بين الاثنين الخامس عشر من آذار والسبت العشرين منه حللت ضيفا على معالي وزير الاوقاف والشؤون الدينية عبد الله بن محمد بن عبد الله السالمي في مسقط (عُمان). وكان الهدف الرئيس من ضيافته الكريمة القائي محاضرة بعنوان: «المسيحيون والعرب والقدس». القيتها في قاعة الجامع الكبير في حشد كبير وفي مقدمتهم السفراء العرب ومنهم سفيرنا الاستاذ عفيف ايوب الذي احاطني بعطف كبير. وقدمني الدكتور رضوان السيد.
كيف عالجت موضوعي؟ احببت في قسم اول ان اذكر المفكرين المسيحيين الذين تصدوا للعقيدة الصهيونية. لم اعثر على كتاب نجيب عازوري عن الأمة المنشور في باريس في مطالع القرن الماضي. غير اني وجدت اسم الشيخ يوسف الخازن الذي وضع في باريس السنة الـ1919 كتابا عن الدولة اليهودية في فلسطين وتبعه السنة اللاحقة جورج سمنه. ثم لاحظت ان الدكتور خليل سعادة نشر السنة الـ1921 في ساو باولو مقالا ضد الصهيونية وتبعه بعد ذلك ابنه انطون سعادة. ثم ظهر امامي داود مجاعص وفارس مشرق وبعدهما السيد بولس الخوري مطران صور وصيدا لاحقا والسيد اغناطيوس حريكة مطران حماه. وكان لا بد ان اذكر قسطنطين زريق وجبران تويني مؤسس جريدة النهار. وهذه لائحة فيها دلالات.
غير ان المهم كان موقف الكنائس. وهنا يبرز خطاب البطريرك الارثوذكسي الياس الرابع في مؤتمر القمة الإسلامي في لاهور السنة الـ1974. وذكرت في ما قاله قوله لملوك الدول الإسلامية ورؤسائها: «القدس محجتكم على دروب الحرية ونحن واياكم مقدسيون… ويقيننا ان المدينة العظيمة قد غدت معراج الإنسانية الى الله». وكان البطريرك هو الذي اطلق كلمة سارت كالنار في الهشيم: «البشر لا الحجر».
غير ان ما يقيد الارثوذكس بيان مجمعهم صيف 1975 بعيد اندلاع الحرب في لبنان وفيه: «لن ننسى اننا في مسيرة العرب جميعا الى القدس ونحن من الكلمة التي خرجت منها نأتي… لذلك كانت السيادة الصهيونية عليها اقتلاعها من جذورها مدينة لله و أهل الآخرة». وجدد المجمع هذه المعاني بعد الحرب. ثم اوردت ما صدر عن مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك عن القدس غير مرة واستشهدت بخاصة بقولهم: «نعلن تأييدنا لقيام دولة مستقلة عاصمتها القدس».
وذكرت الأماكن المسيحية المقدسة في كل انحاء فلسطين وأسفت لانحسار الحضور المسيحي في القدس وبيت لحم وشبه زواله من بيت جالا وبيت ساحور بسبب من الهجرة. غير اني بينت ان المسيحي المنتمي الى الحضارة العربية يتذوق الحضارة الاوربية ما يجعله جسرا بين الحضارتين. ثم كشفت حذر القادة الاسرائيليين من مسيحيي لبنان وذلك في المراسلة التي دارت بين موشي شاريت ودافيد بن غوريون.
# #
#
في القسم الثاني من المحاضرة أدليت بأن بين اليهودية والمسيحية الشرقية في كل مذاهبها صداما يقوم على زوال الهيكل والختان والفرائض الموسوية تأسيسا على اعتقاد آبائنا ان اسرائيل القديم انتهى وان الكنيسة أمست هي اسرائيل الله. فعلامَ اذًا يقوم كيان لليهود؟ لذلك تصورت في غياب فلسطين موحدة ان تصير القدس «ايقونة لوحدة تعايش بين الجماعات الإبراهيمية الثلاث».
القدس وليس سوى القدس لكونها رسالة انسانية او للإنسانية. اجل رجوت «هدية ابراهيمية ولكنها عصرية. ما من قدس اذا جعلنا حارة المسلمين تجاور حارة النصارى… القدس نهاية الحارات».
وظيفة للقدس اساسية ان تصبح «مقر الخطاب الديني القائم على استبقاء الآخر على ما يعتبر له ومنه بحيث يبطل الاحتراب وينحت كل منا الآخر بالانتباه الى وجعه في محاولة الوصول الى التناغم بتعدد اللحن». القدس متوثبة اذًا الى الآتيات. واوضحت هذا بقولي: «اجل انا جئت من القدس لأني اجيء من بشرية المسيح وانت تأتي منها بسبب من الحرم المقدسي والسرد المقدسي في القرآن ولكنا كلينا نصنع الأنسان الجديد».
