Monthly Archives

April 2008

2008, مقالات, نشرة رعيتي

في البدء / الأحد 27 نيسان 2008 / العدد 17

القراءة الإنجيليّة المتعلّقة بالقيامة تُقرأ في سَحَر العيد الذي تسمّيه العامة «الهجمة» اذ يدخل الكاهن الكنيسة بعد أن تكون أقفلت أبوابها.

أما في القداس فنقرأ فاتحة إنجيل يوحنا، ونلازم قراءته حتى نهايته لكونه الإنجيل الأفصح عن ألوهية المسيح. الاستهلال هو «في البدء كان الكلمة» ولا ريب أن يوحنا يستهلّ كتابه بأول كتاب التكوين: «في البدء خَلق الله السماوات والأرض» وتاليا يريد يوحنا أن يقول ان الكلمة اي ابن الله كان موجودا قبل بدء الخلق. ثم يردف أن الكلمة كان عند الله ويريد به الآب، وأخيرا ضد الذين يقولون ان الابن مخلوق قال الإنجيلي: «وإلهًا كان الكلمة». يصفه بالإله لأنه مولود من أبيه حتى يوضح المجمع المسكوني الأول: «المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق».

وعندما يقول: «كلٌّ به (اي بالابن) كان»، ثم يقول «به كانت الحياة»، يزداد الوضوح على ان الابن خالق، ولا يكون المجمع قد «اخترع» ألوهية المسيح كما يقول بعض.

توًّا بعد هذا يتكلّم الإنجيلي عن رسالة يوحنا المعمدان. يجعله شاهدًا للنور الذي قال عنه انه المسيح. المسيح وحده هو النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتٍ الى العالم. ولكن البشير يقول في نوع من الحزن ان هذا العالم لم يعرفه.

ثم يقول في حزن أشدّ: «الى خاصته (اي الى اليهود) جاء، وخاصتُه لم تقبله» ولكنه يشهد أن أناسًا قبلوه (اي نحن المؤمنين به) «أعطاهم سلطانًا ان يكونوا أولادًا لله». هؤلاء لم يولدوا من لحم ودم -هذه ولادة طبيعيّة- ولكنّّهم من الله وُلِدوا اي جدّدهم الروح القدس بنعمة المعمودية وبكل نعمة لاحقة.

في المقطع الثاني من هذه التلاوة يقول: «والكلمة صار جسدًا» اي انسانًا وحلّ فينا (دائما بالنعمة) بعد أن حلّ في أحشاء مريم. بعد تجسّده من العذراء يتكوّن فينا المسيح، في كل مؤمن به وذلك دائما بالروح القدس.

أما قوله «وقد أبصَرْنا مجده» فيشير به الى كل العجائب التي أظهرت هذا المجد، وخاصة تجلّى لنا مجده على الصليب وقالها يسوع غير مرّة في إنجيل يوحنا ذاته. ثم يعيدنا الكاتب الى يوحنا المعمدان وأنه شهد للمسيح على أنه متقدم عليه، ثم يعود الى السيّد فيقول: «من ملئه نحن كلّنا أخذنا» وهذا ما يؤكّده بولس عن السيّد «فيه حلّ كل ملء الله جسديًا»، حتى ينهي هذا المقطع بتأكيده على أننا بتنا في عصر النعمة بعد ان جاء ناموس موسى (هو من الله بلا ريب) ولكنّا الآن في مجال النعمة والحق وهما نزلا علينا بموت السيّد وقيامته وإرساله روحه. ولا يقول «أُعطيا» ولكنه يقول «حصلا» لأن النعمة والحق إشارة الى الروح القدس والمسيح وهما قد حصلا فينا وصار كلّ معمّد مسكن الله وكلّ المعمّدين معا كنيسة الله.

وهكذا نتدرّج من هذه القراءة الى كل سطر من سطور الإنجيل الرابع التي تتجلى فيها أزليّة الابن الإلهي. ليس مثل إنجيل يوحنا يرفعنا الى السموات.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

الفصح / السبت ٢٦ نيسان ٢٠٠٨

يلفتني في الفصح العظيم ان المسيح وحده قام من بين الأموات وانه تاليا كان يحمل الحياة في ذاته. يجيء فقط أزليا من الله بلا واسطة امرأة وتاريخيا من امرأة بلا وساطة أب. ونحن على هزالتنا نجيء بكثافة منه ان فهمنا سر الحفاظ على وصاياه اي نجيء من النور الذي كانه ويبدد عتماتنا ان استقبلناه بحب وما ذلك من الدنيا. المسيحيون معظمهم من الدنيا ان لم يفهموا ذلك كانوا في اورشليم ولا يكترثون لأورشليم. صاروا الى رومية وقتلتهم رومية. والخيار الذي تركهم لهم ربهم ان يشهدوا له. ان يموتوا وان يحيوا شيء لا يهمّهم. كيف يجعلون هذا هاجسهم الوحيد. والآلام قسطهم لأنها شرط قيامتهم في هذه الدنيا وفي الآخرة. لا يطلبون ان تظهر عظمتهم الدنيوية بل ان يشع نورهم الداخلي.

          ان كان غيرهم يطلب مجدًا فليعترفوا له بالمجد ان ظنه اساسا لوجوده. لن يسقط مجدهم هم لأنه من نوع آخر. قد يريد الآخر سلاما على طريقته. هم يريدون ايضا سلاما مع الحرية لهم وللآخرين. اي شكل سياسي تتخذ الحرية لست اعلم. فلنبدأ بالدعوة اليها وفق القوانين الدستورية بدءًا من افلاطون حتى الفارابي اي تكون الحكمة واحترام الآخرين كما هم على أساس العدالة. والعدالة ليس صعبًا تحديدها حاملها هو المواطن. والمسيحي مواطن بمعنى ان هذه صفته في المجتمع والآخر مواطن اذا أراد. وهكذا تقول الدول او معظمها صادقة ام غير صادقة. ولكن ان تقول ان الآخر مثلك وانك مثله يعني ان ليس لواحد منكما صفة اخرى في الوطن.

          والوطن لا يعني فقط ارضا اخترت حدودها ولكنه يعني اولا الناس الذين هم عليها وتعني انكم تديرون وحدكم شؤونها اذا استطعتم. ولكن هناك وراء الحدود القريب او البعيد الذي يطبع توجيهك وأفهم انك تؤثر الجارالقريب او الجار البعيد حسب تركيبتك السيكولوجية وتركيبات اخرى.

