Category

1963

1963, لسان الحال, مقالات

خواطر خريف / الأحد 8 كانون الأوّل 1963 – من جنيف

هذا الامتداد الآخر يمنةً ويسرةً، والقطار يشقّ الهواء، ترتاح العين إليه كأنّ الخضراء وحدها أليف. كلّ شيء في هذا البلد لون، وجنّاتهم لم تتحوّل صحارى. بعض من الشجر الباسق تكسوه أوراقه حتّى المنتهى في إخلاصها إلى جذع يرتوي. وبعض من الجذوع حيرى بين اكتساء وتعرّ. ولكنّ أغصانها تجرّدت، لينطلق البصر من خلال تجرُّدها إلى ملءٍ أمدى. مع ذلك، لا يكتمل العراء، لأنّ ما يلوح كذلك بعد رؤية خاطفة إنْ هو إلاّ شيء أدنى إلى الفسيفساء، وكأنّ الطبيعة تماثل الفنّ ولا تتكسّر إلاّ ابتغاء الفداء. وينساق اللون تلو اللون بغير نفور، لعلّ يدًا ساحرة أحبّت أن تطمئنّ العين إلى هذا التنوّع العجيب الذي يُنقل إليك في سرّ وحدته. وإذا أنت سرت على دروب البلاد – وكلّ بقعة فيها مغناج – تطأها عسجديّةً، لأنّ الخريف أهمل الورق تحت قدميك، لتطأه، بدون رفق، في تناهيه.

وإذا فاتتك هنا فرصة الشمس، تنال نعمة فوق النعمة من كلّ ما هو طريح الأرض. هذا إلاّ طراح فيه بعض من مبتغانا. إنّ المتعبّدين أنفسهم يسعون إلى الواحات. الإنسان دائمًا بين صحراء وجنان في التمزيق. ولكن، قيل مرّةً إنّ البادية تنقلب فردوسًا. وجنّات الأرض، إن أبعدت بعضًا عن الباقيات، ليست بالضرورة ملهاة. أليست سماء الله كلّها لونًا ونغمًا؟ لن تكون ملكوت الضجر. وإذا كانت البادية مهبطًا للوحي، فالمنشود انطلاق الوحي إلى آفاق لا تحدّ. الفراديس مصاحف كالبوادي. المتاهات تهجئة، والناس كلّهم يعبرون الهجاء إلى اللفظة فالكلمة. والمعاني دقيقة، ولذلك تعود إلى المصدر، حينًا بعد حين، لنلتمسها فيه. كذا، بعد الجهاد، تغمر الروح أنوار التأمّل، ثمَّ نرجع إلى رياضات قد تبدو جافّة بعد المشاهدة، ولكنّ القحط طريقنا الطويلة إلى محجّة الأبد.

وفي أعماق التبصّر، الغبطةُ جنين الكفاح الداخليّ. الفرح لا يتلو الجهاد كما تتتابع صفحات الكتابة، لكنّه السطور المكتوبة في سفر الجهاد. لا بدّ للمعاني من كتاب يحويها، ليحفظها. هي فيه للأمّيّ دفين، حيّة للعارفين. إنّ من طلب ربيع الفرح لن يدركه إلاّ إذا قبل شيئًا من خريف، رغائب تضمحل كالورق، مطامح يدوسها الناس، أن يحتجب العنف كما تنكفئ الشمس فوق غيوم هذا الفصل العظيم.

Continue reading
1963, لسان الحال, مقالات

1964 / الأحد 29 كانون الأوّل 1963

أليست تمنّيات العيد نابعة من ملل الماضي؟ والسعادة التي ننشد نراها في الوقت الذي أمامنا، لأنّ ما انقضى من الوقت لم يؤتنا ما كنّا نبتغي، فنمتدّ شوقًا إلى الآتي علّنا نستردّ ما فات من فرص انطوت في زمان ميت. هذا يطرح مشكلة السعادة من أساسها. والفرق بين السائلين عنها ليس فرقًا جذريًّا. إذا كان الأنا هو ما يبحثون عنه، فتكون أسباب سعيهم قد اختلفت، لتتلاشى جميعًا في مقبرة واحدة. فما الفرق بين متع الهنيّهة ألهوًا كانت المتعة أم ارتزاقًا؟ إنّ اتخّام هذه «الذات» العابرة عابر أيضًا. إنّه ظلّ الظّل، وهم لا يكاد يرنو إلى الوجود حتّى يغيب. ولذلك السؤال عن مكمن السعادة سؤال باطل إذا كان المقصود منه الاختيار بين الشهوات. فكلّها تنصبّ أخيرًا في الأنانيّة مهما تباينت ألوانها. والذين يفاضلون بين لذّة ولذّة، بين مجد ومجد، بين وجه ووجه، ويجدون كلّ الحياة في ما يفضّلون، صائرون جميعًا إلى التعب. وما التنقّل بين اللذّات أو الأمجاد سوى تأكيد لهذا السأم البشريّ الذي يتخبّط فيه كلّ من ابتغى لنفسه، في حدود المنظور، مقرًّا ومن جعل الأنا فيه ملتقى الكائنات.

