ثقتهم بالمسيحيين العرب الذين يبغون العيش مع المسلمين في سلام وفهم.

لست أريد ان أعود الى هذا الفيلم المؤذي الذي طعن بالرسول وانا الذي قرأت سيرة النبي العربي جيدا تيقّنت ان ما عُرض ليس واردا في حياة محمد وان ما ظهرفي هذه الآونة الأخيرة ان هو الّا افتراء لست أعرف مصادره. العمل لا أثر فيه للعلم وتاليا لا يبقى لي ان أقول انه نشاط سياسي استخباراتي كامل.

شأن المسلمين بعد ان أظهروا غضبهم المحق ان يتصرفوا بحكمة ولا يعوز قادتهم هذا. وعلى المسيحيين في دنيانا العربية وفي الغرب ان يناصروا المسلمين لكون المؤمنين بالمسيح يبغون الحق والسلام الديني في بلادنا وفي العالم.

البدء هو في العيش الواحد بما فيه الاحترام الكامل لعقيدة الآخر ضمن الاختلاف العقلي المشروع. أمنيتي ان يفهم كل أهل الغرب الذين يؤلّفون المجتمع المدني ان الحروب الصليبيّة قد ولّت ولو كانت الحرب الحاضرة لا علاقة لها بالصليب.

نحن المسيحيين العرب قررنا منذ الفتح ان نعيش مع المسلمين في سلام ووحدة مجتمعية مع حرية للجميع كاملة. نحن طلاب حرية لجميع المواطنين وأعني بها الحرية المسؤولة عن الآخر والمحبة له.

هي كل أنواع الحرية وتعابيرها ومظاهرها الى ان يسود الدنيا حكم الله وعدله ورعايته. أن تطمئن الى الآخر يعني فيما يعني ان تقبله ممارِسًا لدينه والصورة المجتمعية لدينه وحقّه في الدعوة والصلاة وتربية عائلته وحقّه في كلامه رافضًا في هذا كل ما خالف التهذيب والأخوّة.

منطقتنا تعرف هذا الجو الودّي اذ نعيش الصداقات بين العائلات والأفراد وأصحاب المهن ونتقارب في المودّات ولا نفرّق بين الناس ولكنّا نفرّق بين الفاضل والسيّء من الناس.

#  #

#

المجتمع الطاهر الصادق يتخطى كل التطلّعات الذهنية البحتة. انه معطى إلهيًا يضاف عليه جهد بشريّ موصول اذ لا يأتي السلام عفوا ولكن يجب صقله واذا صقلته تنسكب عليك نعمة الله.

لست أقول ان قدرنا ان نعيش معا ولكن خيارنا ان نعيش معا. المسيحية والاسلام حاضران معا في أمة الله والله راعي أهلهما بانعطافه الدائم حتى الساعة الأخيرة من أزمنة الناس. هذا كله يقتضي صبرا طويلا وإرادة مساكنة طيبة مع الحنان الإلهي.

لا تخلو الدنيا من العصبيات الطارئة يبررها هذا وذاك ولكنا نعرف ان هذه ناتجة من وسوسات الشيطان وان مشيئة الرب ان نتحابّ فنتقابل والفاهمون لهم ان يتناقشوا في ما هو عقلي وفي ما يتجاوز العقل ولكنك لا تستطيع ان تكلّم الآخر الا اذا استطبت كيانه اي قلبه وعمله.

لا نستطيع ان نغضّ النظر عن وجود الآخر او ننسى انه هنا وثمّة ونعترف انه قائم معنا في المدى وفي القلب ولعلّ كل مدانا هو القلب. وفي قراءتي هو عرش الله واذا كان الله إلهي وإله المسلم ففي صورة يعرفها ربك نحن واحد.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

العهدان / الأحد 23 أيلول 2012 / العدد 39

يحتلا مكانة كبرى في الرسالة الى اهل غلاطية اذ الرسالة تبحث في الإيمان الذي ابتدأ مع إبراهيم. على هذا الأساس يسمّي بولس المؤمنين بني إبراهيم مع ان أكثرهم ليسوا من نسله. فبركة إبراهيم «للأمم في المسيح يسوع». الأمم تدل على أن إبراهيم ابو الشعوب جميعا في إيمانهم بالمسيح.

يؤكد بولس في هذا السياق انه «كان لإبراهيم ابنان أحدهما من الجارية (هاجر) والآخر من الحُرّة (سارة)». هنا يستعمل مصطلحين: الجسد والموعد. فالذي جاء من الجارية وُلد بحسب الجسد أي بلا وعد إلهيّ، اما الذي من الحُرّة فبالموعد. وهنا يشرح الرسول لأن هاتين المرأتين ترمزان الى عهدين: أحدهما من طُور بلد العبودية وهي هاجر. ويشرح أن ما تدلّ عليه هاجر هو «طُور سيناء في ديار العرب»، وسيناء اسم لشبه جزيرة سيناء المعترضة بين مصر وفلسطين.

هذا الطُور (او الجبل) يناسب اورشليم الحاليّة مركز الديانة اليهودية، وهي «حاصلة في العبودية مع اولادها» لكونها لم تعرف بعدُ العهدَ الجديد. اورشليم هذه باتت مدينة عاديّة ككل المدن. اما اورشليم العُليا، وهو يقصد الكنيسة، «فهي حُرّة وهي أُمّنا كلنا». نحن نأتي من هذه الأُم التي وَلدتنا بالمعمودية والمعمودية تجعلنا واحدا في كنيسة الرب.

