Monthly Archives

April 2009

2009, مقالات, نشرة رعيتي

أحد توما / الأحد 26 نيسان 2009 / العدد 17

هكذا يسمّى الأحد الذي يلي الفصح في اللغة الكنسيّة والشعب يسمّيه الأحد الجديد. القراءة تحكي عن ظهورين للسيّد، الأوّل الفصح مساء، والثاني أسبوعا بعد الفصح، وفي هذين الوقتين كان التلاميذ مجتمعين في مكان واحد. في هذين اليومين يحيّيهم المخلّص بقوله “السلام لكم” وهو الذي قال عنه قبل موته انه سلامه. وبولس يقول عن المسيح انه هو السلام (أفسس 14:2). عشيّة القيامة يقول لهم خذوا الروح القدس وذلك قبل أن تحلّ العنصرة، ثم يقول: “مَن غفرتم خطاياهم تُغفر لهم ومن أمسكتم خطاياهم أُمسكت”. رأت الكنيسة أن هذا الكلام يؤسس سرّ التوبة (الاعتراف) من حيث ان غفران الخطايا ثمر القيامة. العمادة ايضًا تغفر الخطايا للبالغين المهتدين الى المسيح. كذلك البشارة اذا قَبِلها الإنسان بصدق وتوبة.

عند الظهور الأول لم يكن توما مع التلاميذ وأطلقت تسمية الاثني عشر عليهم مع ان يهوذا كان قد مات. توما لم يكن اذ ذاك، فقال عند رجوعه الى البيت: “ان لم أعاين أثر المسامير وطعنة الجنب لا أؤمن”. في الظهور الثـاني كان تومـا معهم، وعنـدما تراءى لهـم السيّد قال لتوما: “هاتِ إصبعك الى هنا وعاين”. فلمّا عاين ما كان يريد ان يعاينه قال “ربّي وإلهي” اي “انت ربّي وإلهي”.

في الأصل اليوناني الكلمتان معرّفتان وليس في النص التباس لأنّ اليهود ليس عندهم أرباب كثيرون وآلهة كثيرون. المعنى اذًا هو انك انت هو الربّ والإله. ليس من إيمان بربوبيّة المسيح وألوهيّته أبلغ من هذا.

الأمر المهم الثاني أنّ أثر المسامير في اليدين وأثر طعنة الحربة في الجنب يدلاّن ان الذي ظهر هو اياه الذي عُلّق على الصليب، وليس هنا من احتمال تخيّل كما يقول بعض أعداء إيماننا في الغرب. أراد يسوع أن يقدّم برهانا قاطعًا على أنّ الذي ظهر للتلاميذ المجتمعين مع توما هو الذي صلبه اليهود وقام. الظهور يدلّ على انّ هذا الذي مات ودفنوه هو اياه الذي خرج من القبر.

ليس في الإنجيل وصف لتحرّك جسد المسيح في القبر او انتعاشه بالمعنى الطبي. الإنجيليون اكتفوا بحادثتَي الصلب والدفن وبحوادث الظهورات. الانتقال من الدفن الى الظهورات هو القيامة.

ان شهادة توما من أقوى الشهادات على القيامة الحقيقيّة الفعليّة، وعندي انها أقوى شهادة لكونها مبنيّة على لمس التلميذ لجسد السيّد.

صح ان السيّد يطوّبنا نحن الذين لم نشاهد المسيح قائما، ولكننا أخذنا عن الشهود العيان، وأهميّة الإنجيل من حيث هو وثيقة ان ثلاثة إنجيليّين (ما عدا لوقا) كانوا شهودًا للحوادث. أهميّة الإنجيل للمؤمن ولغير المؤمن انه وثيقة دوّنت حوادث شوهدت، وكتابته انتهت قبل انصرام القرن الأوّل (يوحنا هو الأخير). لك الحق ان تؤمن بالعقيدة التي يحتويها الإنجيل وألّا تؤمن، والايمان نعمة من السماء وليست نتيجة العقل المحض. ولكنك لا تستطيع ان تنكر ان الشهود الذين كتبوا كانوا معاصرين للمسيح.

ويؤكّد يوحنا في آخر هذه القراءة ان غاية الأناجيل هي ان “تؤمنـوا بأنّ يسـوع هو المسيـح ابـن الله وأن تكون لكم اذا آمنتم حياة باسمه”. الايمـان ينـزل عليك هبة مجانية، ولكنه مسنود الى وقائع جرت ووصفها ناس عاشوا في زمن المسيح.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الإيمان والعقل / السبت 25 نيسان 2009

في اللغة العربيّة الإيمان هو التصديق والأمانة بمعنى ان لا إيمان لمن لا أمانة له. ونتيجة ذلك ان الإيمان ينهي عن ارتكاب الفاحشة والله هو المؤمن لأنه يؤمن عباده من عذابه. والإيمان الثقة.

وفي المسيحيّة «الإيمان هو الوثوق بما نرجوه وتصديق ما لا نراه» (عبرانيين11: 1). هذا تعريف وليس بتحديد. الإيمان في العهد الجديد هو الإيمان بالله وبابنه يسوع المسيح. الى هذا ان الإيمان فيه سرور وسلام وحياة ونمو. وله مضمون (أساسا وانطلاقا موت المسيح وقيامته) هو المحتوى الأساس عند بولس الرسول وتعطف عليه المحبة (والقداسة وفي ذروته هو رسوخ). كذلك يعطف الحق والرحمة كما يعطف عليه الرجاء والمحبة. وهو ايمان الجماعة المرتبطة بالمحبة. والملاحظ أن قوما يضلّون عنه اي انهم يحيدون عن «رئيس الايمان ومكمّله» الذي هو يسوع الناصري.

وهناك تأكيدات كثيرة على انه يشفي المرضى ويخلّص. واذا نقص فالرب يكمّله. وله ان يكون كاملا كما في قوله: «كل شيء مستطاع للمؤمن». ولكن نظرًا الى الضعف البشري يطلب الإيمان من الله. وتفصيلا او توضيحًا انت تؤمن بكل ما هو مكتوب. وله نموذج في القديم وهو ابراهيم. وقد يعتبر الإيمان عند الجاهلين حماقة.