إذا كان ماضينا فيئًا يميل، فالمستقبل كذلك في حال اعتقادنا أنّ السعادة هي في ما يأتي إلينا، في ما نجنيه. ولكن، إن آمنّا بأنّ السعادة هي في ما نُعطي، في الشهوات التي ننحر لنصبح قادرين على النموّ، عندئذٍ لن تكون السنة الـ1964، بحدّ ذاتها، شيئًا. سيكون جمالها ليس في ما تقدّم، بل في ما نقدّم نحن فيها للناس الذين جعلهم الله في نطاقها. هذه الأزمنة المتقادمة ليست سوى فرصة لنا نمارس فيها حرّيّة انطلاق، نحيا فيها ارتقاب النعمة، يتكثّف النور فينا في مدارها، لنذيعه على العالمين خلاصًا من دوران الوقت ومن التقيّؤ. وبكلمة، لا نسأل عن أنفسنا ولا عن امتدادها، بل عن الآخرين، وإذا بالنفس تكتسب وجودًا وتمتلئ فاعليّة.

تبتدئ السعادة، بالضبط، عندما أنسى أن أسعى إليها، لمّا أخضعها، هي أيضًا، للمشكلة الكبرى: كيف يتمّ حقيقةً خلاص الناس؟ إذا صرت هذا الإنسان المغترب من فلسفة التمتّع، فالمستمعون يطرحون، عندئذٍ، على أنفسهم مشكلة معناهم في الوجود. وقد يدركون أنّ سبب الخيبة كان في طبيعة سعيهم وأنّ الانتقال منه إلى سعي مثيل فريد في الخيبة. ولذلك كان لهم في من استنار فرصة الخروج من الامتداد إلى الصعود. «وكلّ ما يصعد فيهم يتّجه إلى لقاء»، لقاء الله مصدر فرحنا ولقاء الآخرين في محبّة معطاء.

Continue reading
1963, لسان الحال, مقالات

شباب أم شيخوخة / الأحد 3 تشرين الثاني 1963

لفتني، في عدد الجمعة 25 من الشهر المنصرم، «حديث لكوكتو» فيه كلمة لبيكاسو يقول فيها: «عندما يبلغ المرء الستّين، يبدأ أن يصبح شابًّا… في هذه السنّ، يبتدئ الإنسان يشعر بأنّه حرّ، يتعلّم أن يتخلّص من كلّ شيء إلاّ من بساطته الخلاّقة الضروريّة». لا شكّ في أنّ البساطة ذروة من ذرى الوجود أكان ذلك في الفنّ أم في الحياة الروحيّة، ولا يبلغها الإنسان عادةً إلاّ بعد اجتيازه مضايق التعقيد العقليّ والارتباك الضبابيّ الذي قد تتّسم به الفتوّة. وإذا أوتينا نعمة البساطة بتقادم العمر، لا نفقدن بالضرورة، «فرصة التمرّد» الذي يتكلّم عليها كوكتو. والتمرّد أدنى إلى الحقيقة من الثورة وإن لم يكن الوجودَ عينه، بل إمكان إطلالة على محتوى الوجود. المتمرّد لا يتربّع في الحقيقة كالمتذهّب الخامل. وقفزته فوق الهاوية أقرب إلى اليقين الدينيّ الخلاّق من جحود الرابضين في قفص المحافظة. أنا لا أخشى على المتمرّدين الخطر، لكنّي أحسّ بأنّ عصيانهم مرحلة دون البساطة وتاليًا تخلّف عن الحرّيّة التي يدعونا بيكاسو إليها.

وبالضبط، السؤال الشرعيّ، الذي يُطرح على هذا الرسّام الكبير، هو ما هي الأمور التي يجب أن يتخلّى الإنسان عنها، ليكون حرًّا. هل إذا أزيلت صورة الإنسان من الفنّ، كما فعل هو بعد مرحلته الزرقاء، يبقى للفنّ وجود بالمعنى الإنسانيّ المتكامل؟ لا شكّ في أنّ الفنّ التجريديّ صورة عن الإنسان الذي أضاع نفسه. قد يكون هذا الإنسان المجزّأ المشتّت في غيابه، موضوعًا فنّيًّا، وعند ذلك يشهد التجريد لحقيقة الله وراء هذا التبدّد. ولكن، في الحياة الروحيّة، ماذا يقابل التجريد؟ أنتجرّد عمّا فينا دون الوقوع في الفراغ؟ ومع ذلك، يجب أن يتخلّى الإنسان عمّا يبيد الإنسان فيه، إذًا عن كلّ شيء تقريبًا ما عدا هذا الذي يجعله إنسانًا، كائنًا قائمًا بين السماء والهاوية، معلّقًا بين الوجود الأعلى واللاوجود، في كيان البساطة التي تدرك ارتباك المخلوق ولم ترَ بعدُ البهاء اللامتناهي الذي ينتظرنا. في بركات البساطة، لا يبقى هاجس المرء الظهور، لأنّه أدرك أنّ «الأنا مقيت». وإذا باللمعان فيه يعطيه عمقًا مشعًّا، وتصبح كلّ حقيقة لديه تلك التي بالحبّ تشفي.

