Monthly Archives

June 2011

2011, مقالات, نشرة رعيتي

دعوة تلاميذ/ الأحد في 26 حزيران 2011 / العدد 26

اختار يسوع تلاميذه وقبلوا الدعوة. سلك يسوع مسلك بعض الربانيين (المفردة العامية هي حاخام) الذين كانوا يجمعون تلاميذ حولهم كانوا يتلقون منهم الكلمة الإلهية. هذه كانت تجمّعات ليس فيها رتب اذ كان هذا غير معروف في العهد القديم. روايةُ جَذْب يسوع التلاميذ اليه يعرضها إنجيل يوحنا بما هو أوضح. «وفي الغد ايضا كان يوحنا (المعمدان) واقفا هو واثنان من تلاميذه. فنظر الى يسوع ماشيا، فقال: هوذا حَمَلُ الله. فسمعه التلميذان يتكلم فتبعا يسوع». (يوحنا 1: 35 و36).

واقع الدعوة حسب متّى أن الرب كان في الجليل وهو موطنه والميدان الأساسي لتحرّكه. الإنجيل يذكُر من التلاميذ أوّلا سمعان وهو اسم عبريّ (شمعون) سمّاه في ما بعد (متى 16: 18) بطرس Petros الذي نحَتَه يسوع من كلمة Petra وتعني الصخرة. كان هذان الأخَوان (أبوهما يونا) يُلقيان شبكتهما في بحيرة طبرية المسمّاة هنا بحرًا. هذه اسمُها الآخر هو بحر الجليل. هذه يشكّلها نهر الأردن بعد خروجه من لبنان. هذان كانا صيادَين. كذا كان كل التلاميذ ما عدا متّى. قال الرب لسمعان و أندراوس: «هلمّ ورائي فاجعلكما صيادَي الناس». التلاميذ اصطادوا الناس بالكلمة. ليس من أداة أُخرى لتربح البشر للمسيح. البشارة في العالم كله هي الصيد العجيب. «هلم ورائي». ليس من مبشّر فعّال، حقيقي الا اذا كان محبا ليسوع حبا يأخذ منه كل جوارح قلبه.

«فللوقت تركا الشباك وتبعاه». كل انضمام حقيقيّ إلى السيّد يبدأ بتركنا لأشياء كانت تُعيقنا عن الاتحاد به. هذه الأشياء هي شهواتنا المؤذية.

ثم يلتقي المخلّص بآخرَين هما يعقوب بن زبدى وأخوه يوحنا الذي هو صاحب الإنجيل الرابع. كانا مع أبيهما على شاطئ البحيرة يُصلحان شباكهما ما يدلّ على أنهما كانا على شيء من البحبوحة (شباك لا شبكة واحدة). ايضا هما تبعاه وتركا ما كان اهم من الشباك وهو أبوهما. هذا يكلّف عاطفيًا أكثر.

أسماء بقية التلاميذ تأتي بعد هذا في متى وفي بقية الأناجيل. بعد بداءة الدعوة، أخذ السيّد يطوف الجليل في المنطقة في شمالي فلسطين والتي هي على حدودنا اللبنانية. يُعلّم في مجامع اليهود. المجمع هو ما نسمّيه اليوم كنيس، والكنيس قاعة كبيرة يجتمع فيها اليهود في السبوت لقراءة العهد القديم والوعظ به.

في المجامع وخارج المجامع كان السيّد يبشّر بالملكوت على اساس هذه العبارة «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات». الى جانب البشارة، «كان يشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب». وسيذكر متّى بالتفصيل عجائب كثيرة. يسوع لا يتكلم فقط. كان يحبّ. وسوف يوجّه التلاميذ الى الاهتمام بالمرضى. كان يوليهم أهمية كبرى من حنانه. أخذت الكنيسة من المسيح هاجس المرضى عنده في سرّ مسحة المرضى وفي بناء المستشفيات. الكلمة الإلهية والتعزية للمريض مع تطبيبه بوسائل العلم.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الجنون اللبناني / السبت 25 حزيران 2011

هناك لكل شعب قراءة بمعنى انك يمكن ان تتكلم على طبائع الشعوب او أقله مناطقها. فما من شك ان الأمم العائشة في شمالي اوربا اكثر هدوءا من ساكني الجنوب. ربما عاد بعض من هذا الى عوامل مناخية ولكن شيئا منه يؤول الى حوادث التاريخ التي ضغطت ضغطا شديدا.

وفق هذه النظرية تأملت في الأحوال النفسية والعقلية للبنانيين. وجدت – ما في ذلك ريب- ان التعلق الشديد بالمال -وهذا ليس حكرا علينا- يعود الى المجاعة التي افتعلها عندنا عمدا جمال باشا السفاح في الحرب العالمية الأولى والتي أباد فيها ثلث الشعب اللبناني. مخافة الجوع توَرث ولا يبيد هذا الخوف بحبوحة جديدة لأن ذكرى الجوع تبقى طويلا في العقل الباطن فاعلة بعد زوال السبب. ان تأكل كثيرا لا يشفيك. الحياة الروحية في عمقها هي وحدها الدواء.

الى هذا يلازمك التعصب الذي لا ينطلق من سبب واحد في الشرائح الدينية. بالتأكيد هناك أسباب مجتمعية. اذا اخذنا المسيحيين وحدهم مثلا فما كان تعصبا ارثوذكسيا- وهو الى الاختفاء او الى الاضمحلال اليوم- ضد الموارنة يفسره المؤرخ كمال الصليبي على انه صراع بين اهل المدن واهل الريف وهو لا يرى الأسباب اللاهوتية. لماذا نرى مثلا التعصب الماروني ينشأ مع مجيء الآباء اليسوعيين ولم يكن له أثر قبلا. تربية اليسوعيين قائمة على كراهية البروتستنتيين في اوربا وهذا في تأسيس جمعيتهم فلما جاؤوا الى بلادنا اعتبروا الأرثوذكسية ظاهرة تشبه الانجيليين. هذا التماهي في عقولهم بين الارثوذكسية والهرطقة صار بغضا اجتماعيا.