ويسند بولس فكره الى كلام لكتاب في العهد القديم: «افرحي ايتها العاقر التي لم تلد». وبالمعنى نفسه «اصرخي ايتها التي لم تتمخّض لأن اولاد المهجورة اكثر من اولاد ذات الرجل» بالإشارة الى الولادة الجديدة التي هي في المسيح. للمسيحيين أن يفرحوا بالرب يسوع مع أنهم قلّة لأنهم ينظرون الى الإيمان والرجاء والمحبة.

هذا الفصل من الرسالة الى أهل غلاطية يشير الى أننا تحررنا من عتاقة العهد القديم ودخلنا مع المسيح في حياة جديدة. صرنا في المسيح «خلائق جديدة» يتجدّد الكون بنا بعد أن تجددنا نحن بالمسيح.

هذا يتطلب تحرّرا من كل ما هو عتيق في سلوكنا اذ ينسكب علينا دائما الروح القدس الذي به نتعزّى. نحن وإن كنا متكوّنين من هذا الجسد إلا أن حقيقتنا العميقة أن الروح القدس هو الذي يجعلنا أبناء الله لا أبناء آبائنا وأُمهاتنا فقط. بعد هذا نُنشئ الآخرين بتوبتنا وتوبتهم، ونُدخل مَن آمن بيسوع في حياة يسوع الذي يُجدّدنا لأنه هو الجديد الدائم.

والكنيسة جديدة بأبنائها المقدّسين بالروح الإلهي، وفيها يتحرّر الإنسان من الأشياء العتيقة التي التصقت به، وهو ينتمي الى الكنيسة المتجدّدة كل يوم بالأسرار وبخاصة جسد المسيح ودمه ما يجعلنا على صورة المسيح يوما فيومًا.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

رؤية للوحدة المسيحية / السبت 22 أيلول 2012

تحقيق الوحدة المسيحية هاجس الكنائس كلها وتقارب التفاهم فيها في السنوات الأخيرة وليس ذلك فقط بسبب من ألم الانشقاق ولكن بفضل النزاهة والصدق وتعميق الدراسة. طبعا لا يسع انسانا ان يجزم بقرب هذا الحلم لأن تلاقينا في الحق هدية من السماء ولكنا مشينا خطى كتبت علينا من فوق. نزلت علينا انوار لاهوتيين كبار وهم أصحاب تجليات تدعمها تقوى المؤمنين المطلعين منهم والبسطاء بحيث نقدر ان نقول اننا نحيا الآن جو محبة تغلبت على العصبيات القديمة او كادت.

المهم في هذا الجهاد ما اقتنعت به الكنيسة الكاثوليكية فاقتربت كثيرا من الكنيسة الارثوذكسية. هي لا تزال ترى ان كنيسة المسيح فيها كاملة ولكنها ترى ايضا ان لها مع الكنيسة الارثوذكسية شركة شبه كاملة. تقول شبه كاملة لأن الارثوذكسيين لم يقبلوا مجمع الفاتيكان الاول (1870) الذي حدد ان لأسقف رومية ولاية مباشرة وعالمية على الكنيسة كلها وانه معصوم عن الخطأ. ليس هنا المجال لأبسط الموقفين الروماني والشرقي.

غير ان علماء الكثلكة فهموا جميعا ان الكنيسة الجامعة لا تعني حصرا كنيسة العالم مجتمعا ولكنها تعني ايضا الكنيسة المحلية التي تتحقق في الافخارستيا (سر جسد المسيح ودمه) التي تقيمها جماعة سليمة الايمان برئاسة اسقف مستقيم الرأي. على هذا اتفقنا الآن جميعا. اذا الكنيسة المحلية او الإقليمية جامعة وكنيسة المدى البشري الشامل جامعة ايضا.

المدى العالمي يقوده اساقفة متساوون في اسقفيتهم وتحدرهم الرسولي وان نشأ، هنا وهناك، اساقفة متقدمون هم بطاركة العالم المسيحي واولهم في الشرق ـ حسب التعبير الارثوذكسي ـ بابا رومية ولكنه ليس من رئيس تنفيذي حسب الرؤية الارثوذكسية.

لقد اوضح العلماء الكاثوليك ومنهم البابا الحالي لما كان استاذ لاهوت عقائدي في مونيخ ان اسقف رومية لم يتدخل مرة واحدة في شؤون الكنائس الشرقية اي لم يتخذ مرة قرارا اداريا نافذا في الشرق. استنتج من هذا الموقف الذي بات مقبولا انه لا بد من توضيح الاولية البابوية. فهل البابا حاكم عالمي ام «اول بين متساوين» كما يقول الارثوذكسيون.

راتسنجر (البابا الحالي) الذي له تقدير للارثوذكسية عظيم رأى ان الشرق في الوحدة المرجوة حقه ان يبقى اداريا على ما هو عليه اي الا يكون للبابا سلطة تنفيذية فيه وان تسوسه المجامع المقدسة فيه التي ترئس كنائس مستقلة غالبا ما تسمى بطريركيات ولا شيء يمنع ان تنشآ بطريركيات جديدة حيث الاوضاع الثقافية (كما في افريقيا مثلا) تتطلب ذلك.

#   #

#

مع ذلك تبقى عقبات وتساؤلات. في حسباني ان العقبة التي تلي قضية الرئاسة والعصمة هي العقائد التي انفردت الكنيسة الكاثوليكية بتحديدها. فقد تفردت الكثلكة بتحديد عقيدتين تتعلقان بمريم الاولى هي الحبل بها بلا دنس والثانية انتقالها بعد مسيرتها الأرضية (ولا يقال موتها) بالروح والجسد الى السماء. الكنيسة الارثوذكسية مع إجلالها العظيم لمريم تركت الكلام عنها الى الخدمة الالهية (الطقوس) والى حرية اللاهوتيين. هذا الاختلاف يعني على الأقل ان حل هذه العقدة يحتاج الى بحث مشترك لئلا يبقى بعد الوحدة خلاف مذهبي بين الشرق والغرب.