عند ذاك، الحديثُ عن التمرّد لغوٌ، والمفاضلة بين سنّ وسنّ فيها من القصر الروحيّ الشيء الكثير. كلٌّ يكشف فضائل عمره، أو يتغنّى بما فات، أو يستهين بالحداثة. والحقّ أنّ القضيّة لا تكمن في نضارة قد تكون عن الشباب العابث ولَّت، ولا النضوج عند الشيوخ ثمرة تراكم السنين وحسب، لأنّ تراكم الفراغ فراغ. القضيّة ليست هنا، لكنّها في تلك البساطة التي تعطيها الشفافيّة عندما تتجرّد النفس عمّا يطويها. فإذا نظر المرتبك إليها أو اللاهي، يحيد عنه الضباب.

Continue reading
1963, لسان الحال, مقالات

تجربة الهروب / الأحد 4 آب 1963

الذين أحبّوا الحقيقة فوق كلّ شيء يُعانون الوجود معاناة قاسية، لأنّهم يريدون الناس مسلمين إليها، وأكثر الناس منافقون. ثمّ الذين لا يحقّقون، في الواقع، رغباتهم، وهم غرقى الرغبات، يتلقّون أيضًا من هذا الواقع الصدمات. أهلُ البِرّ وذوو الشهوات جميعًا أمام تجربة الهرب من الواقع في تحدّيه الأليم. ولذا نخشى المواجهة فتتضخّم أمامنا بشاعة الحياة.

في سعير هذا التصادم المستمرّ بيننا وبين البيئة، عند أهل البرّ وأهل الإثم، عبّر الهرب عن ذاته بما يمكن أن يُسمّى التسلية كائنةً ما كانت مراتبها وأنواعها. فالتكالب على الدنيا وعلى الجسد تسلية. والاستغراق في التأمّل النظريّ، الذي لا يُنتج فعلاً روحيًّا، تسلية. فلأنّي لا أريد أن أجعل بيني وبين الآخر علاقة إنسانيّة تقوم على الحوار والتعاطف، لأنّي لا أقتبله كما هو ولا أمارس المحبّة فينغلق عليّ الوجود، فأنا في اضطراب دائم أحيد عنه بالتسلية. وبالنهاية، مَن حلّ كلّ مشاكله الإنسانيّة العميقة، لا يحتاج إلى تسلية.

ومن أعرض عن ملذّات الدنيا، بسبب من عقيدة، وخشي المواجهة الإنسانيّة، أو كان صريع الأشرار فلم يصمد أمام مقاومتهم، مَن اضطرب من كلّ شرّ ولم ينل نعمة الصبر، هذا أيضًا في هروب. والغضب وجهٌ من وجوه هذا الهرب. إنّنا به نغطّي عجزنا عن حلّ مشكلة أو مقابلة ذهن آخر. ولذلك يهرب الصراعيّون، إذا تلقّوا الإخفاق، إلى مختلف ألوان الفنّ أو إلى طريقة أخرى في النضال ليس فيها مواجهة للحقائق، وهي، تاليًا، طريقة نضاليّة كاذبة. وهذا، أيضًا، في النهاية تسلية.

العزلة في هذا المعنى هروب، إنّ كلّ إنسان ضروريّ في هذه المحادثة العامّة الجارية بين الناس والتي نسمّيها الحياة الاجتماعيّة أو الحضارة أو التاريخ. وليست المشكلة في شكل الحياة التي نتّخذ. فالثرثارون المنطرحون في كلّ الحفلات أقلُّ الناس نفعًا في الحوار البشريّ، لأنّهم في فراغ. والراهب الصامت، الذي ينحت حياته قداسة وفعلاً، لأكثرهم حضورًا في المحادثة الإنسانيّة الكبرى.