#                   #

#

          افهم ان الدول تحب التمدد حسب منافعها وليس عندها معيار الآخر. هذا لك ان تأخذه بعين الاعتبار بلا استسلام. والبلد الصغير مثل بلدنا معرّض منذ القديم الى تأثير أشور ومصر القديمة وكنا نحاول ان نتملّص من وطأة الغريب ما استطعنا ولكن كان لنا شوق ألا نقع في أحضان هذا وذاك وكل حضن يختلف عن الآخر دفء.

          والوطن الصغير جذاب بما فيه من خدمات يستغلها الغريب ومن متع تعاش فيه. يقضمه دائما هذا وذاك ولو حافظوا على ارضه لأن هذه لا تتزعزع وربما حافظوا على علمه ضمن مشروع القضم الذي يريدونه. هذه كلها وصايات تتفاوت حدتها وقد تجتمع الوصايات علينا في اتفاقات بينها يوم يظهر تقارب الوصايات بلد تتقاسمه الشهوات وتتآكله وعندنا من هو شغوف بها اذ ينتفخ بها او تكثر بها ثروته او يستكبر على اهل بلده وتنشأ داخليا مودات تختلف في صدقها وتتفاوت المودات  حتى النحر. وعندئذ  لا يبقى التذمّر وحده من الأجنبي استكبارا والاستكبار الداخلي فيه نحر مميت على شيء من الدوام وينفرط البلد داخليا والأجنبي اذا ساءت احواله تخف وطأته عليك فاللبناني اقرب اليك من الوافد لأنك تستطيع ان تتدبر أمره اذا حاول ان يرفع عن عاتقك النير الموضوع عليه ليأمن مواطنه فيسعى الى رؤية ان مكونات بلده ضرورية لبقائه.

          واذا منّ الله علينا ببركاته لنا ان نبلغ إرادة التواصل بيننا وان نحيي هذه الإرادة بالحب والحب ينشأ وتربيه بالبنية التي تراها نافعة لبلدك حتى اذا ما استقامت مؤسساته وأجمعت على زواج لا ينفعك بينك وبين إخوتك تندفع الى رفع السطوة من عنقك وتحاول الاستقلال ما أمكن لأنه محاولة دائمة والسياسة كلها فن المحاولة وكل بلد هشّ كما الدنيا هشة الى ان يرث الله الدنيا وما عليها. مع ذلك العزلة قتّالة ومستحيلة. ولكن إرادة الحرية بأهمية المشاركة الوطنية في كل شيء حتى تعيش كل مكونات البلد بلا سيطرة الواحدة على الأخرى لتتحقق المواطنة الصادقة.

          البلد الذي يغذّي شهوات المكونات ليس ببلد. هذا شريعة الغاب قوامه. لذلك لا بد من دستور يُراعى وقوانين تُطبّق والحكم للكل مجتمعين ومتحابين. قلت متحابين لأن القانون وحده بلا قلب جاف وتشتد فيه التدابير القسرية وتعود اذ ذاك فيه الاستفزازات ويعود الى انقساماته الداخلية فيتزعزع من الداخل. وهذا يعني تربية على التوحد الوطني الذي ينفي حارة النصارى بمعناها السياسي وحارة المسلمين بمعناها السياسي ويتنافى فيه التحزّب لهذا الأجنبي وذاك.

          وثمرة كل ذلك ان نكون وطنا واحدًا يدبّر شؤونه بالمعطيات التي بُني عليها تاريخيًا دون أن تتآكله المعطيات الداخلية، هذا إذا أدرك ان التطلّع هو تطلّع الى المستقبلات أكثر من التسمّر على الخصوصيات لهذا التكوين او ذاك. اما كيف يكون الجمع بين الماضي والآتي فهذا عمل الكبار في الأخلاق لأن لبنان أخلاق في السياسة كما هو أخلاق عند الأفراد.

          هذا هو فصح لبنان. هي تسمية رمزية لأقول ان الآلام الحاضرة قد تكون مرحلة على ما يرجو الجميع حتى نستيقظ من الموت الحال فينا اليوم لنصبح وطنًا ممكن العيش فيه ومرجو العيش فيه لأن الموت ليس للأوطان. واذا سمح لي استعارة لفظة الفصح لنا جميعا فاللبنانيون كلهم فصحيون لأنهم أبناء القيامة. الله نرجو ان يوصلنا الى هذا الفصح الجماعي حتى لا نفقد القيامة. والى حد كبير ستكون القيامة بنعمة إلهية عملنا المشترك بعد ان توافقنا على أن لبنان وطننا جميعا. واذا كانت مشيئة الله ان نبقى سوف تهدأ العواصف فينا ومن حولنا لكوننا نستحق الحياة. غير ان إرادة الحياة تأتي من المحبة والنسك الذي تقتنيه اي من طهارة الأفراد والجماعة. ليمسح الله كل دمعة من عيوننا ونحيا حياة واحدة لا ذل فيه ولا رق لإيماننا ان أحدا لا يستحبّ العبودية بعد ان أمسى بعد ظلمات رهيبة عاشقًا للفصح.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

فضائل يذكرها بولس/ الأحد 20 نيسان 2008 /العدد 16

اقتبست الكنيسة من رسالة فيليبي ما فيه فرح وما يتفرع عن الفرح يوم ندخل بالشعانين في انكشاف هو الخلاص. فإذا قال الرسول: «افرحوا في الرب كلّ حين»، ينفي وطأة كل حزن علينا اذا ذكرنا المخلّص. وهذا يقود الى القول ان ليس من محل للحزن مهما طرأ علينا من أهوال.

«وليَظهَر حِلْمُكم لجميع الناس» فالمطلوب هو الصبر عليهم والمغفرة وانفتاح القلب لكل واحد.

ثم يدعو الى أن نرفع طلباتنا الى الله بالصلاة، ولكن يزيد على الطلبات الشكر اذا لبّى الله طلباتنا. وعندئذ ينزل علينا سلام الله «الذي يفوق كل عقل». والسلام الذي يشير اليه بولس هو ثمرة المصالحة مع الرب وليس مجرد هدوء أعصاب. ويوضح ان طبيعته نعمة لأنه يُنشئ البصائر في يسوع المسيح الذي فيه نرى الصالحات وما نرثه من الرب في الملكوت الآتي وما نراه عند الأتقياء في هذا الدهر.