بعد العقبة تأتي المساءلة وهي هذه: ماذا يحل بالطوائف الشرقية الكاثوليكية اذا وصلنا الى اتفاق كامل حول رئاسة البابا وعصمته. السؤال ناتج من ان هذه الطوائف اصبحت كل منها كنيسة متكاملة المعالم والأركان متحدة مع الكرسي البابوي. والمعتقد الكنسي يقول ان ليس الا اسقف واحد في المدينة الواحدة فكيف تبقى ملل وتنظيمات كنسية مختلفة في هذا البلد او ذاك. عندنا اليوم مثلا بطريرك قبطي في مصر وبطريرك للروم الارثوذكس. من منهما سيجلس على كرسي القديس مرقس؟ ما من شك ان شيئا اساسيا يجب ان يتغير لتتحقق الوحدة اقليميا. في منطقتنا خمسة أشخاص لكل منهم لقب بطريرك انطاكيا وسائر المشرق. اذا لم يصبحوا واحدا لا نكون قد حققنا الوحدة في الإطار الإقليمي. الوضع الحاضر لا يمكن ان يستمر ونحن نتكلم عن وحدة. انا ليس عندي حل في المحافظة على سلامة اللاهوت والنظام الكنسي الموروث.

ربما اعطانا الله في المرحلة التي تنتظرنا اجوبة على هذه المسائل المعقدة. الفكر البشري وحده لا يؤتينا حلا ولو تقدمنا كثيرا في تقارب القلوب. اعرف ان المحبة بيننا ان كانت حقا إلهية فيها كل الضوء.

في الوجود المسيحي في هذا المشرق واضح اننا تقدمنا كثيرا في معارج المحبة والتعامل الأخوي. تبقى امور رعائية عملية نحتاج الى مواجهتها معا. حلمي الشخصي في هذه المنطقة ان نتشرق اي ان يستعيد بعض منا ما احتجب من شرقيتهم حتى يزداد تآلفنا العقلي هنا كما قوي تآلفنا الوجداني لا ليصير الكاثوليك الشرقيون جسرا بيننا وبين رومية ولكن ليكشفوا لرومية وحدة اللاهوت الشرقي.

بتأكيد رومية لاهوت الكنيسة المحلية صرنا معها على علاقة بلا واسطة ولكن امنيتنا العميقة ان يلعب كاثوليك الشرق دورا بارزا في مسيرة الوحدة انطلاقا من تراثهم الشرقي.

على هذا المعراج نحن جميعا ومعا في يد الله الذي اذا كرمنا بعطاء الوحدة يجعلنا قديسين في عينيه وهذا ما نرمي اليه في سعينا الى الاتحاد الكامل.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

الوحدة مع المسيح / الأحد 16 أيلول 2012 / العدد 38

«أنا مُتّ للناموس». قولة بولس هذه تعني أني لا أقدر أن أكون حيًّا اذا بقي ناموس موسى فاعلا. بات ميتًا «لكي أحيا لله» بقوة المسيح إذ كنتُ في المسيح لمّا صُلب. كنت أنا أيضًا معلّقًا على الخشبة وعليها صار المسيح حيًّا، وبسبب وحدتي معه صار هو حيًّا فيّ.

كيف يكون هذا؟ ما لي من الحياة على هذه الأرض أنا «أحياه في إيماني بابن الله الذي أَحبّني وبذل نفسه عنّي». سكن الرب يسوع فيّ بموته وقيامته، وهذه السُكنى مبعث إيماني به. هو غدا كل شيء لي.

ولكن هذه السُكنى، حتى تستمرّ، تفترض جهدًا مني. الخلاص ينزل عليّ من الله، ويجب أن أُحافظ عليه بالطاعة. يجب أن أقبله. لذلك قيل في إنجيل اليوم: «من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني». اذا كنت مؤمنًا حقًّا ومعمدًا تشير الى أنك تريد أن تتبع المعلّم. هو يريد أن يجلبَ أتباعَه اليه. هذا لا يتمّ بمجرّد الاعتراف اللساني به. هذا يشترط أن يكفر الإنسان بنفسه اي أن يبتعد عن كل مصلحة في الأرض، عن تسلّط الأنا عليه، أن يطلب سلطان المسيح عليه. هذا هو الكفر بالنفس والاعتراف بأن للرب وحده سيادة عليها. أنتَ إذا قبلتَ بتعاليم يسوع تكون قد أقررت بأنك تريد أن يُحييك بالإنجيل لأنه هو كلمة الحياة والخبز النازل من السماء.

بعد أن تكون كفرت بمنافعك الدنيوية وملذّات الدنيا يبرز أمامك الصليب الذي هو مشقّات الحياة والتجارب والشكوك. يطلب إليك يسوع أن تحمل كل هذه الأتعاب لتقدر أن تتبعه. الى أين تتبعه؟ هو مشى حتى الجلجلة، وهناك لاقى صليبه اي مشقّات العالم بأسره. واذا أنت حملت أتعابك الخاصة كلها بصبر القديسين، تكون التحقت به في الجلجلة ومتّ معه وقمت معه. ليس لك طريق إلا طريقه، وهو نفذ منها الى القيامة، وأنت تنفذ من طريقك الى قيامتك اي الى الفرح الذي يُنزله عليك الروح القدس.

بعد هذا يقول السيد: «لأن من أراد أن يُخلّص نفسه يُهلكها ومن أَهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يُخلّصها». معنى ذلك أنك تبذل نفسك بالجهود التي يطلبها منك. تبذل كل الجهود لا بعضًا منها. وذلك من أجله ومن أجل الإنجيل اي لتظهر فاعلية الإنجيل فيك وليُبثّ في الناس فيظهر نوره في أعمالهم.

