Monthly Archives

September 2009

2009, مقالات, نشرة رعيتي

هوذا الآن وقت مقبول /الأحد 27 أيلول 2009 / العدد 39

يريد بولس في الرسالة الثانية الى أهل كورنثوس أن يسعى المسيحيون فيها الى تفعيل النعمة، ألّا يُهملوها. لا ترجئوا خلاصكم يقول. الآن، الآن يوم خلاص. الآن وقت مقبول. قد يُداهمك اليومُ إن أجّلت توبتك والاهتداء الى وجه الرب. الى هذا يضيف انه لا يرتكب خطيئة لئلا يَلحق خدمته عيب. الرسالة لا تنتقل الى الناس إن كان الرسول يخالف شريعة الله لأنّ الناس يريدون أن يتعلّموا من سلوكه.

والبرهان على طهارة بولس الصبر الكثير، الضيقات في الكنائس ومن غير المؤمنين. وقد عدّد آلامه في موضع آخر وهنا يذكر الجلْد والسجون والأتعاب والسهر (في الصلوات والوعظ وعمل الخيام الذي كان يعيش منه لئلا يثقل على الكنائس). وهذا كلّه ناتج من الطهارة عنده ومن المعرفة. ومن المحزن اليوم أن قوما بيننا لا يطلبون المعرفة في الكاهن (كيف يعظ الجاهل؟). ثمّ يـصعد الرسول ويذكر طول الأناة فيه والرفق بالمؤمنين وهذا كلّه ثمر الروح القدس. من لا ينزل عليه الروح الإلهي أنّى له أن يرشد؟ أليس العمل من داخل النفس؟ أليس هو تجلّيات لها؟ ويعود ويـؤكّد أعـمال الروح القدس في المؤمنين، ويبدأ بالمحبة اذا كانت بلا رياء، صادقة. انها شرط لظهور كلمة الحق. المسيح كلّه حق و”المسيح قوّة الله وحكمة الله”.

ولكن النعمة لا تعمل وحدها. تستخدم أسلحة البِرّ في المؤمن يصوّبها من كل جهة، في كل حديث، في كلّ تعامل. يواجه كلّ موقف. يقبل الصيت الحَسَن والصيت السيء. وهذا الأخير يأتي من المؤمنين اذا كانوا ميّالين الى اليهوديّة والى فرض الختان على الوثنيين اذا أقبلوا الى المسيحيّة. “ليس الختان بشيء ولا الغرلة بل الخليقة الجديدة”. لا يهمّنا المجد العالمي. أعداؤنا، أعداء الرسالة يقولون اننا مضلّون ولكنّا صادقون. يروننا مائتين ونحن في الحقيقة أحياء. نبدو حزانى ونحن فرحون.

يؤكّد الرسول صدْقه ويؤكّد أنه حيّ، يُحييه الرب ويُحيي الآخرين به، ويؤكّد فرحه وهو لا يملك في الدنيا شيئا بل يؤكّد، على رغم فقره المادّي، أنه يُغني كثيرين. وأخيرا يقول “كأنّا لا شيء لنا ونحن نملك كلّ شيء”. حقيقتنا أن عندنا المسيح الذي يُغنينا عن كلّ شيء. نحن في الواقع لا نملك من الأرض شيئا ولكنّا أغنياء بالله. بـولس لم يـكن عنـده شيء إطـلاقًا وكفـاه أنـه كان يعمل خيامًا ليـأكل. لم يـسأل عن اطمئنان في الأرض. كل القضيّة هي أيـن تـجـعل طمأنيـنـتك. هـل هي في الـله او في المال؟ الفـقر الاختيـاري قـوّة كبيـرة لتجـعل حياتك بمنأى عن متغيّرات هذا العالم. انت لا يغيّرك شيء.

الثورة المسيحية الكبرى أنها قلبت معايير الناس. هؤلاء يسيطر عليهم شغف المال وشغف السلطة والتعلّق بأمور الجسد. ونحن غرباء عن هذه كلّها. نحن نحيا بالمسيح ويجعلنا في السماء ولو كانت أجسادنا على الأرض. نحن نبدو كتلة بشريّة ذاهبة الى التراب، وفي حقيقتنا نحن جسد المسيح اي مداه او امتداده. والسماء هي عرش الله، وقلوبنا هي هذا العرش. المكان الوحيد الذي نسكنه هو المسيح. كذلك هو يسكننا.

واذا كنت أرضيا وجاءك المسيح فمع تـجوّلك في الأرض تصير إنسانًا سماويا، غير منفصل عن السيّد.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الطاعة / السبت 26 أيلول 2009

المسلَّم به في الكتب المقدّسة ان الطاعة لله لأنه المؤمن اي الذي يؤمنك من شرك وتأمنه لصلاحه. ان تتمرد عليه ناتج من عبادتك لنفسك. الطاعة هي اذًا الايمان به وبقدرته ومحبته. انا لا تعجبني الدعوة الى الثقة بالنفس لالتباسها. المؤمن لا يتكل على ذاته مطلقًا ولكنه يتّكل على ايمانه اي على معرفته ان الله ساكن فيه ويمدّه بقوّة من فوق. انت تصحح فكرك بالفكر الإلهي اذ لست محصّنا بالعصمة. وما من عصمة طالعة من البشرة، المتقلبة والضعيفة، الهشّة. انا في المسيحيّة انتمي الى المذهب القائل ان ليس من انسان مصون بوعد إلهي قبل ان يتكلّم. وهذا المذهب يقول ان مجمع الأساقفة لا نطلق عليه وشاح العصمة قبل كلامه على الشأن الإلهي ولكن اذا لاحظنا انه وافق الإيمان الذي «دُفع مرة للقديسين» نعلن حقيقة انكشفت. ما من وليد امرأة يتربّع في الحقيقة تربعا. لذلك جاء في التراث عندنا ان المجمع يؤيّد المجمع السابق لتزداد قناعتنا بهذا الأخير. نحن نرجو ان يلهم الروح الإلهي من اجتمع رجاء. في أمور الحقيقة انت دائما في حالة جهاد. واذا أعلنت ايمانك بما قيل ففي هذا تعترف ان مصدر ايمانك هو الرب. لذلك اذا تكلّم المسيحيون في المجمع المسكوني الثاني على المجمع المسكوني الأول يقولون فيه اجتمع الآباء القديسون بمعنى ان قداستهم هي التي ضمنت صواب فكرهم.

من هذه الزاوية صحت الكلمة الإسلامية «الاجتهاد» التي أفهمها انها مسعى فكري عند العلماء اذ المفترض انهم الى جانب التحصيل العلمي هم مكلّلون بالبِرّ ولا ينطقون عن هوى.