وبعد هذا يشير بولس الى فضائل كثيرة تفيض من القلب التائب: «الحق» اولا الذي يحتوي كل شيء، و«العفاف» الذي نسعى اليه بجدّة في الأسبوع العظيم الذي نفتتح، ثم «العدل» بين الناس ولا سيّما المتخاصمين وألا نتحيّز الى أقربائنا أو أصدقائنا. والى العفاف يزيد «الطهارة» التي هي نقاوة القلب التي تؤهّلنا الى رؤية الرب كما قال السيّد في التطويبات.

«حُسْن الصيت» الذي يذكره ثمرة للسلوك الحَسَن. وكذلك يحضّ بولس على «مدح» الأتقياء في غيابهم لندعو الناس الى التشبّه بهم. «افتكروا في هذا» يقول، ولا تفتكروا في أي شيء سيّء لئلا تضيّعوا أيّة فرصة للفضيلة. انبذوا الكلام البطّال اي الثرثرة والنميمة التي تقتل النفس.

أخيرًا يختم بدعوته المؤمنين في فيليبي ان يتعلّموا منه وأن يتمسّكوا بما تسلّموه وسمعوه منه وما رأوه فيه، في تصرّفه. فالمسيحيّة تؤخذ ممن سبقك في الإيمان والجهاد والمحبة والعدل والطهارة وفي عمل الحق. المسيحيّة تنتقل من جيل الصالحين الذين كافحوا الشرّ قبلك ورأيت مجد الله عليهم. لا تقل فقط قولهم ولكن اعمل ما عمِلوا.

ليست المسيحيّة فقط كتبًا تُقرأ ولكنّها سلوكيّات تنتقل من واحد الى آخر. فويل لمن تأتي عن يده العثرات، وطوبى لمن عمِل الصالحات لأنه ليس يتبرّر وحده أمام الله ولكنه ينقل البِرّ للآخرين. فهناك تراث معرفتنا للإيمان والى جانبه تراث القداسة. فقد يعرف بعض الناس أشياء ولكنهم لا ينقلون النور.

ليست المعرفة كلّ شيء ولكن كل شيء أن تقترن بالطهارة فهذه تفعيل لمعرفة المسيح وما قاله. هكذا أنت تدخل الى أورشليم وتعيش معه الأحداث التي عاشها وتموت معه وتُدفَن معه وتقوم معه. وهذه عمليّة دائمة نسعى كل يوم الى تحقيقها كي لا يبقى في قلبك منزلة لغير المسيح.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

سبت لعازر / السبت ١٩ نيسان ٢٠٠٨

هذا هو اليوم الذي نحن فيه والحديث فيه عن بعث يسوع لصديق له اسمه لعازر اي الله عون او أزر وكان له أختان مرثا ومريم  ورد ذكرهما في غير موضع في الإنجيل. ويخيّل اليّ أن هؤلاء الثلاثة من حلقة الأتباع الواسعة المنتشرة في فلسطين الى جانب التلاميذ الاثني عشر. إصحاح (او فصل) كامل يخصّصه يوحنا الإنجيلي لهذه الحادثة ما يعني انها باتت جزءًا من لاهوته كبيرا.

         وفي هذا يتبع اسلوبه المألوف أن سردًا ما يكون صورة عن سرد سيأتي أكثر كثافة وأعمق معنى.

         جرت الحادثة في ضاحية من ضواحي أورشليم تسمّى بيت عنيا وهي معروفة اليوم باسم العازارية. أرسلت الأختان تقولان ليسوع وهو في طريقه الى اليهودية ليدخل اورشليم في اليوم التالي: «يا سيّد هو الذي تحبّه مريض». وهذه العائلة نعرف شغفها بالمعلّم وما كانت الأختان في حاجة ان تسميا أخاهما باسمه. غير ان المعلّم ما لبّى رغبتهما توًّا. وحاول التلاميذ ان يقنعوه بعدم الذهاب الى تلك المنطقة بسبب من عداء اليهود له. لعلّ يسوع استخف بعداوة اليهود اذ رآهم في الظلام فقال: «ان كان أحد يمشي في النهار لا يعثر لأنه ينظر نور العالم» كلمة نور واردة كثيرًا في الإنجيل الرابع ومنذ فاتحته تدل على شخصيّة المسيح. هنا قال يسوع: «لعازر حبيبنا قد نام». استخدم هذه العبارة ليدلّ على أن لعازر مات. وعبارة الراقد في المسيح واردة في كل الأدب الإنجيلي ولكن التلاميذ لم يفهموها حتى قال لهم المعلّم علانية «لعازر قد مات». بعد هذا مشوا الى بيت عنيا.

         «فلما سمعت مرثا ان يسوع آت لاقته فقالت له: «يا سيّد لو كنت ههنا لم يمت أخي»». عتاب لطيف مليء بمعرفتها لقدرة يسوع. «قال لها يسوع سيقوم أخوك» فظنّت أنه كان يتكلّم عن القيامة في اليوم الأخير فقال لها يسوع: «أنا هو القيامة والحياة. مَن آمن بي ولو مات فسيحيا وكل من كان حيا وآمن بي فلن يموت الى الأبد».

         قبل هذه الحادثة أوضح يسوع في إنجيل يوحنا نفسه أن البشر سيقومون في اليوم الأخير وسمّى ذلك قيامة حياة للأبرار وقيامة دينونة للأشرار. هنا يبدو أنه يدخل مفهومًا للقيامة جديدًا وهو انه هو القيامة للذين يؤمنون به. لم يلغِ الاعتقاد بقيامة الأموات ولكنه علّم هنا أنك إن كنت معه وله ففي حياتك على الأرض انت قائم من الموت الروحي وحياة الله بواسطة المسيح هي فيك. أظن أن القولة الركيزة في معجزة إقامة لعازر هي قولته لمرثا: «أنا القيامة والحياة». على هذا تأتي المسيحيّة كلّها تعلّقًا بالمسيح وليست هي كتابا الا بمقدار ما يقوّي هذا الكتاب عشقنا للمسيح. لا بد من كتب ولا بد من عبادات وطقوس وما نسمّيه أسرارا إلهيّة كالمعمودية وتناول القرابين. ولا بد من معابد وقانون ينظم حياة الجماعة. ولكن هذه كلها ما هي الا وسائل تقوّي الحب ليسوع ولقاءنا شخصه في كل حين عملا بقول بولس: «لست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ».