ثم يزيد المعلّم كلامه وضوحًا بقوله: «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أَم ماذا يُعطي الإنسان فداء عن نفسه؟». لو ربح كل أموال الدنيا وكل النفوذ فيها وكل السلطة عليها، وصارت نفسه بهذا مكانًا للشرير، ما نفع هذا الذي ربحه.

المُبتغى أن يربح اللهُ نفسَك بالقداسة التي يريدها الله لك والتي يجب أن تحبّها لأنك إن لم تحبّ القداسة تكون بالضرورة محبا للخطيئة، ولا يمكن ان تجمع الخطيئة والقداسة في قلب واحد وفي وقت واحد.

المسيح يريد لنفسه كل قوّة فيك وكل مواهبك وأن تكون أعمالك لمجده فقط. أنت لا تُظهر نفسك. تُظهر نور المسيح مرتسمًا على وجهك ليأتي الناس الى مسيحهم ويَخلُصوا.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

لاهوتيون أرثوذكس في إيطاليا / السبت 15 أيلول 2012

أجيء من دير بوزه Bose القائم في شمالي ايطاليا بين تورينو وسفح الألب وهو مشهور بانفتاحه الكبير على الكنيسة الأرثوذكسية. وقد أخذت هذه الجماعة الرهبانية منذ عشرين عاما تدعو الى مؤتمر أرثوذكسي صرف كل سنة في أيلول تتناول عقيدة الكنيسة الشرقية من زاوية علم الآباء بخاصة. يدعى علماء أرثوذكسيون الى هذا اللقاء وينضمّ اليهم أحيانا علماء كاثوليك نحوا نحو هذا العلم الذي يقصي بطبيعة موضوعه أي موقف دفاعي او سجال. العلم البحت صار مألوفا في هذه الأوساط. على هذه الطريقة يسير علماء الكتاب المقدس الذي قلما تستطيع تحديد مذهبهم من مجرد قراءة أبحاثهم. البحث بحث ولا يحتمل توترا طائفيا.

منذ الثالث من أيلول اجتمع في هذا المكان ما ينيف عن مئتي شخص مطّلع ليسوا في الضرورة علماء ولكنهم قادرون على الفهم والمشاركة في المناقشات: رهبان وراهبات وكهنة وعوام أتوا من كل صوب. المساهمون الأرثوذكسيون تأخذهم من العالم كله ولا سيما من أوربا الشرقية وتستمع الى ألسنتهم المختلفة. هذا لا يعني أن وحدة العقيدة عند من يعلم تفترض وحدة الفكر وأنماطه.

كل المذاهب المسيحية حل بينها التعدد والتوق الى الوحدة. ولكن هذا مقالا لا ينتهي وان اجتهدنا. هذه المرة بدا هاجس الطبيعة بعنوان: الإنسان والنباتات والأزهار انطلاقا من سفر التكوين مرورا بالمزامير. العهد القديم كان هو مكان التجلي في هذا المجال وتبين أنّ العهد الجديد مقلّ في البحث عن الطبيعة انطلاقا من الكلمة الإلهية. الكلمة هي منبسط المسيح واياه نكتشف للتحدث في الله وتختفي الطبيعة المخلوقة فيه.

لماذا كل هذا الإهتمام بالشجر وما اليه؟ ذلك أنّ الإنسان بات مدمر الطبيعة ومتلفها. ومنذ فترة قصيرة من الزمن غدونا مسكونين بالحفاظ على الخليقة كما خرجت من يد الله وظهر علم البيئة وجهد الحفاظ عليها. كان المجاهدون الخضر في كل مكان ولهم أعمال واسعة وخطوط سياسية في كل البلدان وكان على الكنيسة ان تتكلم بدءا من الوحي وعبورا بالآباء القديسين ولا سيما في الشرق.

وسعينا لاستخراج ذلك من كل صوب تأملي عند كبار آبائنا. واختلفنا اذ يختلف العالمون فغدا المتحمسون للطبيعة الخضراء من وجهة نظر إلهية وغير المتشددين في الحماسة من وجهة النظر هذه اذ لم يلحظ هؤلاء عظيم اهتمام بالموضوع في المصادر الدينية الكبرى. ولكن بدا للأكثرين ان ثمة قولا الهيا في شأن الطبيعة وانه لا بد من ربط الفضاء الطبيعي بالفضاء الإلهي لأن الكلام في الخليقة ان لم يرتبط بالكلام الإلهي وبالوحي يبقى من هذا العالم.

#   #

#

ما من ريب ان الكنيسة تفكر في كل شيء حتى تسود الكلمة الإلهية كل الوجود ولو لم يختلط الكلام الإلهي بالكلام البشري. أجل ليس للكنيسة ان تؤسس جمعيات بيئية ولكن لها ان تدفع المؤمنين الى نشاط بيئي ليذوق الإنسان كونه حارسا للخليقة.

لم نكن على إجماع كامل ولو ذهب الأكثرون الى ضرورة التفكير الديني في الشأن البيئي ولا سيما ان الكنائس القديمة او التراثية تستعمل مواد الطبيعة في صلواتها: الخبز والخمر والقمح المسلوق والعنب والثمار الأخرى والجبن والبيض والزيت وتقدسها لان كل المخلوق قابل للتبريك الإلهي. كثير من الطقوس يقوم على وحدة الكلمة والماء ويقوم بعض من الرتب على استهلاك مواد الطبيعة فتؤكل بعد تقديسها بالكلمة. فبعد ان ألغت المسيحية الذبائح الدموية أدخلت الأطعمة النباتية في بعض من طقوسها وذلك على أساس المشاركة بين الجسد والنفس وذلك لا يتّخذ كامل معناه الا بفكرة الشكر لله على ما أعطى. والكلمة الأساسية في الصلاة المسيحية هي الشكر. مصطلح الشكر هو الذي نسمي به مناولة جسد المسيح ودمه.

