Monthly Archives

March 1995

1995, مقالات, نشرة رعيتي

شجرة الحياة /الأحد 26 آذار 1995 /العدد 13

هذا الأحد الثالث من الصوم يدشن اسبوعا نصل فيه بالصيام الى منتصفه. وهذه هي خبرة الصائمين اذا دنا هذا الأسبوع ان بعضا منهم يتعب من الجهاد. فالصوم صعب لأنه يحرم من طيبات الطعام وفيه جدية كبيرة للالتحاق بفضائل الإنجيل، فجاءت الكنيسة لتشدد عزائم الممسكين وتقول لهم -قبل اسبوع الآلام- ان المخلّص مات من اجلهم وانهم مدعوون الا يتهاونوا وان يتابعوا المسيرة بلا ملل ممتلئين من الفرح الذي يعطيه تأملنا سر المسيح في محبته. فجعلْنا في هذا الأحد عيدا نسجد فيه للصليب الكريم ويتم على هذه الصورة: عند الانتهاء من المجدلة الكبرى يطوف الكاهن بصليب موضوع على صينية وسط رياحين او زهور محاطا بثلاث شموع مضاءة ويكون السجود له بعد إقامته مائدة امام الباب الملوكي. ويتوافد المؤمنون ليقبّلوا الصليب المقدس وعندها يناولهم الكاهن زهرة.

    لماذا يوضع الصليب وسط الشموع الثلاث التي ترمز بوضوح الى الأقانيم الإلهية الثلاثة؟

ذلك ان برنامج الصلب وضعه الله منذ الأزل. لقد اراد الرب ان يظهر محبته للانسان بمجيء الابن متجسدًا اليه فالمسيح -كما يقول الكتاب- هو ذبيح قبل انشاء العالم في فكر الثالوث المقدس. واما الزهرة فلكي نشير الى ان من اقتبل اوجاع المسيح وعرفها خلاصا له فإنما تصير فيه مصدر فرح.

    ما نرتله فيما نحن ساجدون هو “لصليبك يا سيدنا نسجد ولقيامتك المقدسة نمجد” ليتضح لنا ايماننا بأن الصليب طريقنا الى القيامة. فإلى آلامه اشار السيد بقوله: “الآن تمجد ابن الانسان وتمجد الله فيه”، اي ان قوة الله سطعت بآلام المخلص. ان انتصار المسيح على الموت تمّ عند اقتباله الموت، ونحن اذا شاركنا السيد آلامه بإماتة شهواتنا نكون بآن مشاركين اياه ظفره. وهنا نذكر كلام الرسول: “ان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة واما عندنا نحن المخلّصين فهي قوة الله” (1كورنثوس 1: 18).

    ضد ايماننا هذا موقفٌ لشهود يهوه هو الحماقة عينها عندما يقولون لنا لماذا تكرمون الصليب؟ هل تكرم الوالدة بندقية قُتل بها ابنها؟ جوابنا البسيط عن هذا التشبيه ان الوالدة تكره اداة كانت سببا لفقدها ابنها. نحن، الصليب كان اداة لذبح المسيح، لينتصر المسيح. ألم يقرأ شهود يهوه قول الكتاب: “حاشا لي ان افتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح” (غلاطية 6: 14)؟ هل من كلام اوضح من هذا؟

    ولكوننا نعرف ان محور حياتنا هو هذا الفداء الذي نلناه كاملا عند موت ربنا يسوع المسيح، مددنا تذكار الصليب على كل يوم من ايام الأسبوع الرابع الذي نبدأه اليوم، فتتجدد روحنا بمحبة المصلوب وتأخذنا النعمة الى الأسبوع العظيم، حتى اذا وقفنا امام المصلوب يوم الجمعة المقدس نكون مؤهلين لرؤية السيد الظافر.