         قد لا نكون كاملين في هذا لأن الخطيئة تحجب المسيح عن أبصارنا ولكن جهد التطهّر الذي نبذله هو أن نبيد فينا الغشاوة لتنظر عيوننا بنور المعلّم فنشاركه آلامه ونقوم معه فلا نموت الى الأبد واذا تبنا تتجدّد حياة السيّد فينا. ومَن أحبّ يسوع بلا تردّد ولا تساؤل أيّا كان مذهبه يكون معمّدًا بروحه لأنه يبثّ روحه عند القابلين اياه ويجعلهم أبوه جبلة جديدة.

         أجل الحب يقوى اذا قوّيته اي اذا شئت انت وشاء هو فيصبح هو فيك وتصبح انت منه اي أخًا له وجالسًا معه في السماويات فيما تعدو قدماك على الأض ويزول المدى بين السماء والأرض.

         وبعد ان قال يسوع لمرثا هذا القول سألها: «أتؤمنين بهذا؟» وكان لعازر لم يقم بعد. وما كان لها برهان حسّي على قدرته على نطاق الموت «قالت له نعم يا سيّد. لقد آمنت أنك انت المسيح ابن الله الآتي الى العالم». وبعد هذا مضت «المعلّم حضر وهو يدعوك». وهو لم يقل ادعي أختك ولكنها أرادت أن تشاركها الإيمان به كل هذا قبل بعث لعازر فقامت «مريم سريعا وجاءت اليه» ونعرف من الاصحاح الثاني عشر الذي يلي انها «أخذت منا من طيب ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها». حب كبير عند هذه التي كانت تريد دائما أن تسمع كلامه ولا ترتبك كمريم بأمور هذه الحياة. فلما رأته كان لا يزال خارج القرية قالت له مثل أختها «يا سيد لو كنت ههنا لم يمت أخي». هنا أرادت أن تؤكّد قدرته على غلبة الموت او على منعه. فلما رآها يسوع تبكي «انزعج بالروح واضطرب». ربما أراد الإنجيلي ان يؤكّد بشريّة يسوع في مشاركته آلامنا. ولنا ان ترى في هذا إشارة الى آلامه التي ستكتمل بعد ايام قليلة.

         بعد هذا قال المعلّم اين وضعتموه فأروه القبر. اذ ذاك يقول الإنجيل: «بكى يسوع». والواضح هنا ان يوحنا الرسول الذي ملأ كتابه من الحديث عن ألوهية السيّد أراد أن يؤكّد ناسوته ربما ليدلّ على أن يسوع سوف يموت بناسوته كما ترضى ألوهيّته ان يموت. وفهم اليهود بعد بكاء المخلّص انه كان يحب لعازر ثم قالوا: «ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا ايضًا لا يموت. فانزعج يسوع ايضًا في نفسه وجاء الى القبر وكان مغارة قد وضع عليها حجر». هكذا سيوضع الرب في مغارة يسدها حجر. لعلّ يوحنا لمح أن السيّد ايضًا سيوضع في قبر بابه من حجر. اذ ذاك قال يسوع: «ارفعوا الحجر» فقالت مرثا «يا سيّد قد أنتن لأن له أربعة أيام» كانت تعرف قوة يسوع ولكنها لم تفهم مع ذلك ان النتانة يمكن بإرادة الله الا تحصل. قال لها يسوع وهو في حالة الاضطراب والبكاء: «ألم أقل لك أن آمنت ترين مجد الله»، هذا المجد الحال عليّ والساطع بي وبعملي. «فرفعوا الحجر». عند قبر يسوع رفعت قوة الله ممثلة بملاك الحجر عن قبره.

         صلّى يسوع للآب وطلب اليه ان يوحي للجموع ان يؤمنوا بأنه هو الذي أرسله. وما قال هذا في معجزات أخرى مع انه كان يريد في غير معجزة أن يؤمنوا. «ولما قال هذا صرخ بصوت عظيم لعازر هلم خارجًا«. فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة ووجهه ملفوف بمنديل. فقال لهم يسوع حلّوه ودعوه يذهب».

         بعد هذا لا نعلم الى اين ذهب. نقرأ فقط في الإصحاح الذي يلي ان العائلة صنعت عشاء للسيد وكان لعازر أحد المتكئين. ثم جاء في تراث الكنيسة انه عاش هنا او هناك وصار أسقفًا ومات لأن جسده بقي جسدا بشريا قابلا للموت بخلاف جسد يسوع الممجّد الذي لم يتسلّط عليه الموت بعد قيامته.

         وتكتمل الرواية في الحديث عن رؤساء الكهنة والفريسيين الذين عقدوا مجمعًا ليتشاوروا بالمصير الذي كانوا يعدّونه للمسيح خاشين ان يؤمن به الجميع وخافوا على انه اذا كان هذا هو المسيح الحق الذي سيحرّر فلسطين من الاستعمار الروماني ويأتي هكذا باستقلالهم عن الاستعمار، خافوا ان يصطدموا بالمستعمر فقال قيافا رئيس الكهنة في تلك السنة: انه خير لنا ان يموت انسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها. ويؤكّد يوحنا الإنجيلي ان كبير الأحبار هذا «تنبأ ان يسوع مزمع ان يموت عن الأمة كلها وليس عن الشعب فقط بل ليجمع ابناء الله المتفرقين (اي البشر كلهم) الى واحد فمن ذاك اليوم تشاوروا ليقتلوه». بعث لعازر كان في رؤية يوحنا البشير سببا من أسباب قتل المسيح الى جانب الأسباب الأخرى التي ذكرت في محاكمته.

         ان الإنجيل أراد أن يبيّن في إقامة حبيبه لعازر ان يسوع له سيادة على الحياة والموت. وقالت العبادة التي نقيمها في كنيستي اليوم: «ايها الموت ان المسيح قد سباك الآن بواسطة لعازر» وتابعت من اجل منفعة كل مؤمن: «أتوسّل اليك ايها المحب البشر ان تنهضني انا الميت بالأهواء».

         سيعبر المسيح الموت. وقد جعل بعث لعازر بموته صورة عن موته هو وعن قيامته. ولذلك كان لا بد له ان يدخل اورشليم في احد الشعانين الذي نقيم ذكراه غدًا.