الطبيعة تذهب معنا الى الشكر ويذهب جسدنا مع النفس ولكن ذروة الإتحاد بالله على مستوى الروح لا يلغي طبيعتنا الجسدية اذ الجسد عندنا سبيل من سبلنا الى التقديس. هكذا سلك مسيح الرب في تأسيسه العشاء السري الذي هو ذروة اتحادنا بالمخلّص.

#   #

#

ليس الكلام في التجمعات المسيحية اهم شيء في الضرورة. العطاء الروحي يأتيك أولا من الصلاة التي تقيمها والمحبة التي تعيش.

هذا اللقاء في قرية بوزه كان لنا مشاركة صلاة مع الرهبانية التي آوتنا. كنا الى الكنيسة ثلاث مرات في النهار. طبعا كان كل ذلك في الإيطالية التي كانت بالدرجة الأولى تلاوة مزامير. وانا لا أفقه شيئا في الإيطالية ولكنا كنا نرد الكثير منها الى الفرنسية لنفهم ما استطعنا.

الى جانب الصلاة الرهبانية الأعمال اليدوية والعمل الفكري بما فيه من إنتاج كتب باللغة الوطنية وترجمة عن سائر اللغات. مئتا شخص ونيّف معظمهم أرثوذكسي كانوا يشاركون في حياة الجماعة ويجالسونها للطعام على تقشّف معقول.

ما يدهشك في هؤلاء القوم المثقفين بساطة اللباس والعيش بعامة. لا يملكون شيئا على صعيد الأفراد ولكن يملكون عقولهم أو تملكهم عقولهم ولكل منهم سلطان على لسانه مهما تكلّموا من لغات.

ليس سهلا ان تكون قوي الفكر، بسيط المعاش، ومتواضعا، وديعا بآن. ان هذا باب الملكوت لمن يعلمون وباب الصفاء في هذه الدنيا. هؤلاء الناس رفقاؤك الى الحق. واذا اخذوك الى هذه الذروة تحس انك على رغم افتراق الكنيستين انت واحد معهم لأن الوحدة هي الحب.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

الشريعة الجديدة/ الأحد 9 أيلول 2012 / العدد 37

كان همّ بولس الرسول في الرسالة الى أهل غلاطية (آسيا الصغرى) أن يُبيّن أننا تجاوزنا ناموس موسى ودخلنا العهد الجديد. يستهلّ المقطع الذي يُقرأ اليوم بقوله: «انظروا ما أعظم الأحرف التي كتبتُها إليكم بيدي، ويريد بذلك أنه أخذ القلم من الكاتب الذي كان يُملي عليه وكتب هذه الكلمات القليلة بخطّ يده ليُبيّن للقرّاء محبته لهم.

ثم يأخذ موضوع الختان (باللغة العامّية التطهير) ولاحظ أن بعض المتمسّكين بناموس موسى من أبناء الكنيسة كانوا يتمنّون أن يختتن المسيحيون المُهتدون من الوثنية أي أن يَعبُروا بالديانة اليهودية أولاً ويتعمّدوا في ما بعد. صوّر بولس لقرّائه أن هؤلاء يفتخرون بالأجساد المختونة، ورفض هذا فقال: «حاشى لي أن أَفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالم لي وانا صُلبتُ للعالم».

صُلبَ العالمُ لي لأني أَبطلتُ العالم الذي كله تحت الشرير واستعمل كلمة صلبتُه. كذلك قوله: «وأنا صُلبتُ للعالم» اي أن هذا العالم الشرير تخلّص منّي بإماتتي على الصليب (معنويا).

ويُبرّر تحرّره من الختان او عدم الختان إذ يساوي بينهما فيقول: «لأنه في المسيح يسوع (اي بعد أن صرنا في المسيح) ليس الختان بشيء ولا القلف» (او الغرلة بترجمة أخرى، اي عدم الاختتان)، ليس هذا كله بشيء «بل الخليقة الجديدة» اي المتجددة بالإيمان وبالمعمودية.

«وكل الذين يسلُكون بحسب هذا القانون» اي كل الذين يؤمنون بقولي هذا او بإنجيلي كما كان يُعَبّر أحيانا فعليهم سلامٌ ورحمةٌ وعلى إسرائيلِ (بكسر اللام) اللهِ، ويعني به إسرائيل الجديد الذي هو الكنيسة.

لذلك لا تُتعبوني بكل هذا الجدَل الذي لا معنى له لأني «حاملٌ في جسدي سمات الرب يسوع» ويريد بها المشقّات التي تحمّلها هنا وهناك والاضطهادات. علامات تعبي أنا حاملها وسأُتابع طريقي الى الصليب تشبّهًا بالسيّد. وفي الواقع قتلت السلطة الرومانية بولس بحد السيف حوالي السنة الـ67 كما قتلت بطرس بالصلب السنة الـ65.

بعد كل هذا الكلام اللاهوتي يُسلّم على أهل غلاطية بقوله: نعمة ربنا يسوع المسيح مع روحكم أيها الإخوة، آمين.

