لم استمتع بالقاهرة كما كنت قد اشتهيت. صديقي الدليل السياحي كان غائبًا فلم يزد علمي بالحضارة المصرية القديمة التي تحدث فيّ، ما أقبلت عليها من جديد، هزة في النفس قوية هي أقرب الى الرؤية الروحية منها الى الشعور الفني.
اضطررت ان أؤثر الوجوه على الحجر. اقتصر عملي على محاضرتين احداهما عند الاقباط والاخرى في ملة الروم في القاهرة وعلى تأمل انجيلي في دير الانبا مقار في وادي نطرون في الصحراء وليس المجال هنا للتحدث عنها. شعوري ان المسيحي في مصر لا يحتاج الى مقومات عقلية ليؤمن أو ان العقل لا يسائله عن ايمانه وانه مرتاح في ما اختار أو ما اختير له. رأيتني اضحك من نفسي بما كنت أقدم حججًا او اصف المسار الفكري الذي سلكت لأصل الى ما وصلت اليه من طرح. انا أفهم جيدًا الا يحتاج الاكثرون الى ما يدلهم في الطبيعة او التاريخ أو الذهن على الله وأتبرك منهم تبركًا كثيرًا. لكني افهم ايضًا أن من الناس من سعى الى وحدة في كيانه بين ما لبسه من عقل ومن جمال ومن جسد ومن قلب وما نزل على قلبه من نور هداه. ربما كان لكل فئة من الفئتين مخاطب. على هذا انا واثق ان الله لا يريدنا ان نتلف مما خلق ولو ارادنا ان نعرف حدود كل شيء.
للعقل حدود اذ له مجالات وليس له كل المجالات. هناك عالم السر وعالم الرؤية وهناك المودات نرعاها أو ترعانا. لكن الاعظم فيك أعني الرؤية لا ينبغي ان يزهد بالاصغر عنيت العقل ليأتي الاعظم محمولا على الجد. افهم ان يأتي اكثر النفوس الى الله على شيء من السهولة، (اصحابها يقولون انهم بسطاء). هناك طبائع ليست مركبة او ليست معمرة. أحسدها لأنها لا تتعب كثيرًا. لا أحسدها لأنها فقيرة الى الهيكليات العقلية.
# #
#
كللت من الدين الشعبي لأن الانسان مركزه أو قبلته. همه ان يتلذذ القلب بالمشاعر. الى هذا ترى المؤمن “البسيط” يتمحور على صحته وصحة أولاده. ولهذا كان في عطش الى المعجزة والى اثبات القداسة بالمعجزة. هذا يعني انه يريد خطابًا إلهيًا جديدًا. انا لست انكر حرفا واحدًا من العجائب “المعقولة” التي وردت في سير القديسين ولست أنكر ان قوة الله تتجلى في مختاريه بهذه الصورة كما تجلت في المسيح. ولكن يلفتني ان السيد أرادنا ان نؤمن به بسبب الكلام الذي قاله “والا فصدقوني بسبب الاعمال”. اذًا في الفكر الانجيلي تأتي المعجزة بعد الكلمة تعزية للضعفاء الذين لم يتمكنوا من الانبهار باعجاز الكلمة في انجيل يسوع المسيح. كذلك نرى في انجيل يوحنا ان عجائب السيد وهي سبع (وهذا رقم رمزي) يتبعها دائمًا تعليم كأنها تمهيد له لأنه هو مطرح التلاقي بين السيد وتلميذه.
لقد نزل ابن الله مرة الى العالم ليكفيك نزوله. ولن يتجسد. من بعد هذا انت تصعد. لذلك لا أحب هذا التعريف الشائع عن الكنيسة انها تجسد المسيح. الكلمة تجسد مرة واحدة. الكنيسة ليست تجسد المتجسد. هي صعوده. والكلمة التي فيها تشدنا الى فوق. والقديسون جالسون فوق. والايقونة اطلالة من السماء لتشد اليها الارض. والقرابين المقدسة تأخذك الى جسد المسيح القائم على العرش. ما يهزني في الرهبانية – أصلاً ومثالاً – انها تقيمك في الحد الادنى من الحاجة لتوحي اليك بأنك دائما في ذهاب الى المسيح الآتي. لهذا خشي الاكابر على الدير غناه. خافوا سؤالاً كهذا: كيف ندير، ماذا نعمل بهذا الرزق أي خافوا ديرًا يتحول بسبب من الانهماك به مؤسسة وليس عند الرهبان اذا تجنحوا وقت ليقفوا.