هذا كلّه يعني انك في العقل وفي التقوى مطيع لله واذا أطعت بشرا فلتوفر الدلالات على انهم هم خاضعون لربهم. بطرس الرسول في هذا واضح ان الله أولى من البشر بالطاعة (أعمال الرسل 29:5)، عندما تقول عامة الناس ان الطاعة للوالدين واجبة ماذا يعنون؟ الأولاد يحسبون أن ذويهم يعرفون صالح اولادهم وانهم لا يقهرونهم. غير ان الكتاب المقدس لا يقول بهذا. انه يقول: «اكرم أباك وأمك».
# #
#
الواضح في المسيحية وجود مشيئة الهية ومشيئة بشرية وان الأولى وحدها مطلقة وانها وحدها المرجع. واذا قال المسيح وقلنا بعده انه ذو مشيئتين بحسب قوله لأبيه «لا مشيئتي بل مشيئتك» فلكي نحسم أن المشيئة الإلهيّة في المسيح هي التي طلبها المسيح سيّدة على بشريّته. والوحدة فيه بين الإرادتين لا تتم بسؤدد الإلهية على الناسوتية ولكن بدوام انسجامهما. لذلك قال عن علاقته بأبيه: «انا افعل دائما ما يرضيه» هذا لا يلغي ذاتية اية ارادة فيه ولكن يجمعهما كون السيد طوع إرادته البشريّة بحريته لله.

هكذا جوهر كلّ النضال الروحي الذي قام به القديس مكسيموس المعترف الراقد السنة الـ 662 ومات من اجله بعد تعذيب.

في الإنسان خضوعه لله ينفي كل عسف واعتباطية بمعنى ان لا قدسيّة لإرادتك ما لم تكن متطوعا لله دائما. انت لا تختار ما تشاء. انت حرّ بالكلمة الإلهية فقط لذلك قال المعلم: «وتعرفون الحق والحق يحرركم» (يوحنا 8: 32). طاعتك للحق وحدها تبعدك عن التحزّب. اي متتبع لتاريخ الكنيسة يلحظ ان أهل البدع كانوا في معظم الأحوال تابعين لأهوائهم وغرباء عن الجهاد الروحي اي انهم كانوا مستكبرين. صاحب البدعة يغلف خطاياه باللاهوت وبتلاوة الآيات. من هنا تفهم ان تفسيرها احيانا خاضع للسياسة. ولكون الله عظيما انت كنت تحتاج في أزمنة الإيمان ان تغلف كل كراهيتك للآخر اي سياستك بلباس ديني. ما كان الدين الأذية. انت كنت الأذية.
# #
#
ما سميته طاعة كان في الحقيقة محبة. لما قال يسوع الناصري: «من سخّرك ميلا امشِ معه ميلين» (متى 41:5) أراد أن تضع نفسك في تصرف الآخر. فقد اعتبر هذا انه في حاجة ان تمشي معه في الطريق ربما لأنه لا يعرفها او لأنه كان في حاجة الى إنس. واذا لبيته تكون في حالة طاعة لله.

هكذا اذا قال بولس: «أطيعوا بعضكم بعضًا» فلأنك تحس أن الآخر في حاجة اليك مسبقا تشعر انه لا يريد استعبادك او استغلالك وانه فقير اليك. اجعل، اذ ذاك، نفسك حقًا فقيرا اليه. في إطار هذه القولة نفهم كل ما قاله الرسول عن الزواج. فاذا قال: «ايها الرجال أحبوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة» وبعدها قال: «ايتها النساء اخضعن لرجالكن» فلا نلحظ فرقًا بين «احبوا» وبين «اخضعن» لأن الحب ينقذ والطاعة تنقذ بسبب من ان الطاعة المتبادلة كانت القاعدة على ضوء هذا التبادل تفهم العلاقة. واذا كانت الزوجة محبوبة حتى الموت كما أراد بولس فهل يعتريها خوف مما سمي الخضوع؟
واذا تكلّمنا في الكنيسة عن الطاعة للأسقف فليس لأن هذا عظيم بسبب من مقامه ولكن لكون الكنيسة أتت به الى هذه الخدمة بعد ان رأت انه «بلا لوم» (1تيموثاوس3: 2). قد يبدو يوما انه ملوم. لذلك جاء في القانون الكنسي انه خاضع للمحاكمة وانه قد يُخلَع (بضم الياء). هكذا في الرهبانية يُطاع رئيس الدير ليس لمجرّد مقامه ولكن الإخوة أرادوه عليهم رئيسا لفضائله. هم يطيعون فضائله ويعرفون انه لا ينطق الا بكلمة الرب. واذا نطق بخلاف هذا فالرئاسة الروحية التي تعلوه تخلعه ايضًا.

اجل يتسرّب الاستبداد للطبائع البشريّة. إزاء ذلك يقول بولس ايضًا: «ايها الإخوة، إن انسبق إنسان فأُخِذ في زلّة ما فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة» ( غلاطية 6: 1). الروحانيون ملح الأرض ويواجهون أصحاب المقامات حسب قول الياس النبي: «حيّ هو الله الذي انا واقف أمامه» (1ملوك 18: 15). ليس في دنيا الحياة الروحية من انقلاب. الله وحده قادر ان يكسر الطغاة. وانت تصلي لذهابهم. الصالحون والصالحات يكرهون الجور. ان شهادتهم تسحق الظالمين بالحق. لذلك تظهر في الكنيسة والعالم حركات تجدد تأتي بوجوه حسنة هي إطلالات الله على دنياه.

ليس المجال هنا لأقول شيئا عن السلطان الجائر ولا عن الثورات. المهم ان نجتنب الفتنة والدمار اذ تكون الثورة. اذ ذاك، انحرفت عن غاياتها. في الواقع هكذا فعل معظم الثورات. اذ اكتفت فعليا بقيام بشر على بشر واستعاضة فئة على فئة ولم يحصل تغيير.

المهم ان تطيع الله والناس الذين هم له والإصلاح يأتي بهذه الروح. الرب يسودك مباشرة او يسودك بأحبائه واحباؤه لا يحكمونك الا بعد ان طوعوا انفسهم له. تراهم بمقامهم سادة وهم بنقاوتهم يكونون مطيعين لك.


Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

فردوس دير إيطالي / السبت 24 أيلول 2009

هل في الأرض فراديس تكشف الملكوت الذي أعده الله للذين يحبونه؟ من هذه الاطلالات الملكوتية عند الجانب الايطالي من الألب وانت ذاهب من تورينو ينبسط دير بوزه Bose على الخضراء والثمار والغاب ويقوم ناسه في منازل من حجر وخشب وقرميد وكل بناء ينسق بين هذه ويأكلون من تعبهم فقط رافضين كل هدية ليكون لله وحده فضل عليهم وعلى ايديهم. وما أنزل عليهم من حب وكرم وبركات صلاة وتلاوات الهية ينحت شخصيتهم على طراوة وبساطة ومباشرة صلة وهم مسكوبون بلطف يأتي خدمة ودقة انتباه لأن الضيف عندهم هو الملك بلا مساءلة لفكره أو تحرش بهواجسه.