بهذا تنتهي الرسالة الى أهل غلاطية وهي من أعمق الرسائل لاهوتيا وشبيهة برسالة بولس الى أهل رومية. ما كتبه الرسول العظيم أساسيّ لكل من أحب أن يذوق اللاهوت في العهد الجديد. بولس هو باني الكلام اللاهوتيّ في المسيحية.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

رياضة الجسد / السبت 8 أيلول 2012

«العقل السليم في الجسم السليم» مثل لاتيني قديم اتخذناه نحن ويبشر به دائمًا الأطباء الذين يقولون ان الخلل العقلي في كثرة من الحالات مرتبط بالخلل الجسدي وطبابته تسمى نفسية-جسدية. الكائن البشري كيان عضوي organisme كل شيء فيه مرتبط بالشيء الآخر. لذلك كان ترويض الجسد وسلامته اساسيان لحفظ القوى الفكرية حتى تأتي السلامة كاملة من كل جوانبها.

لقد لاحظ الأقدمون الضعف في كل جسد وحاولوا معالجته منذ هيبوقراط ابي الطب وكانوا قد ادركوا أهمية الأعشاب والوحدة القائمة بين جسدنا ومواد الطبيعة وكان غرضهم في تصنيف كل ما في الطبيعة انعاش الإنسان لبلوغه ما أمكنه من السلامة.

غير ان الإنسان ليس دائمًا مصابا ولو ضعف عنده هذا العضو او ذاك وفكر بدعم جسده السليم بالرياضة لئلا يسقط هذا الجسد اذا لم يتروض او تضعف قواه فاخترع العلاج الفيزيائي من جهة والرياضة البدنية من جهة التي يغلب فيها الآن المشي اليومي اذ يرى العلماء انك تعرض صحتك للضعف ان لم تمارس هذه الرياضة.

فلسفة هذا الكلام ان في الجسم دفاعا ذاتيا يعفي عنك احيانا ضرورة الاتخاذ للدواء. وما يذهلك حقا ان ثمة من يموت ولم يكن فيه مرض معروف.

هذا سر الموت الذي لم يعطَ لأحدنا حتى اليوم. نحن نعرف ان الأعمار طالت جيلا بعد جيل. سوف نصل قريبًا حسبما يقال الى معدل 120 سنة ونحن الآن بين الـ80 والـ85 تقريبا اي يبقى علينا ان نتحمّل عددا من الشيوخ كبيرا وهم لا ينتجون. ان نمو عمر الإنسان ينفعنا بفكر المسنين اذا تدفق ويضعفنا اقتصاديًا ما في ذلك ريب. ولكن ما الحيلة في العقود الآتية؟

يبقى انه واجب خلقي علينا ان نساعد آباءنا وامهاتنا على العيش الطويل لنستمد المحبة ونعطيها ونتشارك الوجود الطيب. هذا حلم الصابرين اذا صبروا ولكنه ضائقة معاشية لا مهرب منها الى ان يكشف لنا الاقتصاديون قدرة جديدة على احياء الإنتاج الزراعي والصناعي في صورة جديدة. بسبب من معرفتنا لكل ذلك ما هو في وسعنا ان نروض جسدنا ليقوى.

#    #

#

اعتقادنا نحن ان هذا الجسد ليس بدنا محضا. ليس مجرد مادة كالحديد والخشب. فيه مسعى. فيه نشأة الى اكتمال الشخصية في النفس او ذروتها في القلب كما علمنا الآباء الأقدسون. الجسد والنفس واحد بمعنى وحدة مسيرتهما الى المجد الالهي الذي سوف يكسو هذا الكيان المتكامل الذي ينبعث في اليوم الآخر ليتجلى كالنهار ويلتمع اكثر من الشمس.

نحن امام جسدنا في رؤية تهيوئه للقيامة. نحن في كليتنا مرافقوه اليها. وفي هذه المرافقة نناجي الله ويرد على نجاوانا بالحب. الحياة وثبة وليست فقط اعضاء من لحم ودم.

ولكون الجسد شريك هذه الوثبات نعنى به لنعطي الناس ما فينا فيقوى انتماؤهم الى الله ونجعل بيننا وبينهم قربى أقوى من النسب الذي هو من الدم فقط الى ان نصبح في اليوم الأخير عائلة الآب.

وحتى تكتمل المسيرة لا بد من عناية بالجسد كما العناية بالنفس وهنا تدخل مسألة الرياضة التي هي التماس للصحة ومحاربة للموت. والإهمال تسريع للمرض او الهزالة.

وليس هنا المجال لالقاء درس في التروض. نحن نقر المبدأ على انه واجب روحي واعتبار الصحة قيمة. الجهد لاكتسابها هو القيمة في الحقيقة ولكن المرض يصبح قيمة اعظم اذا اقتبلناه بصبر وكافحناه لأنه كثيرا ما يدنينا من الله ويطلقنا الى الصلاة.

#   #

#

هناك بد لنا ان نلاحظ المغالاة في الرياضة او تخصيص اوقات طويلة لها. هذا ربما أتى عند بعض عبادة للجسد وإهمال للنشاط الفكري. هناك من لا يستطيع ان يهرب من الضعف الجسدي ويبقى عظيم الفكر او الروح. القداسة تأتي قبل الرياضة البدنية والثقافة تأتي أيضًا قبلها. لا نتجاهلن سلم هذه القيم. مع ذلك تبقى الرياضة البدنية مسؤولية خلقية علينا لا بد من حملها.

في المدينة الحاضرة رياضيون محترفون يأتيهم راتبهم كاملا من الدولة التي تحتاج الى فرق مختلفة بسبب المباريات الدولية. هذا الرياضي الكبير لا يحق له ان يهمل تربية نفسه روحيا او فكريا لأن الإحتراف الرياضي لا يلغيه كائنا انسانيا يحتاج الى كل قواه النفسية والروحية والفكرية. لا يسوغ الغاء التغذية الفكرية في سبيل كسب المباريات.

يبقى من هذا كله انه لا يجوز لأحد ان يفتخر بصحته او قوته او جماله لأن كل هذا يؤول الى التراب. نحن مع الأخ الرياضي ولكنا اولا حول الأخ المريض لتعزيته وتقويته بالرب لأن الرب الساكن فيه لا يجعله يخشى الموت.