Continue reading
1995, مقالات, نشرة رعيتي

الأحد الثاني من الصوم /الأحد 19 آذار 1995 / العدد 12

أعلنت الكنيسة البيزنطية قداسة غريغوريوس بالاماس اسقف تسالونيكي السنة ال1368 وعيّنت عيده في الأحد الثاني من الصوم وجاء تقديس الرجل بناء على مجمعين عقدا في السنة ال 1341 و 1351 اللذين حددا ان الانسان قابل للتأليه او التأله بمعنى انه يشترك في النعمة الإلهية غير المخلوقة وإن كان لا يساهم في الجوهر الإلهي. الانسان يصير إلها بالنور الإلهي غير الحسي الذي ينسكب عليه اذا ادرك عدم الانفعال وتحرر كليا من الشهوة فبلغ الصفاء. وهذا ممكن في هذه الحياة.

    النفس والجسد معا يشتركان في المسيح في هذا العالم. ضد هذا النزعة الفلسفية اليونانية التي تفرق بين الروح والمادة. هذه الفلسفة قائمة على نظرة ثنائية الى الانسان، الأمر الذي يعطل وحدة الشخصية الانسانية. النظرة الارثوذكسية تقول ان خبرة التقشف او النسك اساسية لرؤية الله. عكسها الحركة العقلانية التي تجنح الى حكمة هذا العالم.

    يصرّ الارثوذكسيون على اننا اذا تطهرنا بالفضيلة نخرج من الأنا، نتجاوزها اذ يجب ان نتخطى المحسوس والمعقول ونغوص على الصلاة ونمتلئ من جمال الروح القدس. فما من معرفة ممكنة لله الا بالتطهر من الهوى. ان المعرفة الحقيقية لا تأتي من الدراسة ولكن الطهارة تميز بين ما هو صالح ونافع وما ليس كذلك.

    ان خطأ الذين حطموا الايقونات وخطأ الذين يؤمنون بالعقل وحده هو انهم جميعا يرون صداما بين الروح والمادة وما علموا ان الروح والمادة صارا معا من بعد تجسد الكلمة الإلهي.

    ان مكانة المادة في الحياة الروحية حملتنا الى تكريم الايقونة وكذلك مكانة الجسد في الحياة الروحية نلمسها في الصوم الذي يقيم النفس والجسد كليهما في المسيح. وهكذا يأتي النسك اعترافا عقائديا عندنا. فالصوم ليس فيه بتر للجسد ولا تعظيم رخيص له فاذا تفلتت رغبات الجسد لا يكون مشدودا الى الروح ولكن إن ضبطناه يصير مكانا للروح القدس. نحن نحافظ على كل وظائف الجسد. قد ننقطع بالإمساك جزئيا ومؤقتا عن الطعام لكي نفهم ان الجسد ليس للجوف ولكن للرب والرب سيبد الجوف ويبقى الجسد في النور. يعيد الينا في القيامة الجسد نفسه الذي كان منا ولكن بلا الوظائف الزائلة التي كانت له على هذه الارض. يجعله نورانيا بسبب النور الذي اقتبلناه بالمعمودية والقرابين الإلهية. ان القربان الذي نكون قد تناولناه هو الذي يبعثنا الى القيامة. “انا الخبز الحي الذي نزل من السماء. من يأكلْ من هذا الخبز يحيَ للأبد” (يوحنا 6: 51).

    هذا يبعدنا عما يقوله اعداؤنا من اننا ضد الجسد. نحن ضد الجسد الذي يعصى الله بالتفلت. كذلك نحن لسنا ضد العقل ولكنا مع العقل الخاضع لكلة الله، الناشئ من كلمة الله. بعدها تأتي كلمة الانسان. نحن لسنا ضد الغرائز ان انضطبت، فقد كفّرنا في القرن الرابع الذين حرّموا الزواج واللحم والخمر. هذه الثلاث الله باركها. نحن ضد الإسراف في كل شيء والإفراط. فاذا اقتبلنا الزواج نقدسه بالطهارة والصلاة والمحبة، بلا هذه كلها يتحول الى متعة والى انانية.