         لقد ألّف المسيحيون العرب خارجا عن العبادات الطقوسيّة أناشيد شعبيّة عن إقامة لعازر يرتلونها في بيوتهم فجاءت نشائد فرح اذ المسيحيون لا يتفجّعون عند موت المخلّص نفسه بل يغيرون التحيّة العادية التي نحيي بها بعضنا بعضا كل صباح ومساء فنقول المسيح قام ويجيب من نحييه: حقا قام وينتظرون خلال الأسبوع العظيم فرح القيامة موقنين انهم لا يموتون الى الأبد.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

إخوة يسوع/ الأحد 13 نيسان 2008 / العدد 15

صاحب الرسالة إلى العبرانيين يسمّي المسيح المقدِّس (كسرة على الدال) ويسمّي المسيحيين مقدَّسين (فتحة على الدال) ويعتبر أننا إخوته بتجسّده. هو ابن لله الآب بالطبيعة، ونحن أولاد بالتبني. وقد أوضح الرسول أن الأخوّة باتت واضحة بيننا وبين الله لمّا اشترك هو في اللحم والدم. عمل هذا ليكون كالبشر ويموت مثلهم.

ثم زاد هذا إيضاحًا انه تجسّد «لكي يُبطل بموته مَن له سلطان الموت أي إبليس». جانب من جوانب موت السيد أنه يُبطل سلطان الموت، ونتيجةً لذلك «يُعتِق كل الذين كانوا مدة حياتهم خاضعين للعبودية مخافةً من الموت».

السؤال اذًا هو الآتي: لماذا كانت البشرية خاضعة لعبودية الخطيئة، ولم يقل ان الموت مكتوب عليها او كان في طبيعتها، بل قال: كانت تحت العبودية لأنها كانت تخشى الموت. فكل خطيئة خوف من الموت. مثال لذلك: السارق يسرق لظنّه ان الفقر الكبير يميته ويميت أولاده، او السارق لثروة كبيرة يسرق لظنّه ان ثروته لا تكفيه. الكاذب يكذب لكونه يخشى العقاب. ليس من خطيئة الا هي ناتجة من خوف. غاية موت المسيح حريّتنا من خوف الموت.

بعد الحديث عن موت السيّد يقول كاتب الرسالة ان السيّد «كان ينبغي ان يكون شبيهًا بإخوته في كل شيء ليكون رئيس كهنة» ليكون هو ذاته مقرّبا الذبيحة والذبيحة بآن. هذا هو كهنوت المسيح الذي ليس بعده كهنوت إلاّ بالمشاركة بحيث أنّ المسيح مستخدمًا الكاهن البشري هو الذي يقدّم الذبيحة.

ليس من كهنوت الى جانب كهنوت المسيح. كهنوت المخلّص وكهنوت البشر واحد. وذبيحة القداس واحدة مع ذبيحة الصليب. ليس من تكرار لذبيحة الصليب، وليس من ذبيحة ثانية. كل قداس هو امتداد او انعكاس لذبيحة الصليب.

وبعد هذا يقول الكاتب عن السيّد إنّه كان «رحيمًا أمينًا في ما لله حتى يكفّر خطايا الشعب» أي يزيل خطاياهم بغفرانه وقبولهم هذا الغفران بطاعتهم للوصايا.

ويستفيض الرسول بالشرح إذ يقول «إن الرب يسوع قد تألّم مجرَّبا (بفتح الراء) فهو قادر على ان يُغِيث المصابين بالتجارب» أي نحن جميعًا. لا تتحرر من الخطيئة إلا إذا اندمجت بآلام المسيح وعانيتها بالتوبة.

أن تتجرب قد تعني آلام الجسد اذا حلّت بك وآلام النفس وإغراء الخطيئة. كلّ هذه الآلام يحملها المسيح فيك ويحرّرك روحيًا من وطأتها ويحفظك من الخطيئة اذا اقتربت انت اليه وآمنت أنّه خلّصك ويخلّصك اليوم فتحيا بقيامته.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

الوجع / السبت ١٢ نيسان ٢٠٠٨

ما من تساؤل موجع كالتساؤل عن الألم، عن أسبابه، عن غايته، عن مكانته في الكيان، عن طبيعته. صاحبه يقرأه او اشياء تمنعه من القراءة. الآخرون يتفرّجون او يشرحون وجلّ ما يعطونه الحنان. ولكن لا يمكنه ان يقيم في جسد يتألّم او نفس تعاني اذ لا يمكنه ان يحمل اوجاعه ولا سيّما اذا قال المصاب مع صاحب المزامير: «ووجعي مقابلي في كل حين».

                      هناك ناس أعرفم حملوا غير ضربة عشرات السنين بعضهم كل يوم وبعضهم في فترات. من الناس من يُساكن آلامه طول الحياة وهذا من النوع الذي يسميه الطب عجزا كأوجاع العظام ويقول له الأطباء للتهدئة أو الواقعية: هذا ستحمله الى القبر وفي هذا قال أشعياء: «امتلأت حقواي وجعًا وأخذني مخاض كمخاض الوالدة. تلويت حتى لا أسمع» (21: 3).

                      هذا كثيرا ما رافقه الحزن والحزن يصل بك احيانا الى الأنين الداخلي والى حدود اليأس.

                      الى هذا الهمّ والقلق والاضطراب والتشنج. هذه الآلام المعنوية الى جانب الجسدية يكشف لنا ان في شعور الناس هذه التغيّرات في الإنسان التي تعني له ان القاعدة هي السلامة. هذا اذا نظرت الى غاية الخلق والى وضع الإنسان قبل ان يخطئ. ولكن المرئي الحاضر والذي يصل اليك باللمس والجس والسمع هي ان كل مخلوق عاقل في مرحلة من مراحل حياته او جلها او كلها مضروب الجسد او النفس او كليهما. انت لا تختبر قاعدة الخلق ولكن خلله ولا تعطى السلامة الا في اليوم الأخير.