أن أبقى خيرًا دون أن يتغيّر الواقع، أن أتوقّع السيّئة من كلّ إنسان ولا أحجب عنه محبّتي، أن «أسكب حولي العطور والأغاني» وأنا أعاني في هذا الوجود مريره، ألاّ أتخلّى عن أحد لحظة، ولو اكفهرّت الدنيا في عينيّ وخنقني دخان ظلامها، أن أحيا صادقًا وسط الدجل العميم، هذا عطائي للوجود. في هذا كلّه، قد أتوكّأ على قلّة كريمة، ولكنّي، بالنهاية، وحدي في أداء الشهادة. ومع ذلك، وعلى الرغم من وحدتي، أنا مقرُّ الألوهة.

Continue reading
1963, لسان الحال, مقالات

أربعون / الأحد 7 تمّوز 1963

اليوم، يبلغ أعزّ شخص لديَّ الأربعين، وكان، قبل ذلك، ينظر الى هذه السنّ وكأنّها المنحدر. إنّها لأعجوبة لو صارت بالنسبة اليه عكس ذلك. ربّما لا تكون سبيلاً إلى الشيخوخة إلاَّ جسديًّا. ولكن، أنىّ للتعبير عن الصبا الروحيّ أن يتوفّر والخلايا هرمة والشيء الكثير من الحسّ تضاءل. قد تبقى اليقظة، واليقظة من نعمة ربّك، وهي وحدها، بالنهاية، دليل الوجود الإنسانيّ الفريد.

قيمة الكهولة في أنَّها تكشف الإنسان لنفسه، تكشفه مراهقًا يستمرّ أو بالغًا تجاوز الزمن إلى التطلّعات الباقية. هذه الحسرة المتواصلة على فقدان الشباب مزاولة للرهق الذهنيّ الذي يرافق الأكثرين، وكأنّهم لا يرون وجودًا إلاّ في المتعة البكر أو، إذا علت رتبة تفكيرهم، في هذا الحماس الدفوق الذي يتّسم به اليافعون. هم على شيء من الحقّ إذا أحسّوا الحياة فورة من القفزات نخلع عند كلّ واحد منها ماضيًا عتق، لندرك سرّ اللحظة في طفرتها. أليست الحياة في الآن الأحد، في اللاعودة؟ ومن هذا القبيل، أليست الكهولة، على قدر ما هي حسّ التكرار، صدمة للحياة أو مذاقة موت؟

كانت هذي خواطر رفيقي لمّا أحسّ دنوّ الأربعين. من جهة، هو راضٍ عن تخطّي الصبا. ومن جهة أخرى، بقي في نفسه شيء من الحنين إلى ذلك السيل المنهمر من الحيويّة التي كان يعرفها في نفسه قبل سنوات، وكأنّ السنّ، التي أدرك الآن، انتزعت منه هذه الحيويّة دون رجعة. فحاولت أن أقول لصديقي أمرين هما غاية في البساطة. أوّلهما أنّ الحياة في صورتيها، مسيرة وبقاء، وأنّ الذي يسلك كلّ سبل العمر، وليس فقط أولاها، يمثّل لنا الإنطلاق والدوام. ويكون عندئذٍ، عمره صورة عن وجهين يظهر الله لنا بهما: الحركة والثبوت. وكانت كلّ قيمة الشباب، في غليانه، أنّه يرمز إلى دفق النعمة في تجديدها لنا وصقلنا.

ثمّ هذا النضوج، الذي أظنّ أن صاحبي بلغه، ليس، بالضرورة، قطعًا للابتكار وتردادًا لاكتشافات النضارة، وهي قادرة، في كلّ حين على أن تسلّم ذاتها للأجيال كلّها، إن حفظت هذه الأجيال الفتوّة الجديرة، وحدها، بهذا الاسم، أي فتوّة اليقظة. بوركت كهولة كهذه تحتوي على كلّ روعة الشباب. ففيها، وحدها، تجد الحداثة مصبًّا لرغباتها ومطهرًا.

وثاني ما قلت لصديقي إنّ ما بلغه من السنّ يمكن أن يكون مرتفعًا يثب منه إلى السماء إذا عرف أن يتتلمذ على الموت. في هذه السنّ، تكمن حكمة صاحبي أن يتدرّب على النهاية بمحبّة تصبح كمال الرضا وقوّة الصفاء. لأنّ الباب، الذي سيفتحه له الموت، يدشّن له ذلك الصبا الأبديّ الذي تبحث عنه الإنسانيّة منذ أن طُردت من الفردوس، وأُودعت شعلة لا تنطفئ.