لست أريد ان أحلل اوضاع كل الشرائح الدينية ولكن يتربى القوم على كلمات رهيبة قد لا تكون مخيفة لغويا ولكن استعمالها خلق جوا من العداء راسخا في النفوس. ان استعمال ألفاظ مشتقة من كلمة كفر وكافر بلا فهم ولا وضوح يفسر وحده القهر الذي تلقاه المسيحيون في عصر المماليك المظلم وبقي ما بعد ذهابهم عنا اجيالا واجيالا وكل تكفير جنون بالمعنى الفني لأن الجنون ان تجعل الآخرين خارج دنيا، ان تبني دنيا اخرى وترسخ نفسك فيها. التعصب الديني اختراع للغة ليست من الوجود الحقيقي تميت نفسك فيها وتميت الآخرين. الشفاء من الجنون يكون بضرب لغته والغائها لأن استمرار اللغة إبادة الحياة.

التعصب الطائفي في الممارسة يختلف عن التعصب الديني وان كان متأصلا فيه. قد لا تعرف شيئا عن المسيحية مثلا ولا تكرهها ولكنك لأسباب سياسية او غيرها تكره المسيحيين وقد تخشى قوة المسلمين ولا تعرف الا القليل من الاسلام. هذه اجتماعيات من اصل ديني ولكنها جنون بمعنى انك تخلق مجتمعا الكثير منه من خيالك او جهلك او ضعف تحليلك اي هو شيء آخر عن الراهن. هو جو اردت ان تعيش فيه وتستلذه ويقتلك كما ان المجنون اخترع جوا لا علاقة له بالوجود وهو يقتله.

#  #

#

لا بد هنا ان أقول كلمة عن الجنون نفسه. مرة اجتمعت الى طبيب من أبرز أطباء الأمراض العقلية فقال لي: هذا البلد عنده أعلى نسبة من الجنون في العالم. سألته كيف؟ قال لي: كل بلاد العالم فيها مستوصفات للأمراض العقلية حيث يراقب الذي خرج من المصح كل فترة محددة خوفا من نكسة. الناس العاديون مثلي لا يستطيعون دائما ان يميزوا المجنون من العاقل.

اذا كانت عندنا هذه النسبة الكبيرة من الممسونين يمكنك ان تفترض حسب الأصول المتبعة ان من تعامل هو اصلا عاقل واستثنائيا مجنون. قد يكون العكس هو الصحيح. لذلك يحق لك ان تظن انك معرض للأذى انى توجهت. ولكن ان آثرنا رجاء العقل ايحاء لأنفسنا بالاطمئنان فلا مهرب من التحفظ بالكلام والتعامل حماية لأنفسنا من انتشار العصفورية في الطريق.

من آثار الخلل العقلي او النفسي في بلدنا اني لا أعرف مستوى من الغضب كهذا الذي اجده عند الكثيرين بحيث ان الهدوء او السلام الداخلي ليس القاعدة عندنا وان الصراخ كثيرا ما أحاط بنا فبتنا لا نعرف النقاش على قواعده فنخلط المقولات العقلية النازلة على اللسان بالانفعال ونحسب ان الاختلاف في المواقف عداء للشخص الآخر. الأنا المجروحة تلقى الأنا الأخرى المجروحة ويتأجج في كل من المتكلمين الجفاء فاما ان ندوس الآخر في شخصه او ان نداس ايا كان مضمون المناقشة وان كانت عقلية بحتة فنتلقاها كسباب وشتيمة فما من جدل يبقى الا موتا أدبيا لأحد الطرفين. الجدال عندنا سحق لأن المبدأ ان يبقى أحدنا حيا وان يتلاشى الآخر حتى الفناء. مملكة الموت هي مملكة الجنون.

المتأصل في الجنون من اعتبر ان كل العقلاء مجانين لأنهم خارجون عن العالم الذي اصطنعه لنفسه وهو عنده العالم الحقيقي. على مستوى أدنى من الجنون المطبق الانسان الغضوب الذي لوهلة صنع عالما لنفسه يزعجه ان من كان أمامه هادئ لإحساسه بأن الانسان الهادئ ينتمي الى عالم آخر. وكثيرا ما ينزعج الغضوب من الإنسان الهادئ لأن هذا ينتمي الى عالم السلام وذاك في فترة من الزمن يرفض ان يقيم في عالم السلام. على درجة أدنى من المرض العقلي. الغضوب اخرج نفسه من السكينة اذ يريدك ان تنضم الى عالمه بالصراخ ليثبت صحة الدنيا التي أوجدها لنفسه وحبس ذاته فيها. الغضوب ساكن في الخطيئة والمجنون بات غير قادر عليها. انه أمسى في عالم البراءة الى ان يعود الي إمكانية المعصية اذا استعاد عقله.

#  #

#

في ترجمة جديدة للعهد الجديد: «سمعتم انه قيل لآبائكم: لا تقتل، فمن يقتل يستوجب حكم القاضي. اما انا فأقول لكم: من غضب على أخيه استوجب حكم القاضي (اي انه بمثابة القاتل) ومن قال لأخيه يا جاهل استوجب حكم المجلس، ومن قال له يا أحمق استوجب نار جهنم» (متى 5: 21 و22).

الفلسفة المبني عليها كلام السيد هذا هي ان الآخر موجود وانك تتلقاه لتنوجد وليس من لقاء بينكما اذا انفعل واحد منكما لأنه يكون قد خرج عن عالم السكون الذي يجعل الاثنين واحدا بالمحبة. يحتمل السكون ان يكون الآخر مختلفا عنك وتلتقيان بشركة القلوب . اذا كنت تؤمن بـِ«يا عبد كل شيء قلب» تكون الحقيقة في تلاحم القلوب اذ تسطع الحقيقة بهذا التناضح قبل ان يتم التفاهم. الحقيقة تصلان اليها معا ولا تهمك فرديتك المنعزلة ولكن يهمك النور. الغاضب يسعى الى ان يفرض أناه على أناك. القائم في السكون قادر على ان يزرع فيك السكينة ويشفيك. عندئذ فقط يستقيم العقل.