في كل هذا تفهم ان الإيمان عطيّة الله والكيان كلّه يتقبّّله. ولا نجد في عشرات الآيات التي قرأتها جميعا كلاما عن علاقة الإيمان بالعقل ولا تقرأ شيئا عن هذه العلاقة عند آباء الكنيسة الشرقيّة. المستند الوحيد عندهم هو الكتب المقدسة وما شهدت به الكنيسة لهذه الكتب. والكنيسة نفسها موضوع ايمان كما ورد ذلك في دستور الإيمان النيقاوي: (أو من) «بكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسوليّة» التي أخذت «بالإيمان المسلّم مرّة للقديسين» (رسالة يهوذا 3).

التراث الإيماني الواحد هو هذا وليس يضاف عليه شيء وان كان لا بدّ من الشرح. دور المجامع المسكونيّة هو توضيح الإيمان وهذا التوضيح سمّي العقيدة ولكن المجامع كان شعورها بأنها لا تزيد حرفا واحدا عما استلمته ولكنها تضع في إطار الحضارة التي كانت سائدة في الألفيّة الأولى ما ورثناه من الأناجيل في صيغ الفلسفة اليونانيّة ولا تأتي بإنجيل آخر. طبعا انتقد أصحاب البدع ما جاء في المجامع وانعقدت هذه ردا على البدع مؤمنة انها تعرض الإنجيل الصافي بعبارات يفهمها الناس الذين عاشوا في الألفيّة الأولى تقوية لمحتوى ما ورثناه من الكتب المقدّسة ودفعا للضلال. ولو لم تظهر الهرطقات لما كنّا في حاجة الى المجامع.
# #
#
هناك مسألة كبيرة تقوم عليها الفلسفة الإسلاميّة لما ترجم المسيحيون في العصر العباسي بعضًا من الفلسفة اليونانيّة الى العربيّة وأحبّ المثقّفون المسلمون فلسفة الإغريق الى حدّ بعيد ودار كل فكرهم حول العلاقة بين الحكمة والشريعة. وبتعبير آخر بين علاقة العقل بالوحي وتوسّعوا جدا بما سمي البراهين على وجود الله وبلغ هذا السعي ذروته مع ابن رشد وأخذ توما الأكويني الكثير عنه ولا سيّما ان الإكويني اعتمد أرسطو أساسا لمباحثه اللاهوتيّة وكان يأخذ بالبراهين على وجود الله والتقى اللاهوت الكاثوليكي والإسلام على هذا الصعيد.

لم يكن للكنيسة الأرثوذكسيّة هذا الهاجس على الإطلاق ولعلنا نجد تعليل ذلك عند القديس باسيليوس الكبير القائل ان المعرفة معرفتان: الأولى معرفة الطبيعة التي يصل الإنسان اليها برؤيتها وفحصها والتبحّر في علومها ومعرفة الإنسان لله التي تأتي من الله نفسه اذ انكشف هو نفسه في الكتب المقدّسة. ولا علاقة بين هذين المجالين.

السؤال الذي يفرض نفسه هو ما هو المرجع المعصوم أمامنا. هل اذا جاءك الايمان تحتكم الى العقل ام تحتكم مع استخدام عقلك الى الإيمان: هناك ناس نسميهم باللغة الفلسفيّة عقلانييّن Rationalistes  لا يقتنعون بشيء الا اذا وجدوا له اساسا عقليا علما بأنهم يتصرّفون بالحدس وبالعاطفة في معاشهم اليومي خارج الدين. فلا احد منهم يتزوّج على أساس عقل بحت ولا أحد يحب الموسيقى العالية او الرسم او النحت او العمارة الا بناءً على الذوق اي على قوّة غير عقليّة ولا أحد يؤثر أكلة على أكلة الا بسبب من لسانه هو لا لسان غيره. ومع كلّ عقلانيّة يخضع لمزاجه او إحساسه الذاتي الذي لا يعبر بالفحص العقلي مع ذلك يصر هؤلاء على انّهم لا يؤمنون بالله الا اذا أثبت لهم بالأدلّة.

في مقاربة ايمانيّة ترى كنيستي ان الخطيئة الأولى زعزعت كلّ الكيان الإنساني. العقل اضطرب وأصابته المعطوبيّة التي أصابت كلّ ملكات الإنسان. وعندما تجعل العقل المرجعيّة الأولى فيك تفترض انّه سليم مطلقا وانت لا تجهل ان عقل فيلسوف أقوى من عقل بقّال. واذا عدت من الإيمان الذي قبلته ويحييك تفترض ان العقل أثبت منه وانه على صمدية كاملة وهذا مجرد افتراض.

ان سيادة العقل في معطوبيته الكيانيّة وفي اختلاف العقول على الإيمان لأمر خطير جدا. الوحي مطلق ونازل من السماء على كلّ العقول. لذلك نبدأ من الله على انه موجود ونبدأ من الوحي. ليس الله تحت السؤال. اما العقل فتحت السؤال.

هذا لا يمنع بعد استلامنا الإيمان ان نعمل العقل لفهمه. فبعد إقرارك به عندنا كل الوسائل لدعمه على انه غير مشروط بها. هناك أدوات عقليّة لبسط الإيمان وشرحه وهذا ما نسميه اللاهوت. واللاهوت علم ينسق معطيات الإيمان وقد يقويه. العقل بأدواته يأتي خادما للوحي.
# #
#
الإيمان امانة لكلام الله. وكلام الله يثبت فينا الإيمان. الإيمان بالاشتقاق اللغوي هو المأمن ويكمن في القلب. والقلب في المصطلح الإيماني في كنيسة المشرق ليس عواطف وانفعالات لأن هذا يسوقنا الى احتمال الأسطورة. والى القلب ينزل العقل واذا سكن فيه يعود الى الذكاء ليحييه. القلب في مفهوم الكتاب هو الفهم وليس مكان التأثرات العاطفية وهو مع العقل في تماس بحيث ينزل العقل الى مكان الفهم الكياني. والقلب بمعنى الإدراك اللدني يعيد الى العقل ما نزل منه الى القلب منورا بالنعمة. هذه هي الرؤية الأرثوذكسية للإنسان المؤمن بحيث ان العقل ليس مجردات جافة اذا استقبل ما يصعد اليه من القلب بعد ان مسته النعمة.

من هذا القبيل لا يبقى العقل المستنير بنور النعمة عقلا مجرّدًا على طريقة العقلانيين ويصير جزءًا من الكيان البشري الذي مسّه الروح القدس فاذا اكتمل العقل بالإنسان الداخلي لا يبقى مستقلا عن ايّة قوّة من قوّة الإنسان اذ تدعمه الإرادة المؤمنة والسيرة الحسنة. الفرق بيننا وبين العقلانيين اننا نقول بالإنسان الكامل الجامع لكل القوى البشريّة التي دعمتها النعمة التي بها يلطف ويحب. والمحبة هي القوّة الكبرى التي تسود العاطفة والذكاء البشري لأن «الله محبة» كما يقول يوحنا الإنجيلي في رسالته الأولى الجامعة.

