خميس الصعود / 25 أيار 2001
المفردات خطرة والارقام خطرة في الكتاب المقدس اذ ينبغي ان تفهم من وراء الكلمات المكتوبة ومن وراء الترقيم. ما معنى ان يسوع صعد الى السماء؟ هل من صعود، هل من نزول؟ هل من مكان يدعى السماء؟ أوليس الذين يحيون في معية الله سماويين هنا؟ هل عرش الله محسوس؟ ما معنى ان المسيح جالس عن يمين الله، كل هذه اسئلة تطرح نفسها عليك ان أردت ان ترنو الى السر ولا تخرقه. عندما تقرأ: “الذي نزل هو الذي صعد فوق جميع السموات لكي يملأ الكل” (افسس 10:4) تفهم ان ما يسمى صعود المسيح أو رفعه او ارتقاءه انما يقابل ما سمي نزولا الى البشر والى الموت لأن الآلهة في الشعوب القديمة تسكن الأعالي او الجبال. كان لا بد ان نستعير كلماتنا من الحضارات السائدة ليفهمنا الذين ابتغينا دعوتهم الى الله الحق. فاذا قلنا ان كلمة الله صار بشرا سويا نعبر عنها بلغة المدى وليس من مسافة. “النزول” طريقة نقول فيها ان ابن الانسان غدا واحدا منا اذ تسربل هذه البشرة وكانت الألوهة فيه تتخذ هذه البشرة اتخاذا حتى بلغت البشرية فيه كمالها في خضوعها للآب فبلغت هذا الكمال بموت ابن البشر وانكشف ذلك بالقيامة. فيها تحرر المسيح من كثافة الجسد ومن حدوده ودخل في المجد الأسنى. ان ابن الله كان دائما “في حضن الآب” فلم يبق من سماء وأرض متقابلتين. لم يبق فيه سوى نزول التواضع. المسيح لحمة السماء والارض في كيانه الواحد ومنه الجسد. هذا الجسد هو الذي “رفعه” الله اليه أي كشف انه صار واحدا معه. فاذا كان التجسد انعطاف الله الى الانسان بات الصعود ارتقاء الانسان الى الله وذلك في شخص المسيح على رجاء ارتقائنا جميعا في اليوم الأخير. ? ? ? وأما الآن اذا “نزلت” عليك النعمة فالله منهضك اليه ويجلسك الآن معه في السماويات اذ لك فكر المسيح. ما بت انسانا أرضيا محضا. لم تبق عبدا ولا يسميك المسيح عبدا. في قدرة النعمة المتنزلة صرت فوق على ما فيك من تراب. ستنفض عنك التراب كله ويجعلك الرب ضياء. فالضياء الالهي لا بد ان يبدو علينا وما نفعه ان بقي محصورا في السماء. أية سماء تلك التي لا نبلغ شيئا منها ونحن هنا؟ ملكوت الله يبقى حنينا ان لم يصر ملكوت الانسان، ذلك الانسان الخلاق بدوره، الغني بالفقر، المتسامي بالتواضع. عمل الانسان سير في الله كما كان عمل الله – في تجسد الابن – سيرا في الانسان او تكون الوعود الالهية والكلام الالهي مجرد نوستالجيا. اجل صعود الرب تكملة سيره بعدما اكمل خروجه من اورشليم. وهذا هو معنى الكلام الانجيلي انه قضى اربعين يوما مع التلاميذ من بعد قيامته. لقد قضى اسرائيل القديم اربعين سنة في صحراء سيناء ليبلغ ارض الميعاد ولكنه لم يبلغ الموعد حقا لأنه في المسيح. اربعين يوما قضاها المخلص مع احبائه ليوحي الكتاب ان بشريته تدخل بعد انتصارها على الصليب ارض الميعاد الحقيقية التي هي عند الآب. لم ينل اسرائيل شيئا لأنه لم يكن امينا وقد احتفر لنفسه آبارا مشققة لا تضبط الماء. واما اسرائيل الجديد يسوع فقد اروى البشرية من الماء الحي الذي يفيض منه لتدخل الانسانية به الجنات. هذه كانت عودته وعودة الناس به الى الآب. ? ? ? يقول الكتاب في لوقا: “واخرجهم خارجا الى بيت عنيا. ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم انفرد عنهم واصعد الى السماء. فسجدوا له ورجعوا الى اورشليم بفرح عظيم” (اعمال الرسل 24: 50-52). بركته هي التي تركها فيهم وسوف تعظم فيهم اذا أرسل البارقليط، الروح القدس المعزي والمؤيد، هذا الذي نالوه بعد الصعود بقليل. عمق ذلك انه صعد وبقي ليملأ الكل. واذا ظل يلتفت الينا نكون في التبريك وفي السلام. “رجعوا الى اورشليم بفرح عظيم” اذ لم يكن شيء معهم الا المسيح. وعندما اطلق روح يسوع الكنيسة في الكلمة ما بتنا نعرف شيئا فيها الا يسوع. واذا قال بعض الناس انهم لا يحبون الكنيسة – المؤسسة ولكنهم يحبون يسوع فلاحتسابهم انها شيء اضيف الى المسيح. الذي ليس فيها من روح يسوع ليس منها وليس منه. انه من الصدأ فينا. لقد فوض الرب الى الكنيسة امره على رجاء ان تبقى امينة وهي لا تقدر ان تبقى كذلك الا على الرجاء. والمؤسسة خانت وسوف تخون. انها تزني مع آلهة غريبة. غير ان الله يقيم ناسا فيها من الموت وقد اقامهم جيلا بعد جيل. هؤلاء كانوا ابناء وهم يشدون اليهم الضعفاء والساقطين ويظلون لربهم شهودا. هؤلاء هم دائما في حالة الصعود لأنهم ولو سلكوا في هذا العالم فانهم يسيرون في الله والله وحده همهم ونفحتهم ولا يبتغون من هذا العالم مجدا. ولكونهم صاروا كلمة الله يقرئونها هذا العالم ويقرأ الله فيهم ان هذه الدنيا باتت الآن بعضا من ملكوت. ? ? ? لقد اقفلت يوم صعود المعلم حلقة التلاقي بين الله والبشر ولم يبق يعذبنا سؤال حول مصيرنا: اين نذهب من بعد موت او ماذا في السماء او اين تكون الروح من بعد فراق. في عالم الحب ليس من ابنية. انت اذا كنت مع حبيبك لا تسأل عن مكان او بلد. انه هو المكان والبلد ولا تسأل عن الزمان الذي تذهب اليه معه. حبيبك هو الزمان. كذلك ان كنت في المسيح فأنت في حالة الصعود الى ابيه وابيك. انت مثل السيد في حضن الآب. واحتضانه اياك يخبرك بكل شيء. اما قال بولس: “اشتهي ان انحل لأكون مع المسيح؟”. هذه المعية هي كل شيء. وما عدا ذلك من الكلام عن السماء والارض والجحيم فهو تربية او صور. وانتهاء الازمنة او عدم انتهاء الازمنة فهذا تصوير في لغة الناس. هذا ليس كلاماً في العشق. ان نموت غداً او الا نموت غداً ولكن بعد سنين فهذا يصرفنا عن رؤية وجهه الذي هو وحده مقامنا. ? ? ? من بعد ارتقاء السيد الى ابيه باتت الانسانية الطيبة في حالة تصاعد او هذا هو المرجو. الذين انعم الله عليهم بنوره في بصيرتهم أفي الشعر كانوا والفن والاجتماع والسياسة ينفذون قول القديس يوحنا الذهبي الفم في قداسه: “نسجد لك في كل مكان سيادتك”. والفنون جميعاً والنضال الاجتماعي الخير، هذه كلها امكنة لسيادة الرب. والرب ينعشها بنفحاته. وكما بارك تلاميذه عند صعوده يبارك كل محاولة بشرية للوصول اليه. كل له لغته في الصعود. العمل السياسي اريد له ان يكون ارتقاء الى الله والا كان مجرد متعة بشرية. الصعود يعني في اللغة السياسية اننا لا نستطيع ان ننزل الاوطان الى الهاوية او ان نهملها الى الشرور التي تترصدها. اجل ليس ارتفاع الوطن بالازدهار الاقتصادي وحده ولكن ترك البلاد الى الفقر هو إحدارها الى الجحيم وحرقها. واذا كان لنا اليوم ان نتكلم بشرياً على الصعود فإلى جانب لبنان قلبنا فلسطين واطفال فلسطين كما قال البطريرك اغناطيوس الرابع (هزيم) في الكلام الذي وجهه الى قداسة الحبر الروماني. ذلك ان هؤلاء الشبان شهود حقيقيون للعدالة البشرية. كيف يعقل اهمال النفوس لمن ينتهك جمال الطفولة، لمن لا يريد ان يقيم القوم في مقدساتهم، الا يحسون بأنهم من هذه الارض المباركة التي كانت معراجاً الى السماء؟ كيف يجوز القتل، كيف تجوز الابادة في ارض اريد لها ان تكون ارض السماء. أوَيُقتل الذين يشهدون بتمردهم للانسان العظيم الطالع من الحرية؟ هذا حق الله على الناس ان يحبوا بعضهم بعضاً وان يصروا على ان كل شعب له حقه في الصعود الى الله والى كرامته والى ان يتحدث لغته. سر الصعود يشمل كل نشاط عظيم في سبيل ظهور انسان جديد في هذا الشرق الذي منه طلع نور الله في العالم. ان يبارك الله لنا وان نحيا في الفرح كل يوم وفي كل بقاع الدنيا هذا هو لأهل كل دين ميراث المسيح الذي حيا من موت لتزول مملكة الموت.
Continue reading