دينٌ في دنيا / الأحد 28 آب 1966
انقضى، أمس، لقاءُ خمسين فتًى منَ الحركة الأرثوذكسيَّة في دير بكفتين في الكورة. ثانويُّون وجامعيُّون أتَوا، ليتدارسوا قضيَّةَ التزامِهم في كنيستِهم وهذه الديار. صلَّوا معًا. قرأوا الإنجيلَ، محَّصوه، هذا أمرٌ عاديٌّ عند شبيبةٍ مؤمنة. المهمُّ أنَّهم تطارحوا الأسئلة، البلدُ كلُّه يفيدُ من بحثها. أرادوا أنْ يفهموا متطلِّباتِ إيمانِهم، أن يلقوها في المجتمع بذرة خصب، أنْ يعبِّروا عنها، ليلاقوا غيرهم إلى أيَّةِ مذهبيَّة انتسب، على صعيد الإنسان وفي سبيل الإنسان. قبل ذلك، كان المسيحيُّ إمَّا طقوسيًّا منكفئًا مُعرضًا عن الدنيا، أو متعصِّبًا مناضلاً في السياسة وفق مفاهيم انغلاق، هي، في صميمها، اللاَّدين. وكان الذين يلتزمون النشاطَ الاجتماعيّ والسياسيّ يفعلون ذلك توقًا من نفوسٍ محبَّةٍ للخير، مأخوذةٍ بمثاليَّةٍ إنسانيَّة. فئة لم تكن لتروي ظمأها منَ الكنيسة، تلك التي لم يكن معلِّموها يشيرون إلى تطلُّعات. فكان التزامُها السياسيّ دينها.
جاءَ هؤلاء الشبَّان يواجهون، بصراحةٍ كلّيَّة، قضاياهم في الجامعة ومعضلات الإنسان الحديث. أخذوا، مثلاً، يتساءلون، بصدق، عن نوعيَّة البيئة المسيحيَّة التي ترعرع فيها ماركس. شجبوها كما شجبها، وتوصَّلوا، بعد ساعات منَ البحث، إلى أنَّ اللهَ لم يمتْ. لاحظوا، مع مالرو، بالحريّ أنَّ الإنسانَ يموت بموت الله، واستنتجوا أنَّ بعضَ الإنسان إنَّما يقتضي إيقاظ الله فيه. يتبنَّون النقد الماركسيّ لله والدين. يرفضون إلهَه الممسوخَ، ليعبدوا إلهًا حيًّا، هو غير الصنم الذي وصفَه ماركس. يومان قضاهما هؤلاء الشبَّان منصرفِين لا إلى جدلٍ رخيص، بل إلى دراسة ولا أعمق منْ أجل تفهُّم عقيدة ما تزال منْ أصلب العقائد التي أنتجَها دماغُ الإنسان. ولكنَّهم قالوا نحن مع ماركس في رفضِهِ استثمار الإنسان للإنسان، نحن نرفضُ الرياء البورجوازيّ، نشجبُ لا أخلاقيَّةَ الرأسماليَّة المفضوحة. قالوا: رفضُنا الإلحادَ الماركسيّ لا يسوغ أن يقودَنا، بشكلٍ ما، إلى أيِّ تحالف يمينيّ على مستوى الحياة الطلاَّبيَّة. يجب أن نعبِّرَ اجتماعيًّا، وليس فقط بالكلام، عن وحدتِنا مع معذَّبي الأرض. ولذلك سوف نلتزمُ الدنيا. لن يكونَ لحركتِنا، وهي مؤسَّسة دينيَّة، أيُّ رأيٍ في السياسة والاقتصاد. ولكنْ، كلٌّ منَّا بمفردِه، وفي وطنِهِ، ينبغي له أن يتَّخذَ موقفًا سياسيًّا. يجب أن يكونَ، في الواقع لا في الوعظ، مع المظلومِين والمناضلِين في سبيل الحرّيَّة. وقد يكون موقفُ كلٍّ منَّا ممزَّقًا، لأنَّه قد يكون وحيدًا في بيئةٍ تؤمنُ بأنَّ المحافظةَ مرادفةٌ للدين. وبالضبط، ولاؤنا للمسيح يقضي برفع الدنيا إليه، بمدِّهِ فيها بالمؤسَّسات والنظم، بترجمةِ الله فعلاً خلاَّقًا في التاريخ.
وجدَ الشبابُ النبراتِ النَّبويَّةَ الأولى. وفي مواجهتِهم كنيستهم الجريح، لم يتسمَّروا على وضع فيها رهيب. ولكنَّهم تأمَّلوا في ما ينبغي لهم أنْ يلتزموه حياةً روحيَّةً وعمقًا ثقافيًّا ووثبةً اجتماعيَّة، صراعًا ملموسًا في حيِّزِ هذا العالم الذي فيه يتجلَّى ربُّهُم. هكذا يؤمنون. بواكير للفكر، تحفّزات للعمل نهدت في جوٍّ مفعم بالإخلاص، معبأ بالمحبة. هذه كلُّها دعتْنا إلى رؤيةِ البهاء في آفاقِ بلادِنا.
Continue reading