الاثنين الماضي لما احتشدت الجموع غاضبة مسالمة في ساحة الشهداء، كان أول يوم في صيامنا ونذكر فيه كلام إشعياء النبي: «أليس الصوم الذي فضلته هو هذا: حل قيود الشر وفك ربط النير وإطلاق المسحوقين أحرارًا وتحطيم كل نير؟» (58: 6). شيئا كهذا كانت تطلبه الجماهير التي احتشدت. لماذا عيل صبرها فانتفضت بعدما رقدت رقاد أهل الكهف؟ يظن أهل الغرب ان الشرقي ساكن ويبقى مكنونا في اللاتاريخ. كذب شباننا وصبايانا وأطفالنا والكهول هذه القراءة لأنهم لم يطيقوا ميتة رفيق الحريري. شناعتها فتوحدوا تلقائيا به اذ أحسوا ان ثمة من يبيت السوء لبلدهم حاقدًا ومتشفيًا وراغبًا في تفتيته.
شعروا ان الرجل ضحية فداء. ذلك ان في المفاصل الكبرى في حياة الشعوب قوة تدفع الى ذبح تنبعث بعده الأمة التي كان يحب ويحمل. كان لك ان تخالف الرئيس الراحل في هذه النقطة أو تلك من سياسته أو في جل سياسته. وفي خلافك معه كان يفرض نفسه عليك قويا، فريدًا. مهما يكن من أمر تحليلنا لعمله، رأينا بعد اخفاق كامل للدولة ان قوى البغض متربصة بنا حتى حولوا اغتيال مروان حماده وقدروا على اغتيال الشيخ الرئيس فقمنا توًا من الذل وجئنا الى ارادة الحياة من موت شهادة.
بات تاليًا رفيق الحريري منشئًا للانتفاضة التي كان رمزها الاحتشاد في ساحة الشهداء والطرق المؤدية اليها والطريق الى هذه الطرق كان القلب. والقلب لا يجيء الاّ من الله اية كانت المناطق التي تحرك منها الناس وأتوا من كل المناطق والذين لازموا بيوتهم شاركت قلوبهم المحتشدين لإيمانهم جميعًا بأن شيئًا جديدًا في لبنان يحدث شبيهًا بقيامة. أولاً لم يخافوا مع انهم أخيفوا. وفي هذا شهادة أيضًا بالمعنى العالي من الكلمة. ولم يدينوا أحدًا ونحن نقول كل يوم في الصوم: “هبني ألاً أدين اخوتي”. وعلى هذا اجتمع أهل هذا الحي وأهل ذاك، لان الصراع ليس بين اللبنانيين وان لم يكونوا على الحدة نفسها في قراءة الحدث.
ما هو ثابت ان النسبة العظمى من هؤلاء أتت بهم حماستهم وقناعتهم ان أمورًا كثيرة يجب ان تتغير في البلد لينال استقلالاً بات مطموسًا من أهل الخارج وبعض من أهل الداخل والمناداة بالحرية خرجت من أفواههم كما خرجت من نفوس المشاهدين الاعلام المرئي. وفي يقيني ان بعض الملتزمين ايديولوجيًا في الحي الآخر تمنوا لو أتيح لهم ان يشهدوا في الساحة التي سفكت فيها دماء لبنانيين في الحرب العالمية الاولى. بدا للكثيرين ان قلب أهل بلدنا كان واحدًا على رغم كل انحزاب.
ليس الفكر النظري الهادئ هو الذي يصنع بلدًا. البلد ثمرة ا لحب والحب لا شرك فيه. كان يحق لكل انسان ان يقول للبنان: «اني أزوجك نفسي» وأعلن رغبتي في أن ارفع علمك وأنشد نشيدك أو أضع ألوان علمك على خديّ لأقول ان وجهي مكون منك واني أطل بك على العالمين ولا أطيق ان يشارك في سريري أحد لأن الوطنية هي العفة ولذلك لا مكان لاختلاس النفس – الزوجة لئلا ينكسر العهد.
كل هذه الجموع كانت زوجة واحدة للبنان. وبرهان ذلك ان أحدًا لم يأت بطائفته في جيبه ليشعر بالشهادة ويؤديها. هذا مذهل لأنه جديد. كنت ترى الشابة السافرة والشابة المحجبة جنبًا الى جنب وكنت تسمع لهجات المناطق كلها تقول يقينها بالحرية بلا خشية لإيمانها ان الاستقلال مفتاح من مفاتيح الكرامة فنبدأ به ثم نعمر البلد بالإخلاص والفهم كما أشاده رفيق الحريري بالعمران وكثير من الحب.
وإذا استتب لنا ان نحكم أنفسنا بأنفسنا وقادة نختارهم نحن ولا يخشون الحرية ويتسلحون بالمعرفة قد نكتب نهضة جديدة في حياة العرب لأننا وان حيينا بأنفسنا لا نحيا لأنفسنا ولكن لأخوة لنا يسهمون معنا في بناء حضارة هذا المشرق العربي كما كنا نعرفه قبل ان يخترعوا لنا شرقًا موسعًا.