هذا يعني انهم لا يحشرونك في قالب فلا تحس انك ضيف خاضع لقواعد فتمشي الأمور كلها ليمحى الفرق بين الضيف والمضيف.

هم رجال ونساء يرتدون ثياباً مدنية عادية بسيطة الا في الكنيسة حيث لهم لباس خاص أبيض. يصلون صفين مختلفين ويقيمون صلاة هم وضعوها تقوم على مزامير وأناشيد وتلاوات من الكتاب أو أدب روحي وما ألفوه في الإنشاد عميق المعاني مجرد من الانفعال العاطفي وملحن على مقام واحد اذا ساغت الاستعارة بحيث يتمكن الضيوف من مشاركتهم في الأداء.

بعد الصلاة فكر وعمل. لست أعلم ان كانوا يحصلون اللاهوت في كلية لاهوت أم لا ولكن المؤكد ان معرفتهم عظيمة لأن مكتبتهم تحتوي حوالي خمسين ألف كتاب في مختلف اللغات بما فيها موسوعات عدة. والثابت أيضاً انهم ينقلون كتبا لاهوتية الى الايطالية بما فيها مؤلفات لغير الكاثوليك كما يقرأون في الكنيسة أدباً روحيا لغير الكاثوليك.

ذلك ان هذه الأخوية الرهبانية تضم عدداً قليلاً من الإنجيليين واسقفاْ أرثوذكسياً متقاعداً لهم ما للكاثوليك وعليهم ما على الكاثوليك. انت تلحظ في الواقع ان هؤلاء يتعايشون بمحبة ويحفظون معتقداتهم واذا قرأت نصوص العبادات تلحظ انها “مسكونية” بحيث لا يفرض النص عليك مذهباً. قد تقبل ذلك وقد لا تقبل ولكن الفتح المبين تعايش سلمي لاخوة متباينين في العقيدة. ما رأيناه خلال أسبوع كامل استهل في 10 ايلول ان اساقفة وكهنة واساتذة لاهوت كباراً من الارثوذكسيين وقسساً من كنائس الإصلاح البروتستنتي اشتركوا في هذه العبادات ولكنهم لم يشتركوا في القرابين وكان للارثوذكسيين قداسان خلال هذا اللقاء الذي تم بين العاشر والثامن عشر من ايلول.

هذا هو الجانب اللاهوتي في حياة هذا الدير. أما الأعمال اليدوية فالزراعة على أنواعها ومشاغل نجارة وخزف فني ورسم ايقونات على الطراز البيزنطي. تقديري ان هذه الانحصارية تأتي من قناعتهم ان الشرق الارثوذكسي حافظ وحده للفن الكنسي وان سواه لوحات تأتي من قوانين الاستاطيقي أي من هذه الدنيا. فقد صار المشهد المعروف في الكنائس الكاثوليكية بعامة هو مشهد الانتقال من الصورة الى الايقونة بما يصحب ذلك من تفسير لاهوتي لهذه بعدما كان الغرب غير حساس للايقونة منذ ان حدد المجمع السابع المسكوني أي النيقاوي الثاني في السنة الـ787 عقيدة اكرام الايقونات.

لقد احتضن دير بوزه منذ احدى عشرة سنة اللاهوت الشرقي في مؤتمرين له كل سنة أولهما يتركز على الآباء الشرقيين وثانيهما على اللاهوت الروسي أو احداث الكنيسة الروسية. هذا الصيف كان موضوع اللاهوت الشرقي القديس يوحنا الدمشقي والموضوع الروسي راسم الايقونات القديس اندره روبليوف. واللافت ان المبحث فيهما قام على لاهوتيين أومؤرخين من الكنائس الشرقية ومن الكنائس الغربية ذلك لأن العلم علم لا أثر فيه لقراءة مذهبية. اليوم ومنذ سنين طولى يقوم الجميع ببحث أكاديمي ولا يختلفون في تحليل الاشخاص وآثارهم وتأثيرهم وبيئتهم.

ففي اللقاء الاول المخصص ليوحنا الدمشقي عند فجر الإسلام تناول لاهوت الرجل وكتابته العقدي والنقاش حول تاثيره في الفلسفة الإسلامية الناشئة كذلك حول مدى معرفته للإسلام ولا سيما انه لم يكتب في العربية. كان يعرف شيئاً من الإسلام وقد ساجل فيه وذلك في كتاب صغير في اليونانية. أما المساهمة الكبرى التي قدمها الى جانب كتابه الأساسي “الينبوع” بما فيه “الإيمان الارثوذكسي” فكان الدفاع عن الايقونة وقد تبنى دفاعه هذا المجمع المسكوني السابع.

وقد سيطر على البحث علم واسع لا تمييز فيه بين العلماء على الصعيد المذهبي. علم مدهش جداً تمنينا لو كان مثله في شرقنا وكله قائم على معرفة دقيقة للبيئة الأموية وللغة الإغريقية. وبين العلماء فرادة الرجل وعبقريته.

أما البحث في فَن روبليوف في القسم الروسي من المؤتمر فقام به في الدرجة الاولى علماء روس ولا سيما النساء وكان السعي الى معرفة كل أعماله وما سبقها وما رافقها مع التركيز على ايقونة الثالوث الشهيرة التي قد تكون من أجمل ما عرف الفن التصويري الارثوذكسي في كل أطواره. وفيها تتبين الإبداع في الزمن ذاك أي فترة أواخر القرن الابع عشر والخامس عشر.

طبعا تدرك الحياة الروحية عند روبليوف الذي لم يترك على وجه الدقة أكثر من 12 صورة الى جانب بعض الجدرانيات. هذه الروحانية المذهلة في كل ما وضعه جعل الكنيسة الروسية أخيراً تعلن قداسته وقدتوارت حياته الشخصية خلف ما تركه من آثار.

لم تكن الكنيسة الأنطاكية الارثوذكسية غريبة عن العطاء العلمي اذ أوكل الى احدنا ان يتكلم على “الخلاص في المادة” حيث كان التركيز على التجسد الإلهي واستعمال المواد في العبادات (الماء والزيت والقرابين الإلهية والايقونات) وحيث دار الحديث ضد ثنائية النفس والجسد وعن وحدة الكيان البشري وعن تجلي الانسان والكون.

هذه الأبحاث سوف تنشر باللغة الايطالية وكذلك أبحاث المؤتمرات السابقة نشرت في هذه اللغة ليتاح للجمهور الايطالي التعرف الى التراث الشرقي القديم من جهة والى التراث الروسي من جهة.

انفتاح الدير على كنيسة أخرى بهذه الصورة أمر نادر في العالم كله. هذا رجوع الى ينابيع المسيحية الاولى ولقاء في العمق بين الكنيستين.