والإيمان هو الذي يربّي الإنسان بالخدمة التي يبذلها في العمل الصالح ومن مجالات هذه التربية العبادات. يبقى عند العابد الكبير ان يرى الى شؤون الله متلاقية بلا اختلاط بين العقل والإيمان وهذا هو التأله اي صعود الإنسان بكل طاقاته الى الله. ليس اننا نخترق جوهره ولكننا نتلقى قواه الأزليّة التي تجعلنا في حالة تصاعد اليه فيلامسنا ونلامسه. وهذا ما نسمّيه التقديس ومن أدواته الأساسيّة الاستقلال عن المحسوس ليصير الله الكلّ فينا فننزل من هذا الكل الى شؤون العالم المنظور ولا نغرق فيها ولكنا في صعودنا نطهّرها ونقدّمها لله قربانا.

هذا ما قاله الفيلسوف في كنيستنا وما قاله كبار آبائنا الذين كانوا علماء الكلمة وخبيري القداسة بآن. وفي هذا نستند الى ما قالته المزامير: «آمنتُ ولذلك تكلّمتُ». وفي هذا نذوق حلاوة الله.


Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الفصح / السبت ١٨ نيسان ٢٠٠٩

«ان الشمس الكائن قبل الشمس، غاب وقتًا ما في الرمس، سبقت نحو الصبح بنات حاملات طيوبا يبتغينه كابتغاء النهار». في موضع موته كان كثير من النساء (متى 27: 55) بينهن مريم المجدلية ومريم ام يعقوب الصغير ويوسي، وسالومة، وهنّ اللواتي تبعن يسوع وخدمنه عندما كان في الجليل، وغيرهنّ كثيرات صَعِدن معه الى أورشليم (مرقس 15: 40-41) ويؤكد لوقا شهادة النساء. الذي حصل، حسب رواية يوحنا الانجيلي أن يسوع «حنى رأسه وأسلم الروح» وأنّ الجند لما وصلوا الى يسوع وجدوه ميتا فما كسروا ساقيه حتى ينهي الانجيل الرابع كلامه هكذا: «والذي رأى هذا يشهد به وشهادته صحيحة، ويعرف انه يقول الحق».

          متى ومرقس ويوحنا كاتبو اناجيل ثلاثة كانوا حول الموضع. حادثة قتل يسوع موثقة بالشهود العيان وبما رواه لوقا وبولس في ما أخذاه عن الشهود الأوائل في كنيسة اورشليم.

          حادثة القيامة مشروطة بحادثة الموت على الخشبة. والقيامة هي خروج الناصري من القبر ثم ترائيه عدّة مرات لتلاميذه وللإخوة. وهذه الأحداث مترابطة، متماسكة نشأ عنه العيد الذي نحن فيه وكان فيه اخوتنا الآخرون قبل اسبوع على المعاني ذاتها  والحب الواحد للمخلّص. الجمعة العظيمة والأحد هما في الحقيقة عيد واحد وكانت كنائس آسيا في القرنين الأوّلين تقيم الذكرى يوم الجمعة وكنيستا الإسكندريّة وروما تركّزان على يوم الأحد وفي التعييد الطقوسي لا انفصام.

          أهميّة موت المعلّم عندنا ان «اللحم والدم لا يرثان ملكوت الله» وان هذين يجب ان يموتا حتى يتمجّد ناسوت المسيح بالنور وتكون له القدرة على الارتفاع الى الآب. على هذا يركّز بولس في حديثه عن قيامة الأجساد بقوله: «ما تزرعه لا يحيا الا اذا مات» (١كورنثوس 15: 36). ولكون المسيح باكورة حسب تعليم الرسول ايضا فما قاله عن قيامة الأموات في اليوم الأخير يجب قوله عن قيامة المخلّص: بيُدفن الجسم مائتا ويقوم خالدًا. ثم يتوسّع بولس حتى يقول: «ومتى لبس هذا المائت ما لا يموت، ولبس هذا الفاني ما لا يفنى»، ثم قول الكتاب: «والموت ابتلعه النصر».

#                                #

#

          رأينا القيامة تابعة للموت نلمس بينهما علاقة جدليّة وهي علاقة التواصل وعلاقة الانفصال معا. التواصل هو ان الأساسي في جسد يسوع يستمرّ ليكون القائم هو نفسه الذي مات والانفصال او بالحري التمايز ليكون للقيامة تجاوز الموت الذي لحق ببشريّة المخلّص.

          واضح التواصل في ظهور السيّد للتلاميذ عشيّة الفصح وبعده بأسبوع كما ورد عند يوحنا. وفي الظهور الثاني أرى توما أثر المسامير في يديه وجنبه المطعون بعد ان شكّ توما بالترائي الأوّل. الأهميّة الكبرى لهذه الشهادة انها تبيّن انّ الذي بدا للرسل مجتمعين مرّتين هو ايّاه الذي عُلِّق على الخشبة وهذا من باب التواصل.

          اما من باب الارتقاء عن الجسد البشريّ في تجلّي القيامة فهو ان السيّد دخل عليهم والأبواب مغلقة اي انه في انبعاثه قد تخلّى عن كمدة الجسد الترابي او كثافة اللحم والدم ليلبس جسدًا روحانيًا وهذا لا يعني أثيريا او شكلا ضبابيّا اذ يطل يسوع بالنور الذي كان كامنا فيه ولكنّه كان مستورًا عن أعين الناس حتى يظهر بين الناس واحدًا منهم. كان ينبغي ان يلبس جسدًا سماويًّا ليتقبّله التلاميذ في نصره وفي تجاوزه الترتيب الأرضي ليفهموا انه الظافر. في هذا التجاوز الذي أدركه ما كان ممكنا ان يبدو لغير المتهيّئين ان يقبلوه.