Continue reading
1963, مقالات

نعمةُ الفقر / الأحد 16 حزيران 1963

استوقفَتْني جملةُ البابا يوحنّا «أشكرُ اللهَ على نعمةِ الفقر» كما استوقفتَ غيري. إنَّ هذا الأسقفَ الكبير أدركَ ذروةَ ما في المسيحيَّةِ منْ حبٍّ لمَّا قالَها، ولا سيّما أنَّ الأساقفةَ ليسوا مرتبطِين، حتّى الآن، بنذرِ العفَّة الذي يأخذُ به الرهبان. ثمّ الفاتيكان غنيٌّ جدًّا. هو دولةٌ مساحتُها قصرٌ، وقلبُها متحف وجنَّات غنَّاء. ولكن، يهمُّنا منْ كلمةِ الراحل المغبوط حقيقتها الأبديّة التي أشار إليها، جزئيًّا، جبران حايك الخميس الفائت. صحّ أنّ الفقر هو الغنى الروحيّ والزهد في لذائذِ العيش، ومن هذا القبيل هو نصيب المؤمنِ الساعي، في وسط العالم، إلى محجَّةِ الملكوت. ألاَّ يكونَ لنا تعلُّقٌ بشيء، ألاَّ يأسرنا مخلوق لنكونَ فقراءَ الى الله وحده، هذا هو عمقُ الفقر.

ولكنَّ الوسائلَ إلى هذا العمق مختلفة. بعضُنا يكفيهِ هذا التجرُّد الذهنيّ عن المقتنى وهذا الإعراض حتّى التَّرف. ولكن، هناك مَن يمتهنُ الفقرَ، إذا صحَّ التعبير، من يلتزم به واقعيًّا، من يختارُهُ نهجًا للاستقلال الداخليّ والتطهُّر. كان هذا سبيل الزهَّاد في الإسلام وما يزال منهجًا من مناهجِ الحياة في الهند وفي المسيحيَّة. وفي هذا كان له أستاذان فرنسيس الأسّيزيّ في الغرب ونيل من برّيَّة سورا في روسيا. ونادى كلاهما بأنْ يكونَ الدير غير مالك البتّة. ومَثلَ هذان ذروة الحياة الروحيَّة في كنيستَيهما.

ولكن، لا يكفي أن تبقى في الدين قلَّةٌ عزيزة لا تقتني إن كانتِ المؤسَّسة كلُّها غنيَّة. فإنَّ الملك يعني، في ما يعنيه، أنّ الطائفةَ الدينيَّة تشاركُ في هذا التفاوت لكونها إلى جانب الملاَّكِين الكبار. من أجل ذلك سارعتْ بعضُ السلطات الروحيَّة، في غير هذا البلد، إلى توزيع بعض الأملاك على الفلاَّحِين.

ثمّ التوكُّل الكاملُ على الأوقاف يعني أننّا نحيا من مال الموتى وأنّ الأحياء، إذًا، لا يتعهَّدون القضيَّة الدينيَّة بالمقدار الذي يسهم بها الراحلون. إنَّ مَن يدفع من جيبِهِ من أجل المذهب الذي ينتمي إليه لا يدفع له منْ روحِهِ.

وأهمُّ منْ كلِّ هذا، إنَّ تراكمَ الأموال يُنشئ تضخّمًا في إدارتِها واهتمامًا بها كبيرًا. والإنسانُ يصرفُ نشاطه في ساعاتٍ معيَّنة منَ النهار. فلا وقتَهَ ولا دماغه ولا قلبه تتّسع لهموم أسمى. وهكذا تنحرفُ المؤسَّسة الدينيَّة إلى الزمنيَّات والخمول.

من أهمِّ ما جاء في مجمع الفاتيكان أنَّ أسقفًا زنجيًّا طلبَ فرضَ الفقر على الأساقفة. لو جنَّتْ الرئاسةُ الروحيَّة في طائفةٍ ما وأخذتْ بهذا الاقتراح، لآمنَ النَّاسُ أن هَيبةَ الدين ناتجة فقط من القداسة.

Continue reading
1963, لسان الحال, مقالات

يوم طرابلس[1] / الأحد 19 أيّار 1963


[1] لمناسبة سقوط طائرة في مصر كانت تُقلّ وفدًا من بلديّة طرابلس وبعض من مهندسي المدينة، فأودت بحياتهم، ونُقلت جُثثهم، بعد التعرّف إليها، إلى طرابلس، واستقبلتها المدينة بصمت.

استقبال طرابلس لأبنائها الذين صُرعوا في مصر كان لقاءها مع سرّ الصمت في شهادة مهيبة. ذلك لأنّ الألم العميق لا يواجهه الإنسان في تفاهة التعبير. ثمّ الموت أبلغ كلمة الوجود، لأنّه درب اليقين، كائنة ما كانت وسيلة غيابنا عن مسرح الدنيا.