ما من شك ان اهل العصر يعبدون الجسد كما عبده اليونانيون القدامى والرومان وفي هذا منحى مادي واضح في معرفة الإنسان. وهذا تتبعه عبادة للجمال التي سادت مناطق البحر الأبيض المتوسط منذ نشوء الأديان الوثنية عندنا. والبدعة هذه استقوى به طب التجميل الذي لا نفع منه الا القليل لكونه قائمًا على التباهي بالحسن. وهذا التباهي باطل من أساسه. فأنت تقبل المرأة كما خلقها الرب وحسنها في الوداعة والطهر وهذه المنطقة او تلك لا تغير في حسناتها الروحية.

نقبل الجسد الذي الله خالقه ونروضه للحسنى والخدمة ابتغاء مجد الله العظيم.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

خاتمة كورنثوس الأولى/ الأحد 2 أيلول 2012 / العدد 36

أسلوب بولس أن يُنهي رسائله بتوصيات عملية بعد أن يكون بسط الكلام اللاهوتي الذي جعله موضوع رسالته.

في الرسالة الأولى الى أهل كورنثوس، المقطع الأخير منها يبدأ بقوله: «اسهروا» ومعناها تيقظوا وسط المشقّات التي تعانيها الكنيسة. كونوا متوثّبين، لا تُساوموا في أي شيء مع الذين هم خارج إيماننا ولا تُلاعبوا الخطيئة. لا تُضحّوا بأي شيء في الإيمان لأن كل شيء فيه هامّ.

جاهدوا جهاد الرجال وهم معروفون بالقوة. لا ينسى بولس أن قوّتنا من الروح القدس، ولكنه يذكر اننا مشاركون مع الروح القدس بجهادنا. الخلاص يقدّمه الله ونحن نتقبّله. بعد هذا لا ينسى بولس أن صميم الحياة المسيحية هو المحبة.

بعد هذا يذكُر الرسول مؤمنين بارزين في الخدمة. ماذا يعني أن بيت استفاناس (اي عائلة) «خصصوا أنفسهم لخدمة القديسين»؟ لسنا نستطيع أن نجزم أن استفاناس شماس او إكليريكي. في هذه الرسالة لا يتضح أن بولس يذكُر كهنة او أسقفا. على الأقل استفاناس ناشط او متكلم، ويذكُر غيره ويُجلهم بولس لأنهم «جبروه وأراحوا روحه وأرواحكم».

«تُسلّم عليكم كنائس آسيا» في صيغة الجمع تدلّ على انه يتكلم عن عدة مدن الى جانب كنيسة أفسس. هذا يدل على ان بولس أثناء إقامته في أفسس أكثر من سنتين بشّر المنطقة كلها.

ثم يذكر أن أكيلا وزوجته بريسكلا، وقد لعبا دورًا كبيرًا في تأسيس كنيسة كورنثوس، يسلّمان عليها، ويذكر الكنيسة التي في بيتهما بمعنى أنهما حيث حلاّ تجتمع الجماعة عندهما ويقام القداس الإلهي في بيتهما.

«سلّموا بعضُكم على بعض بقبلة مقدّسة». العبارة واردة في أكثر من رسالة، وتشير غالبًا الى القبلة التي كان المؤمنون في القداس يقومون بها، واليوم لم تبقَ الا القبلة بين خدّام الهيكل.

«السلام بيدي أنا بولس». الرسول كان يُملي على كاتب يرافقه. هنا يأخذ بولس منه القلم ليؤكد لقرّائه أنه يحبّهم شخصيًا ويذكُرهم.

ينتقل من هذا إلى قوله: «إن كان أحد لا يحبّ ربنا يسوع المسيح فليكُن مفروزًا» أي محرومًا عضوية الكنيسة. العضوية في الكنيسة تتطلب محبة عملية للرب يسوع.

وأخيرًا يقول «ماران أثا» وهي عبارة آرامية أراد بولس أن يحافظ عليها بالأحرف اليونانية. وهي إمّا تعني أن الرب أتى، او اذا قرأتها «مارانا ثَ» فتعني تعال يا رب.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الصحة والملكوت / السبت 1 أيلول 2012

ورد في لسان العرب الصحة خلاف السقم وذهاب المرض، وفي هذا اعتبارها الأصل أو المرجو وأن المرض سقطتها أو انحسارها وأنّ الرجوع اليها هو السلامة. لماذا أقرنا كلمتَي الصحة والملكوت ما لم تكونا مقرنتين في الكتاب العزيز. ولماذا هذا الإقتران؟

فكر الكتاب أن المرض بيان الموت المقبل وأنه هو أيضًا أجرة الخطيئة، أو انه من عالم الخطيئة. المخلّع كما تسميه الترجمة الأرثوذكسية أو المقعد بعد أن شفاه يسوع قال له: «ها إنك قد تعافيت، فلا تعد الى الخطيئة، لئلا تصاب بأسوأ» (يوحنا 5: 14) هنا لا يؤكّد الإنجيل أنّ الخطيئة كانت سبب العجز ولكنه يوحي بأن التوبة الحقيقية هي سلامة الكيان إذ جاء كلام المعلم عن الأعمى منذ مولده: «لا هذا خطئ ولا والداه» (يوحنا 9: 3). ولئن لم تكن الخطيئة سببا للمرض الا أن هذا يبقى من عالم الموت. ما من شك ان السقم شيء من زوال الى ان تبعثنا الصحة الى الوجود الكامل.