          هذه الجدليّة الفصحيّة قائمة في إنجيل يوحنا حيث يستعمل السيّد جذر المجد ليتكلّم على آلامه. «الآن تمجّد ابن الانسان وتمجّد الله فيه» أو قوله: «مجّدني يا أبتِ بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم» (يوحنا 17: 24). موت السيّد في الإنجيل الرابع ليس ظلاما لأنّ المسيح ليس فيه ظل ولا شبه ظلّ. هو يتقبّل اوجاعنا طريقًا الى تعالي ناسوتيّته في ألوهيّته. القيامة، اذا شئتم، كانت قد انكشفت في الصليب. بلصليبك ايّها المسيح نسجد ولقيامتك المقدّسة نمجّدا هذا ما نقوله في سحر كل أحد وفي كل ذكرى للصليب. لذلك لا نخضع أنفسنا لألم جسدي تشبّهًا بآلام السيّد. السلوكيّة الوحيدة التي نستمدّها من الصليب هي القضاء على الشهوات. عندما مات المسيح في جسده أطلق فينا قوة القيامة من الموت الذي هو من الخطيئة. الجسد ليس ليتعذّب ولكن ليتمجّد. لا يقرّبنا أيّ وجع بحد ذاته من الله. لك انت ان تستعمله في الصبر. ولكن الفرح والسلامة ايضا يقرّبانك من الله. التشبّه بالمسيح هو التشبّه بفضائله. هكذا تصبح انت ايقونته اذا نزل المسيح فليس لتحلّ فيك الأمراض او الآلام ولكن ليرفعها عنك. انت في وسط الألم لك ان تسكن المجد.

          بسبب من هذا اللاهوت كان المسيحيون الأوائل يرتدون عند موت عزيز ثيابا بيضاء. اي ما كانوا يعرفون الحِداد. على هذا الأساس اخذ الكثيرون من أبناء كنيستي يهجرون في التعازي عبارة «العوض بسلامتك» ويقولون: المسيح قام والأخ المتعزي يقول: حقًا قام. وهي العبارة التي نستعملها كل الزمن الفصحي اي منذ يوم العيد حتى حلول خميس الصعود. وطوال هذا الزمان نقبّل بعضنا بعضا بقبلة فصحيّة.

#                      #

#

          ان تكون انسانا قياميا هو ان تؤمن بأن المسيح غلب العالم. الوجع الحقيقي ان تكون مقهور الخطيئة والكآبة وان يؤلمك دوس العالم لك. واذا آمنت ان المسيح «وطئ الموت بالموت» تتحرر من كل كابوس ومن كل مشقة لكونك مدعوا الى فرح مقيم.

          الانسان الفصحي هو الذي يعرف وسط كل انشغاله وفي همومه الدنيويّة وفي خسارته للدنيا، ان يركّز حياته على السيّد فلا تذهب به أقدار ويتخطى امتحان المصيبة حتى يعود الى نقطة ارتكازه أعني المسيح في شخصه وصليبه وقيامته.

          رجائي ان نعبر جميعا الأسبوع العظيم اليوم بالتوبة. فالعيد رؤية النور الذي يجعلنا نستقرّ في التوبة. غدًا يوم تهليل بدوس المسيح الموت الذي عشعش فينا وقهرنا الى حين العيد هو اليقين ان الخطيئة ليست مقرّنا الأخير. لذلك نقبّل بعضنا بعضًا في كلّ الزمن الفصحي متهلّلين بالترتيل. خوفي أن نسترخي بعد جهاد الصوم. في الفصح نستنير ولا نسترخي ونلاصق الحي الذي قام وأقامنا معه.

          فاذا انتهى الصوم نبدأ اليقظة الدائمة على طهارة نفوسنا طالبين المحبّة. ونشدّ آحقاءنا لنسير الى الإخوة الذين يعوزهم الفرح. بلا هذا المسلك لا طريق الى السماء.

          من أجل كلّ ذلك قال بولس: «افرحوا في كلّ حين وايضًا أقول افرحوا» (فيليبي 4: 4). وهذا ليس فقط بسبب حدث جرى وهو قيامة الرب ولكن بسبب من انتصارنا على الخطيئة والموت في عميق أعماقنا.

Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الفصح / الأحد 19 نيسان 2009 / العدد 16

نحن فصحيّون دائما لأننا نرتّل للقيامة كلّ أحد، لأنّ الأسبوع الذي يهيّئ للعيد كلّه مشبع بكلمات القيامة وانتظارها. ظهرنا فصحيين في أوائل الكنيسة لأننا كنّا نرتدي ثيابًا بيضاء عند الموت. عاداتنا ليس فيها حزن لأنّ المسيح في موته كان غالب الموت.

فصحنا ليس يومًا واحدًا. يمتدّ من الجمعة العظيمة الى أحد القيامة. اخترنا يوم الأحد للتعييد لأنه يختصر الخلاص كلّه مع أنّ الخلاص يبدأ بتجسّد إلهنا اي يوم بشّر الملاك العذراء بمجيء إلهنا. صح ان الفصح ينتهي إنشادًا يوم خميس الصعود، ولكنا نحيا بقوّته حتى يحلّ فصح الإنسانيّة الأخير عند القيامة الأخيرة.

معنى العيد كامن في كلام السيّد في خطبة الوداع: “ثِقوا انّي قد غلبتُ العالم” (يوحنا 33:16). المسيح الظافر هو المسيح المحرّر اذ لم يبقَ مؤمن أسير الخطيئة اذا ارتكبها او أسير القهـر الذي يحلّّه فيه الظالمون ولا يبـقَ مكبّلًا بمـرضه او بفقـره او بالعـداء الذي يُعادى به. عيد المؤمن الدائم كلّ يوم هو عبوره من وطأة ضعفاته عليه والضعفات مُـرّة. هو انتـقاله من الجهل الروحـيّ الى المعرفـة الروحيّة. هو تحقيقه ملكوت السموات فيما هو على الأرض. هو إعلان الله اياه على انه خـليقة جديدة، أخ لكلّ المخلوقات الذكيّة التي تتجدّد بالمسيح.

الإنـسان الفصحيّ هو الذي يـعرف وسط كلّ انـشغاله وفـي همومه الدنـيويّـة وفي أوجـاعه وخـسارتـه للـدنيا، الذي يـعرف ان يـركّز حيـاتـه على السيّـد. تـذهـب بـه الأقـدار أنّـى شاءت وتـمتـحنـه المصائـب ويـشرد الى حيـن ولكنـهّ يـعرف ان يـعود الى نـقطة ارتـكازه.

الفصح ان يلملم المسيح كل واحد منّا من شتاته الى وجهه الجامع لكلّ خليقة لا ترتاح الا اذا عرفت خلاصها. الانسان المسيحي مَن عرف ان يقول ان “المسيح يسوع جاء ليخلّص الخطأة الذين أنا أوّلهم” (1تيموثاوس 15:1).