أمام عنف الفاجعة، وهذا الانسلاخ الجذريّ الذي ينتزع الأحبّة انتزاعًا من الكيان، كانت بعض تساؤلاتي هكذا:

  • لماذا نقتتل في هذه الدنيا؟ هذا السؤال، على سذاجته، يبدو لي غاية في الأهمّيّة لو علمنا أنّ أكثر ما نختلف عليه يتلاشى في لحظة واحدةٍ، وأنّ جلّه يفنى عند عتبة القبر. هذا ليس لأقول فقط إنّ الشيء الكثير فيها يجب أن يُنظر إليه من حيث هو فانٍ. بعضٌ من الظرف أو بعضٌ من التندّر جدير أن يطبع أرصن ما نعالج. وهل يفيد النقاش وهو، في أغلب الأحيان، يخفي ذلك العنفوان الذي ليس مثله يعني شقاء الإنسان وهزالته؟

وإذا كان الإنسان هذا الشيء اليسير، نطفة ثم جيفة، فلماذا ننصبّ على تحطيمه؟ أفلأنّه يستعلي؟ ولكنّ آلةً لا تعقل كافية حتّى يتناثر وجوده. فلنعطِ هذا اليسير فرصة، ليتجاوز العضويّ فيه ويكتنه نفسه، إمكان توثّب، فيمسي موته بالآلة صنع هذا العقل المتحفّز ووليد روح أرادت اختصار المدى، لتمتدّ، وتبني.

  • أحقًّا نبكي موتانا أم تتفجّع النفس لأنّها صارت إلى عزلةٍ وخشيت ألاّ يُترك لها شريك؟ العزلة قبرٌ وليس منّا من يريد أن يحيا وحيدًا. النفس خيوط مترابطة حتّى اللانهاية، وكأنّها لا تستقرّ إلاّ إذا لاقت الآخرين، كلّ الآخرين في شركة حبّ. شديد الإيمان وضعيفه، كلّ منهما ينشد وحدة النفس. يرى المؤمن أنّ الرابط بين الأحياء والأموات ما يزال قائمًا، فيصطبر حتّى اللقاء. وضعيفنا يلمس قربى لا تتحقّق في المنظورات. إنّه يحيا تضادًا يجمع بين قربى وغياب. أصحيح أن يبقى الإنسان إلى الأبد ضحيّة غياب أم تُستعاد وحدة البشر ما وراء الحُطام؟ أتظلّ الإنسانيّة خائبة تتلقّى كلّ جنين ليكون فقط هذا اليسير المتكسّر في ترحاله بين رحم وقبر؟ إن كانت هناك حادثة بعث واحدة، فهي كافية لتحلّ معضلة، مجرّد طرحها أزمة اختناق.
  • أيّ هو معنى الصبر؟ هل هو استسلام أمام حادثة لا تُردّ، قبول الجثث على أنّها جثث، لأنّ الأرض تدور على الرغم من أيّ موت؟ وحتّى إذا أُرسي الصبر على قاعدة الدين، فهل نحن متأكّدون أننّا نقرأ فيه الفحوى الصحيح؟ أليس الصبر أن نستلهمه حيويّة لنا نستمدّها، بالضبط، من تواري عزيز؟ ليس الموت مفيدًا إن خطفنا إلى ماضٍ بات ظلاًّ، لكنّه حقيقة إن أحضر خيرات الراحلين ميراثًا في نفسنا. ليس الصبر في القبول، بل في التوثّب.
Continue reading
1963, لسان الحال, مقالات

في الإيمان والعقل / الأحد 21 نيسان 1963

عرّف كاتب مسيحيّ من القرن الأوّل الإيمان المسيحيّ بأنّه «ثقة بما يُرجى كأنّه حاضر وإيقان بأمور لا تُرى». بهذا المعنى عينه، قال الإمام البيضاويّ إنّ الإيمان «ثقة بالله مع طمأنينة قلب». فإذا ابتدأ فكرنا من الإنسان، يبدو لنا الإيمان قفزة من هذا الإنسان إلى ما فوقه. وإذا كان الإنسان في الحاضر، فالإطمئنان إلى الآخرة خروج إلى ما ليس بعد، إلى ما يتجاوز حدّنا. ولكنّ المؤمن لا يرى أنّ إنسانيّته بُخس حقّها إذا قفز من حيث هو قائم إلى حيث لم يصل. وبالحريّ، ليس الله فوقه، لكنّه فيه. وليست الآخرة بعده، لأنّ المرجوّ يقوم في الراجي. وبالنسبة إليه، التحدّث عن غيبيّة الإيمان هو، بالضبط، نكران لكونه أعمق حقيقة وأفعل وجود. فما عنده من قفزة، لأنّ الله هو المبتدأ.