                      انت على هذه الأرض ترجو ويتدبر المحبون جرح نفسك وأهل الاختصاص جرح جسدك. قبل ذلك كل بدنك وقلبك ونفسك ساقط قليلًا او كثيرًا ولكن لا تنشأ او لا تنمو على السلامة. هذا في الطبيعة غير معروف. ولكن في اللاهوت الأرثوذكسي نعرف ان الغاية من الجهاد الروحي ان تصل الى الهدوء اي التحرّر الكامل من الشهوات وتاليا التحرّر من وطأة الألم معنويًا عليك ولو أحسست أن في جسدك خللًا. والقوم الذين بلغوا هذه الحرية نسميهم هدوئيين. فاذا بت مستقلا عما فيك من وطأة الآلام مع انك مصلوب عليها تعود الى القاعدة الأولى التي خُلقت عليها وكأنك في الفردوس قبل سقوط آدم او في الملكوت الآتي، او كأنك مشاهد المسيح. هناك قوم حل الخلاص عليهم منذ هذا العالم. هذا لا يعني انهم لا يعرفون التجارب بعد هذا التجلي ولكن اذا عادوا الى التجليات يصبحون ملكوتيين من جديد.

                      ندرك الهدوء من بعد الموت اذ لا مجال، اذ ذاك، للسقوط وتلفتنا الرحمة الإلهية في حناياها. اما هنا فيبقى الهادئ ويبقى المضطرب الى ان ينسكب عليه الحب الإلهي مدرارا. اجل هناك نعمة الصبر والتدرّب عليه فيما نتابع المعالجة وتهذيب النفس حتى لا نؤذي أحدًا بالتذمّر. لا شكوى الا للمقربين اليك لأنهم قادرون على مشاركتك الحس ولو كان الله وحده هو الشافي.

#                   #

#

                      ليس من محتوم بمعنى أن نهاية الحياة ليست في يدك. اجل، كلنا يخشى الموت والكثيرون يعرفون انه قريب ولكن لا جزم للموعد عند أحد بصورة عامة. ذلك أن الموت سر لا يخترقه أحد. هناك حالة قريبة مني حيث قرر الأطباء ان مصابًا بالسرطان يعالجونه قرروا ان له من الحياة ثلاثة او أربعة ايام. ومرّ على هذا التقرير الطبي حتى اليوم خمسة عشر عاما والرجل لا يزال حيًا. هل أخطأ الأطباء؟ هل حدثت أعجوبة؟ هل يحرر الله الإنسان من نواميس الطبيعة؟

                      ما معنى ناموس الطبيعة؟ في كنيستي نعتقد ان ما يسمى كذلك هو الترتيب الذي وضعه الله بعد السقطة الأولى للبشرية ويسوس به طبيعتنا الساقطة ولكنه يحرر هذا وذاك من هذا القانون اذا شاء اي ينقله بحنانه الى الوضع البشري السابق للسقوط وكأنه أمسى انسانًا فردوسيًا. هذه البشرية حقل مزروع حنطة وزؤانا معًا والله يفرق بينهما في اليوم الأخير. القلب البشري يقوم على هذا الاختلاط الا عندما تاب صحيحًا.

                      السؤال الذي يتدحرج على ألسنة المصابين هو لماذا انا مضروب؟ ماذا فعلت لله؟ اذ يعيشون الألم كعقاب وهو ليس بعقاب واذا كان الله لا يعرف الكره والغضب والعداء فلا يقيمك في جحيم الألم. في القرآن ما عثرت على عبارة «عذاب أليم» او «عتاب أليم» لا فيما يفيد عذاب النار. وتاليا لا يعرف الله التشفي.

                      لا مانع ان تقول مع العهد القديم ان الله يؤدّب بالألم. ولكن هذا رسالة الى المتوجّع ولا يسوغ لك ان تقرأ أوجاع الآخرين تأديبيًا. هذا يكون منك تشفيًا او كراهية. ولا يجوز لك ان تقول ان خطيئة هذا انتقلت الى ابنه تأديبيًا. وهنا يقول حزقيال: «ما لكم ان تضربوا هذا المثل على أرض اسرائيل قائلين الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأولاد ضرست… النفس التي تخطئ هي تموت». (18: 2 و4).

                      هل يعني هذا ان الموت دخل الى الطبيعة البشرية نتيجة للخطيئة؟ هنا يذكر بولس «ان أجرة الخطيئة هي الموت» (رومية 6: 23). ذلك ان الكتاب يقول ان كل انسان خاطئ وتاليا هو تائب. طبعا نحن لا نعرف الإنسان الا بعد سقوط الإنسانية الأولى. لا نستطيع أن نؤمن ان الله عند الخلق أعد الإنسان للموت. ربّ معترض يقول ان المسألة مسألة بوتاسيوم وملح وأمراض كثيرة او قليلة. ولكن غير المرضى والمرضى يموت دماغهم ثم يموت قلبهم ويبقى الموت سرًا على الجميع. في الحقيقة ان سياق كلام بولس «لأن أجرة الخطيئة هي موت» جاءت في سياق عن القداسة اذ يقول: «اذ أُعتقتم من الخطيئة وصرتم عبيدًا لله فلكم ثمركم للقداسة والنهاية حياة ابدية لأن أجرة الخطيئة هي موت. واما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا» (رومية 6: 21-23). فلم يكن هاجس الرسول ان يتحدى الحركة البيولوجية فينا بربطها بالخطيئة ولكن همّه كان أن يتحدّى الخطيئة بالحياة الجديدة في المسيح.

#                   #

#

                      في مسألة الشر ليس عند المسيحيين فلسفة له. نحن لا نعرّفه الا نقصًا في الخير. لا نفسره ولا نفلسفه. جلّ ما نقول ان الشر هنا ونقطة مسيرته الأخيرة هي الموت. لذلك نزل المسيح الى منطقة الموت وبات فيها ثلاثة أيام ووطئ الموت بالموت. ولما دخلت الحياة الإلهية التي في المسيح نطاق الموت وضع في هذا النطاق تلك الحياة الأبدية. موقفتا -اذا شئتم- ليس فلسفيا ولكنه جهادي بمعنى انك إن كنت صديق المسيح بالتوبة يُنزل قدرته الإلهية عليك ويُقيمك من الموت ويكون قد عفا عن خطيئتك. نحن فقط نؤكّد ان «الموت لا يكون في ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع» (رؤيا 21: 4).