واذا عبرنا الأسبوع العظيم ايام توبة، فالعيد هو رؤية النور الذي سكبته علينا التوبة اي انه يوم تهليل بدوس المسيح الموت الذي عشعش فينا وقهرنا الى حين. العيد هو اليقين ان الخطيئة ليست مقرّنا النهائي.

لذلك نقبل بعضنا بعضًا في كل الزمن الفصحي قائلين: المسيح قام.

بسبب من فهمنا هذا للفصح أصبحنا كنيسة مرتّلة بامتياز. هذا لا يعذر احدًا اذا استرخى من بعد جهاد الصوم واستنارتنا بالأسبوع العظيم. فنتشدّد بقوّة الذي غلب الموت من بعد ان امتلأنا بالفرح.

نتقبّل بالعيد ثمار جهاد الصوم، ولكن بعد العيد نعود الى الجهاد، الى اليقظة الدائمة على طهارة نفوسنا والى المحبة. التراخي إغراء كبير. دائما نحن مشدودو الأحقاء. بلا هذا الشدّ لا طريق الى الفرح، لا طريق الى الفصح اي لا طريق الى السماء. من اجل كل ذلك “افرحوا في الرب كـلّ حين وأقـول افـرحـوا” ( فيـليبـي 4:4). ليس فقـط بسبـب حـدث جـرى وهو قيـامـة الرب، ولكن بـسبب انتصاراتكم على كل خطيئة، والنصر يأتي من الذي انتصر ويبقى منتصرًا في أعماقنا. المسيح قام

Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الشعانين / الأحد 12 نيسان 2009 / العدد 15

طقوسيا، ينتهي الصوم مع سبت العازر، ونبدأ الأسبوع العظيم في أحد الشعانين. في مساء ذلك اليوم، نقيم صلاة الخَتَن، ولفظة الخَتَن سريانية وتعني العريس اي الرب يسوع نفسه لكونه عريس الكنيسة، ونُبقي صلاة الخَتَن حتى الثلاثاء مساء.

دخول يسوع الى اورشليم وارد في الأناجيل الأربعة مع اختلاف بسيط في الوصف.

غاية الدخول الى اورشليم هو الوصول الى الموت فالقيامة.

السيد راكب على أتان وجحشها. في إنجيل يوحنا الذي هو إنجيل القداس، لا يتكلّم الا على جحش فيتحقق هكذا قول النبي القائل: “لا تخافي يا ابنة صهيون، ها ان مَلِكك يأتيك على جحش ابن أتان”. لا يدخل على خيل الذي هو ركوب الملوك والعظماء.

في متى يقول: خرجت الجموع لاستقباله، ولا يقول اي انجيل ان هذا الاستقبال قام به أطفال. كان الأطفال مع غيرهم. ان يكون هذا العيد مخصصا للأطفال تقليد شعبيّ فقط ظهر في بلادنا.

إنجيل متى هو الأوسع في الحديث عما فعله يسوع الاثنين والثلاثاء والاربعاء. أيام مليئة بالتعليم اللاهوتي ولا سيما بخطاب الويلات السبع التي نطق بها السيد عن الفريسيين وبرثاء اورشليم وعلامات نهاية الزمان والحديث عن ملكوت الله.

وحاول المفسرون ان يستخرجوا من هذه الأعمال والكلمات برنامج السيد لهذه الأيام الثلاثة قبل إقامة العشاء السري والتسليم والمحاكمة والصلب.

بالشعانين ندخل اسبوعًا مكثّفًا، مضيئًا. لذلك جاءت تسميته “الأسبوع العظيم”. وفيها نعيش الأعمال العظيمة التي قام بها السيد ونعيش الكلمات العظيمة حتى نتحد بآلامه ونرنو الى قيامته في اول الأسبوع اللاحق.

في هذه الأيام نلملم النفس وندعو يسوع الى الدخول اليها ونتشرب القراءات في المزامير والأناجيل ورسائل بولس ولا سيما في دورة هذا الأسبوع في الساعات الملوكية صباح الجمعة العظيم ونتهلل بالقيامة في خدمة الجناز لأنها في حقيقتها سَحَرية سبت النور.

ولكن كل هذه الخِدم قُدّمت عدة ساعات قبل توقيتها الزمنيّ لكون المؤمنين يجتمعون في الليالي.

نضع نفوسنا في قلب المسيح ولا ندعها تتلهّى بشؤون هذا العالم، ونصوم صومًا شديدًا، واعتاد بعض الأتقياء أن يمتنعوا عن الطعام منذ الخميس العظيم مساء حتى صباح العيد فيفطرون بعد قداس العيد وقلوبهم تواقة الى القيامة الشافية نفوسنا من كل خطيئة والمفرحة إياها بالظفر الإلهي.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الانسان النازل من السماء / السبت 11 نيسان 2009

من زاوية تاريخية واذا نظرنا الينا جماعة نجيء جميعًا من لبنان، من أخطاء بنيه وحسناتهم، من تطلعاته، من دولته على عجرها وبجرها. بعضنا يجيء كثيرا من خطايا هذه الأمة وبعض يأتي قليلا. بعض منا يرزح تحت العبء وبعض يحاول ان ينتفض. لكن الجميع يرثون البلد قدرا غير ان قلة تعرف ان الأقدار غير محتومة وان الله إله التغيير كما هو إله المحافظة حتى لا يبقى أحد تحت نير.

المهم ان يحسّ الانسان ليس فقط انه يجيء من البلد ولكن ان يعطيه. المهم ان يؤمن ان التاريخ ليس أعمى او وليد عواصف لا رد لها ولكن أعظم ما فيه صنع أفراد عباقرة كانوا أم قديسين واذا كنت غير قادر ان توصّي على العبقريّة كما توصّي على بضاعة فأنت قادر ان تطمح بإشاعة النور من حولك لتحدث في قدر من الناس تغييرا. مسألة الدولة مسألة الإنسان وعمق روحانيّته واستقامة فكره وخُلقه. اجل الدولة بنية وفلسفة وقدرة وأنظمة وقوانين وآليات ووزارات. هذه كلّها يحرّكها الإنسان. صناعة الدولة ليست صناعة آليّة. انما يقوم بها بشر بحيث تختلف الدول باختلاف المستويات العلميّة والخلقيّة في شعوبها.