من الواضح اني كنت اتحرك بين القدس وفلسطين، فلسطين الإنسان والذاكرة التاريخية وذكر الله معا. هذا كان القسم الثالث. ورجوت ان يبقى «الإسلام السياسي معتدلا مسالما طيبا حنونا». ثم عرجت في الخاتمة على اني لا اطلب «تداخل التراثات بحيث يخسر كل منا هيكليته الداخلية ولكن هذا يفرض ان اقبل فرادتك وحريتك». وانهيت كل هذا التأمل بقولي: «سنعود الى القدس معا مسيحيين ومسلمين في تواضع وعزة لتصبح هي قلب فلسطين دعوة العالم الى العدالة والحرية في كامل الصدق».
وأفسح الصديق الدكتور رضوان السيد في المجال للاستيضاح والسؤال. ثم انصرف هذا الأسقف العربي من قاعة الجامع الكبير الى دفء الأصدقاء في مسقط.
# #
#
كانت هذه زيارتي الاولى للسلطنة التي ادهشتني عاصمتها بجمالها الخلاب. العمارة ذات طراز محلي على قياس الإنسان والمنازل تحيط بها الاشجار وتشرف الدولة على التقيد بالنمط المعماري في عاصمة يكسوها النخيل في كل مكان فترى ان الصحراء تحولت جنات. تحس الانس حيثما حللت وتعرف ان جلالة السلطان قابوس ملهم كل هذا التقدم العمراني وناظم هذا العيش. الحاكم ملهم حياة الشعب العامل في كل قطاعات العيش الاجتماعي. بلد يتكل على مواطنيه الى جانب استخدامه عناصر من الشرقين الأقصى والأدنى يعيشون في سلام مع اهل البلد.
بلد يحافظ على تراثه وازيائه ويتطلع الى الحداثة بلا تعقيد. مدينة نزوى تمثل لك العراقة العمانية بقلاعها شاهدة على ارادة الاستقلال في هذا الشعب المجاهد الذي استطاع ان يتحرر من البرتغاليين والانكليز وحافظ على استقلاله.
والسواح كثيرون نزلاء في فنادق فخمة تحافظ هي ايضا في هندستها المعمارية الداخلية على الذوق العماني في الزخرف. ذوق مدهش ودماثة مذهلة وثقافة انكلوساكسونية لصيقة في من استطعت ان احتك بهم من رجالات البلد.
ولئن كانت السلطنة تبلغ ثلاثين مرة مساحة لبنان الا انها تشبهه يتزاوج البحر والجبل والجبل الأخضر علوه علو أعلى قمة عندنا. الحياة الاقتصادية منفتحة على الخصخصة وعلى تحفيض الدين الخارجي. النفط ثروة كبرى الى جانب الغاز الطبيعي واتجاه دنيا العمل الى تعظيم العمالة الوطنية. والوطنيون يعملون في كل القطاعات والأمل ان تزداد مساهمتهم في بناء بلدهم ولاسيما بعد ان فتحت الجامعة السنة الـ1990. لقد ذلل السلطان قابوس مشاكل الحدود مع اليمن في تشرين الاول السنة الـ1992 ووقع اتفاقات دفاع ثنائية مع الكويت وقطر والولايات المتحدة وأدت سياسة السلم هذه الى انتخاب السلطنة في مجلس الأمن السنة الـ1993.
تعداد السكان الآن حوالي مليوني ونصف المليون اشتركوا منذ الـ14 من ايلول السنة الألفين بتشكيل مجلس شورى مؤلف من 83 عضوا. ويعين السلطان في مجلس الدولة 45 عضوا منهم خمس نساء ومؤخرا اختيرت احد السيدات وزيرة. وهكذا تسير السلطنة في ظل الشريعة الإسلامية الى مشاركة الشعب في الحكم والانفتاح على العالم في حدود الهيمنة العربية على السلوك السياسي والثقافة. والسلطنة واعية لاهمية النضال الفلسطيني في نهضة العرب الحديثة.
في ما يراه المراقب تقدم عمان نموذجا رائعا لتزاوج الحداثة والعراقة وتقدر تقديرا كبيرا دور المسيحيين العرب ومنهم من يعيش فيها مزدهرا يقدم بإخلاص مهاراته للسلطنة ومتمتعا بحسن الوفادة بما فيها حرية العبادة. هكذا تبدو السلطنة بما فيها من اطراد تقدم مثالا جميلا في جزيرة العرب لبلد واعد. ودعت البلد بقداس إلهي شارك فيه نحو 170 مؤمنا من المسيحيين العرب لامست شفافهم الكأس المقدسة.
Continue reading