                      مشكلة الوجع عندنا محلولة عند الرؤية الأخيرة وكما ابتلع المسيح الموت بالغلبة هكذا يبتلع موتك اليوم وفي الحنان الأخير في القيامة. لذلك كان عليك في آلام الجسد والنفس هنا ان تكون عيناك الى الذي غلب الموت نهائيًا ويغلبه فيك لتصبح جسدًا ممجّدًا كما غدا هو جسدًا ممجّدًا فتدخل في المسيح.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

شفاء يسوع لمريض/ الأحد 6 نيسان 2008 / العدد 14

الاعتقاد السائد في الزمن الذي كان فيه يسوع في البشرة أن بعض الأمراض العقلية او العصبيّة كان سببها روح شرير يسكن الجسد ولم يقل أحد يومًا انه يسكن القلب البشري. لذلك تستخدم الكنيسة صلوات تُسمّى استقسامات لطرد هذه الأرواح. غير أن هذه الظاهرة صارت نادرة بعد العهد الجديد باعتبار الأسرار المقدسة التي تسود فاعليتها الإنسان.

الولد الذي شفاه يسوع كان فيه «روح أبكم»، وفي الفصل ذاته سُمي ايضًا روحًا أصمّ.

والظاهرة عند هذا المريض كانت بوضوح ظاهرة داء الصرعِ épilepsie التي تُعالج اليوم عن طريق الطب. وينجح الدواء إلا في حالات مستعصية. وفي هذه الحالات يصل المريض إلى اختلال عقلي قد يكون الجنون او تشويهات أخرى.

الموضوع المهم أن الرب سأل والد الصبي إن كان يؤمن فأجاب بالنعم. عند ذاك شفى يسوع هذا الشاب، فسأله تلاميذه على انفراد: «لماذا لم نستطع نحن أن نخرجه؟»، فقال لهم: «ان هذا الجنس لا يمكن أن يخرج إلا بالصلاة والصوم».

هنا الكلمتان مقرونتان. وهذا ما نفعله في هذا الصيام الكبير. نمسك عن الطعام وبعض أنواعه ونقيم كل الصلوات المعروفة (السَحَر، الساعات، الغروب) ونُضيف إليها صلاة النوم الكبرى ويسمّيها العامة أحيانا «يا رب القوات ارحمنا» لأنها جزء من هذه الخدمة ويحبها الشعب عندنا ونتخشع عند إقامتها.

كلام يسوع ان الصلاة فاعلة لطرد الخطيئة، والصوم كذلك، وهما وسيلتان لجعل النفس في ذِكر الله، وان أنت ذكرته تتقبّل في نفسك فاعليّة يسوع في نطاق الشر.

أمرَ يسوع تلاميذه ألا يقولوا لأحد عن هذه العجيبة. المسيح لم يكن يريد ان يظهر على أنه خارق الأعمال لأنه كان يبغي أن يؤمن الناس به بسبب الكلام الإلهي الذي يقول، وإن لم يستطيعوا ذلك فبسبب الأعمال.

وأخيرا قال لهم: «ان ابن البشر يُسلم الى أيدي الناس، وبعد أن يُقتل يقوم في اليوم الثالث». هذا هو مركز بل مضمون الإيمان المسيحي كلّه. يسوع، غير مرّة، تنبّأ عن موته وقيامته. وهذان الأمران هما اللذان يخلّصانا من الخطيئة. هما الأعجوبتان الكبيرتان. انهما معا أعجوبة الحب الإلهي للبشر والواقع الذي من أجله تجسّد ابن الله. مات ليُميت خطايانا. وقام ليتغلّب على الموت الذي هو «آخر عدوّ لنا» كما يقول بولس. وعندما انبلج نور القيامة بتنا نفهم ان هذا هو النور الكامل لنفوسنا واننا ننتظر منه كل غلبة في حياتنا. الموت الذي كان شوكة لنا صار باب الفرج وطريقنا الى الانتصار على الموت وعلى الخوف.

بعد السجود للصليب الأحد الماضي، نذكر الصلب والقيامة ويقوى توقنا إلى الخلاص الذي نعلنه في الأيام الثلاثة الأخيرة للأسبوع العظيم ونعرف أنفسنا أحياء بالمسيح يسوع وانه هو مخلّصنا الوحيد.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

المدينة / السبت ٥ نيسان ٢٠٠٨

في العصور الوسطى وما قبلها المدينة هي ذلك التجمّع المدني المحصّن. في لبنان وجواره المدينة أوسع من القرية وهو تصنيف يختلف بين بلد وبلد. في طفولتي كنا نقول مدن لبنان: بيروت، طرابلس، صيدا وزحلة. اليوم اتّسعت القرى كثيرًا والفرق بين المدينة والقرية تابع لرؤيتك المساحة. فاذا لازمنا الأفهوم القديم للمدينة فيحيط بها السور المحصن وبالسور تُغلق المدينة والسور ذو أبواب فتقول باب ادريس في بيروت مثلا وباب الرمل وباب التبانة في طرابلس والمدينة داخل هذه الأبواب. أما وقد اندثر كل هذا ولم يبقَ من حصن فلا تعريف حقيقيًا للمدينة الا الاتساع ووظائف الأسواق. وموضوع تنوع الأسواق استخرجه ماسينيون في كتابته عن المدينة الإسلامية.

          لماذا عندك سوق لمهنة واحدة (سوق الصاغة، سوق النحاسين، سوق النجارين) وما اليها؟ لأن السوق لا تقوم على التنافس ولكن على التعاون. رُوي لي انك اذا قصدت محلا في سوق معيّنة في زحلة قد يقول لك صاحب المحل: اذهب الى جاري الذي لم يبع اليوم وانا قد بعت ما فيه الكفاية. التجارة نفسها اذًا ليست للربح المفرط ولكن للعيش الكريم مع الزملاء. وقد يُبنى هذا التعاون كثيرا على النسابة. كنت ترى مثلا في طرابلس في الثلاثينات مجموعات أقرباء في سوق الصاغة ومن الطبيعي الا يكون بينهم تنافس الا على مستوى الجمال. وفرة المال لم تكن هي الغاية بل الحذق في المهنة.

          المدينة لم تكن فقط مجموعة مهنيين ولكن مجموعة محال وبيوت. فترى العائلة فوق الدكان او المخزن فيعمل الرجل في الطابق الأرضي وعائلته فوقه اي في رعايته. في طور آخر انفصل المسكن عن مكان العمل. ترى هذا ايضًا او كنت تراه في القرى اللبنانية.