تختلف طبعا باختلاف مجتمعاتها لأن للمجتمع شخصيّته الأدبيّة وطبائعه وميراثه التاريخي. في هذه المنطقة إناسة (انثروبولوجيا) مسيحيّة وإناسة إسلاميّة. وفي بعض النواحي من الوجود والمسالك تختلف النماذج البشريّة أصلا ولو تقاربت اليوم الى حدّ بعيد. وقد لاحظ علماء الاجتماع الاختلاف القائم في اوربا بين المجتمع البروتستنتي والمجتمع الكاثوليكي ولاحظوا الى حد بعيد الاختلاف في الأخلاق بين هذين المجتمعين اذا كانا مستقلين، غير مختلطين.

ولكلّ مجتمع وسائله للرقي الروحي والأدبيّات التي تتأثّر به. ربما طمست الانحرافات الخلقيّة كل المجتمعات وجعلتها متقاربة بالسوء وربما حدث تحسّن في كلّ المجتمعات لأسباب حضاريّة استجدّت.

في الأخير اذًا الدولة بنت الناس الذين ترعاهم ويحتضنونها. فالسوال الذي طرحه هذا الفريق السياسي او ذاك «اي لبنان نريد» افتراض فقط. قضية التواصل الخارجي او ما وصف بأنه اتجاه حضاري مرتبط بسياسة الدولة الخارجيّة. لم يطرح على ما أذكر فريق من الفريقين هذا السؤال: ايّ لبنان نريد في وجهه الروحي لكي تحلّ كلّ مشاكلنا من نفحات روحيّة نازلة من فوق فالشكاوى الصادرة على هذه الشريحة ام تلك ليست من باب الحقوق او الإدارة او العمل السياسي وكأن أمورنا يُنظر اليها من زوايا تجريديّة مستقلّة عن الباطن الإنساني.
# #
#

اذا كان ممكنا ان نصوّر الشعب اللبناني مؤلّفًا من عدد من المواطنين يمارس الرشوة او يتقبّلها اي قانون انتخابي يأتي باطلا واذا كان قسم منّا يمارس الكذب فما الجدوى من معاملات وإفادات وشهادات امام المحاكم. إقامة الدولة لا تكون فقط على آليات مدروسة وترتيب وضع قانوني وحسب ولكن تقوم على تهذيب هذا الشعب من خارج أطر الدولة.

في الأخير يأتي السؤال هل انت مؤمن بالله؟ ان آمنت به لا تكذب ولا ترتشي ولا تغري طبيبا ليعطيك تقريرًا صحيا غير صحيح ولا تطلب الى كاهن شهادة مزوّرة عن تاريخ معموديّة ابنك ليستفيد منها ماليا في البلد الذي يقطنه في الخارج.

اذا كانت هنا نمطية اخلاقية فاسدة كثيرة الانتشار تأتي الخلافات سياسيهة عندي في الدرجة الثانية من الأهميّة. هنا اسمحوا لي أن أعترف قليلا. لمّا عدت من دراستي من باريس السنة الـ 1952 شعرت أني لم أستطع أن أتأقلم بالبيئة بسبب من كثرة كذبها. وتفاقم اختناقي بخاصة لأن أحدًا في أقامتي الاوربيّة لم يكذب ولم أكذب انا.

عُيّنت معلّمًا في البلمند وكانت آنذاك ثانوية وروضنا التلاميذ على الصدق حتى كنا قادرين ان نتركهم بلا مراقب في الامتحانات الخطيّة. بعض من الفضيلة تربية. لم أجد في لبنان مراكز يتروّض فيها الإنسان على الصدق وعلى الاستقامة في التعامل المالي.

المشكلة ان الشرق يؤمن بالله ويقوم على صلاته ولكنه لا يعتبر بعامة ان هذا يقيّده بسلوك موافق لهذا الإيمان. بعض الناس في الغرب ملحدون ويسلكون سلوكًا موافقًا للإيملان.

مَن يستطيع في لبنان أن يربّينا لنصبح مجتمعا نظيفًا ثم دولة قادرة كما يقولون اليوم. انا بعيد عن الأحزاب كلّها فلا استطيع ان اعرف قدرتها على التثقيف الخلقي. ولكن يفترض انها تفصل بعضًا من أعضائها اذا ارتكبوا معصيّة كبيرة تمس بسمعة الجماعة. الى هذا أذكر أن ما كان يسمّى في طفولتي كتاب التربية المدنيّة يتضمّن مبادئ أخلاقيّة.

أما الأصل في التربية فالأديان. لست زعرف شيئا عن متابعة الأئمة المسلمين للمؤمنين على هذا الصعيد. ولكن خطبة الجمعة تستطيع كثيرا اذا خُصّص جزء منها لمكارم الأخلاق. والإسلام فيه عظماء يعرفون أكثر مني كيف يتدبّرون الأمّة من هذا الجانب.

ليس عندي دراسة كاملة عن تعليم الأخلاق للناشئة المسيحية وللبالغين. في لمحة اولى يزيّن لي أن الكلام اللاهوتي والطقوسي عليه تركيز كبير على حساب التعليم الأخلاقي. لست أنكر وجود عدد كبير من الطاهرين في الأوساط المسيحيّة. ولكني لست ألمس أن عند الوعاظ غضبًا على العنف وسفك الدماء وغضبًا شديدا على التعصّب وعلى غشّ سجلات المحاسبة ولم اسمع دعوة ملحّة على الصدق وطهارة التعامل التجاري وعفة اللسان في الحديث السياسي والمودّة للخصم والغفران للعدو.

اذكر لما كنّا صغارًا ان الكاهن الذي كنّا نعترف عنده كان يمنعنا من المناولة ان لم نسنغفر من أسأنا اليه ولم نغفر لمن أساء إلينا. كان يشترط المصالحة وليس فقط في النيّة للاقتراب من جسد الرب.

هناك شعوب عربيّة أعرفها لا تعرف السباب والشتم والكلام القبيح ولا تعرف التجديف خصوصًا. الله وأنبياؤه والمقدّسات يخلطها بعض من شعبنا بكلام دنس. كيف يكون لهؤلاء القوم انضباط في ايّ مجال كلاميّ او غير كلاميّ؟

ليس في الكنيسة مكان للغنج ولتليين كل الضوابط. هناك مكان للتأديب لأن الكنيسة أمّة مقدّسة كما يقول الكتاب. كانت كنيسة القرن الرابع تقصي من صفوفها المرتد الى الوثنيّة والقاتل والزاني. لست أدعو الى إعادة الإبسال (الحرم) لأصحاب هذه الخطايا. ولكن الكتلة البشريّة التي لا تعرف إطلاقًا فصل واحد عن صفوفها اذا أقرّ بمعصية كبيرة تحدّدها هي تراكم للصالحين والطالحين وبكلمة شعبيّة – اذا سمحتم لي – للأوادم والزعران. هذه ليست كنيسة.

