زيارة لجبل أثوس كنت أتوقها منذ عقود. ليس من مطرح في العالم أبهى أرثوذكسية من هذا الجبل الملقى في البحر شمالي سلونيك والنازلة عليه السماء. منذ ألف سنة ومئة قصد بعض من القوم الله هناك ناسكين ومصلين في عشرين دير كبير ومناسك صغرى ومغاور. هل من صعود الى الله من أماكن متعة للعين مذهلة؟ أحجار وقناطر وألوان متلاقية على أرض ذوق. الدير تجتمع فيه الأبنية غير متجايلة ولكن متناسقة. اثنتا عشرة كنيسة صغيرة الى الكنيسة المركزية في دير فاتوبادي والايقونة من الألفية الثانية او من قبل، خشبيّة او فسيفساء تلبسك او تلبسها.
والقامات تنحني للأسقف الزائر. كنا ثلاثة مطارنة من أنطاكية ويصحب هذا ترتيل دقيق وتلاوات عربية ومسافات تطول وخشبيات كثيرة تعطي دفئًا وتأكل على موائد من رخام ممسكا عن اللحم طوال حياتك وتقيم في الفرح الذي يصدر عن التقوى او عن العلم وكلاهما يبدو على شيء من العمق او السعة وتستيقظ باكرا جدا لتقيم صلاة تطول على رجاء ان تأخذ قلبك.
لماذا يؤمّون هذا المكان- المحجة او الأمكنة المتشابهة عمارة وروحا؟ ماذا ينثني في قلب هذا الشاب الذي يطلب الوحدة مع الله ويقول عبد الله العلايلي يستوحد. هل ادرك التوحد هؤلاء الذين رأيناهم على نضج كهولة او في شيخوخة تقادمت؟ هل الإنشاد ينزل على القلب او يحيط به؟ هل تحفر الأيقونة النفس على صورتها او تتنقى النفس في طبيعة طياتها بلا انثناء الروح الإلهي فيها او عندنا شيء من هذا وشيء من ذاك الى ان يقبض الله ذاتنا فيما يكب ترابنا في التراب.
تتابع الصلاة باليونانية القديمة ويخاطب عنك رهابين عرب باللغة العامية اليونانية. غير ان التواصل لا يحتاج دائما الى لغة اذا شع عليك نور وجه والديورة وجوه صنعتها محبة تتراءى وصنعها تراث عظيم تتبعه في هذه الجداريات التي أذهلت أجيالا وأحاطتها الأجيال بعيونها حتى لا يقع ناظرك على حائط غاب عنه القديسون.
يحيطون بك ليس فقط عندما تعبد ولكن اذا أكلت في قاعة المائدة حتى لا يخلو لك وقت لسماع او بصر بلا مشاركة الذين سبقونا الى المجد. هل حسنت رؤيتي اذا قرأت ان أهل الفن الكنسي ملاؤا بهم كل مساحة الجدران حتى تكتب لنا ولهم معية تحيينا؟
# #
#
قضينا في الدير مع رئيسه المستوحد في صومعة سهرة ممتعة. كنت قد عرفته منذ ثلاثين سنة. أنعشنا بحديثه عن اسحق السرياني المولود في قطر وعن لاهوته ثم عن دوستويفسكي وصلته باسحق وكلمنا عن عمق الآباء القدامى متنقلا بين الروسية والفرنسية واليونانية لغته ومستفيضا عن موهبة الحرية الملازمة للحياة الأرثوذكسية.
الآباء هنا يشرعون بصلاتهم الساعة الثالثة والنصف صباحا ويتناولون وجبتين في اليوم. يصلون كثيرا عند المساء. هذه الرهبانية يرافقها دوما صوت رخيم ولكنها تكشف حضرة الكل والفكر عند من كان قابلا له او لإعطائه.
ما يلفتك في هذه الجماعة ان احدا لا يسعى ان يتميز او ان يبدو ولكن الله يبدي من يشاء. ان كانت الشجرة تعرف من الثمر ساغ لإنسان من هذه الدنيا ان يتحسس جمالا ظاهرة من ثقافة الدنيا وبه تغوص على أبعاد ليست كلها من هذا العالم. ولكن رياضة الانقطاع ضرورية لرياضة التواصل. تخرج من المدينة الى الصحراء ليصبح الله هذا الذي تسكن ويبدأ هو تمتمتك فيه.