من الجنون عندنا السواقة التي اذا لم تستقم تبقى معرضا لجنون ينشأ فيك او جنون السائق الآخر. نموت مجانيا في هذا البلد الى ان نخضع جميعا للقانون الذي هو من نطاق العقل. لا نحب العقل في لبنان. متى يهبنا الله نعمة التعقل نرسي عليه بلدنا؟

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

أحد جميع القديسين/ الأحد في 19 حزيران 2011/العدد 25

كان من التقوية الروحية أن تَجعل هذا الأحد اللاحق للعنصرة أحد جميع القديسين لأن الروح القدس منشئ القداسة في الكنيسة وفي المؤمن. وعبارة «جميع القديسين» تدلّ على المعلنة قداستهم ولهم عيد في أحد ايام السنة وعلى الذين لم تُعلن قداستهم بتطويب رسميّ يقوم به المجمع المقدس بقرار.

الرسالة الى العبرانيين تُكلّمنا عن قديسي العهد القديم: موسى والأنبياء الذين تركوا لنا نبوءات مثل إشعياء وحزقيال وإرمياء ودانيال، والذين لم يكتبوا مثل مار الياس.

يصف كاتب الرسالة الجهادات التي قاموا بها والآلام التي كابدوها، ولكنه يقول إن هؤلاء لم يَكملوا بدوننا نحن المسيحيين اذ كان عليهم أن ينتظروا الكمال الذي وصل اليه المسيح على الصلي ب. تقدّس الذين في العهد القديم وانتظروا المسيح، وتقدّس في العهد الجديد الذين جاؤوا من إنجيله.

في المقطع الإنجيلي يأتي الرسول بتعريف جزئي عن القداسة اذ يقول «كل من يعترف بي قدّام الناس أَعترفُ أنا به قدّام أبي الذي في السموات». المسيحية تقوم على إعلانك انك تابع للسيد بفمك فلا باطنية عندنا أي لا نكتُم إيماننا بالمسيح او نقول شيئا مناقضا او منافيا. والاعتراف يمكن أن يوصلنا الى التعذيب والموت. ولذلك نُسمّي الذين يذوقون أَلمَ الأعداءِ قديسين معتَرِفين، وإذا قُتلوا نُسمّيهم شهداء.

العنصر الثاني في الاعتراف أن تحمل صليب يسوع اي كل مشقّات الحياة وتتبعه. وقد تكون مشقّات يومية في بيتك او في محلّ عملك او في اي نشاط اجتماعيّ وسياسيّ.

العنصر الثالث في القداسة أن تترُك بيوتا او إخوة او أخوات من اجل اسم يسوع. المعنى ألاّ تتمسك بأي شيء أرضيّ. لا يعني هذا أن تترك بيتك لتعيش في الشارع، ولكن لا تجعل قلبك مركّزا على البيوت والسيارات والنفوذ والسيطرة. انتَ فقير الى المسيح وهو ساكنُك. الإخلاص في القلب هو له وليس لزعيم او حزب او اي شيء ماديّ. المطلوب أن ينصرف قلبك الى المسيح انصرافًا كليّا وأن يكون هو مُتعتك. الأشياء الأخرى تستعملها حسب حاجتك. وأفراد عائلتك تخدمهم بصدق. خدمة أهل العائلة هي محبتك وتُلقي المسيح في هذه المحبة، ولكن قد يصبح الناس من حولك عائقًا دون لقائك يسوع، ويصبح رزقك عائقًا دون الالتصاق بيسوع. هؤلاء الناس تجمعهم مصالح أعداء المسيح. تتركهم. تصلّي من أجلهم، ولكن لا خلطة بينك وبينهم. المهمّ أن يملأ عقلك المسيح بكل تعاليمه وأن يغذّيك بها. اعرفْ أين تقف، بمن أنت ملتصق. اعرفْ مركز قلبك. هل هو المسيح؟ تعرف ذلك إن اتّبعت وصاياه حسب ق قوله: «من أَحبّني يحفظ وصاياي». المسيح هو كل شيء. أَلصقْ به الناس والأشياء تكن صالحة لك. وإن لم تسعَ الى ذلك، فأنت تُبدّد نفسك. المهم أن يكون السيد مصدر حياتك.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الحكم / السبت 18 حزيران 2011

لم ترد كلمة دولة في القرآن الا في الآية السابعة من سورة الحشر بمعنى التداول وليس مدلولها تاليا ما في اللفظة الحديثة من مدلول اي لا تحمل مدلولا سياسيا. حاولت ان أفهم كلمة حكم في القرآن فلم أجد لها مضمونا سياسيا. هذه المفردة معطوفة على لفظة الكتاب ومعطوفة عليها كلمة نبوءة في سورة النساء. العبارة هي حكم الله في سورة المائدة والانعام ويوسف وسور اخرى. لا يسعنا اذًا ان نفتش عن مقولة الدولة في المصدر الأساسي والاول في الإسلام.

في العهد الجديد كلمة واحدة عن قيصر ولا تحمل تنظيرا سياسيا انما هي ذكر لواقع. حتى عند بولس ليس الا من إشارة الى وجود دولة في رسالته الى أهل رومية. في كل الديانات التوحيدية ليس من حديث اطلاقا على شكل الدولة او تركيبها النظري وعلاقة سلطاتها. المعلم الأوضح والأعظم في هذا النطاق مونتسكيو والفكر الذي أحاط بالثورة الفرنسية. الفكرة المدنية كما شرعتها الديموقراطيات ملزمة ايانا لكون فكرة الدولة الدينية ايا كان الدين امرا عقليا، بشريا، تاريخيا لا علاقة له بالله من اي جانب.