الى هذا كانت غير مناسبة لتواصل العلماء والمطلعين في ما بينهم. لعل الأحاديث الشخصية لم تكن أقل نفعاً من التواصل الأكاديمي. لم يكن أحد منا يحس ان الآخر غريب. وما من شك في ان مشاركتنا في حياة الرهبان اعطتنا حيوية وفهما ما كنا عليهما قبل زيارة هذا الدير وقبل جلوسنا عند اقدام العلماء. كانت هذه خبرة عمق وانسكاب بركات جعلتنا نتبين اننا أدركنا وحدة في المسيح فيها تأجج كبير.

Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الصليب في النفس / الأحد 20 أيلول 2009 / العدد 38

أحدًا بعد عيد ارتفـاع الصليـب كان يجدر بنا أن نتأمّل ما يعني لنا في حياتنـا اليوميّـة. على هذا يقـول الـرب يسـوع: “من أراد أن يتبعنـي فليكفـر بنفسـه ويتبعني”. انت تعرف انك معمـّد وانك نظريا من أتباع السيّد. هل أنت قررت عند رشـدك انك حقيقـةً تريد ان تكون ليسـوع؟ هذا يتطلـّب منك قرارًا واضحًا. وهذا يعنـي التزامًا منك بالمسيح لأن المسيـح يتطلّب منك كل قواك، كل عقلـك، أن تسخـّر له كل شيء، أن تعالـج كل أمور حياتك بكلمات إنجيله، أن ترفـض كل ما تحسّه مخالفـا لتعـاليـمه.

لهذا طلب منك أن تكفـر بنفسك، ليس فـقـط ألّا تتـعـلّـق بما ينافـي تعـلّـقـك به. اذ ليس من مساكنـة ممكنـة في قـلبـك بين يسـوع وأعدائـه. غير ان الآيـة ما قالت مثـلا استقلّ عن حُـبّ مالك او التمـسّك بما تـأكـل وتشـرب او ان ترتبـط مرضيّا بعائلـتـك. قال: اكـفرْ بنفسك لأن هذه كلها تشكـّل نفسـك. أشياؤك تصبـح ذاتـك، تتـكـوّن بها ذاتك. ثم اذا كفـرت بنفسك مبدئيا وقـررت ذلك حقـًا، يطـلب اليك يسـوع أن تحمـل صليبـك وتتـبعـه.

هذه التي ذكرنـاها وتحيد بك عـن يسوع تُعـذّبك. هي صليبـك. مطلوب منـك ان ترميـها، ان تستقـلّ عن شهوة المال ولو استعملته، الا تعبد مخلوقًا ولو أحببته، الا تغرق في هموم أولادك ولكن أن ترعاهم وتخـدمهـم، ان تصادق قومًا ولا تصيـر أسيرهم. انت بتّ عبـدًا للمسيـح. شرط هذا الا تُلقي على كتـفيك نيـرا غير نيـره لأن نيره هو وحده الحـريّـة.

وتنتهي الآية بقوله “أن يتبعني” الى أين؟ الى أين ذهب هو؟ الى الصليب. أنت معه حتى موتك، طيلة حياتك، فلا تستريح الا في حضنه. واذا اقتضى الأمر ان تُستشهد، تشهد ولا تكفر ولا تهرب.

خلاصة هذا في قوله: “ماذا يربح الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه” اي نفسه التي تتكوّن من حُبّها ليسوع. ليس من غنى في هذا العالم يُقاس بغناه ولا جمال بجماله. إن لم تصل الى ان المسيح هو كلّ شيء لا تكون قد تعمّدت.

ألا تربح العالم تعني أن ترمي كل ما يُعيقك عن رؤية المسيح وحده في حياتك.

هذه قناعـة يمكن أن تصل اليها بالتقشـّف، بالصوم. ان تمتنـع عن أشياء تراها ضروريّـة، وبالتقشـّف والزهـد وامتلائـك من الروح القدس، تلحظ انها في الحقيقـة ليسـت بشيء. تتمـرن على ان ما ظنـنتـه شيئـا هـو هباء وقبـض الريـح. ان تحـرم نفسك لتمتلئ من المسيح.

غير ان الحرمان لا يكفي. يجـب الملء، والمـلء هو كلمة الـله. فيـها تذوق ان شيئـا في هذا العالـم مهْما عظـم وجَمُل لا يساوي القوة الإلهيـة فيـك لو اقتنيتـها.

هدفك أن تصبح إلهيا. ليس أقلّ من ذلك لأن ما كان دون ذلك تافه جدا.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

إطلالات من إيطاليا / السبت ١٩ أيلول ٢٠٠٩

تتكثف النعمة لتنزل حيث تشاء. في قرية نائية محشورة بين تورينو وسلسلة جبال الألب يقوم دير يجذب اليه شحنة محبات مقولة بلاهوت ويضم، هذه المرة، مئتي وخمسين مؤمنا من كل مناطق الأرض ليتقدسوا معا ويعقلوا معا ايمانهم عسى يقولونه اذا عادوا للناس ليفرح المعطي والمتلقي معا ويزول انقسام الكنيسة في حلم او رجاء.

         Bose المشلوحة هناك تقول منذ سبع عشرة سنة كلمة الله في سبكها الأرثوذكسي وهي على المذهب الكاثوليكي، لها على استقامة الرأي، كل صيف، مؤتمر تتناول فيه جانبا من الروحانية البيزنطية تصوغها كلمات لاهوتيين من كنيستنا أمن روسيا ام من البلقان ام من عندنا جاؤوا واليهم اثنان او ثلاثة من الإخوة اللاتين استشرقوا فكريا ليتقابسوا ويستنير بهم زملاء لهم او متدرجون فيستضيء كل بالآخر وكأن ثمّة مائدة تنزل من السماء على أولهم وعلى آخرهم ليدنو كل واحد الى المعرفة والحب درجة او درجات.

         ويرمّموا ما تعثّر بناؤه في الماضي او في مواضع أخرى مفروض انها أرض بناء. ولكن الكنيسة بطيئة الصعود او ضاق مداها. الكنيسة جرح مفتوح. في بوزه كنائس الى التضميد، ذلك الذي يتيح لك الرؤية ولو شحّ النظر عند العتاق الذين لا تذهب عنهم بصيرة يشاهدون فيها القيامة المقبلة.