لذلك اهتمت الكنيسة لاستعادة السلامة والانتعاش وقد جاء في الوحي: «أمريض أحدكم فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب» (يعقوب 5: 14). الكنيسة اذًا تطلب السلامة وتصلّي في طلباتٍ كثيرة لعودتها إلينا.

أهمية المرض انه عميم بمعنى أنّ كلّ بشر يعاني قليلاً أو كثيرًا منذ نعومة أظفاره. بكلام أبسط السلامة الكاملة غير موجودة. نحن جميعا في مملكة الموت الى أن يقبضنا الله فعليّا الى رحمته. نحن إذًا، في مواجهة دائمة مع الحياة ومع العافية أي مع المستحيل. لذلك نحن عند المعاناة في اضطراب ما وربما في كآبة إذ السقم يساكننا ويؤذينا وقد أمسى الحالة الحقيقية للكيان.

هذا ما يفسّر أنّ يسوع الناصري يسكنه وجعه للإنسانية واسمه الحنان. بشريّته الموجوعة من رؤية المشلولين والعميان كانت تمتدّ الى بشريّتهم بالشفاء. هذا الشفاء رافق عنده التعليم. لذلك كان يكرز في مجامع اليهود ويشفي في شوارعهم حتى تنزل نعمة الله على الإنسان كاملة.

«وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كلّ مرضٍ وكلّ ضعفٍ في الشعب. فذاع خبره في جميع سورية فأحضروا اليه جميع السقماء المصابين بأمراضٍ وأوجاع مختلفة والمجانين والمصروعين والمفلوجين فشفاهم» (متى 4: 23 و24).

#           #

#

بعد هذا القول نعبر في رواية متى مسافات طويلة من التعليم حتى يجدّد الإنجيلي ما قاله في البدايات: «وكان يسوع يطوف المدن كلها والقرى ويعلّم في مجامعها ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب» (متى 9: 35) الدافع الى رعاية السيد للمتألمين قول الكتاب: «ولما رأى الجموع تحنّن عليهم اذ كانوا منزعجين ومنطرحين كغنم لا راعي لها». المحبة الواحدة تنزل على الناس تعليمًا أو تصحيحا للجسد الموجوع.

في آخر تعليم ليسوع عن المرض والسلامة، في ما نسميه إنجيل الدينونة يقول: «كنت مريضًا فزرتموني» (متى 25: 36). هنا وحّد نفسه مع الموجعين وكأنه يقول عنايتكم بهؤلاء هي عنايتكم بي. من وراء الواقعة أجسادهم أو عقولهم بناء مستشفى أو مستوصف أو كلية طب كان عند المؤمنين بيسوع سعيا اليه شخصيا. هنا لا يعني أنّ المنتسب اليه في الهوية هو وحده المحبّ. جلّ ما أوحي به هنا أن روح الناصري أنبثّت هنا وهناك وجعلتنا أطباء أو ممرضين أو بناة مؤسسات تعنى بالصحة لكوننا نريد الحياة للسقماء فلا يتألم أحد إذا كان قادرا على استعادة العافية.

المبتغى الأخير لكل هذا المسعى أن نقول للمريض اننا معه. يكفي أحيانا الجلوس اليه وحده بالأمل فقد يكون الأمل نصف العافية. نصلي معه وندعوه الى الصلاة التي الله ساكنها. المريض لا يكتفي برعاية الطبيب له. يريد أصدقاءه وأنسباءه حوله. فقد يكون هذا تعبيرًا عن دفق حياة جديد عنده أو يعني له ردّه الى الصحة. القصة كلّها قصة مشاركة على صعيد القلوب. الحب هو الجامع بين المريض والصحيح. الكلمة الجيّدة الصادرة عن هذه المشاركة الروحية بلسم ما في ذلك ريب على أن نلتزم الصدق فيها ولا نعطي آمالا كاذبة.

#      #

#

العناية بالجسد أمر إلهيّ. الجسد عطاء الهي كالنفس وكلاهما مشدود الى الرب. ينتج عن هذا أن اللجوء الى الطبيب طاعة للرب واننا مدعوون الى المعلم الحقيقي لا الى خرافات العجائز في ما يمكن القيام به وما لا يمكن، واتّباع الوصفة الطبية بعض من طاعة الله.

لا يجوز أن يموت الإنسان من جهله أو من كسله. بمبتغى أن نكون حاضرين في المرض نواجهه بالعلم وبالصلاة المكثّفة ان كنا مؤمنين.

في نطاق الأشفية يتكلّم الإنجيل عن علامات مجيء المسيح. «أما يوحنا (المعمدان) فلما سمع في السجن بأعمال يسوع أرسل اثنين من تلاميذه وقال له أنت هو الآتي أم ننتظر آخر. فأجاب يسوع وقال لهما اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان  وتنظران. العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصمّ يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون» (متى 11: 2-5).

نلاحظ هنا أنّ التبشير ملازم لشفاء المرضى وأن فاعله المسيح أو تجلّيه هو في ثنائيّ هو البشارة والشفاء وتالياً ان حياة الكنيسة القائمة على الكلمة لا تنفصل عن طلب السلامة والعناية بالمرضى.

هذا لا يعني أنّ المسيحيّة ترفض الطبّ فقد كتب القديس باسيليوس الكبير رسالة الى الرهبان يدعوهم الى التماس عمل الأطبّاء. ولكن هذا يعني اننا الى هذا العلم نلجأ الى العالم الأكبر الذي هو الرب القادر أن يصنع العجائب.

كما يعني هذا أنّ الإنشداد الى الله بالإيمان يعني كفاحا للكآبة بمعناها العادي أو معناها العلمي الحديث. في هذا يتجلّى الملكوت فيما نحن لا نزال في هذا العالم الى أن يرث الله الأرض وما عليها.

Continue reading