هناك وقائع من نظام القبيلة الي الملكية والجمهوريات. سعينا ان نغهم على ما اجمعت عليه الأمم المتحضرة. فرأينا الحكم نظاما يتفق عليه الشعب حسب أسس باتت مقبولة.

هذه الشعوب لا تقبل، جملة، الثيوقراطية، اي الحكم الإلهي الذي رأينا ان الله لم يتكلّم عليه اذ الخطر الكبير تأويل بعض من النصوص الدينية التأسيسيّة وخلط الوحي بما هو بشري محض. فلا بد من اعتبار ان تبدل الأحكام بتبدل الأزمان. والعقول ترى اشياء جديدة لم تنزل في كتاب وترى التكنولوجيا التي لا تستطيع انت التماس وجودها قبل ان توجد ولكن يبقى العدل والمساواة امام القانون والحرية اي حريتك في ما تعتبره حقيقة وفي ما تعتبره شرائح اخرى حقيقة فمن كان مثلا كافرا لديك له في ذلك حق اي له في هذا سياسة والتزام. «ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف، ٢٩). وهذا يعني له في هذه العجالة ليس امرا خاصا وحسب ولكن امر جماعي يحتم تعايش المؤمنين والكفرة في دولة واحدة.

على هذا الأساس التعايش عند اهل الله واهل البعد عنه تركب الدولة التي تجعل الناس جميعا يطمئنون الى حرياتهم وسبل عيشهم ومشاركتهم في بنيان الحكم بما اوتوا من عقل.

#  #

#

وهذا يستلزم فصل السلطات الثلاث الإجرائية والتشريعية والقضائية تأمينا لمساواة المواطنين ايا كان اختلافهم والأمر الذي لا يسوغ الخلاف عليه هو حب الوطن وخدمته في الإخلاص والنزاهة والعطاء له.

هنا يبطل الفرق بين الحاكم والمواطن العادي لأن الحاكم مسؤول حسب دستور او أعراف امام المواطن الذي له البلد. الحاكم في حقيقته موظف عند من سمي المحكوم الذي يغيره في النظام الانتخابي الذي يضعه الشعب في مجلس النواب ويتغير في الدولة الحديثة لأن الدولة في العربية من دال، يدول اي يتغيّر المسؤولون فيها بالضرورة حسب درايتهم وفهمهم وكفاءتهم واخلاقهم لكي يتسنى لكل الناس المشاركة. ويبقى الشعب مراقبا للحاكم الموضوع لخدمته.

اجل ليس من نظام تتأمن فيه طهارة الحكم. هكذا المقامات كلها في دنياكم. فالوالد ليس دائما والدا صالحا ولكنك تعامله من حيث انه والد اي أقله بالاحترام. والموكل بشأن الجماعة الدينية كما في المسيحية فليس ما يدل على انه اعظم الناس ايمانا ولكنك تعامله على الأقل بالاحترام وهو في القانون الكنسي خاضع للمحاكمة امام المرجع الصالح.

في الدولة المدنية يحاكم رئيس البلاد في الخيانة العظمى وكل موظفيها وفيها تأديب قبل اجراء انتخابات جديدة الا اذا اصيب المسؤول بطبائع الاستبداد كما يقول الكواكبي.

الى هذا هناك صبر على الخطايا ومواجهات سلمية بالتعابير السياسية المختلفة. ولكني لست أوافق القديس توما الاكويني الذي أحل في حالات الظلم القصوى قتل الملك. الدم يجر الدم ودم الظالم مسؤوليتي امام الله. وانتظر ما دام ذلك ممكنا. واحترم عند ضرورة الاحتدام وأشتد اذا دعت الحاجة الى اشتداد. خارج احترام الحياة ليس من مقدس والله وحده صاحب الحياة والموت. الذي يستقبل البشر يوم القيامة وحده يدين.

#  #

#

آن لهذا البلد ان يقول لحاكميه ان يحبوا لبنان كما الله أحبه وكما يحبه أولو الله. الوطن ليس ملك واحد ليبيده. لا السيد ولا المسود أقامه الله للاستمتاع بمقدرات البلد.

«انتم تعلمون ان الذين يُحسبون رؤساء الأمم يسودونهم وان عظماءهم يتسلطون عليهم. فلا يكن هذا فيكم. بل من اراد ان يصير فيكم عظيما يكون لكم خادما ومن اراد ان يصير فيكم اولا يكون للجميع عبدًا» (مرقس 10: 42-44).

هذه الروحية تحل المشاكل. لا يدار بلد بلا روح. الوطن لا تسوده فقط النصوص الموضوعة. القلب اهم من كل ترتيب وتنظيم. لبنان ينقصه روح وقوانينه من أجمل القوانين. والقضاة الذين كنت أتابعهم في مطلع شبابي من أهم القضاة علمًا وأخلاقًا. ويمكن الرجوع الى نوعيتهم. ولكن من يعطينا نفحات روحية اليوم نجدّد فيها قلوبنا فينبعث البلد.

الكيد وتحزب الشرائح والأفراد وربما اشتهاء المال والسلطة هي ليست اقل من كراهية البلد وايثار المنافع الشخصية. هي بيع البلد للشيطان وإعدامه في الفكر والسلوك. كبار في البلد وضعونا في اللاشيء. تدخل قوى خارجة عن لبنان في قضايانا لا يمنح احدا عذرا ليستقيم. لم ينزل من عند ربك سوى الحق. والحق وحده يجب ان يحكم الحاكم والمحكوم.

