ذكرى كرنفال / الأحد 11 آذار 1964 – من مونيخ
في الإخوة كرمازوف، يقول المفتّش الأكبر للمسيح: «ما لك وللجموع؟ أنت وعدتها بالحرّيّة. دعني أنا أعطيها خبزًا». كان هذا تحدّيًا لقول الناصريّ: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». خبزًا وألعابًا بالعكس، كان الرومان يتطلّبون. الخبز لأنّهم وقعوا في الحياة، واللعب للخروج منها. وكأنّ الذي لم يطلّ على ما فاق رتابة العيش يظلّ سجين العيش. العبث جزءٌ من دنيا أُلقينا فيها. نداوي ما يتكرّر كلّ يوم بما يعود عند الموسم. ولكنّ اللذّات كلّها نقاط على دولاب الوجود. لا ترتطم واحدة بالأرض، حتّى تستتبع الأخرى، فتُداس اللذّة تلو اللذّة حسب قول الأسطورة القديمة: عندما يبلغ أبولون ديانا، تتحوّل إلى شجرة. فالحياة ليست في التقاط الحياة، بل ما في دوام التجاوز إلى اليقين.
وجوه متنكّرة تطوف شوارع مونيخ الرئيسة. لا يحول تساقط الثلج دون مرحها. ألمانيا كلّها في رقص، وما القناع سوى اتّخاذ دور، كما كان في المسرح الرومانيّ. أليس التشخيص، كما تسمّيه العامّة عندنا، أن نتلبّس شخصًا آخر، كأنّنا صائرون إلى تقمّص مؤقّت. هروب، وكأنّ الإنسان الغربيّ، ليلة ولوجه الصيام، يخجل من العبث، فيستر وجهه بالمستعار. لعلّه لم يقتنع، حتّى النهاية، بأنّ الرزانة يجب أن تتلاشى، فيخلع القناع عند بدء الصوم.
لكنّ الذين يحاولون أن يواجهوا أنفسهم في كلّ حين (والمواجهة من الوجه بالعربيّة) يعبرون الطريق، وكأنّ لا مكانة لهم في الجنون العامّ. ترى بعضًا منهم في خلوة، في الكنيسة الكبرى، وقد نهضت من خراب. لأنّها لم تفن بعد أن أماتها الحلفاء. لم تتنكّر للحياة، فاتّخذت منها خير حديثها. الأسلوب الجديد، في الرسم والنحت والنقش، حيٌّ في تكعيب، بسيط مع الجلال، ليس ممشوقه إلى تأنّث.
تساءلت بسذاجة: «أحكم على البشر أبدًا أن يستوحوا كلام المفتّش الأكبر، ألاّ يقاموا تجربة الخبز واللهو؟ هل يأتي يوم يصير فيه طواف المساخر إلى اضمحلال؟». ما كان يمثل، في ذهني، الدنيا الكرنفاليّة هذه، صورة شهيرة لبروغل في متحف مونيخ القديم: ثلاثة رجال قتلى نوم بعد مدام وطعام، لعلّ العالم سيبقى كذا منشطرًا إلى ذوي شهوة وسبات وأهل إمساكٍ ويقظة إلى يوم يُحلُّ الله الملكوت. في مجال الفنّ، يمثّل رمبرانت ذلك خير تمثيل. في هذا المتحف العظيم ذاته في زاوية ضائعة، له أربع لوحاتٍ: رفع المسيح على الصليب ثمّ إنزاله عنه فقيامته فصعوده. في الأوّليّين والرابعة، المسيح وحده في نور، واللوحة ما عداه مظلمة. فقط، في رسم الانبعاث، يشعّ النور من الملاك من فوق على السيّد الدفين. والنور كلّه كان في يقظته.
Continue reading