#                       #

#

         انت تتوقع جمهرة كهنة ورهبان وراهبات وأساقفة من كل صوب كما تنتظر أحاديث جانبيّة قائمة على ذكر المسيح ومن اليه من أهل السماء والأرض وتحس بالفرح المشرق وعذاب الانشقاق، وعلى ذلك انت تذوق وحدة وجود لا بد ان يكشفها العطاء الإلهي في ما فيه من رحمة. وكلما ازداد عمقك قوي وجعك. والأقربون الى العامة يقولون لك: لماذا نحن هكذا؟ ما الذي يفرّقنا؟ واذا اخذت تشرح لهم النصوص التي تنأى بالواحد عن الآخر يتساءلون اذا كان أهل العلم يذبحون بعقولهم القلوب او اذا كان الجالسون على أرائك السلطة يتناحرون من اجل المسك بالسلطة. هل الذين استووا على العلم غير صادقين؟

         لست أعلم ما دعا رهابين في الكثلكة ان يخصّصوا أسبوعا في السنة للفكر الأرثوذكسي وهم يعفّون عن السجال وعن أحلام الضمّ الجانح. عندما تعتزل مع الأكبرين تلحظ انهم إخوة في الذهن لا في القلب وحده اي انهم من الارثوذكسية على قاب قوسين او ادنى او هكذا أقرأهم وليسوا في هذا الدير الوحيد وتبقى شبه ارثوذكسي في كنيستك ولك هواك في فهم الكثلكة ولا تُكفّر من كان على غيرها من أهل التراث القديم.

         قد لا نكون بعيدين في الذهن على الأقل من حل معقول.  ان هناك من يقول ان المجامع المسمّاة مسكونية هي التي كنّا فيها معا وهي سبعة، واما تلك التي عقدها كل فريق منفردا فيعرضها على الفريق الآخر في اجتماع جامع ما يعني أن ما حدده أحدنا على انفراد يحتاج الى مصادقة من الآخر، والقبول المشترك يفترض تفسيرا جديدا.

         لا بد أن يستدعي هذا تعديلا في البنية الإدارية بحيث لا تطغى كنيسة على كنيسة اي بحيث لا يُفرض عليك ما كان عن تراثك بعيدا او ما كان مضمونه غير قابل للانصهار اذا اعتبرت الانصهار الفكري خيانة.

         وحدة تقوم على ايضاح وتنوير وصدق وتواضع يمكنها ان تُغني الآخرين بلا اعتداد ولا سيطرة ولا ابتلاع.

#                          #

#

         بين التاسع والثاني عشر من ايلول انعقد المؤتمر السابع عشر عنوانه: «الكفاح الروحي في التقليد الأرثوذكسي». حاضر فيه ثلاثة عشر ارثوذكسيا وثلاثة كاثوليكيين من إيطاليا وروسيا وطور سيناء وفرنسا وإنكلترة واليونان وصربيا وأميركا ولبنان. تناولوا موضوع الجهاد الروحي في أسسه الإنجيليّة وتراث الآباء ولاسيّما من جانب النسك عندهم.

         كيف تكافح الخطيئة والأهواء، ذلك كان الحديث كله. والهوى بلغة الرهابين القدامى هو ما يجعلك منفعلا بالتجارب التي تحلّ فيك وتنبت فيها الخطيئة فتصرعك.

         هذا كلّه يتطلّب البحث بالأساس اللاهوتي للجهاد حتى تنصرف الى القيام به. والكفاح يستهدف اقتناء الصلاة وأن تُطوّع قلبك لها. وتعي إن علمت هذا أنه عليك اجتناب النسك المتشدد، فيتبيّن لك ما عليك ان تقوم به اليوم في وضع بشري متدهور. وهنا لا بد أن ترى الى كفاح للهوى تقوده بالجسد لا قهرا للجسد. تأتي هنا الشراهة والبحث النفسي فيها الى جانب البحث الروحي.

         بعد هذا تطلّ على علاقة الكفاح الروحي ووحدة الكنيسة. الغفلة في الكنائس وبعض من قادتها أسهمت في انغلاق فيها وانقسام. واذا عرفت كثيرا عن هذا بكيت كثيرا ما يعني ان نفحة الوحدة هي القداسة لأنها وحدة بشر كما يسلكون. هي وحدة على الأرض وإن نزلت عليك من فوق. عُهد هذا البحث الى لبنانيّ.

         جهاد في الكنائس وجهاد من أجل العالم المعاصر. كيف ينزل الله الى العالم، كيف يحيا به العالم. كيف تُروحن العالم كما هو وتنتشله من كل سقطاته دون اعتزال في دنيا وهميّة وانت قائم على العلم وقيّم على التكنولوجيا. عُهد بهذا الى أسقف أرثوذكسي بريطانيّ الجنسية. أوربا في اهتدائها نافعة للشرق.

         الى هذا شاركنا الرهبان صلاتهم باللغة الايطالية. فهمنا منها ما فهمنا. ولكنا ما كنّا غافلين بالكلية اذ تعرف انت الانجيل وبولس والمزامير لكونها مرقمة وتَسْكنك نفحات من ايقونات بيزنطية جاءتك على إبداع كبير كأن الغرب الكاثوليكي يريد أن يعشقنا عن طريق الجمال ولكنك تفهم ايضا حبه عن طريق التواضع.

Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الأحد قبل الصليب / الاحد 13 أيلول 2009 / العدد 37

علّم بولس في الرسالة الى أهل غلاطية أن الإنسان لا يبرّره ناموس موسى ولكن الإيمان. نتيجة لذلك ما أراد ان يُفرضَ الختان على الذين ليسوا من أصل يهوديّ. واما الذين اهتدوا ولكنهم بقوا متهوّدين يريدون كل المسيحيين ان يمرّوا اولًا بشريعة موسى ومنها الختان. يريدونهم ان يختتنوا وهكذا يبطلون صليب المسيح، وهذا الصليب مركز الإيمان الجديد الذي لا يحتاج فيه المرء ان يخضع لشريعة موسى.

لذلك قال: “حاشى لي أن أفتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صُلِب العالم لي وأنا صُلبت للعالم”. العالم بالصليب مات وبقيتُ بإيماني بيسوع حيا. انا لست حيا اذا بقي العالم.

ولما قال: “انه في المسيح يسوع ليس الختان بشيء ولا القـلف” اي عدم الختان، لأننا نحن بتنا في المسيح خليقة جديدة، أحرارا من الوثنية ومن موسى.

وكـل الـذين يـسلكـون بـحسب هذا القـانـون،اي أن الختان ليس بشيء ولا القلف بشيء، فعليهم سلام ورحمة (انت تخلص بسلام المسيح ورحمته) وهذا السلام هو على اسرائيلِ اللهِ اي الذين صاروا اسرائيلًا جديدًا اي الكنيسة.

لذلك يقول لا تُتعبوني بهذا الجدل “فإني حامل في جسدي سِمات الرب يسوع” وهي سِمات الصليب في روحي وجسدي. ثم يختم بقوله: “نعمة ربنا يسوع المسيح مع روحكم” وهذه النعمة تكفيكم اذ تُحرركم من الوثنية واليهوديّة معا.