هذا البلد ممكن الوجود وممكن البقاء اذا شاء من يجب ان يشاء ومن ابى يستقيل او يغادر لأن اولادنا يريدون ان يعيشوا وان يفخروا ببلدهم ولكن لا بد له من وضع معقول لكي يعطي ويعطى. في هذا المعطى له ان يستلم الحق ويورثه اي ان يجعل الله حاكمه فيدخل في إدارة سليمة وبذل دائم. متى نعود الى ان نصير نموذجا للإخوة العرب لنتمكّن من خدمة الرب في سبيل الانسانية جمعاء. هذا سيتم ان قبلنا ان يكون فينا الحكم لله.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

العنصرة / الأحد 12 حزيران 2011 / العدد 24

لمّا آمن التلاميذ بأن المسيح صار بصلبه صخرتهم. كانت الكنيسة. غير أن هذا الإيمان كان يحتاج الى دعم وتوطيد لتصير الكنيسة حيّة وفاعلة وقابلة للانتشار، فنزل الروح القدس عليها ليجعل منهم خلائق جديدة تُحقّق كل ما جاء في إنجيل الرب وتحيا بكلماته. لذلك كان خطأ شعبيا أن نقول ان الكنيسة تأسست بالعنصرة. فكلّ شيء قد تمّ على الصليب، وهذا ما قاله يسوع، ولكن الكنيسة انتعشت بالعنصرة. وهي تعيش دائما بنزول الروح عليها في الكلمة والأسرار ولاسيما الذبيحة الإلهية. وتستمرّ بقوة الروح الذي يتجاوز أخطاءنا وخطيئاتنا ويمحوها ويستبقي فينا كل قوة الثالوث المقدس.

وهو يقدّس كل إنسان بالنعمة فيَسكُن الكنيسةَ كلها كما يسكن كل فرد، ويضمّ كل فرد بصورة أعمق الى جسد الرب الذي هو الكنيسة. اذًا هو عامل في الفرد والجماعة بحيث يُرشدنا الى جميع الحقّ الذي جاء به يسوع في حياته على الأرض وعجائبه وتعاليمه وآلامه ونصره. هو لا يزيد شيئا على الإنجيل ولكنه يجعلنا نفهمه إن قرأناه يوما فيوما. ونستلذّه ونضعه في قلوبنا أعمق فأعمق.

الروح القدس اذًا يُنشئ القداسة فينا، ويُنقّينا باستمرار، ويُنشئ فينا فهمًا متزايدا لما علّمه السيد. وهذا كله طبعا يأخذه من الآب اذ هو ينبثق منه، ويأخذه من الابن اذ هو مستقرّ فيه.

هو الأُقنوم الحامل الحقيقة وموزّعها، واذا اتّصلنا به بالتوبة يتصوّر فينا المسيحُ ويُصعدنا الى أبيه ويجمعنا الى القديسين في السماء لنؤلّف معهم كنيسة المسيح الواحدة.

فمَن امتلأ من الروح القدس يكون متّحدا بالمسيح وسائرا الى وجه الآب وهو تاليا حبيب الثالوث المقدّس. ومَن عاش في حضن الثالوث لا يُعوزه شيء لأن الثالوث هو كمال المجد. هذا تكون سماؤه معه او فيه. وهذه هي حقيقة الكنيسة أنها موجودة ليتقدّس المؤمنون فيها بالروح السماويّ.

ما يُريده الرب أن نتقدّس كل أيام حياتنا بالروح حتى نُعطي إخوتنا القوّة ليُصبحوا أَعضاء في الكنيسة متجددين، غالبين الخطيئة، غير خائفين من الموت، متحابّين، غير متباغضين لئلا نظهر أَمواتا بعد أن أحيانا يسوع.

المهم أن نصلّي لكي تكون الكنيسة مُطيعة للروح القدس وحافظة مشيئة الآب، غير متّكلة على هذه الدنيا بل منتظرة النعمة في كل حين لكي لا يرى أحد إلا نورا في كل مسيحيّ، لكي يشهد ظفرَ المسيح في كل مؤمن وحياةَ الله منعكسة في كل تلميذ ليسوع.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الأنـا / السبت في 11 حزيران 2011

اضطررت ان أضيف ال التعريف على انا. هذا سمح لي بأن اقتل التركز على الذات والاكتفاء بها. الالتصاق الكامل بالذات هو الموت بالذات. اذ الموت هو الانقطاع الكامل عن الآخرين.

وعى باسكال العظيم خطر عشق الذات لنفسها فقال : “le moi est haïssable” اي ان الأنا مقيت. هذه ذروة حب السلطة ولكنها أضخم لأن تعلقك بالسلطة بمقدار معقول يترك وجودا ولو قليلا للآخرين. في الخطيئة التي ندرسها اليوم الإقصائية بمعناها الكامل. هي إلغاء في التعامل بالحد الأدنى ولكنها في العقل الكامل ادراكه والقلب المهترئ التابع له. هي نفي الآخر من وجودك كله وإماتة له غير منفذة جسديا.

لماذا هجومي القاسي على الأنا؟ لأن تحديدنا الفلسفي او اللاهوتي للانسان انه مخلوق على التواصل وان ليس كل مركزه فيه. ليس هو قطبا واحدا. الوجود ليس تراكم أفراد منفصلين لكل منهم ذاتية مغلقة. انهم ما نسميهم في الفلسفة الوجودية المؤمنة أشخاص. والشخص على ذاتيته نحدده بأنه منفتح اي قابل الآخر ليكون محررا من الانغلاق وموجودا لتكوين شخصيته مع الآخر. انا مسكوب فيك بالحب وانت مسكوب فيّ وليس مع ذلك ذوبان. هناك اتحاد بلا تراكم ولا التصاق. يبقى لك وجودك الداخلي ولي وجودي الداخلي.

وكل من الوجودين لغة بحيث لا اجترك ولا تجترني فعلى قدر الاجترار تذوب الشخصية في حيويتها وفرادتها وبهائها وهذه كلها يجب ان تقوى ليتقوى الآخر ويحمل نفسه ويحملني بآن في سر وحدة قائمة على اثنينية متشددة بالوحدة.