# #
#
ما من شك ان في عقولنا خلطًا بين حال القلوب ومسؤولية الهداية. الاولى ليس لنا بها علم ف”بالنعمة انتم مخلَّصون” او كقوله الآخر: “طرقي غير طرقكم”. غير ان الله اراد التعليم لمجرد انه اراد الوحي. والوحي ذو مضمون يجب ان تعرفه انت لتخلص به. وجعل الله لنا انظومة متماسكة، عظيمة البنية، كافٍ غناها، اسمها الكنيسة لكي تصل الى مسامعك الكلمة وتحيا بها.
وكل ما كُتب في هذه الكنيسة منذ الفي سنة وما وضع من قوانين واستخرج من فن وما لُحن وأنشد وبني، كل ذلك غايته ان تعرف لعلك تفهم وتستطيب الله وتكون في حركة رؤية لا تنقطع بالموت ولا تنتهي بالقيامة لأنك على ما علم غريغوريوس النيصي تنتقل من بعد البعث من بدء الى بدء ويجمل الله في عينيك كل لحيظة من لحيظات الابدية بما انه اهّلك للرؤية.
واذا كان الرب لا تقع عليه السكونية هناك فلا تقع انت على قلبك الفهيم السكونية هنا ولا تكتفي بفتات المعجزات والاقاويل وان تعمى عما تفوه به الله وعما حاكته الكنيسة من هذا الثراء وتعرض عنه لتجد له بديلاً من نسج خيالك وانفعالك شبه الديني او تعوضه بما قد يكون واقعًا لكنه عرضي أو هامشي.
أنا في يدي تفويض واحد هو تفويض الكلمة. وهذه ليست مدروسة درسًا وافيًا عند من فرض فيه تلقينها ومن فرض فيه تلقنها. أما الصلاة ونصوصها فهي نسج على ما قاله الله ووجه آخر له. ولكن لن تصل اليك نفحات الصلاة ما لم ينزل على قلبك الكتاب العزيز. هذان وجهان لعملة واحدة ولا بديل من واحد منهما عن آخر.
السؤال المفجع هو كم من جيل تعلم. والسؤال الذي يرافقه هو أيًا كان عمق تعلمنا ماذا عملنا بالتفويض الالهي؟
الاهمال انشأ دينًا شعبيًا ويبدو اننا مستسلمون لوجود فئات غير مستنيرة وما قد لا نبوح به لأحد ان جماهير السذجة جيدة لأنها توفر علينا تعب العمل الفكري. والواقعية المرة توسوس في صدورنا ان الجماهير ستبقى على غباوتها وانه لا بد من نخبة تتعاطى الالهيات والتفسير.
# #
#
ما قض مضجعي في السنوات الاخيرة هذه الهوة القائمة بين كلمة الله والمؤمنين على مستوى الفهم. طبعًا انا أعرف ان الفهم الآتي من الدراسة لا يعني انك بلغت لب الكلمة أو تلألأت بها. ما يخيفني ان الكلمة تسقط احيانًا على الارض ولا تعود الى الله كما تمنى اشعياء بالقلوب مبلورة مطهرة. هل يعني هذا ان وضع الدين le statut de la religion ان تزرع انت فقط وتسقط حبة الحنطة على أرض خصبة أو أرض يابسة وما الى ذلك مما يقوله مثل الزارع في الانجيل؟ هل أعزي نفسي بذلك لئلا تحزن الى الموت أم يقود السؤال الى رجاء لهب عظيم يضرم المسيحية حيثما وجدت وينتشر اللهب برياح عاصفة نعرف انها من الروح.
أنا لا أحب المرشدين الكسالى الذين يهملون التعليم ويوقفون كل شيء على طهارة الروح، على القداسة كما نقول في المسيحية. كأنهم ما قرأوا: “انتم انقياء بسبب الكلام الذي كلمتكم به”. ان التشبه بالاطهار هو الطريق الى القداسة ما في ذلك ريب. غير ان نقاوة الحياة هي الهدف والوسيلة الكبرى اليها هي الكلمة الالهية التي تنقي القلب اذا حملها الروح الالهي اليك او ترجمها الى حياتك أب روحي كبير.
الوجع الملازم أبدًا للكنيسة انها ليست مجرد تعليم لكنها رعاية أي ليست مجرد زرع لكنها سقاية وتعهد دائم للمؤمن الذي ترعى. المسيحية ليست مجرد دعوة لكنها سعي دؤوب لاقامة الناس في السماء قبل ان يموتوا. “اضطررهم على الدخول”. هذا هو الامر المرسل الى كل مؤمن ليحاول المحافظة على الآخرين في الكنيسة ليس فقط بالنصح ولكن ببث الدعوة والافتقاد “لئلا يهلك منهم أحد”. قبل عودة آخر جاهل، قبل احتراق الدنيا بالحب لا تستطيع ان تنام.
Continue reading