1992, مقالات, نشرة رعيتي

صومنا اليوم /8 آذار 1992 / العدد 10

كيف يأتي صومنا في إطار هذه الحياة المتعبة التي نحياها اليوم، الحديث عن الامساك في مجتمع الاستهلاك هذا يبدو غريبًا. فالناس تتكالب إلى اللذات وإلى تضخّم وسائل الترف والبذخ ولو كانوا فقراء فهذا مشتهاهم. أن يقف إنسان ويشهد انّه مُعْرِض عن لذّة قويّة كالطعام هذا يجعله في عكس التيّار السائد. المطلوب كسر الطوق للمدنيّة الاستهلاكيّة وتاليًا أن نبشّر بعالم آتٍ يكون جديدًا أي لا ينصرف أصلاً إلى الشهوة ولكن إلى المحبّة والإبداع في العمل والتّعاون وإشاعة السّلام.

الشّرِه والشرّاب ليس له سلام داخلي. هو انسان يحيا خارج نفسه. أنْ تقول: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» يجعلك ضدّ التيّار. وهذا التيّار دمار وتهلكة. التهالك على اللذات يأتي من خوفنا للموت. فكلما أكلنا أو حصّلنا مزيدًا من المال نظنّ اننا نستبعد عنّا الموت والأخطار ومغامرة الوجود. ولكن ان قلنا نحن لا نخشى هذا التشبّه بالموت الذي اسمه الصيام نكون قد وطئنا الموت بطريقة أوّليّة. ان أمسكنا عن الملذّات الباقية نكون قد أشرنا إلى أن مبتغانا الملكوت الذي يكون الإنسان فيه حرًّا من وطأة هذا الجسد وترابيّته. الممارسة تكسبنا قناعة إيمانيّة وهي ان محبّة الله لنا وطاعتنا له خير من نزعات الجسد.

هذه ليست دعوة إلى قهر الجسد فالجسد مخلوقًا من الله مقرُّ نعمته. ليس الجسد عدوًّا لنا، ولكننا نجعله نحن عدوّنا بإطلاق العنان للشهوة بحيث تتحكّم فينا. هناك شهوات صالحة بحدّ نفسها، الطعام والنوم والجنس، ولكن لنا قدرة على اساءة استعمالها أو استعمالها خارج إطارها الشرعي. في الفترة الأربعينيّة المقدّسة وأسبوع الآلام لا نقتل الجسد ولا نضعفه ولكننا نروّضه على الاعتدال والصّفاء فينسجم مع الرّغبات العالية فينا حتّى إذا صار حرًّا من تفلّته يدرك مرونةً ومطواعيّةً ليخضع للروح في توثّباتها العظيمة.

لذلك نكثف صلاتنا في هذه الحقبة. فالإمساك وحده مجرّد تمرين، ولكن إنْ صلّيت في عمق وحرارة تكون طاردًا للشياطين، مرتفعًا إلى عرش الآب، عشيرًا للقديسين. عند ذاك أنت حر للعطاء، أقل تمسّكًا بمالك، معرِضًا عن جاهك والكبرياء. اقتناء الفضائل مستحيل بلا أدعية موصولة. كيانك إمّا أن يملأه الفكر السيّء أو الفكر الإلهي الذي يشدّك إلى فوق. أنّى لك الفكر الإلهي إلاَّ من الكلمات الإلهيّة المسكوبة في عباداتنا من صلاة السَّحَر مرورًا بصلاة الغروب وانتهاءً بصلاة النوم الكبرى التي نغلق فيها النهار وننام على إلهامها فيكون ليلنا في «راحة نفس وجسد» خاليًا من كل شبح ووسواس شيطانيّ.

وأنت لا تصلّي وحدك ولكنّك مع الجماعة لأنّك عضو في جسد المسيح. فحيث يجتمع الأعضاء تكون، وتتطهرّون معًا، ويرى المسيح إليكم في سعي واحد إليه، حتّى إذا تكثّف النور في الأسبوع العظيم المقدّس تكونون أنتم أيضًا قد بلغتم التّوبة وتنقّيتم بالدم الإلهي ومشيتم معًا على خطى المخلّص ودخلتم معه في سر موته على رجاء دخولكم سر قيامته.

لقد وُضع الصوم منذ أوائل الكنيسة استعدادًا للفصح ثلاثة أيّام ثمّ زادت حتّى تبنّينا الأربعين تلك التي قضاها الرب في البرية يصارع تجارب ابليس. وأحسسنا اننا إذا عففنا عن الطعام يمكننا أن نقتصد ثمن الطعام ونعطيه المساكين. فأتى الصيام حقبة المشاركة في آلام الآخرين. كل منّا، على فقر حاله، له ان يتصدّق على الأحبّة المحتاجين بتواضع أو يزيد عطاءه للكنيسة الحاضنة لأبنائها.

فبالإمساك ومواصلة العبادة والإحسان، هذا الثالوث الفضائلي المبارك، نستطيع أن نتقبّل القائم من بين الأموات، فلا يأتي العيد إلينا من أوراق الروزنامة. يأتي بنعمةٍ وفضلٍ ونورٍ بعد أن نكون مشينا إليه بانسحاق القلوب.

Continue reading