انا انسكب فيك حتى النهاية وتنسكب انت في حتى النهاية وبسبب من هذا الكمال في الانسكاب يتوطد كل واحد في اناه الشريفة الحلوة التي لا تصل الى العجرفة والغطرسة ومحو الآخر. اجل التواضع في الامحاء ولكن هذا الامحاء يجد صاحبه نفسه فيه ويوجد الآخر في نفسه فيأتي اكتمال كل واحد بالعطاء. كيف تمحى وتوجد، هذا هو سر التلاقي بالمحبة التي وحدها تؤكد الشخصية.

ما لم يقم هذا التلاقي الحواري وجدانيا وفي العمل اليومي يبقى كل منا سجين نفسه كما اهل الجحيم في لاهوت آبائنا الذين قالوا ان الذين في النار ظهر الواحد الى الآخر اي لا يرى وجهه.

هذا يترجم بشريا الثالوث المسيحي على أساس ما قال المسيح: «انا في الآب والآب فيّ». الآب يبقى الآب بأبوته، التي أعطت الابن ابنيته. والابن يبقى في محبوبيته بسبب ما يأخذ من الآب والوحدة بينهما المحبة. وحده الله ليس انه واحدا تتنافى فيه الاثنينية او الثلاثية. ليس الله واحدا بالعدد. «من عدّه فقد حدّه» (الإمام علي). الله وحيد. »الله محبة« (1يوحنا 4: 8). والمحبة ليست صفة له. هي اسمه اي هي كيانه بالذات. ومن قال ان الله ثلاثة أقانيم فهو لا يعدّها اي لا يدخل عليها الحساب. الله منزه عن ان يكون معدودا. اما الانسان فيمكن اعتباره واحدا عددا ولكنه ليس واحدا مغلقا. انه واحد بالمحبة التي يحب الآخرين بها والمحبة التي يحبونه بها. واذا لم يعرف الفرد هذا يكون عاشقا لأناه اي مغلقا ابواب قلبه كلها ومتحجرا في رؤية نفسه اي انه أراد ذاته صنما لنفسه وللآخرين. حبه لأناه عبادة منه لنفسه والتماس عبودية الآخرين له اي انه يدعوهم الى جعل ذواتهم اصناما وتاليا هم جميعا على العبودية.

ان مجرد جمع البشر في عائلة او مدينة او بلد او مدرسة او جامعة او معمل لا ينشئ بشرا متداخلة قلوبهم ولا يؤلفون مجتمعا موحدا الا بالقهر والقسر. هذا مجتمع سياسي قائم على القوة والتناصر المفروض من فوق. اما الحقيقة الانسانية فليست بالتجمعات ولكن بتلاقي القلوب. طبعا هناك ضوابط وقوانين لا بد منها لترتيب المجتمعات وتنسيق الأعمال المختلفة ولكن هذه روابط مجتمعية يقل بها الخلل.

المجتمع القائم سياسيا يرفع عنك الأذى في الحد الأدنى من مراقبة الدولة واجهزتها وهو موجه للانتاج الفكري والاقتصادي وعند النخبة المثقفة تتماس العقول وتقترب من نموذج المقابلة الوجدانية بين الأنا والأنا الأخرى المتفتحتين احداهما على الأخرى لأن كل انا تطلب الحقيقة من حيث المبدأ. اذا كنت في الحقيقة مبدعًا تتوخى الجمال والخير ولا تحسد المبدعين الاخرين. غير ان الخطيئة تتسرب احيانا الى النخب العقلية والفنية فتضعف الوجدانيات عندها.

#   #

#

لا تنكسر الأنا المغلقة الا بالزهد. عشق المال هنا الطامة الكبرى لان المال اذا احببته يجمدك او يحجرك وتضعف العاطفة فيك وتكون انت قد اغلقت اناك. فقط العطاء يفتحها ويدخلها في دائرة الـ »نحن«. من تطوع لشيء من الفقر يقيم الآخر امام عينيه كيانا حبيبا. بعض من أشيائك يجب ان يزول حتى تستقبل الاخر بالكرم. اهمية الكرم انك تحس فيه ببعض من الحرمان وهذا يعني شعورك بان الآخر يكملك.

المال الذي تستحوذ عليه وتتمسك به حاجز دون رؤية الفقراء الذين سماهم يسوع اخوته الصغار. ارمِ اذا عنك كل ما يحجب عنك هذه الرؤية وانت عليم ان المال اداة لبسط سلطتك. المتسلط في تصوره انه وحده في الوجود وان الكثيرين يستمدون وجودهم منه. هذا هو صاحب الأنا المنغلقة بامتياز. هنا تأتي صورة الحاكم المستبد الذي همه البقاء على سدة الحكم أعاش الناس ام ماتوا.

الاستبداد ان يوهم الحاكم نفسه انه بهذا هو فعال. في الحقيقة انه عابد لنفسه فيمكن عند هذا ان ينجح البلد نجاحا في مجالات ولكنه ساقط في مجال الفكر. واذا سيطر الخوف من الحكم يخاف المواطنون بعضهم بعضا اذ يشكون بانتساب الآخرين الى نظام الاستبداد.

يمكن للدولة نظريا ان تساعد الانسان على ان يصبح ينبوع حياة روحية. لها ان تكون مؤنسنة بحيث يشعر الشخص ان الدولة ليست اداة قهر وانها سند الفقراء. السياسة يجب ان تكون قاهرة للقهر والظلم وداعمة للعدل.

المسعى ان نحول المجتمع المدني الى مجتمع قلوب تحس بعضها ببعض و،يتقبل بعضها بعضا باخلاص وثقة.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

المجمع الأوّل / الأحد 5 حزيران 2011 / العدد 23

المجمع المسكوني الأوّل المعروف بالنيقاوي نسبةً الى مدينة نيقية قرب القسطنطينية هو الذي وضعَ القسم الأكبر من دستور الإيمان. يبدأ بذكر الآب بقوله: «أومن بإله واحد آب». ثم يأتي القسم المتعلّق بالابن وأَصرح ما فيه قوله عن الابن أنه «مساوٍ للآب في الجوهر» والمعنى أنه له الجوهر الواحد الذي للآب.