ثم توضح القراءة الإنجيليّة أهميّة الصليب بقول الرب يسوع: “هكذا أحب اللهُ العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة”. هكذا سطعت محبّة الآب للبشر بأنه من أجلهم أرسل ابنه الوحيد لكي ينالوا به الحياة الأبديّة.

الصليب حصلت فيه غلبة الله للعالم الخاطئ ونهض المؤمنون الى حياة جديدة وانهم بالإيمان والمعمودية قاموا من الآن مع المسيح وشاركوه الحياة الأبديّة التي يبعثها فيهم. لذلك نقول في خدمتنا الليتورجيّة في عيد رفع الصليب المكرّم ما يلي: “افرح ايها الصليب الكريم، مرشد العميان وطبيب المرضى وقيامة جميع المائتين، الذي رفعنا نحن الساقطين في الفساد…”.

ومسيح الرب لم يأتِ ليدين العالم ولا يحكم الا من حكم على نفسه بالموت الروحي. واذا لم يفهم أحد سرّ الصليب والقيامة فلا يكون قد أخذهما، ويبقى يهوديا او وثنيا حتى اذا تعمّد.

المهم ان تأخذ الحب الإلهي وان تعيشه اي ان تصير خليقة جديدة تتجدّد كلّ يوم بالنعمة. وهذه هي المعمودية الدائمة وهي مشاركة السيّد بموته وقيامته. انت تتعمّد مرّة (وبمعموديّة واحدة لمغفرة الخطايا). واذا غفرت خطاياك بالتوبة تستمر فيك فاعليّة المعمودية.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

عيد ارتفاع الصليب / السبت 12 أيلول 2009

غدًا عيد ارتفاع الصليب حادثتان أوجدتاه. اولاها في القرن الرابع حيث وجدت القديسة هيلانة ام قسطنطين امبراطور الروم صليب المخلّص الذي كان مغمورا في التراب، والحادثة الثانية ان أعاد الأمبراطور هرقل ذلك الصليب من بلاد الفرس الذين كانوا قد أخذوه من أورشليم. فرح المسيحيون بالحادثتين وفهموهما رحمة من الله لهم. لن أعلّق على هذين الكشفين لأني أودّ تجاوز الواقعين في محسوسيتهما لولوج الجوهر.

تبديدا لكل لبس وددت أن أقول ان الصليب لا أهميّة له الّا بالمصلوب. كل الديانات ذات رموز وخطاب رموزي. لا يهمّني اذا كانت ذخيرة الصليب التي تضعها ضمن صليب فضيّ في عنقك جاءت حقا من صليب يسوع. لا أحد يمكن ان يثبت ذلك ولكن يجب ان يهمّك ان كنت مسيحيا ان تعترف بأن موت الناصري وانبعاثه هما كل المسيحيّة. وان كل عبادة او طقس او عقيدة هي من باب تعزيز ذلك الموت وتلك القيامة.

هذه قاعدتنا وهذا مدانا ولهذا نشهد. واذا تكلّمت خارج هذا الإيمان باحثا تاريخيا لا أحد اذا اتخذ منهج التاريخ المحض يستطيع ان يُخرج الأناجيل من باب التوثيق. لستَ مضطرًا ان تؤمن بالإنجيل لتثبت ان الإنسان يسوع الناصري عرف هذه الميتة. الأناجيل صحف ذلك الزمان والإنجيليون الأربعة ثلاثة منهم شهود وواحد تقصّى شهادات الشهود. انت مستقلا عن معنى الصلب أفداء هو أم خلاص لا مهرب لك من ان تقول ان المسمى يسوع الناصري او الجليلي ألقي القبض عليه وحاكمه اليهود والرومان وحمّله بيلاطس البنطي الوالي خشبة ليُصلب عليها فرُفع على تلّة الجلجلة مسمّرًا ومطعونًا جنبه بحربة وتأكد الوالي هذا الموت وقبر الرجل.

# #
#
حادثة الصلب من الإيمان بسبب معانيها. يبدأ ايمانك الحقيقي من قبول المعنى.

معنى الموت ليسوع الناصري انه ارتضى ان يحمل خطيئة العالم، ان يصير هو خطيئة لكي يحيا من يؤمن به بلا خطيئة، لينبعث الإنسان كلّ يوم من غضب الله عليه ليمكث في الرضاء الإلهي.

خشبة من خشبتين. الأولى عمودية والثانية أفقيّة. أما العمودية التي طرح عليها المسيح فتدل على ان السيّد ممدود من الأرض الى السماء وممدودون معه أحباؤه بالاتجاه نفسه. اما الأفقيّة التي كانت ذراعا المعلّم ممدودتين عليها فتدلّ على ان يسوع يضمّ بهما او فيهما كل المسكونة اليه دائما ولأنه يرتفع دائما. سمينا هذا العيد ارتفاع الصليب. ما هذا الا كلاما رمزيا. الحق اننا في ارتفاع المصلوب من اجل حياة العالم.

جاء في الكتب المقدسة عندنا عبارات من شأنها ان تضلّل. مأخوذة من العهد القديم ولكن يجب ان تُقرأ على خلفيّة العهد الجديد. كلمة كفّارة التي يعني ظاهرها ان يسوع مات بدلا عنا يمكن ان يتعثّر القارئ بها فيفهمها بمعنى حقوقي معروف عندنا في قانون الجزاء. هذا ليس له أساس في العقيدة. وقد قيل في الغرب في القرون الوسطى ان الخطيئة أثارت غضب الله وهذا الغضب لا يزول الا اذا أزاله إله ليتمّ التساوي بين الغضب والتكفير عنه. هذا ربما تعلق به حتى اليوم بعض المتشنجين في ايمانهم او من يحبون انهاء الثأر بالفدية على ما هو مألوف في مناطق قبليّة. هذا ايضًا لا أساس له.

وان كنا لا نزال نستخدم كلمة فادٍ فليس بارتباطها بهذا الفكر القانوني ولكنا نترجم بها اللفظة اليونانيّة التي تعني المحرر. المسيح يعتقنا من خوف الموت كما ورد في الرسالة الى العبرانيين: «ويُعتق اولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كلّ حياتهم تحت العبوديّة» (15:2).

اذا تغلّبت على مخافة الموت فأنت مقيم في الحياة. كلّ المسيحيّة تقوم على تناقض الموت والحياة وليس فقط الموت الروحي والحياة الروحيّة ولكن على التناقض بين الموت الجسدي والحياة التي تؤتانا من القيامة في اليوم الأخير.