اي لبنان نريد؟ الجواب البسيط نريد لبنان الأوادم على ان تكون الآدميّة النمطيّة الغالبة في شعبنا. كلّ التساؤلات الأخرى ذات الطابع السياسي او الاقتصادي الى حلّ اذا استطعنا خلال عشرين او ثلاثين سنة ان نخلق شعبا جديدا مطيعا لله. اذ ذاك، يصبح اللبنانيون شعبا نازلا من السماء.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

إخوة المسيح / الأحد 5 نيسان 2009 / العدد 14

في رسالة اليوم يقول صاحب الرسالة الى العبرانيين ان المقدِّس (بكسر الدال) والمقدَسين (بفتح الدال) اي البشر من واحد. المسيح من الآب في الجوهر، ونحن من الآب بالنعمة. لذلك يسمّينا “إخوة” اذ يخبرنا باسم أبيه. ثم أراد الكاتب ان يوضح سر التجسد الإلهي بما فيه موته فيقول ما مفاده ان الإله الابن، بما ان البشر مشتركون في اللحم والدم، اشترك هو فيهما لكي يموت ويبطل بموته “من كان له سلطان الموت اي إبليس”. ذلك لأنّ “أجرة الخطيئة هي الموت” وإبليس يغري بالخطيئة فنموت.

واذا مات المسيح يعتق بموته “كلّ الذين كانوا مدّة حياتهم كلها خاضعين للعبودية مخافة من الموت”. المعنى ان كلّ خطيئة هي خوف من الموت. الكذب خوف من العقاب الذي يَلحقنا ان صدقنا. السرقة خوف من الجوع. نسرق فنخطئ فنموت.

الرسول يقول ان غاية التجسّد ان نتحرّر من خوف الموت وتاليًا من الموت.

واذا مات المسيح يصبح “رئيس كهنة” لأنه يقدّم ذاته عن الخطيئة فيلغيها ويلغي الموت الذي سبّبته (بالقيامة من بين الأموات). هو المقرِّب والمقرَب. من نسمّيه كاهنًا على الأرض يستمدّ كهنوته من كهنوت المسيح، ولا يقرّب نفسه ولكنّه يقرّب ذبيحة المسيح الواحدة اي هذا الجسد الذي رُفع على الخشبة. القرابين في الكنيسة ليست تكرارًا لذبيحة السيّد. هي إيّاها ولكنها متَرجَمة بخبز وخمر.

ثم يسمّي المسيح رحيمًا وأمينًا في ما لله حتى يكفّر خطايا الشعب. انه يحمل كل الرحمة وكلّ الأمانة.

أخيرًا يقول “لأنه اذا كان قد تألّم مجرَبًا فهو قادر على أن يغيث المصابين بالتجربة”. جُرِّب يسوع بآلام جسديّة ونفسيّة ما خلا الخطيئة. ذاق أوجاع الصليب وتوجّع لخطايانا حتى جعله أبوه “خطيئة” بمعنى أن زلاّت البشر تجمّعت فيه ألمًا كبيرًا. فلكونه ذاق كلّ الأوجاع فهو قادر على أن يغيث المصابين بالتجارب.

إنّه مع كلّ مريض، مع كلّ فقير، مع كلّ خاطئ تصيبه ضربات الشيطان، ليس أن السيّد يضربه الشيطان ولكنه يتحمّل ألم الإنسان الخاطئ.

المسيح مع كلّ إنسان يحتضر ورفيق كلّ إنسان يموت. هو في القبر معنا وسيكون في القيامة معنا، وبعد قيامتنا نكون معه قرب العرش الإلهي.

المسيح معنا في كل أحوالنا. السؤال: لماذا جاء الشرّ من العالم والرب إله محبة، لا جواب فلسفيا عنه. لا يقول الكتاب: لماذا ظهر الشرّ، ولكنه يقول اذا أصابك الشرّ فالمسيح مُلازمك حتى تتحمّل كلّ صليب وتمشي مع أوجاعك الى الجلجلة فإلى القيامة. لا نعرف كيف جاء الشرّ، ولكنّا نعرف انه يزول اذا ارتمينا على صدر المعلّم كما ارتمى التلميذ الحبيب على هذا الصدر في العشاء السريّ.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الانتخابات القادمة / السبت 4 نيسان 2009

شهران يفصلاننا عن موعد الانتخابات. من يستطيع فيها ان يربّي الناخبين على الاختيار الأفضل؟ شاهدت منذ أيام على الشاشة استطلاع بعض من الناس سمّوا من ينتخبون ولكنّي لم أسمع شيئًا عمّا يدفعهم الى اختيارهم. ماذا يعرفون حقًا عمّن يختارون؟ بماذا اقتنعوا؟ التربية السياسيّة صعبة للغاية. تفترض الإحساس بالحاجة الاقتصادية والمجتمعيّة والمجال السياسي ومعرفة قناعة المرشّح بدقائق الأمور لحاجاتنا ومعرفة صدقه وتقنيّاته في المعالجة.

ما نفهمه أن الأحزاب هي المجال الأساسي التي يصقل فيها الفكر السياسي وتتمّ على ضوئه الخيارات الوطنيّة. في الأحزاب هيئات تتدارس باستمرار تطوّرات البلد والأخطار المحيطة به. لكنّنا مقصّرون في هذا الحقل او تتكوّن عندنا أندية سياسيّة وقوّة ضاغطة أكثر طراوة من الأحزاب اذ لا بدّ من نقد الأداء للأحزاب.

هل نستطيع شيئا فاعلا في شهرين للتوعية على رجاء الشروع بها لندخل جميعا في هذه التربية؟ لعلّ هذا يتطلّب تغييرا حضاريًا يجعلنا ننقلب من الطبائع الانفعاليّة الى الحكم الموضوعي في الناس وبرامجهم. والبرنامج ليس عناوين مثل أريد تحسين الماء والكهرباء والطرقات. لا بدّ من منتديات فيها ملفّات حول القضايا الرئيسيّة في البلد اي فيها اقتراح حلول ووصف للمسيرة الى هذه الحلول. مشروع بناء الوطن علم وديموقراطيّة ليست مجرّد سيادة الشعب للتشريع الا لأنّ البلد قادران يرسل الى الندوة البرلمانيّة مواطنين مؤهّلين للتشريع اي ذات مستوى جامعي وقادرين ان يفهموا مثلا مناقشة في المال والاقتصاد وآلات الحرب والبرامج المدرسيّة وتعديلها ومسألة الأدوية والطبابة وتفضيل الحياة على عقوبة الإعدام. واذا كان البحث هو هذا بالدرجة الأولى ننتقل من طابعه الشخصي والطائفي والفئوي الى التأمّل الموضوعي في الأشياء.