انعقد المجمع بدعوة من القديس قسطنطين الملك ليدحض بدعة آريوس الكاهن الاسكندريّ الذي علّم أن الابن أوّل المخلوقات وبه خلقَ الله المخلوقات الأخرى. فهمت الكنيسة من هذا الموقف ان آريوس هدم الثالوث القدوس بإنكاره ان الآب والابن واحد وبأن الابن أزليّ مع الآب من حيث إنّ كليهما أزليّ إي إنهما سابقان للزمان.

انتشرت هذه البدعة انتشارًا رهيبًا وجدّدها اليوم شهود يهوى. إنهم في الواقع آريوسيون إذ يُنكرون أُلوهيّة الابن.

لتأكيد صحّة التعليم الأرثوذكسي المُشترك بيننا وبين المسيحيين الآخرين، قرأت الكنيسة علينا أولاً النص من أعمال الرسل الذي يحتوي على كلام بولس لقُسُس أفسس إذ قال لهم: «احذَروا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أَقامكم الروح القدس فيها أساقفة لتَرعَوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه». المعنى أن هذا الذي سكب دمه يُسمّيه الرسولُ اللهَ. ليس المسيح مجرّد بشر ولكنه إله وإنسان معًا.

ثم قرأت الكنيسة القراءة الإنجيلية القائلة بأن معرفتنا للإله الحقيقي وليسوع المسيح معًا تُعطينا حياة أبدية، فلا حياة لك أبدية إلا بمعرفة المسيح. الأمر الثاني قول السيد: «مجّدني يا أبتِ بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم». واضح من هذا الكلام انه قبل تكوين الكون كان المسيح موجودًا وله المجد نفسه الذي للآب.

كل الإيمان المسيحي مُرتكز على أن يسوع كان موجودًا قبل كون العالم (بلا جسد) حتى جاء الزمان ليُكوّن له الروح القدس جسدًا من مريم العذراء فصار له عندئذ طبيعتان، إلهية (التي كانت دائمًا)، وبشرية التي تكوّنت بقوة الروح القدس من أحشاء مريم. ثم هذا الإله-الإنسان هو الذي صُلب على الصليب وبقيتْ أُلوهيته كاملة على الخشبة ولكن الموت لم يُصبها. ما تخلّى إذًا يسوع عن بشريته ولا محى أُلوهيته. بقيتا متّحدتين في الموت وفي القبر وقام جسده من الموت الذي لم يُصب ألوهيته. نحن نعبد إلهًا في الجسد ونعبده حرًّا بين الأموات غير خاضع لناموس الموت والنتانة.

ونحن نعبد معه الآب والروح القدس، ولا نعبد القديسين ولكنّا نُكرمهم تكريما. ونحيا متّحدين بيسوع ونأخذ منه كل نعمة وكل قداسة.

المسيح صار إنسانًا بمشيئة الثالوث وبقي على هذه الأرض متّحدًا بالأقنوم الأول اي الآب والأقنوم الثاني (اي الروح القدس) في كل لحظة عاشها على الأرض غير منفصل عنهما وله معهما المجد والإكرام والسجود.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

القائد / السبت 4 حزيران 2011

تولد قائدا ولو كنت دون العشرة من عمرك او لا تولد. تعرف انك تحمل قضية اي قدرة على التغيير والتغيير يأتي من رؤية ما يجب ان يكون اذ الكائن لا يروقك. همك ان تخلق شيئا جديدا، عالما جديدا. والمادة التي بين يديك ناس بعضهم مستنير ولكن لا يحمل القضية على عاتقه او تكون كامنة فيه وتحتاج الى من يحركها.

تحس انت انك مفوض لتحريكها من فهمك ومن ربك. تعرف انك مسؤول لأن ما تشعر به رسالة عليك ان تؤديها لأنك بت لا تطيق العالم الذي تراه وتسعى الى عالم جديد انت تؤمن انه سيتحقق بك وبالذين انضموا اليك. ستنشئ اذًا حاملين للقضية لن يصبحوا لك بالضرورة تابعين ولكنهم معتقدون لهذا الذي تؤمن انت به فتراهم نواة لهذا العالم الجديد الذي «أُنزل» عليك من حيث لا تعلم وتلمس انك غير مستقر على حال حتى تظهر تباشير الجدة في رفقائك لتطلع الحياة فياضة من إخلاصكم والمعرفة.

غير ان الرسالة الجديدة جلاؤها ذو شروط ولعل اهم شرط فيها الزهد بالأنا والتنزّه الكامل عن إغراء الزعامة فإن الزعامة شهوة وصاحب الشهوات تقوده شهواته ولا يقودها الحق. لذلك لا يمكن ان يصبح الأغنياء قادة لأنهم يحمّلون أنفسهم قضية وهم ذاهبون الى أنفسهم ويتعذر عليهم ان يتلقوا رسالة من فوق أنفسهم.

اذا كنت لا تريد شيئا من هذه الدنيا تقودها. اما اذا اشتهيتها فهي تخضعك لها وتموت بهذا الاشتهاء للقضية. فاذا تنزهت ترى نفسك تحت عبء التكليف وتقبل العبء لأنك أيقنت ان رسالتك اهم منك وانك جئت لتموت من أجلها كائنة ما كانت أشكال الموت. اذ ذاك، تراه طريقا الى الحياة التي تسطع على وجوه كل من الجماعة المحملة فرض العطاء والتي تقوى بالحب، بالتضحيات، بالتجرد عن المنافع، بالخدمة الموصولة من اجل الفهم وسكب الفهم وإفناء الأنا بالـ «نحن» الذي ليس تجمع افراد ولكنه كثافة اليقين بأن هذا العالم مدعو الى التجدد بالتطهر والبذل وذلك كل يوم حتى لا تحصل لنا إلفة مع الكسل.