    هذه الرؤية نتربى عليها لأن كل رؤية صالحة تتربى بالاستمرار وتتغذى بقراءة الكلمة. كانت اهمية القديس غريغوريوس بالاماس ان رأى كل ذلك وقال لمثقفي عصره المكتفين بالفلسفة ان هذه لا تفهم شيئا بلا إله. ولذلك لا نخوض نحن جدلا فلسفيا الا من حيث انه قد يساعد على الايمان ولكننا لا نصل الى النور من خلال الفلسفة. المسيحية ليست ايديولوجية تصارع ايديولوجيات. انها حب لله وذوق له وطاعة. نحن المسيحيين لاهوتيون جميعا لا بمعنى اننا حملة شهادات من معاهد لاهوت بل من حيث اننا نتحدث عن الله من خبرتنا له بالرياضات الروحية ومحبتنا للقريب ومراقبة حركة الفكر وحركة الحواس. نحن لا نسلّط ذهنا مجردا على الأفكار التي تُفرض علينا ولكننا نسلّط النور الإلهي فنحكم في كل شيء ولا يحكم فينا احد.

    هذا هو معنى الأحد الثاني من الصوم.

Continue reading
السيرة, اليوبيل, مناسبات

نحن معشر الكهنة لسنا سوى غاسلي أرجل / كلمة المطران جورج في اليوبيل الفضّيّ لأسقفيته، كنيسة رقاد السيدة في حامات، 4 آذار 1995.

هذا مُقام شكرٍ للذي تليق به وحده الكرامة. إنه شكر لِما أعطى ولِما حرم. ذلك أنه أعطاكم انتم. فحاولت أن أستمع إلى «ما يقوله الروح للكنائس»، وتقبلتُ النفحات التي نفحكم بها الروح، وما كنت لكم إلا بمُذكِّر لـِما كنتم تعرفون، وسوف أغيب بعد التذكير.

والمُقام الثاني هو مُقام توبة بسببٍ من تقصير وقعتُ فيه ومن إهمال، من خطايا عامدة وغير عامدة، بسبب من هذه الترابية الزائلة، من هذا الإناء الخزفيّ الذي ارتضى الله أن يضع فيه عطرًا والعطر له وليس للخزف شأن مع العطر، ولكن إن تسربَتْ إليكم «رائحة المسيح الزكية» فهذا من فضله وهذا من طاعتكم. وإذا أقمنا في مُقام التوبة نستطيع أن نتبصّر في الكتاب العزيز. إنكم قد قرأتم ما ورد في سفر الرؤيا عن الأربعة والعشرين شيخًا الذين شاهدهم يوحنا في السماء متحلّقين حول يسوع، ولعل هؤلاء الشيوخ الكهنة عبروا إلى السماء بواسطة شهادة الدم، تلك كانت البيئة التي كتب عنها الرسول. وتذكرون قول الحبيب الرائي أن هؤلاء الشيوخ، الذين كانوا متوّجين بأكاليل الشهادة في ظني، كانوا يُلقون أكاليلهم ويرمونها امام عرش الحمَل. يا إخوة، ليس على رأس أُسقفٍ إكليل. ولو تراءى لكم شيء من هذا، طيف من هذا، فإنه يُرمى عند قدمي الحَمَل الذي له وحده الإكرام والسجود وله وحده يليق المجد لأنه وحده ذو القدرة.