أما وقد ختمت الشهادة وعبر كل فريق عن رأيه يكون البلد كله دخل في مواجهة فكر سماها البعض حوارًا تجمعت عناصر منه كثيرة أولها الانسحابات التي تجري، ودعاؤنا ان تقتنع سوريا بأن هذا خير لها ولنموها ولصداقة بيننا تتجدد بسرعة اذ تبدو بهذا الجلاء المساواة في الكرامة بين البلدين. هذا إذا جاءت أدوات الحكم عندنا صورة عن النفوس المتوثبة للحرية. نحن لسنا فقط نتمنى الندية بيننا وبين دمشق ولكنا نريد عظمة الشام في دنيا العرب.
الطرف الآخر حزب الله الذي يتهمه الغرب باطلاً بالإرهاب، وهنا أود ان أقول اعجابي بكل قادة الحزب الذين اسمعهم على الشاشة، من حيث المعرفة وآداب النقاش ونباهة الفكر والنفس. من أين يأتون بهذا المستوى لست أعلم. هل يختار الحزب النخبة أم يتروضون روحيًا وعلميًا الله أعلم.
للشعب اللبناني حق عليهم لأنه آزرهم وبارك للمقاومة التي كانوا فيها الأبرزين. وللبنان الحق هو بلد صغير ان يكون لجيشه أنصار كما كانت المقاومة تسمى في الحرب العالمية الثانية في الاتحاد السوفياتي. ليس من مساءلة تتعلق بشرعية المقاومة. غير ان هذه هي سلاح حزب له خياراته أي من طبيعته له تحالفاته وخصوماته. في أوروبا المناهضة للنازية كانوا يأتون من كل الاحزاب ولكن لم يكن أحد يحمل هويته الحزبية في جيبه. ليست المشكلة في قوام المقاومة كما يرى القرار الدولي 1559. السؤال هو في احتمال ان يكون الحزب – وهو حزب – في جبهة أحزاب لا في جبهة اخرى وتكون مقاومته يحملها الشعب اللبناني كله. غير ان هذه الاشكالية مرجأة الآن. وأنا أطرحها من ناحية منطقية لا على صعيد التزام سياسي وليس عندي التزام.
أرجو ألا تمر بنا أحداث تدخل الى الحلم الاضطراب. انا واثق من ان المسلمين والمسيحيين الذين تكاتفوا في ساحة الشهداء لن يستطيع أحد منهم ان ينسى ان كتفه كانت الى كتف أخرى وان هذا رمز للتعاضد في ما بيننا في الأزمنة الآتية، غير ان هذه الوحدة تتطلب سهرًا كثيرًا لأن أعداء وحدة البلد كثيرون. ولكن زين لي وأنا أرصد شاشة التلفزيون يوم الاثنين ان معجزة الوحدة تمت في القلوب وينبغي ألا تدخل الى هذه القلوب الهشاشة أو الشك.
لعل كل هذه الهموم التي أتحدث عنها رأتها السيدة بهية الحريري في خطابها الكثير الاتزان العقلي والكثير الحرارة في آن. استمعت اليه ثم قرأته ويحتاج الى تأمل دائم منا بعدما فرض نفسه ميثاقًا جديدًا لعيش كريم. هي أحبت ان تحيي كل الأطياف من غير ان تحجب التزامها وولاءها الوحيد للوطن ووفاءها لأخيها الذي بات بلا منازع حاملاً الوطن في تاريخه المقبل.
طبعًا يحتاج هذا الخطاب الى تدقيق كبير لنستمد منه نورًا يحيينا. ولعل بعضًا من أهميته ان هذا وذاك من المسؤولين المختلفين أحبوا منطوقه وتبنوه.
من كلمة البهية أقول عن بلادي ما قاله زاهي وهبي عن حبيبته: «مباركة كمواسم خير / نقية كدموع الأمهات/ مقبلة كمطر طال انتظاره / أترقبك كصلاة استقساء». لبنان آت. هكذا يجب ان نرجو لنستحق جباله وسهوله والبحر. ولكنه لن يأتي ان لم نعمره في كل مجال. في الحب أولا، في الفكر ثانيًا والعمل.
فيما نصوم نحن نقبل غدًا على أحد نسميه في عبادتنا: «أحد استقامة الرأي». هذه دعوة في جهاد الامساك الى ألا يبقى فينا خبث أو زغل أو أحقاد وألا نهمل الوطن فيما يكبر في كل مستويات الكبر. لا يكفي ان نطلب الحرية. يجب ان نصونها في حياة نقية. في تفان في سبيل البلد لا يبخل.
كانت ساحة الشهداء رمزًا. المهم شهادة الحياة في الصدق، في تضامن أهلنا جميعًا على الخير، بلا أي لون من ألوان الفرقة.
الوطن ممكن. وإذا كان ممكنًا
علينا ان نرجوه. وإذا أحببنا وجوده لا بد ان يولد كل يوم من نور وضعه الله فيه.
Continue reading