الدير يشبه الدير بالأنظمة. الأطعمة نسكية. الاحترام عظيم للكبير مقامه. هذا لا تفسير له بالنمطية ولكن بما يرونه ما وراء او ما فوق الذي يحترمون. لماذا يقبلون يد الأسقف الزائر اذا دخلوا وخرجوا. طرح علي مواطنينا مرة هذا السؤال: لماذا نقبل يد الأسقف. اجبته ليس للأسقف يد. قال: كيف؟ قلت: هذه منهجية الأيقونة عندنا. انت، ان قبلتها، تقبل المثال المقدس الذي وراءها ولا تقبل خشبة او لونا. انت تصعد. لم يبق انسان حسه ايقوني عندنا او هذا قليل.
لماذا احتفاء قل نظيره بوفدنا الانطاكي؟ شرقية الوفد في اخوة الإيمان؟ من أين أتت بساطة التعامل؟ من الهيكلية الأرثوذكسية؟ من أنجيلية الرهابين؟ هذه الإنجيلية تجعل صومعة الراهب مذهلة في تواضعها وقطاع الضيوف المميزين بمراتبهم على رهافة ذوق لم أشاهدها في دير من مناطقنا. غير ان هذا كله ليس بشيء امام إتقان الخدمة الإلهية وأصوليتها والحفاظ على كل موروثها. لا يبدو ان طول الصلوات مشكلة عندهم ولا يبدو الملل على ملامحهم. هل ما يتلون ويرنمون سماء على الأرض كما زعم الوفد الروسي الذي زار القسطنطينية في أواخر القرن العاشر فتبنت روسيا الديانة المسيحية المسلوكة بالمعنى البيزنطي.
# #
#
بقينا على الصلاة قبل فجر الأحد ست ساعات يتناوب الجوق اليوناني والجوق العربي بتناغم كامل على اللحن الأول والألحان ثمانية عندنا. وكان القائمون بالقداس الإلهي أربعة أساقفة عرب ومرافقوهم ورهبان الدير. هل دقة الأداء عربية لهؤلاء؟ أظن ان السر في الشخص وان لا تعميم في الجواب. الجماليات في الدين في طياتها خطر ولكنها تعيد الينا القوة احيانا. لست اعتقد ان اختزال الصلوات الذي يقترحه البعض هو الترياق. النفس، النفس او الفهم الفهم كل شيء. التربية تذهب عنك الاسترخاء. كذلك التشدد لا يهبك القوة بالضرورة. تبقى ديانة شعبية تظنها تحسسا الهيا وما هي الا بشريتك الدافئة الى ان يبدعك الدين الحق. انت خاضع لله او تصدر عنه. دائما في الدين أشكال. نصوصه يمكن تحويلها الى شكل او استبقاؤها روحا. تعود من الحج، من اي حج بصورة الحجر او بالإله الصافي. صعب عليك ان تعرف الفرق.
# #
#
في المحطة الأخيرة من تجوالنا تفاقم الاحتفاء حتى المحبة السكيب. والعبادات تنزل ولو نسيت اللغة لتقادم السنين عليك. لم يستطع هؤلاء الا ان يجددوا الجداريات بعد عتاقتها لكونهم يحبون عشرة السماويين بالعين طريقا الى القلب. هذا دير تقف عند ذروته وآساسه في البحر واطلالاته الغابات. بين هذه كيف تنسى الفردوس. تتعشى عند الخامسة لترتاح قليلا قبل صلاة تستغرق الليل كله. تقيم عيد الصليب حسابا شرقيا تستخدم فيه راهبا من بلادنا ليجمل الصوت والكلمة معا.
قبل يومين في دير آخر استشهدت امام راهب مازحا بكلمة أرسطو الشهيرة: «كل ما (او من) كان غير يوناني فهو بربري» انتفض رافضًا ارسطو. اليوم نختلي لما تيسر من النوم لنستقبل الفجر بترتيلنا «المجد لك يا مظهر النور» ثم نرحل عن جبل القداسة هذا ونقضي ثلاث ليال في سالونيك وأثينا قبل التحاقنا بربوع لبنان.
العرب في بغداد أحسوا قديما ان حضارتك لا تكتمل بدون الإغريق. هذا يعني ان عليك ان تحافظ على العقل وتقوله بطريقة او بأخرى، بالشعر العربي.
Continue reading