وتذكرون ما قيل في العهد العتيق وما ردّدناه في الخدمة الإلهية، من أن حول العرش الإلهي الشاروبيم والسارافيم الذين نحاول بخفر وتواضع التشبُّه بهم اذا تحلّقنا حول السيد المبارك. ويقول الكتاب الإلهي إن هؤلاء السارافيم والشاروبيم كانوا يَستُرون وجوههم بجناحين ويَستُرون أرجلهم بجناحين ويطيرون بجناحين. يسترون وجوههم لأنهم باتوا غير قادرين على رؤية المجد الإلهي، ليس احد منا يبصر المجد ولا حلّ على احدٍ مجدٌ. وإن تراءى لنا شيء من هذه الظلال فإنما يجدر بنا أن نغطي وجوهنا بالأجنحة. لماذا لم تقدر الملائكة أن تطير في مرحلة أولى؟ لأنها ما كانت قادرة أن تبصر، فإذا اخترق وجوهَها المجدُ الإلهي تتمكن من جديد أن تطير وأن تُحلّق حول عرش الحَمَل. الكارثة يا إخوة، أن يَحجب اللهُ نوره عن وجه الأسقف. عند ذاك يكون لا شيء.

يبقى أنتم يا إخوتي الكهنة الذائقين مرارة العيش بسبب من إهمالي وبسبب من جهالات الشعب. ولكنكم حاولتم، حاولنا معا، أن نجعل في المؤمنين وعيا يزداد فيما أهَّلنَا الله عليه من البشارة. ولعل إشعياء كان ينظر إلى جبل لبنان لما قال: «ما أجمل المبشِّرين في الجبال، المبشِّرين بالسلام». لقد زرَعَكم مسيحُكم على هذا الجبل لتكونوا فيه منائر علّ المؤمنين يهتدون، وقد يكون الكثيرون من المؤمنين هم المنائر وبهم انتم يا كهنة تهتدون. مهما يكن من أمر، سمعتموني أقول للكهنة الناشئين، سنة بعد سنة، إننا نحن معشر الكهنة لسنا سوى غاسلي أرجل، لا نطلب أرقى من هذا ونكتفي بالتمجيد اللائق بغاسل أرجل علّهم يُبصرون. سنكمل هذه المسيرة القديمة التي أُطلقت في أورشليم منذ قيامة المخلّص وحلول الروح. نحن جزء يسيرٌ من هذه المسيرة. غير أني أفتخر بما قلته مرّة لرجل من كنيسة لا تعتقد بالكهنوت، انت ترى أمامك أسقفا محدودا بترابيته وخطاياه وطبائعه، ولكنّ هناك شيئا انت لا تبصره. قال ما هذا الشيء؟ قلت أنا لست أنا. أنا أحمل على كتفي إغناطيوس الأنطاكي والذهبي الفم والدمشقيّ وما اليهم، نحن في الأرثوذكسية لسنا نحن، نحن نجيء من الشهداء ومن الأبرار والنسّاك وأصحاب الكلمات الحلوة الذهبية البارّة. قلت له أنت تُعامل كنيسة عظيمة ولو تأذّت مما في رؤسائها وأعضائها من ضعف.

هذا ما أخال انكم أحببتم أن تحتفلوا به. في الواقع أردتم أن تتذكروا أن كنيسة المسيح هي الحياة كلها والحلم كله والآفاق كلها، وأصررتم أن نذهب إلى هذه الآفاق. الله سيقول وحده ما فعلنا وما لم نفعل، هو وحده يعرف قيمة الأشياء. ولكن ما نعرفه نحن أننا ماشون وأننا مسرعون في سيرنا وأننا سنعدو هكذا في الضوء، في الصدق، وأرجو في التواضع. سوف لا ننسى أن نَستُر وجوهنا بجناحين وأقدامنا بجناحين، والله حرٌّ في أن يخترق هذه الأجنحة وأن يصبّ علينا نوره، هذا شأنه. ولكننا سنسير مقيمين أولاً في مقام التوبة حتى اذا ما استقررنا هناك يرفعنا الرب إلى مقام الشكر والتسبيح. وبعد هذا، اذا راقه أن يقرأ هو على وجوهنا شيئا من جمال، سيفوّض الملائكة بأن يتغنّوا به، آمين.

Continue reading