ما لم يكن هذا تدير كتلة صغيرة مناقشات المجلس. عند ذاك، يظهر السؤال ما نفع المئة الآخرين. هل جاؤوا لوجاهة المجالسة ودفء الحياة في الحكم. وجزء من هذا الدفء راتب النائب ثم راتب أرملته بحيث تبدو النيابة سكنا ورؤية في الحياة والموت.

# #
#
هذا كان على صعيد الناخب. اما على صعيد المرشّح فمنذ عشرات السنين كنت أتساءل لماذا هذا يترشّح وطالب الولاية لا يولّى اي لا يسوغ لأحد منّا أن يظن نفسه شيئًا لئلا يصير فورًا لا شيء. هناك من يرشح لأي منصب في الحياة. فاذا طلبت وظيفة في ايّ محلّ هناك من يقول انك صالح او غير صالح. هناك من يفحصك ويقدّمك. فاذا قلت لي الشعب يقدّمك أعيد عليك السؤال ما كفاءة الشعب. نحن نبني على ان الشعب يعرف كفاءته في عقل راشد. الثورة الفرنسيّة ظنّت أنّ سيادة الشعب في أنّه يطلب الحريّة والمساواة والأخوّة أي أنّ هناك معايير للفهم. هناك مَن يقول لك انك صالح لتمثيلنا وعلى هذا الادّعاء تقدّم امتحانًا وهو الانتخاب. ولكن أن تعظّم نفسك وتبدي نفسك مؤهّلا فهذا عندي قمّة الكبرياء. الانتخاب عندنا موضوعيًا مسابقة بين مستكبرين. هذا لا يعني أنّ من قدّم نفسه عندنا بعيد عن التقوى. أقول النظام. نظام ادّّعاء بلا أحزاب او منتديات او هيئات تقدّم المرشّّح.

عندما يتقدّم اثنان يختلفان في موضوع الإضاءة او انهاء الحرب مع العدو او التفاضل بين اللغات الأجنبيّة في برامجنا أو تأسيس هذه الكلية الجامعيّة أو تلك أفهم أنّهما دخلا في منافسة تتطلّب جهادا بينهما. واما الا يختلفا أو لم يخطر اي خلاف كهذا في بالهما فلا أفهم لماذا يكافح أحدهما الآخر. عند ذاك، تصبح القضيّة أنك تؤثر نفسك على الآخر بلا سبب تعرفه قد يكون فقط من باب تفاهة الوجهاء.

# #
#
من تنتخب؟ إذا كنت حزبيّا او مناصرًا لحزب سوف يطرح عليك الحزب لائحة في الدائرة التي أنت منها. وإن لم تكن فأنت حرّ أن تختار مَن تشاء وليس لك ولاء ولا يُملَى عليك أمر. ولكن ما الدوافع التي تندفع بها؟ بالتأكيد لن يكون هذا أمرًا عاطفيًا انفعاليًا كقولك هذا المرشّح عزّاني بوفاة فرد من عائلتي يجب ان أردّ له المعروف اذ العلاقة ليست مودّة شخصيّة بينك وبينه. واذا عرض عليك مال وقبلته فعيب عليك ان ترتشي وتدلّك الرشوة التي أتتك دليلاً على أنّ الذي رشاك إنسان سيء لا يستحقّ أن توليه مسؤوليّة وطنيّة لأن من احتقرك بهذه الطريقة يكون قد احتقر نفسه ولا يستحقّ أن يقيم في الدولة.

الشرط الذي لا حياد عنه ان يكون الذي يلتمس صوتك طاهرًا ما أمكن الطهارة في السياسة اذ هو مدعوّ الى التشريع وإلى مراقبة أهل الحكم وأن يكون ذا ضمير يؤهّله لكلّ ذلك. أمّا مَن تعرف أنّه يتعاطى ما شذّ عن مكارم الأخلاق فتنبذه نبذًا شديدًا. وهذا يفترض الا تضع اسمًا لا تعرف عن سلوك صاحبه. أنت تبدأ بدرس الحال الخلقيّة عند كل مرشّح بحيث يترتّب عليك أن تستقصي سيرته وأن تقتنع بنقاوتها.

الشرط الثاني أن يكون هذا الإنسان على مقدار من العلم لا يحدده القانون ولكن الأميّ او شبه الأميّ غالبًا ما كان جاهل التشريع وضعيف الفهم السياسي ويكون تاليًا مؤذيًا لنفسه ولك وللجماعة. ولكن اذا المتعلّم كثيرا ضعيف الأخلاق فلا ينبغي ان يرد عندك لأن الأخلاق أعظم من العلم، أما اذا جمع الشرطين فهذا «نور على نور».

لا تتأثّر بالعامل الطائفي وان كان لا بدّ من اختيار طائفي حسب قانون هذا البلد. يجب ان تطبّق القواعد الأخلاقيّة على كلّ مرشح وألّا تلحق أحدًا بآخر وأن يأتي مختاروك على رفعة من حسن السيرة. أنت تهتم للمسلم كما تهتمّ للمسيحي. ما يرضي الله ان يتألف المجلس من محبّي الله اي من محبّي وصاياه حتى يأتي الحكم صافيًا وبنّاء للأمّة كلها. القاعدة الموروثة من الشرع الروماني القديم ألا أخلاق بلا عدل ولا عدل بلا أخلاق.

واذا اجتمع هذان الشرطان فهذا دليل على ان المرشّح (او المرشحة) ممن يحبون الوطن. لا يكفي ان يكون قد صرّح هذا الإنسان على أنه ينتمي الى لبنان. ينبغي أن يكون قد أثبت ذلك في سيرته. واذا شككتَ في وطنيّة واحد وقرأت تصريحًا واحدًا يثبت فيك هذا الشك او علمت بمسلك عنده يثبت عندك الشك فهذا تشطبه من اللائحة او اللوائح المفروضة عليك. لأنك، ان لم تفعل تكون أنت قد خنت الوطن.

لا تيأس من أنّ الانتخابات القادمة قد تنهض ببلدنا. اعمل وكأنك ترجو هذا الخلاص أي تطهر ليأتي المجلس القادم حسب قلب الله لأن هذا ما يريده الرب للبنان.


Continue reading