يبدو لي أنّ الحوار بين المؤمن والجاحد وضع في غير محلّه، لأنّ انطلاق هذا الحوار كان انطلاقًا جحوديًّا. كانت مقدّمته أنّ الإيمان نذهب إليه في حين أنّنا نذهب منه. وقيل إنّ موضوعه أبعد من الإنسان، فأخرج الإنسان عن نطاقه. وكان السؤال الصحيح ليس لماذا لا نأتي نحن إليه، لكن لماذا يذهب هو عنّا. وكانت المعضلة الحقّ لماذا لا نعرف إعطاءه، لا لماذا يعرفون أخذه.

وإذا عرّفنا الإيمان بالثقة، بات واضحًا أنّه لا ينطلق منّا ما لم يلمس الناس ثقتنا بموضوعه. فإذا اختبروا ركوننا إلى الله وعلموا بأنّ هذا الإيمان إنّما يحيينا، عرفوه، عندئذٍ، في أنفسهم كامنًا، فأيقظوه، واكتشفوا ما كان الجهل يغطيّه وما كان الإثم يحجزه. وجملة القول، إنّ الإيمان خبرة داخليّة لحقيقة الله فينا. فإن كانت الخبرة على درجة من الجدّة، عمّت الأرجاء، وأتت المعجزات. فإنّ المعجزة الكبرى أن يعرف الإنسان نفسه قادرًا على اكتناه الله المستقرّ فيه وعلى إحلال الآخرة في حياته لقيامها فيه كالحاضرات.

وإذا عرّفنا الإيمان كذلك، جاز القول بأنّه حسّ. أجل، حسّ إنسانيّ شبيه بحسّ الجمال، إلاّ أنّ موضوعه أخفى من موضوع الجمال. ولكن، كما أنّ الجمال، في هذا وذاك من الفنون، لا يتحسّسه الكثيرون، كذلك الحسّ الدينيّ يمكن أن يكون مفقودًا عند بعضهم. المشكلة الكبرى هي نقل هذا الحسّ، أن تزول العوائق التي تحول دون هذا النقل. القلب الممتدّ إلى الآفاق، العقل المتّضع الذي يعرف حدوده وحدود العلم، من القوى التي تفتح عقل الإنسان إلى تفتّق الإيمان فيه. أجل، الإيمان لا يدركه العقل وحده، لكنّ الإنسان ليس عقلاً محضًا، ليس عقلاً مغلقًا. يمكنه أن يكون عقلاً محبًّا منفتحًا ليس فقط عاى أطراف الدنيا، بل على النفس البشريّة وهي، في سرّها، مكمن الله.

Continue reading
1963, لسان الحال, مقالات

في حياة الأبد / الأحد 20 كانون الثاني 1963

إذا قابلنا، في هذه الزاوية، غير مرّة بين الفانيات والباقيات، فما كان ذلك احتقارًا للزائل، بل إعراض عمّا يذهب منه إلى الفناء. ذلك بأنّ في الزائل ما يبقى، ويخطفه إلى الأبد. إنّ كلّ ما يرفع إلى الدرجات العلى مستقرّ في هذه الدنيا، وهي تغلّفه. ولكنّ كلّ ما صنعه الإنسان من جلال وطهر، كلّ ما أقامه أمام الله في الخلق البشريّ، يمتحنه الله، ويستبقي منه ما كان قادرًا على أن يلج إلى الأبد. شيء من الوجه البشريّ، بعض من لحن وألوان طرحتها ريشة عبقريّة لا بدّ لها من أن تكون، في انطواء الكون، جزًا من السماء.

هذه الدنيا لم تكن لتذهب كلّها، وإلاّ فما معنى الخلق كلّه، ولأيّ سبب تحرّك الله وانعطف علينا، فأوجدنا من عدم؟ إنّ مصنوعات الإنسان التي صَنع بنفحة إلهه، في دنيا الحقّ والجمال والرشد، كيف تتلاشى؟ أثمّة مسوّغ أن يموت، بموت العالم، كلّ نغم ولون؟ أم أنّ جوهر هذا العالم ذاته وما يحمل التاريخ في طيّته من خير ينقل إلى الآخرة، ويخلد فيها؟

الجواب الحقّ أنّ الحياة الأبديّة لا تبتدئ بالموت، بل في الحياة الدنيا، وأنّ هذه الدنيا إنّما تحويها. ذلك بأنّ الأبد انفتاح وجدانيّ على الله منذ الآن وانسكاب المحبّة في قلب الإنسان. هي ليست شيئًا وليست من زمن إن كانت انصباب الأزل فينا. حياة الأبد تيّار من الله ينطلق، ويلفّ الكائنات لفًّا. فمن أحبّ أن يرتمي فيه، رمى فيه أيضًا كلّ حسن خلق وكلّ ما اجتناه من خيرات صالحة للخلود.