          الأصل في الاجتماع تنوّع المهن في الأسواق وتكامل المهن من أجل حياة واحدة تؤمّنها المدينة. فلا تجد في المدينة كما في القرية دكان عطار يبيع ورقا وخيوطا ومسامير. المهنة الواحدة في مكان واحد هي ما يميّز المدينة عن القرية والمهن تُباعد بين الناس من حيث المعرفة والاختصاص وتقرّب بينهم بسبب من التكامل. فعندك اذًا تفرّد المهن وتوافق بسبب من التفرّد. التكامل والتعدد يضعفان الحزازات والروحية القبلية. ليس لأن المدينة خالية من روحية العشائر ولكن العشائرية فيها قائمة على الافتراق بسبب من تباين الثروات والتباعد بين العائلات الثرية.

#                      #

#

          المدينة هي اذًا التجمّع الأكمل والمتكامل. وليس خلاف ملحوظ بين العائلات اذ الناس يتعاطون حياة اقتصادية مختلفة وليس من تناقض في العيش بين الحداد والتاجر او بين المحامي والطبيب. والتصادم نشأ في العالم كله بين الجماعات الدينية وضعف كثيرا حيث التشريع ينص على فصل المؤسسات الدينية عن الدولة. وبنوع أخص منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم في أوربا نشأ صراع العقائديات السياسية التي اخترقت وحدة المدينة فلم يبقَ لها استقلال اذ باتت بسبب الأحزاب جزءًا من البلد. السياسة الإيديولوجية بعد الثورة الفرنسية وحيثما حلت فلسفتها خلقت اليمين واليسار والوسط وصرت أنت أقرب الى فئة من خارج مدينتك او واحدا معها وبات أهل المدينة تراكم أجساد ولم تبقَ جماعات تتلاقى في العيش الواحد الهنيء. ولما ضربت العقائديات السياسية وحدة المدينة ووحدة البلد وعى الناس ان هذا الاختلاف حاصل وحي وانه ينبغي خلق نظام يجعل القوم لا يتذابحون ولو اختلفوا وهذا ما سموه الديموقراطية.

          ومع الديموقراطية في اوربا ومع التكامل الاقتصادي بين المدن نشأت البلدان. ففي الماضي السحيق لم يكن بلد يسمى فينيقية بل كانت صور وصيداء وبيروت وجبيل والبترون وأرواد وأوغاريت كلها تتصارع وكل مدينة يحكمها ملك والمصريون يحكمون الكل والاحتلال جعل رؤية واحدة لهذة المجموعة ودلتنا حفريات تل العمارنة في مصر على التصادم بين هؤلاء الملوك الصغار وذلك في القرن الخامس عشر قبل الميلاد. والبلدان الأخرى تجمّعت كذلك فخلق بسمارك المانيا السنة الـ ١٨٧٠ ونشأت فرنسا بامتداد سيد باريس وضواحيها وكان لا بد من خنق اللغات القومية وهي لم تكن لهجات من الفرنسية. ولكن في الأصل كانت المدينة. وخارجا عنها كانت الوحوش ولذلك كانت تُغلق البوابات في الليالي وكان البرابرة ولذلك كانت الحصون التي تحمي أهل المدينة.

          ويعرف أهل الداخل اذا كانوا متعددي الدين ان كل جماعة تستلهم إلهها او دينها لتبني المدينة بالعيش الواحد لأن العيش يقتضي إنتاج الخبز والأطعمة الأخرى والكساء والمسكن. وهذا لا بد له من تعاون. والله لازم لهذه الحياة الواحدة وما كان يخطر على بال أحد ان لا إله. تسمي إلهك كما شئت وتنعته بما شئت ولكن تستنزله على الأرض لتسالم الجماعة الأخرى والسلام كان هو القصد.

          ببركات هذا السلام اكتشف الإنسان فوق مدينته مدينة أخرى ينزل عليها نور الله. هكذا رأيت غير حاج مسلم يتوب ويجدّد علاقته بالله. كيف وصل الى العمق؟ انا الذي ما كان مأخوذا بالحج عند المسيحيين زرت القدس للمرة الأولى السنة الـ ١٩٤٧ اي في آخر سنة للانتداب البريطاني ولما رأيتها عن بعيد صلّبت وجهي وعندما أدركتها جثوت على الأرض وقبّلت ترابها. لا أذكر اذا كان ما اختلج في قلبي ان المسيح مشى على هذه الطرقات ولم يكن لي سبيل لتقبيل قدميه الا هذا السبيل. وكنت أعرف أن العهد الجديد تكلّم على أورشليم السماوية النازلة من عند الله في اليوم الأخير. ولم أفهم حتى اليوم لماذا لا يسمعنا أحد في الغرب عندما نقول مسيحيين ومسلمين معا، اننا نريد ان يسكن بعضنا قرب المسجد الأقصى وبعض الى كنيسة القيامة وان الله يسري بعبده ليلا -أنّى سكن- من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى. ولعل الله يقود روحيا بعضا منا الى كنيسة القيامة لنذوق آلام المخلص.

#                   #

#

           كل شيء في هذا السياق عمارة. الإنسان مدينة فيه من أبنية روحية اذا لم تدمّره خطيئة واذا اقتبل زرع الله فيه. وهو مدينة حسبما ينتسب لأن فيه حصنا يطرد الوحوش والبرابرة ويعرف -اذا تحضر- انه يحب الإخوة اذ يتكامل واياهم لإقامة انسان جديد يرتقي بالتواضع والتقوى الى وجه الله.

          وعليك -ان كنت من الفاهمين- ان تأخذ الحجارة المبعثرة التي فيك وتبنيها صرحًا جميلا واذا بكل الناس قصور. البهاء الروحي وحده يجعلنا جماعة اي مدينة تنتظر القيامة من بين الأموات ليس فقط في اليوم الأخير ولكن كل يوم اذا أحبّت. والغالبون الموت لا يطردون أحدا من المدينة لأن أحدا اذا أُخرج منها تموت المدينة بعدم الحب.

          هل يصير لبناننا مدينة الله اي هل يصير موطن العطاء الكبير؟ هذا سيتمّ إن نحن أردناه. ماذا يفعل الإنسان لو ربح وجاهة في الدنيا وخسر مدينته في قلبه؟ هل الذين منّ عليهم ربهم بهذه النزعة يتواثقون حتى لا يُقصى أحد من نعمة العطاء؟ هل تصبح المدينة او الوطن مسكنا لله في كل من توطن؟ تعالوا نبني مدينة الله اليوم وهنا. هذا شرط دخولنا الى السماء.

Continue reading