ليس المهم تنظيم الحركة التي هبت في النفوس. أتتخذ شكل ندوات او حلقات ام إصدار كتب وما اليها. المهم الشعلة أعني النار الداخلية التي تصبح نورا فيك وفي من يأخذ عنك. وهذا هو الايمان الذي تنظر فيه الى الآتي كأنه واقع اذ المؤمن لا يقبل بالحاضر او الجاهز ولكنه يسير الى ما لا يراه على رجاء ان يتحقق وتتبدل احوال هذا العالم.

#   #   #

الكون مسلّم الينا. كذلك الناس. كل منا راعٍ لأخيه حتى يصبح المرعي راعيا بدوره ويتفجر النور من كل قلب.

العالم فيه ابدًا سوء وانت المستنير تعرف ذلك ولكنك ترجو ان يتغير هذا العالم الذي تعهدته بما فيك من حماسة وبما ائتمنت عليه من توكيل. وأيقظت الناس الى وكالتهم فأحسوا بدعوتهم الى الحق وان خلاصهم بالايقاظ مجتمعين على الحب والخدمة.

الدنيا دنيا خطايا. «العالم كله تحت الشرير». ولكنك ترفض انت هذا السقوط وآمنت ان الكلام الذي كلّمك الله به قادر ان ينقي هذا العالم لأنه «نور وحياة». وغالبا ما ترى ان الخطيئة متحكمة في هذا العالم ومنتشر حكمها في كل نواحي الدنيا وفي ناس كثيرين: والوسوسات التي ينفثها فيك الشيطان هي هذه: ما نفع إنهاض البشر من كبوتهم فإنهم سيسقطون والذين يجيئون من بعدهم سيسقطون ايضا. هذا هو الراهن حتي قيام الساعة.

المهم الا تستسلم انت الى الراهن، الا تيأس من تغير الناس وقلوبهم. عندما يقول داود: «قم يا الله واحكم في الأرض» كان يعرف ان الأشرار كثر وان الخطيئة حاكمة كثيرا ومع ذلك كان يفهم ان الرب قادر على تغيير الكون وعلم ان الله يخترق القلوب اذا هي شاءت اي اذا صارت حساسة لكلماته.

أصحاب الدعوات الروحية هم عينا الذين يؤمنون ان الدنيا ليست تحت حتمية المعصية وان الطهارة ممكنة وان الله ليس قهارا للقلوب. ما قال الله ان كل اهل الدنيا سيحولونها فردوسا قبل ان نتمجد معا في القيامة.

ما جاء ابدًا في تعليمنا او في اي تعليم ديني ان الإيمان على نمو المسكونة. «هل سأجد ايمانا على الأرض» (لوقا 18: 8). على كل هذا نحن مدعوون الى النضال وكأننا نرجو تغييرا شاملا لكل انسان ولكل الناس.

اذا قلنا اننا نكافح على الرجاء نريد ان هذا الرجاء ينزل علينا من الله ولا نقول ان كل البشر يريدون التوبة. ولكن الرب حبا بالخير الذي زرعه بكلامه يلهم نفوسا بنعمته عظيمة الجهاد ومثابرة على العطاء وداعية للمشاركة الروحية بين اهل المحبة والبذل حتى يتركوا للإنسانية روح العطاء يوما فيوما ويقيموا فراديس وسط الجفاف العام.

وكأن هذه البشرية تتوق دائما الى الخير على معاصيها، كأن القاتل مثلا يحن الى المرحلة التي لم يقتل فيها، كأن البشرية يحرك فيها القديسون الأمل. القداسة حلم البشر جميعا ولكن الخطيئة جذابة فتبقى الرغبة في البر حلما لا يجرؤ عليه الكثيرون. الضعف والتخاذل أقوى عند الأكثرين على ما يبدو.

في الأوساط المسيحية اذا أعلنت الكنيسة قداسة كبير من كبار البر يبتهج الكثيرون ولكن معظمهم يقول: هذا كانت له مآثر عظيمة، هذا استثنائي.

ولكن هذه العظمة ليست لي وصعب لي ان اترك ملذاتي، كأن في الشعب المسيحي خطين متوازيين لا يلتقيان الا في الحلم: خط القداسة الكثيرة وخط الاهمال الكبير لأي جهاد من اجل ما يسمونه حياة عادية. عندما يدعو واعظ الى القداسة في حدتها يقول له مؤمن عنده صلاح كثير: هل تريد مني ان أكون مسيحا كأن المسيح عنده جاء يغني اغنية البر لنفسه لا ليعلمها الناس.

المسيحية في فهم كهذا تكون جاءت لتنتهي بيسوع الناصري. ولكن ما معنى قوله: «انا معكم حتى منتهى الدهر» (متى 28: 20) ان لم تعنِ اني اريد كلا منكم ان يكون مثلي. «الاعمال التي اعملها تعملونها وتعملون اعظم منها لأني ماض الى الآب» (يوحنا 14: 12). المسيحية مسحاء والا فليست شيئا. هي شخص يسوع يريد ان يكون كل مؤمن به على صورته. وهي، قبل كل شيء، ان نؤمن بان هذ ممكن لان المسيح صادق ولأنه فعال بروحه القدوس. غير ان فاعليته تقتضي تطوعا منا له.

اظن ان اخفاق عدد من المسيحيين كبير وعدم اهليتهم للمسيح ناتج من ضعف ايمانهم بقدرة المخلص على نفوسهم وبتخاذلهم امام الشهادة والاستمرار على انجيلية ارواحهم. «قم يا الله واحكم» كل نفس من نفوسنا ليرى العالم ضياءك العظيم.

Continue reading