من أجل ذلك كانت حياة المؤمن لا إعراضًا عن الموجودات، بل إعراضٌ عن وجهها الزائل، وتمسّك بوجهها الباقي. لأنّ كلّ موجود خليقة الله حسنٌ اصلاً. والإعراض عن الموجود إعراضٌ عن النعمة التي فيه.

إذا كنّا نستطيع أن نُطلّ من المنظور على غير المنظور ومن نغم أرضيّ على أجواق الملائكة، نعي الحسّيّات هذه عينها عنصرًا كُتب له البقاء. وبكلمةٍ أخرى، صحيح من منظار واحد ما قاله أوغسطين في آخر اعترافاته: «كلّ شيء جميل أو ممتاز ينقضي حين يبلغ حدّه، وسيكون له مساء، كما كان له صباح». كلّ شيء جميل ينقضي ما عدا جماله وكلّ شيئ صالح ينقضي إلاّ صلاحه. كلّ هذا قد صعد منذ تكوّن إلى لحيظة من الخلود، لأنّه ليس في الزمن، ولو نشأ فيه. إنّ ما اتّخذه الله من ظلمة هذا العالم يبقى أمامه في نهار أبديّ.

Continue reading
1963, لسان الحال, مقالات

الإنسان الجديد / الأحد 13 كانون الثاني 1963

مرمى الله من إنسانه أن يكون جديدًا. أن يصبح كلّ يوم وكأنّه خلق اليوم، لا يكبّله ماضٍ، ولا يرهنه هوًى. جدّته في اختزان الرؤى الطاهرة وعزيمة الخروج على الفساد الكامن فيه. إنّه يتجدّد، دائمًا، بهذا التخطّي. وهذه الإرادة تجعل الفرق بين المُجدِّد والمتجدّد. فالأوّل يستحدث صورة وأسلوبًا ونظامًا يظنّ أنّ تجديد الحياة في ابتداع الأشكال. ولا ريب أنّ في الشكل الحديث رغبة انعتاق، ولكنّه ليس انعتاقًا جذريًّا. قد يكون تبديل الصيغة في الأدب والفنّ والسياسة والنظام الاحضاريّ مبعثه حلمنا بإنسان جديد. ولكن، هل يُحقَّق هذا الإنسان، لأنّنا انتهجنا نهجًا حديثًا؟ هل مسسنا داخل الإنسان، لأنّنا وضعناه في إطار غير مألوف؟ وبكلمة أخرى، هل الشعور بالجديد ينشئ جدّة حقيقيّة؟ إنّ الجواب كامن في السؤال. الإنسان الجديد هو آخر بالنسبة إلى مفاهيمه القديمة وذهنيّته، لكلّ ما كان عليه، فأمسى كلّ كيانه بكرًا؟ هذا ليس همّه الأوّل تبديل أوضاع، بل هداية نفسه وإنارتها وتحريرها من كلّ ما يحول دون تخطيّها الوجودَ وذاتَها. والأوضاع، أيّة كانت، تتبدّل بتبدّل ما في النفس. فإذا صفت، فالدنيا كلّها لا بدّ من أن تتخذ شكلاً يلائم النفس، هذه تخلق في المنظور ما يناسبها من إطارات.

ولهذا، ليس صحيحًا أنّ النفس المنشغلة بالقيم الروحيّة لا تكترث لما حولها، لتغيّره. إنّها ليست مصابة بحمّى التغيير لإيمانها بأن تطوير الأشكال ليس، بالضرورة، تطوير الحياة، وبأنّ الحديث ليس دائمًا أفضل. النفس المهتدية إلى أعماق الإنسان ولقاءات ربّها ليست على خطّ الصراع بين القديم والحديث، لأنّ مشكلتها أن ترتفع فوق الشرّ الداخليّ إلى فيض المحبّة والطهر الراحض كلّ أدناسنا. ولكنّ هذه النفس عالمة بتماسّنا مع الكون وبتأثيره فينا، ولذلك تحاول أن تجعل منه بيئة صالحة لنموّ الإنسان الخيّر بأقلّ ما يمكن من العوائق. إنّها لا ترى اصطدامًا ما بين محاولة إصلاح النفس. وقد طُرح الإنسان في هذه الدنيا، ليس فقط ليسودها، بل ليتأمّلها، ويحسّ ما يَرتقب اللهَ فيها.

ثورة جذريّة في أشكال الحضارة وعالم السياسة؟ لا مانع أصلاً إذا كانت في خدمة الإنسان العازم على أن يتجدّد كلّ يوم على صورة خالقه. ثورة جذريّة في داخل الإنسان، إشاعة هذه الثورة بالدعوة إلى التطهير الباطنيّ، من شأنها أن تلاقي كلّ حلم جميل تحلم به الإنسانيّة لخيرها. بهذه الثورة وتلك ولقائهما المنسجم، يتكوّن الإنسان الجديد، وينمو.

Continue reading