الشيء الوحيد الذي يخشاه الإنسان هو الموت. يخشى حادثة آلة والمرض والغيبوبة. كلّ هذا موت. واذا لم يستطع ان يواجه هذا بصورة حقيقيّة فهو واقع في الخوف ابدًا. لا يتعزّى أحد ان قلت له هذا لا بد من حدوثه. الله سيّد على اللابد اي انه يقضي على المواتية هنا. كيف تتحرر منها ولو كان لها يوما ما تعبير بيولوجي؟ لا مفر من الموت الا بالمحبوبيّة. يجب ان يحبك إله لتحس بأنك محبوب. لا أحد يعوض عن الإله مصدرا كاملا لحيويتك. هذا كشفه يسوع الناصري بصورة بليغة بمعنى انه أدخل الحياة التي كان يحملها الى مملكة الموت. فجّر الموت من الداخل. «وطئ الموت بالموت» كما يقول النشيد الفصحي.

وفيما كان المسيح يدخل الحياة الى كل نطاق الموت أدخل معها المحبّة، والحياة هي المحبّة. بهذه وحدها تخرج انت من العدم. ارتضاء يسوع قتله إن هو الا تعبير عمّا جاء في الكتاب: «هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد» (يوحنا 16:3).

بهذا لم يبقَ محل للسؤال لماذا كل هذا التحرك الإلهي، لماذا هذه الستراتيجيّة الإلهيّة، كل هذه الخضة؟ اما كان ممكنا لله ان يعبّر عن حبه بغير هذه الطريقة؟ طريقة اخرى تأتي من سؤال افتراضي. الأمور صارت هكذا لأن الله حكمته في هذا. حكمته تجلت في ان يتجسّد الكلمة ويتأنسن ليكون لصيقا بالإنسان، ليفهم البشر ان الرب ردم كل هوة كانت بينه وبين بنيه. هل من سبيل أفصح من ان يلازمنا الله في دنيانا، في جسدنا، في اوجاعه، في موتنا، في قبرنا؟

المسيحي يعرف في كل ألم ان مسيحه شريك له ويعرف انه لا يُلقى وحده في التابوت وان شيئا فيه لا يقضي عليه تراب الأرض. انه يعرف انه ليس عبدا نهائيا لوطأة الدنيا. هو يقع في الخطيئة ولكنه ناهض الى البر لأنه يحمل في نفسه طاقة الحب. ويستطيع ان يغفر الى ما لا نهاية وان يذوق الفرح في أمراضه والكمال في عاهته ويختبر في القداس «كمال ملكوت السموات والدالة لدى الله لا لمحاكمة ولا لدينونة» لأنه قد انتقل بقيامة المخلّص من الموت الى الحياة.

هذا هو عيد الغد.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

رسالة اليوم / الأحد 6 أيلول 2009 / العدد 36

بهذا الفصل يختم بولس رسالته الأولى الى أهل كورنثوس. يقول “اسهروا” اي تيقّظوا. واليقظة هي ان يثبت المؤمنون في الإيمان الذي لقّنهم إياه الرسول. يريد أن يكونوا متشددين بالإيمان كرجال . ثم ينتبه ان الإيمان لا يكتمل الا بالمحبة.

بعد هذا يذكر بيت استفاناس الذي كان ركنًا في كنيسة كورنثوس وكان بولس قد عمّده مع أهل بيته. ثم يطلب الى المؤمنين ان يسمعوا لهؤلاء وأن يتعبوا معهم، ولا شيء يدلّ أن أحدًا منهم كان كاهنًا. أنت تسمع للأتقياء.

بولس كتب هذه الرسالة في أفسس (آسيا الصغرى، تركيا الحالية). اليها جاءه ثلاثة من كورنثوس، استفاناس وفرتوناتوس وأخائكوس، وقال انهم أراحوا روحه وأرواح ذويه.

بعد هذا يقول: “تُسلّم عليكم كنائس آسية”. هذه كنائس أسّسها بولس انطلاقًا من أفسس حيث أقام أكثر من سنتين.

يؤكّد ايضًا “يُسلّم عليكم في الرب كثيرا أكيلا وبرسكلة” زوجته، وكانا معه، وكان لهما إسهام في تأسيس كنيسة كورنثوس. وتُسلّم على أهل هذه الرعية الكنيسة التي كانت تجتمع عند أكيلا وبرسكيلة. في بيت واحد في كل مدينة كانت تجتمع الكنيسة.

“سلّموا بعضكم على بعض بقبلة مقدّسة”. القبلة المقدسة تعني غالبا تلك التي يتبادلها المؤمنون في القداس والتي لم يبقَ منها اليوم الا القبلة التي يتبادلها الكهنة في الهيكل. الكنيسة اللاتينيّة حافظت على السلام بين كل الإخوة عن طريق المصافحة بالأيدي. ثم يقول: “هذا السلام بخطّ يدي انا بولس”. نـحن نعرف ان الرسول كان يـُملي رسائـله على أمنـاء سرّ يـرافـقونـه في رحـلاتـه. هنـا أراد أن يـبـيّن محبّته لأهل كورنثوس، فأخذ القلم من أمين سره وكتب هذه الجملة.

ثم يقول: “إن كان أحد لا يحبّ ربنا يسوع المسيح فليكن مفروزًا” اي مقطوعا عن شركة الكنيسة. هنا لا يحرم الرسول انسانا بسبب خطيئة واضحة ولكنه يلاحظ أن من لم يكن عنده محبة للرب يسوع هو يقطع نفسه من الكنيسة ولو بقي في الظاهر منها. المحبة ليسوع كانت كل شيء عنده. اما الباقون في الشركة اي المحبّون للسيّد فيُعلن لهم نعمة يسوع النازلة عليهم بسبب من محبتهم. ويختم الرسالة بقوله: “محبتي مع جميعكم في المسيح يسوع”. المحبة التي يرسلها اليهم نزلت عليه لكونه قائما في المسيح يسوع. ويتقبّلها الذين هم في المسيح يسوع.

نـحن لسنا فـقط عـلى الأرض. إنـنا منـذ الآن في السماء ومع المخلّص. فالعلاقات بـيـن الـذيـن هـم ليـسوع بـالإيـمان ليست مجرّد عواطف بشريّة كعواطف القربى. أخوك وأبـوك وأمـك عنـده ينـتسبون مثلك للمسيح. هؤلاء الذين انضمّوا إليه بالإيمان والمعمودية أنسباء فيما بينهم لأن كُلاّ منهم قد انضمّ الى المسيح. هذه هي عائلة الآب.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الأب يواكيم مبارك بيننا / السبت 5 أيلول 2009

يضجع الآن الأب يواكيم مبارك في تراب لبنان مع آبائه. كنا نشتاقه ان يعود وهو أَحَبَّ ان يسكن حضن الأرض الأم. بهذا يحس المستبقَون ان هذا الذي اغترب لا يزال لصيقًا بهم حتى يبوّقَ البوق الأخير «فيقوم الأموات عادمي الفساد».

عشنا زمنا باريسيا واحدا أثناء تحصيل كل منّا اللاهوت ولم نلتق. ربما عاد السبب الى اني لم أقرأه هناك. كان لنا هنا اول لقاء لا يمكنكم تصديقه، وكان هذا في صيف الـ1955 أوالـ1956 اذ كنت أتمشّى في شارع عزمي في الفيحاء ووجدتني على يسار طريقي امام كاهن أسمر لباسه أوربي فقلت له: ألستَ انت يواكيم مبارك؟ قال ألست انت جورج خضر؟ ثم قال: انتظر هنا الأب جان دانيالو لأصطحبه الى كفرصغاب. اتريد ان تساهرنا؟ أحيينا الليل كله في مسامرة فكر.

كانت تجمعنا عصبية الشمال على لطفها. سألته مرة: كيف يجيء شاب مارونيّ من الجبل الى دراسة الإسلاميات. قال: بدأت رحلتي الى معرفة الإسلام منذ طفولتي اذ كان أبي يصطحبني الى محلات رفعت الحلاب لنأكل حلوى وهناك كنت أقرأ هذه الجملة: «كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله». وأبي كما تعلم كان خوري الضيعة. اجابني عن سؤالي: هذه آية من القرآن. فسألته ما القرآن، واخذ يشرح لي هذا حتى رأيت نفسي في رشدي غارقا في الإسلاميات. داعبته هكذا: الحلوى الطرابلسية اتت بك الى كل هذا العلم.

ومع اني دخلت انا الى هذا المجال، أحسست اني لم أبلغ إحاطته بهذه المعرفة او استلذاذه لهذه المادة. ذهلت مرة وانا في مجموعة من مسيحيين ومسلمين في جنيف بعد ان دعوناه إماما لصلاتنا وظننت انه سيتلو لنا فصلا من الإنجيل، ذهلت لكونه اخذ يقرأ علينا سورة الرحمان اذ لا يزال يطن في أذني: «فبأي آلاء ربكما تكذبان». لحظت ان الفريق المسلم ارتضى تلاوة قرآنية من كاهن مسيحي وذلك في لقاء مشترك. آنذاك كنت أتولى تدريس الإسلام في البلمند، فرأيت ان يتعهّد المادة من بعدي الأب يواكيم فتعهدها وأصدر فيها كتابه الصغير «الإسلام» مع مقدمة وضعها المغفور له الشيخ صبحي الصالح. آذاك اي في منتصف الستينات كانت بين دارسي الإسلام من مسيحيين ومسلمين مجاورة تصل الى حد التحابّ.

لم يمس عقيدته المسيحية بشيء، وهذا لم يثنه عن تعابير في التقوى من الكنيسة اللاتينيّة، كدت أعلم انها دخيلة على الكنيسة المارونية. غير انه في كهولته وضع «الخماسية المارونية» في خمسة اجزاء بالفرنسية في مناخ صداقات بيروتية ما كان بعض الأرثوذكسيين مقصيين عنها، وأظن ان الخماسية قوّت فيه النزعة الى التصوّف السرياني القديم الذي كانت روحه متجلببة به لما فارقنا.

كان يرتاح الى هذا الإنتاج الضخم . على هذه الصورة أتت الخماسية الإسلامية – المسيحية. تبدو ان الموسوعة عند مبارك أقرب الى ذوقه من الكتب الصغيرة. غير أن الرجل لم يكن ليفنى في العلم. القلب عنده كان الأهم. فمن وراء الإسلاميات مثلا كان يقصد العائلة الإبراهيميّة كما سمّاها ماسينيون اي لقاء اليهود والمسيحيين والمسلمين. ما كان يجذبه الى ابراهيم هو قول الله: «آمن ابراهيم بالله فحُسب له ايمانه برا». هذا صدى لما قاله يعقوب ابو الأسباط: «اني رأيت الله وجها لوجه ونجيَتْ نفسي». لا العلم اذًا بل الخلاص. ولاهوت هذه الجماعة او تلك مسعى خلاص كائنا ما كانت التسمية.

أظنّ ان الإسلام قاد مبارك الى ما كان يسمّيه arabité، ولعله هو الذي جعلها عُربة لا عروبة اذ لم أكن أعرفه عروبيّ الهوى. واللفظة arabité  نحتها ليوبولد سنغور. ولكوني مشيت مثله في هذا الخط الثقافي حاضرنا في أمسية واحدة في باريس عن العربة. كان عربي الاندفاع من حيث انه كان ضدّ الاستعمار وأراد للبنان تبنيا صادقا للعالم العربي. ما كان عنده حرج من اختلاط ما بين العروبة والإسلام. ولو شئت ان ابالغ قليلا لقلت انه كان يرتاح في الإسلام. هذا لم يمنعه من القيام بركيعات مسيحية نظامية. أظنّ انه كان يحب في خلوته ان تتمازج العربية والسريانية كما كان يريد الا يهمل الارثوذكسيون اليونانية. ما كان يريد ان تفنى اللغات القديمة عند المسيحيين في العربية. القديم كثيرا ما يحييك. أظنّ ان البطريرك بولس مسعد الماروني في الشقة التي سكنها في استانبول سمع من الطابق العلوي من يرتل بالسريانيّة فعلم بعد استقصاء انه كان احمد فارس الشدياق.

كان واضحا عندي ان الأب يواكيم لم ينغلق ابدًا في الأكاديميّة. اجل تحركات القلب يجب ان تنضبط، والذهن اذا جفّ يموت ويميت. كان يواكيم رائعا في التنقّل بين العقل والقلب. كان يحب الإطلالات على التراثات المختلفة على حبّه العظيم للكثلكة في وجهها الغربي.

على كل هذا العلم كان قريبا من البسطاء يخدم في تواضع كاهن قروي. هذا الذي كان من الموارنة الذين تعملقوا منذ انشاء الكلية المارونية في روما لم يسكره مجد العالم. القديس سمعان العمودي وسائر العموديين في كنيسة أنطاكية كانوا أحبّ اليه من اللاهوتيين مجموعين. هو وبعض علماء المارونية يقرأونها امتدادا لسمعان العمودي وللحركة الرهبانية الممتدة منه. هذه الرؤية تلتقي بحلم قنوبين عنده، فاشتدت وطأة الصومعة عليه ولكنه لم يستطع ان يعود حقا الى قنوبين حتى صلي عليه فيه. لاحقته بادية الشام الغنية بالأديار الى فرنسا. ما سكنت هذه البادية جسدك ايها الناسك العظيم حتى عاد جسدك الطاهر الى الرؤية التي تخترق التراب حتى الشمس. لقد شربت من نتاج الكرمة في ملكوت ابيك لما تواريت عن عيوننا، غير اننا اياك مبصرون في القلب وما استخلفت في الدراسات.

انت تأصّلت في قاديشا وعلوتها. جئت من لبنان وعانقت العالم. همّك فقراء الأرض وأن يتعزّوا في فراديس يُنزلها الله عليهم. أستشفعك يا يواكيم. بوركت تبريكا كبيرا الى يوم يبعثون.


Continue reading